وحين شجعني القائمون على سلسلة "كتاب الرياض" على نشر بعض المراجعات التي كتبتها تعليقًا على بعض الكتب التي نُشرت في تخصص اللسانيات أو بعض المقالات التي تناولت فيها بعض القضايا في مجال اللغة، وهي التي نشرتْها لي بعض الصحف، ومن أهمها "ملحق ثقافة اليوم" في جريدة الرياض، وجدتُ أن أقرب وصف يمكن أن يوصف به الكتاب الجديد هو العنوان القديم: "مراجعات لسانية". وخوفًا من التباس الأمر على القارئ، ولكي لا يظن أن الكتاب الجديد إنما هو طبعة جديدة للكتاب القديم، زدت في وصفه عبارة "الجزء الثاني". لكنْ يبدو أن هذا كان سببًا في اللبس، وهو ما شجعني على قبول الاقتراح الكريم الذي تفضل به القائمون على سلسلة "كتاب الرياض" بإصدار طبعة ثانية للكتاب القديم موصوفاً بأنه (الجزء الأول).
وكان كتاب "مراجعات لسانية" الذي نشره النادي الأدبي سنة1410هـ موضعَ اهتمام بعض القراء الكرام، فقد أشير إليه في بعض الأبحاث والمقالات التي نشرت عن المواضيع التي تضمنها، وعن الترجمة واللسانيات عموما. كما نُشرت ثلاث مراجعات له، على حد ما رأيت. وهي المراجعات التي كتبها الدكتور منصور الغامدي (مجلة كلية الملك خالد العسكرية، العدد الرابع والثلاثون، السنة التاسعة، صيف 1411هـ، ص ص 110 ـ 112)؛ والدكتور خالد الناشف (عالم الكتب، الرياض، المجلد الثاني عشر، العدد الثالث، محرم 1412هـ ـ أغسطس ـ 1991هـ، ص ص 410 ـ 417)؛ والدكتور عبد الله حامد حمد (عالم الكتب، الرياض، المجلد الرابع عشر، العدد الأول، رجب ـ شعبان 1413هـ/ يناير ـ فبراير 1993م، ص ص 68 ـ 69).
وكان هؤلاء الزملاء كرماء في مراجعتهم للكتاب؛ كما تضمنت مراجعاتهم بعض الملحوظات القيمة، وأطرفُها أنني وقعت، في بعض المواضع من الكتاب، فيما كنت آخذت بعض المؤلفين عليه! والحق أنني استفدت من تلك الملحوظات واستدركت، في هذه الطبعة، النواقص التي تفضل هؤلاء الزملاء بملاحظتها؛ لكنني أبقيت الكتاب على صورته الأولى ولم أغير فيه شيئا.
وكان توزيع النشرة الأولى للكتاب محدودًا شيئًا ما، وربما كان أحدُ أسباب ذلك الوضعَ الذي كانت تمر به المنطقة في تلك الفترة؛ فقد كان هناك ما هو أولى بالاهتمام. لكن هناك سببًا آخر لابد من الإشارة إليه وهو أنه يبدو أن النادي الأدبي في الرياض لم يكن متحمسًا لطباعته في المقام الأول، ولتوزيعه كذلك، وربما كان وراء ذلك بعض الأسباب. ولست أريد انتقاد النادي الأدبي الآن، لكنني أجد أن من اللازم الإشارة إلى هذه المسألة بإيجاز.
فقد كتب الأستاذ رئيس النادي الأدبي في تقديمه للكتاب (ص7) أنه ". . . حينما يتبنى النادي طباعة هذا الكتاب فليس معنى ذلك أنه يقر الاتهام الموجه إلى الدكتور رمضان عبد التواب وهو علم بارز من أعلام وأساطين اللغة العربية الأكفاء. فللدكتور رمضان من علمه ومكانته المعروفة ما يشفع له في مواجهة هذه التهمة. . .". وقوله (ص8): "إن قيام النادي الأدبي بنشر هذا الكتاب ليس من باب تأييد الاتهامات بين بعض الكتاب وبعض. . . ثم إن الكتاب قد حكِّم من قبل محكمين اثنين . . .".
