أما نحو الصنعة فهو ذلك النحو الذي يصطنع أمثلة لقواعد لا حياة فيها، ولا نبض في عروقها، كضرب زيدٌ عمراً، و كلّمَ سعيد بشراً .
و أما نحو الطبع فهو الذي يمثّل بالشواهد، ويحتج بالنصوص القرآنية والشعرية والنثرية التي تنبض بالحياة.. وتشع فصاحة وبياناً.
إن أمثلة:( ضرب زيد عمرا، وكلم سعيد بشرا ) هي التي جعلت الشاعر يقول:
لستُ للنحو جئتكم لا ولا فـيـه أرغبُ
أنـا مـا لي ولامرئٍ أبـد الدهر يضربُ
خـلِّ زيـداً لشـأنـه حيث ما شاء يذهبُ
واستمع قول عاشق قد شجاه التطرّبُ
همُّـهُ الـدهرَ طـفـلةٌ فـهو فـيها يشـبـِّبُ
أما النصوص الجميلة الرائعة فلا يخفى ما لها من أثر في تكوين الملكة اللغوية السليمة لدى الطالب، ورفده برصيد لغوي يصبح معه بنجوة من اللحن والخطأ، لأن النصوص عندما تحفظ وترسخ تكون معياراً للكلام ومقياسا يقيس المرء عليه دون أن يشعر.
فالطالب الذي يحفظ قوله تعالى : { و كان اللهُ غفوراً رحيماً } وقوله: {وكان الإنسانُ عجولاً} وقوله: {وما كان عطاءُ ربك محظوراً} وما كان على هذه الشاكلة، يدرك بالبداهة أن ما جاء بعد كان يكون مرفوعاً، وما يخبر به عنها يكون منصوباً. فإذا قرأ بعد ذلك أي كلام عربي طبّق بالقياس هذه المعرفة فلم يخطئ.
و الطالب الذي يحفظ قول المتنبي :
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فسادَ الرأي أن تترددا
يدرك أن الأسماء الخمسة تنصب بالألف،و أنها ما بعدها مجرور بالإضافة، وأن المضارع ينصب بأن.. و ما إلى ذلك .
يقول الأستاذ سعيد الأفغاني رحمه الله وهو شيخ نحاة العصر:
"لم يعد يقبل في هذا العصر عرض القواعد دون مناقشة ما تستند إليه من شواهد، لأن الشواهد روح تلك القواعد تضفي عليها حياة ومُتعة وأصالة، وعلى هذه المادة ـ أي: النحو ـ أن تكون ثقافةَ شواهد أكثر مما هي ثقافة قواعد، وهي ـ أي: الشواهد ـ متى استُوعِبَتْ أعْوَد على المَلَكَات من كثير من القواعد المحفوظة والتعليلات المتكلّفة".
وحقاً ما قال الشيخ، فالشواهد والنصوص الأدبية التي يتمثل بها هي التي تصنع المَلَكَات، ولا سيما حينما تقترن بشرح مبسط لموضع الشاهد، وقصٍّ يسير لمناسبة القول، إذ إن كثيراً من الشواهد تمثل قطعاً نادرة من قصائد الشعر وروائعه، وتحكي تجربة شعرية غنية وإنسانية، فإذا ما قرأها الطالب أو سمعها رسخت في ذهنه و تغنّى بها، وأصبحت من ثقافته اللغوية و الأدبية بل الإنسانية و الوجدانية، ولعل أجمل ما أُلِّف من كتب النحو و الإعراب تلك الكتب التي خلطت النحو بالأدب، فراح المؤلف فيها يستعرض سياق القصيدة التي ورد فيها الشاهد النحوي، ويقصُّ علينا مناسبتها ونبذة عن صاحبها وربما أدى به ذلك إلى موازنات ومقارنات أدبية لا تخلو من متعة وفائدة و ذوق أصيل، ككتاب خزانة الأدب، وكتاب شرح شواهد مغني اللبيب للإمام المحقق عبد القادر البغدادي.
يقول د. عبد اللطيف عبد الحليم: " وأما تعليم النحو بأمثلة تدور على ألسنة الناس مثل : جاء محمد، وذاكر الطالب، فإنها لا تقيم لساناً، ولا تزيد بياناً، صحيح أنها ميزان للكلام والقاعدة، لكن المثال لا قيمة له ولا يفيد نطقاً ".
و لعل خير ما أختم به كلمتي قطعة من الشعر فريدة لا يخلو بيت منها من تذكر قاعدة أو فائدة من فوائد النحو، أعني نحو الطبع والسليقة والملكة، وهي تحكي حكماً راسخة كانت وستبقى على مر الزمان، يتغنّى بها كل إنسان:
إنّ للمعروف أهلاً *** وقـلـيـلٌ فـاعـلـوهُ
أهنأ المعروف مالم *** تـبـتـذلْ فيه الـوجوهُ
أنت ما استغنيتَ عن صاحـبـك الـدّهـرَ أخوهُ
فإذا احتجتَ إليه *** سـاعـةً مجّـك فـوهُ
إنما يعرف ذا الفضلِ مـن الـنـاسِ ذووهُ
لو رأى الناس نبيّاً *** سائـلاً ما وصـلـوهُ
وَهُم إِن طَعَمِوا في *** زادِ كَـلـبٍ أَكـلـوهُ
لا تَراني آخِرَ الدَهـــرِ بِــتسـآلٍ أَفـوهُ
إِن مَن يَسألُ غَيرَ الــلَـهِ يَكـثُر حارِمـُوهُ
----------------
د. محمد حسان الطيان
منسق مقررات اللغة العربية بالجامعة العربية المفتوحة
عضو مراسل بمجمع اللغة العربية بدمشق
hassantayyan@yahoo.com