وقد كنت آمل أن يكون النقاش حول هذا الكتاب منصبًّا على الموضوع الذي يناقشه، فهو كتاب نادر في بابه يؤرخ للغة العربية منذ صدر الإسلام إلى الوقت الحاضر، ويتتبع التغييرات التي طرأت عليها في الأساليب والنحو والمفردات. أفلم يكن من الأحسن، إذن، أن نناقش آراء المؤلف نفسه سواء كنا مؤيدين أم معارضين أم معدلين لها؟ وهو نقاش، دون شك، سيكون له صداه في الساحة الثقافية.
لكن النقاش الذي دار على صفحات ملحق "ثقافة اليوم" لا بد أنه أثار الرغبة في معرفة الحقيقة، عند القارئ الكريم، فمن الواجب على المتصلين بالكتاب، إذن، أن يبدوا وجهات نظرهم في الموضوع.
وأود أن أقول في البداية، إنني لم آت هنا للانتصار لفريق على فريق آخر، فأنا لا تربطني بأي منهما أية رابطة شخصية، فسيكون عرضي موضوعيًّا ما استطعت. على أنني لا بد أن أثني على الدكتور علي البطل الذي لفت انتباهنا إلى الموضوع.
وجدير بالإشارة أنني بدأت دراستي هذه كي أجد للدكتور رمضان عبدالتواب عذرا، وذلك لسببين: الأول لما له من مكانة عند دارسي اللسانيات العرب والمشتغلين بتحقيق التراث، والثاني أنني لم أتعاطف مع الطريقة التي أثار بها علي البطل هذه القضية. لكن ما انتهت إليه دراستي أصبح نقيض ما توقعت.
إن معرفة اللغة الألمانية في نظري ليست الوسيلة الوحيدة التي يمكننا أن نوازن بين الترجمتين بها. فالموضوع هنا ذو شقين، هما:
1ـ نرى مدى استقلالية المترجم الثاني (الدكتور رمضان عبد التواب) عن المترجم الأول (الدكتور عبد الحليم النجار) وسيكون ذلك بتتبع التشابه بين الترجمتين، فإذا كان التشابه مما يقع عادة بين المترجِمِين، كالتوافق حول مسمى واحد أو صياغة معينة، فلا حرج في ذلك. أما إذا كان التشابه بينهما يتجاوز ذلك إلى التوافق في الأشياء البسيطة أو في الأخطاء، فهنا نتوقف لنرى عدد هذه الموافقات: فإن كانت قليلة ألحقناها بما لا حرج فيه، أما إذا كانت كثيرة فلا بد أن يتسرب الشك إلى أذهاننا حول استقلالية المترجم الثاني.
2ـ أما الشق الثاني للموضوع فهو أن نذهب إلى الأصل الألماني لنرى مدى موافقة النص الألماني أو اختلافه عن المواضع التي عدلها المترجم الثاني.
وللحق أقول إنني لم أطلع على النص الألماني، لكن هذا لا يمنعني كما أسلفت، من الموازنة بين الترجمتين.
وللحق أقول أيضًا، إن هذه الموازنة لا تكاد تدع في نفسي شكًّا حول التطابق الذي يكاد يكون كاملاً بين الترجمتين. وسيكون دليلنا على أن الدكتور عبد التواب ينقل نقلاً حرفيًّا من الدكتور النجار على نوعين: الأول غير مباشر، وهو في إثبات أنه لم يرجع إلى بعض المصادر، على أقل تقدير، بل عوّل على ما وجده عند الدكتور النجار، والثاني مباشر، وهو في تتبع مظاهر النقل الحرفي عنده.
أما القضايا المهمة في النقاش فهي: رجوع المترجم الثاني إلى مصادر الكتاب الأصلية، وقائمة المراجع التي جاء بها، والهوامش التي أضافها هو وأستاذه شبيتالر، والتغييرات التي أدخلها المترجم الثاني على الترجمة الأولى، إضافة إلى بعض الملاحظات المتفرقة.