وتوحي هذه الأقوال بمجملها بما يشبه "البراءة" من الكتاب، لذلك ليس من المستغرب أن يظل الكتاب حبيس مخازن النادي الأدبي، إلا نسخًا محدودة منه. ولا بد لي من الإشارة إلى أن الأستاذ رئيس النادي قد ضمن تلك المقدمة بعض عبارات الثناء على الكتاب.
ويحسن أن أشير هنا إلى أنه ربما خطر للقارئ أن الكتب التي عرض لها بالمراجعة في هذا الكتاب صارت قديمة الآن، وأن بعْث ما قيل عنها ربما لا يخدم قضية علمية. لكنني أزعم أنه لن يفوت على الملاحظ المدقق، بغض النظر عن الكتب المراجعة في هذا الكتاب، أن المسائل التي عرض لها فيه لا زالت تمثل العوائق السلبية الأساسية في مجال البحث العلمي بعامة في العالم العربي. فلا يزال هناك كثير من التراخي في متابعة منجزات الأبحاث العلمية الجادة، وبخاصة في اللسانيات، ولا يزال هناك كثير من حوادث السطو على إنجازات الآخرين، ولا يزال هناك كثير من النماذج السيئة للترجمة إلى اللغة العربية من اللغات المختلفة، ولا يزال هناك كثير من الادعاء وزعم الريادة.
ولا أظن أن كتابًا واحدًا يستطيع تغيير هذه العيوب البنيوية في الثقافة العربية المعاصرة؛ لكنه لا بد من الاستمرار في لفت النظر إلى هذه المشكلات المعرفية الجذرية.
وكما ذكرت في هذا الكتاب وغيره، فإن مراجعة الكتب الصادرة حديثًا تعد من أهم العوامل التي تبعث الحياة في التخصصات المختلفة. بل ربما أمكن القول إن البحث العلمي بمجمله إنما هو، بطبيعته، لا يخرج عن كونه مراجعة مستمرة لما أنجزه السابقون.
غير أن الملاحظ في الثقافة العربية أنه قلما يهتم الباحثون بمراجعة الكتب التي تصدر حديثا، لذلك يظل كثير منها مجهولاً لا يصل خبرُه إلى المتخصصين ولا يُعطى حقه من التنويه به إن كان جيدا، ومن الإشارة إلى ما فيه من النواقص إن كان سيئا. وذلك ما يجعل إسهام الكتب المنشورة حديثًا في تطوير التخصصات المختلفة يكاد يكون معدوما. وسبب عدم الاهتمام هذا إنما يكمن في نظر كثير من الباحثين إلى أن مراجعة الكتب عمل تافه لا يستحق أن يبذل فيه الجهد. لهذا فإنه لا لوم على من يصف الثقافة العربية المعاصرة بأنها ثقافة "صامتة"، يكاد ينعدم فيها الحوار العلمي؛ إذ يكتفي القارئ، في أغلب الأحوال، بالاحتفاظ لنفسه بانطباعاته عما قرأ، ولا يشرك معه غيره فيها.
ويجد المطلع على الدوريات العلمية، في الغرب، أن كثيرًا من البارزين في التخصصات المختلفة لا يجدون غضاضة في قراءة الكتب الصادرة حديثًا في تخصصاتهم، وفي غير تخصصاتهم، وكتابة المراجعات لها للتعبير، علنًا، عن آرائهم فيها وتقويمها. وربما تحسن الإشارة هنا إلى واحد من هؤلاء وهو ستيفن واينبرج الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء لسنة 1979م، الأستاذ في جامعة تكساس في أوستن، في أمريكا. فهو يكتب باستمرار في "مجلة نيويورك لمراجعة الكتب" The New York Review Of Books مراجِعًا وناقدًا لكثير من الكتب الصادرة حديثًا في الفيزياء وفي غيرها من التخصصات. كما نعرف جميعًا أن أحد أسباب شهرة اللساني الأمريكي المعاصر نعوم تشومسكي هو كتابتة مراجعة لأحد الكتب التي ألفها رائد المدرسة السلوكية في علم النفس ب. ف. سْكِنَر.
وتُعَدُ قراءة هذه المراجعات وقراءة ردود مؤلفي الكتب المراجَعة متعة فكرية ولغوية لا مثيل لها، حيث تجد فيها مقارعة الأفكار ومعارضة بعضها ببعض، ومحاولة صوغ الحجج المتناظرة المختلفة بطرق تغني الفكر وتبين عن براعة في استخدام اللغة في الاحتجاج العلمي والمنطقي.