رجوع المترجم الثاني إلى المصادر الأصلية للكتاب :
يذكر الدكتور رمضان عبد التواب (الرياض 1/2/1405هـ) أنه كشف "عن كل طبعات الكتب التي رجع إليها المؤلف عربية كانت أم غير عربية". وما دام أنه كشف عن "كل" طبعات الكتب التي رجع إليها المؤلف، فالمتوقع منه بصفته مترجمًا أصيلاً أن يرجع إلى المواضع التي نقل المؤلف الاستشهادات منها. ومع اعترافي أنني لم أرجع إلى كل الكتب التي رجع إليها المؤلف حتى أتأكد من المواضع التي أخذ مواد الكتاب منها، فإنني قد وجدت أن الدكتور رمضان لم يرجع إلى ثلاثة كتب في الأقل، فهو يكتفي بنقل الإحالات كما وردت عند الدكتور النجار على الرغم من أنها ليست دقيقة. وعدم الدقة هنا هو في نقل المادة المستشهد بها خطأ أو هو الخطأ في رقم الصفحة أو السطر.
وقبل أن أسوق الأدلة على زعمي هنا، أحب أن أذكر للقارئ الكريم أن هناك مواضع كثيرة يبدو أن المؤلف استشهد فيها بأشطار أبيات، ثم يأتي الدكتور النجار فيكمل تلك الأشطار ويضع التكملة بين قوسين معقوفتين [ ]؛ غير أن الدكتور النجار لم يكمل الأشطار كلها، بل يترك بعضها دون أن يكمله. أما الدكتور عبد التواب فلا يكمل شطرًا واحدًا لم يكمله الدكتور النجار. فكل الإكمالات التي تجدها في الترجمة الثانية بين قوسين معقوفتين [ ] هي إكمالات الدكتور النجار. انظر مثلاً (ص39) وهو عند النجار (ص29)، وعبد التواب (ص67) وهو عند النجار (ص58)، والبيت الأول من المقطوعة (ص72) وهو عند النجار ص(64)، وعند عبد التواب (ص88) (مرتين)، وهو عند النجار (ص81) (مرتين)، وعبد التواب (ص89) وهو عند النجار (ص82)، وعبد التواب (ص96) وهو عند النجار (ص88)، وعبد التواب (ص101) وهو عند النجار (ص92) حيث لا يكمل النجار تلك الأبيات فيتابعه رمضان عبد التواب في ذلك، وغير ذلك كثير.
فلا بد، إذن، أن نتساءل عند تكرار هذه الظاهرة، أَرَجَع الدكتور عبد التواب إلى المراجع العربية حقا ؟ أظنه لو رجع لأكمل بعض هذه الأشطار في الأقل.
أما فيما يتعلق بالمصادر العربية التي ذكرت مواضع الاستشهاد فيها فسأذكر ثلاثة منها، وسنجد في هذه الثلاثة إما أن المادة التي جاءت بالصيغة نفسها عند المترجمَين تخالِف ما هو موجود في المصدر الذي يزعم الدكتور عبد التواب أنها نقلت عنه، أو أن موضوع الإحالة ليس صحيحا.
والمصدر الأول هو كتاب نقائض جرير والفرزدق (بيفان 1905 ـ 1912م) وهو المصدر الذي نجده في قائمة المراجع. فنجد الدكتور النجار، مثلاً، يورد بعض الأبيات نقْلاً عن كتاب النقائض، لكن الأبيات في الترجمة الأولى تختلف عن ما هو موجود في المواضع المشار إليها في كتاب النقائض. فيورد النجار، مثلاً، بيتَ جرير الموجود في ص845 من النقائض على الوجه التالي:
لا خيْر في غضب الفرزدق بعدما * سَلَخوا عِجانَك سَلْخ جلد الروذق
فقد وردت كلمة "الرَّوذق" بتشديد الراء وفتحها عند النجار (ص20)، وكذلك أوردها عبد التواب (ص30). أما في النقائض فهي "الرُّوذق" بتشديد الراء وضمها.
ومثال آخر من بيت أخذ عن كتاب النقائض أيضا (ص787):
مَنَعْتُك ميراثَ الملوك وتاجَهم * وأنت لدرعي بيذق في البياذق
فقد وردتْ كلمة (لدرعي) بـ"الدال" عند النجار (ص20) وكذلك يوردها عبد التواب (ص31). أما في النقائض، فهي (لذرعي) بالذال.
كما أن هناك مثالاً آخر من كتاب النقائض (ص854) وهو:
سبعون والوصفاءُ مَهْرُ بناتنا * إذْ مهرُ جعثن مثل حر البيدق
والشاهد هنا هو كلمة (البيدق) فقد وردت بالدال عند النجار (ص20) وكذلك هي عند المترجم الثاني (ص31)، غير أن الكلمة في النقائض هي (البيذق) بالذال.
ومثال أخير من كتاب النقائض أيضا، فيورد النجار في (ص20 هامش 1) إشارة إلى (ص612) في المجلد الثالث من النقائض، حيث يورد محقق الكتاب بعض الكلمات والجمل الفارسية، وهذا ما نجده عند عبد التواب (ص 30 ، هامش 3). أما إذا رجعنا إلى النقائض فسوف نجد أن الموضوع يمتد إلى (ص613). فلا بد أن تكون الإشارة إذن (ص ص612 ـ 613).
فلو رجع عبد التواب إلى تلك الطبعة من النقائض لاستطاع ملاحظة هذه الأشياء الأربعة ولكانت جديرة منه بالتعليق والمناقشة.
أما الكتاب الثاني الذي يبدو أن عبد التواب لم يَشغل نفسَه بمراجعة مواضع الإحالات فيه فهو كتاب "أحسن التقاسيم"، (طبعة دي غويه 1906)، وهو الكتاب الذي أورده في قائمة مصادره. ففي هذا الكتاب اثنا عشر موضعًا لم يرجع عبد التواب إليها، بل يكتفي بنقل الإحالات أو المواد التي يوردها النجار. فهو ينقل استشهادات وردت في الترجمة الأولى مع أن بعض الكلمات وردت بصيغ أخرى في المصدر الأصلي.
فيَرد في (ص199) عند عبد التواب لفظ "قِسْمي نَجْد"، وهو موجود كذا عند النجار في (ص192). لكن الموجود في "أحسن التقاسيم" هو (النَّجْدين). كما يرد عند عبد التواب (ص205) ". . . إن الحديقة تسمى بالأندلس: منية". وكذلك وردت عند النجار (ص198 س4). أما في "أحسن التقاسيم" فنجد لفظ "البستان" لا الحديقة. وفي (ص209 س: 5 ـ 6) يرد عند عبد التواب: "ففي الري يقولون بدلاً من: علي، حسن، أحمد: علكا، مسكا، حمكا، للتمليح". ويرد هذا بنصه عند النجار (ص201 س17 ـ 18). أما في "أحسن التقاسيم" فهي: "علكا، حسكا، حمكا. . .". ويرد عند عبد التواب (ص209 س10): "وفي كرمان أحب الكنى: أبو جعفر. . . ". وترد هذه العبارة بنصها عند النجار (ص ص201 ـ 202، س س20 ـ 21)، لكنها في أحسن التقاسيم "أهل قم". وفي (ص204 س1) يشير إلى (ص99 س9) في "أحسن التقاسيم"، وهذا عين ما ورد عند النجار، لكن الموضوع في "أحسن التقاسيم" في (ص99 س6). كذلك نجد في (ص212 س14 ـ 15) عند عبد التواب: ". . . على حين تقدم كلتا النسختين (ص481 س10) الصيغة الملحونة: يهوعلون"، وهو النص الذي أورده النجار (ص205 س3). أما في "أحسن التقاسيم" فهي في (ص481 س9).
أما الكتاب الثالث فهو تاريخ الطبري، حيث ينقل عبد التواب الإحالات إلى هذا الكتاب كما هي موجودة عند النجار، مع أن تلك الإحالات غير دقيقة. فيشير النجار، مثلاً، في (ص149 هامش 3) إلى (ص2185) من القسم الثالث في تاريخ الطبري (الطبعة الأوروبية)، فيأتي عبد التواب ويصوغ هذه الإشارة كما يلي: (3/2185) في (ص156 هامش 3). لكن حين نرجع إلى الطبري لا نجد هذه الصفحة في القسم الثالث بل هي في القسم الرابع. فقد كان يجب أن تكون الإشارة (4/2185). وما دمنا عند الطبري فيحسن أن نذكر أن النجار ينقل في (ص138) عن الطبري من القسم الثالث (ص1063) الكلمةَ التي قالها طاهر بن الحسين عند وفاته، وهي بالفارسية "دَرْ مَرْج ينز مَروى فَايَذْ". والشاهد هنا هو الكلمة الأخيرة في تلك الجملة، فقد وردت عند النجار: (فايذ)، وكذلك يوردها عبد التواب (ص146) أما في الطبري فهي: (وايذ).