وأخيرًا أرجو أن يكون حظُّ هذه الطبعة الجديدة للكتاب أوفرَ من سابقتها، وأرجو أن تكون من أسباب ترسيخ تقليد مراجعة الكتب بشكل يؤدي إلى إعطاء المؤلفين حقوقهم في التعريف بكتبهم وتطوير ما أنجزوه، وهو التقليد الذي سيؤدي، لاشك، إلى تطوير حاسة القارئ النقدية حتى تغدو القراءة فعلاً إبداعيًّا عوضًا عن كونها، كما تمارس الآن، فعلاً استهلاكيًّا غير مبال.
ولا يفوتني في الختام أن أشكر الأستاذ سعد الحميدين على حماسه لنشر هذه الطبعة الثانية؛ كما أشكر القائمين على سلسلة "كتاب الرياض" على تولي إصدارها في هذه السلسلة التي أصبحت معْلَمًا مهمًّا من معالم الثقافة الجادة في المملكة.
حمزة بن قبلان المزيني
الرياض 11/1/1421هـ
مقدمة الطبعة الأولى :
بلغت اللسانيات شأوًا عظيمًا من التقدم خلال الثلاثين سنة الماضية تحت تأثير النظرية التوليدية ـ التحويلية التي اقترحها عَلَم من أهم أعلام هذا العلم طوال تاريخه هو نعوم تشومسكي. فبعد أن كانت اللسانيات عِلمًا لا يهتم به إلا القلة ولا يقوم إلا بدور ضئيل في الحركة الفكرية أصبحت بتأثير تشومسكي تحتل مركزًا قياديًّا بين العلوم الإنسانية كافة. فقد نهج الباحثون في هذه العلوم نهج اللسانيات في أهدافها وطرق بحثها. بل قلما يوجد علم من هذه العلوم لم يجعل اللسانيات له مثالا. وقد حدث أن اتصل بعض العرب المحدَثين بهذا العلم عن طريق دراستهم في الجامعات الغربية وبعد رجوعهم بدأ الناس يطَّلعون على هذه العلوم من خلال المؤلفات التي ألَّفها هؤلاء أو الترجمات التي قاموا بها، أو عن طريق ما يكتبه تلاميذهم الذين لم يتيسر لهم الدراسة في الغرب فتلقوا هذه العلوم عن هؤلاء الأساتذة. وإذا بحثنا في إنتاج العرب المحدثين هؤلاء سواء ما كان منه مؤلفًا أم ما كان مترجمًا ما تلبث بعض السلبيات أن تتضح لنا في هذه الأعمال. ويمكن تلخيص هذه السلبيات فيما يلي:
1 ـ ما يسمى بالسرقات: فكثيرًا ما تجِد أن بعض هؤلاء يقوم بترجمة ما يراه من أية لغة أجنبية ثم ينسبه إلى نفسه، دون الإشارة إلى المصدر الأساس. وهناك وجه آخر لهذه السرقات، وهو ترجمة ما ترجمه الآخرون أو ادعاء ترجمته، بينما الذي يحدث لا يزيد عن تغيير بسيط يقصد به التعمية.
2 ـ الترجمة غير الجيدة: فقلما يُعنى هؤلاء بترجمة ما يترجمون على الصورة الصحيحة. فربما تجد في هذه الترجمات عدم الإلمام الكافي بالعلم أو عدم القدرة على صياغته بلغة عربية سليمة والفوضى في استعمال المصطلحات وغير ذلك من السلبيات.
3ـ الادعاء، فكثيرًا ما نجد الواحد من هؤلاء يتكلم عن موضوع معين وكأنه أولُ من بدأ التفكير فيه، أو هو أول من استطاع صياغته بصورة جيدة. بينما الحقيقة أن ما أتى به لا يزيد عن كونه استلاباً من هنا وهناك، أو تفنناً في إطلاق الخيال غير المقيد بالمنهجية.
4ـ التشكيك في الآخرين وتغيير المواقف بسرعة دون أن يكون ذلك نتيجة لاقتناع.
وهذه السلبيات ليست إلا قليلاً من كثير، إذ يمكن أن يضاف إليها الوقوفُ عند مرحلة معينة وعدم تجاوزها تبعًا لتطور هذا العلم الذي لا يني عن التغير والتطور. وهناك أيضًا قول ما قيل سابقا، سواء أقاله الشخص نفسه أم قاله الآخرون.
على أن ما يُعزِّي النفس أن هناك جيلاً جديدًا بدأ يأخذ هذا العلم جديًّا فأصبح لدينا بعض الكتب والمقالات الجادة التي تعالج هذا العلم متقيدة بمنهجية صارمة ومستفيدة من آخر ما توصلت إليه النظرية اللسانية. وأخص بالذكر أغلب الزملاء في المغرب العربي، أي في المغرب والجزائر وتونس، فلا يجد أي قارئ منصف حرجًا في الاعتراف لهم بهذه الصفات الموجبة. على أن هناك أشخاصًا آخرين، وإن كانوا قلة، في بعض الجامعات العربية الأخرى في المشرق العربي لا يقلون جدية عن هؤلاء.
ولا تقصد المقالات المجموعة هنا، التي سبق نشرها إما في ملحق ثقافة اليوم في جريدة الرياض، أو في بعض المجلات العلمية الأخرى في خلال السنوات الأربع الماضية، إلى تشويه سمعة أشخاص معينين بقدر ما تقصد إلى إعطاء أدلة واقعية على السلبيات التي ذكرت سابقا، وهي في الوقت نفسه دعوة مخلصة لتجاوز هذا المستوى من الارتكاس.
وسيجد القارئ المطلع أن هذه المقالات لم تتناول إلا عددًا قليلاً مما يصدر كل يوم في اللسانيات في العالم العربي، خاصة في المشرق. ولن يجد هذا القارئ أي عَنَت في مضاعفة عدد الأعمال التي تتبدى فيها هذه السلبيات.
كما أن القارئ باللغة العربية في الوقت الحاضر في أي فرع من فروع المعرفة لن يجد عنتًا في العثور على أمثلة مشابهة لما يحدث في اللسانيات من هذه السلبيات. إذ يشكو كل متخصص في حقل معين من كثرة الأعمال غير الجادة. وحبذا لو كانت هناك مراكز متخصصة تتولى ترشيح ما يستحق الترجمة، ومن ثم تقويم ما يترجم، وبذلك يمكن أن تقدم العلوم وغيرها بطريقة منظمة يبني بسببها اللاحق على ما بناه السابق. كما سينتج عنها توحيد المصطلحات وغير ذلك.
وأجدها مناسبة للدعوة إلى الاهتمام بمراجعة الكتب الصادرة حديثًا في التخصصات كلها. فمن الملاحظ أننا نجد في الدوريات المتخصصة الأجنبية أن مراجعات الكتب تحتل في كل عدد منها جزءًا كبيرًا، ربما يقارب النصف. ولهذه المراجعات فوائد عدة من أهمها أن يطلع المتخصص على الجديد في حقله، ويرى أيضًا ما إذا كان الكتاب المراجع يضيف شيئًا إلى الحقل أم لا. وكثيرًا ما نجد قسوة في بعض تلك المراجعات إذا حاد الكتاب المراجَع عن المُثل التي يسعى إليها المتخصصون.
أما عندنا فكثيرًا ما يغلب على مراجعات الكتب مجاملةُ المؤلف لصداقة بينه وبين المراجِع أو تغلب عليها القسوة لسبب من الأسباب غير العلمية. وكثيرًا ما تمر الكتب دون مراجعة بسبب المقايضة: أي أن (أ) يتغاضى عن المآخذ التي توجد في الكتاب الذي ألفه (ب) لكي يتغاضى (ب) بالمثل، عما يوجد في كتاب (أ) من المآخذ.
إننا أمام خيارين لا ثالث لهما، وهما: فإما أن نأخذ الأمور بجدية فتختفي الأعمال الرديئة كي تفسح المجال للأعمال الجادة، وذلك هو الخيار الأصوب، فتتوطن العلوم لدينا عن طريق استعمال اللغة العربية فيها ونشارك من ثم في إنتاج هذه العلوم، أو أن نظل على ما نحن عليه حيث تسود الترجمات الرديئة والكتب التي يغلب عليها الادعاء، أو التي توقف مؤلفوها عند مرحلة تجاوزها العلم بمراحل، أو التي تقوم على استلاب ما في الكتب الأخرى.
د. حمزة بن قبلان المزيني