كما يورد النجار في الصفحة نفسها ترجمة هذه الجملة على الوجه التالي: "حتى في الموت .. يجب أن يكون الإنسان رجلا". ويتابعه عبد التواب في ذلك تماما. ومع أن الترجمةَ صحيحة، فإن الطبري يترجم الجملة ترجمة خاطئة في الصفحة المشار إليها من كتابه، فهو يقول: "وتفسيره (أي تلك الجملة) أنه يحتاج في الموت أيضًا إلى الرِّجْلة". فلو رجع عبد التواب إلى هذا المصدر للاحظ الخطأ ولعلَّق عليه.
وقد يقع الدكتور النجار في خطأ في الترجمة فيتابعه الدكتور رمضان عبد التواب في ذلك الخطأ. ومثاله ترجمة النجار في الصفحة المشار إليها من كتابه الجملة الفارسية "يا مَرْدْ مَيّ خَرْ" فهي عنده: "يا رجل اشرب خمرا". وكذلك يوردها عبد التواب في الموضع المشار إليه أعلاه. أما ترجمتها الصحيحة فهي "إما أن تشرب الخمر. . .".
كما يورد النجار في الصفحة نفسها أن طاهر بن الحسين كتب كتابًا مطولاً لابنه عبد الله عندما ولاه ديار بكر، وذلك نقلاً عن الطبري القسم الثالث (ص 1046). والشاهد هنا هو عبارة "ديار بكر"، فقد أوردها عبد التواب في (ص146) كذلك. أما ما نجده عند الطبري في الموضوع نفسه فهو "ديار ربيعة". (كذلك يحيل إلى القسم 2/1619 من الطبري مع أن الموضع المقصود في 2/1621). ويبدو أن عدم الرجوع إلى المصادر الأصلية كان دأبه حتى في ترجمته لتعليقات شبيتالر؛ فقد أحال شبيتالر في (هامش 3 ص8) إلى (ص31) من الجزء الأول لكتاب "إعجاز القرآن" المنشور على هامش "الإتقان" إلا أننا نجد عبد التواب يضع علامة استفهام بعد ذلك الهامش. فهل نفهم منه أنه لم يجده في الطبعة المشار إليها في المراجع وهي (نشر سديد الدين خان ـ كلكتا 1856م)؟ لكن إذا بحثنا في الطبعة الرابعة للكتاب (1398هـ) فإننا نجد موضع تلك الإشارة في (ص40).
ويمكن أن نستخلص من هذه الحالات الأربع أن عبد التواب لم يرجع إلى "كل" مصادر الكتاب أو هو لم يرجع إلى هذه الكتب الثلاثة في الأقل.
فلا يزيد ما فعله الدكتور رمضان عبد التواب عن نقل ما يجده في الترجمة الأولى بغض النظر عن صحة المعلومات المذكورة أو دقتها. فهولا يستطيع إذن أن يجحد أنه نقل نقلاً حرفيًّا من الترجمة الأولى. كما أن عليه جريرة نقل المعلومات الخاطئة التي كان المفروض أن يشير إليها لو أنه رجع حقًّا إلى المصادر الأصلية.
قائمة المراجع :
يذكر الدكتور رمضان عبد التواب أنه "جرى" وراء طبعات الكتب التي اعتمد عليها المؤلف ووضع قائمة هجائية بتلك المصادر في نهاية الكتاب (الرياض 1/2/1405هـ). لقد سبق أن قلت إني لم أر الكتاب في لغته الألمانية حتى أجزم في هذا الأمر، لكن أستاذه شبيتالر يقول (ص5 هامش 2) إن قائمة مصادر الكتاب تحوي أكثر من 250 كتابًا معظمها بالعربية. فهل يُفهم من هذا أن المؤلف وضع قائمة بمصادر الكتاب؟ فكيف نوفق إذن بين ما يقوله الدكتور رمضان عبد التواب وما يقوله أستاذه؟ فإما أن يكون كلام الأستاذ صحيحًا فيكون عمل التلميذ غير جديد، أو أن يكون كلامه غير صحيح فيكون لزامًا على التلميذ أن يشير إلى ذلك. ومن الجدير بالذكر أن ترجمة الدكتور النجار تتضمن قائمة طويلة من المراجع؛ فالقول بأنه هو الذي بدأ وضع المراجع في آخر الكتاب ليس صحيحًا إذن.
أما إذا تجاوزنا هذه النقطة لندرس قائمة المراجع التي جاء بها فإننا نجد أن مجموعها 222 كتابًا معظمها بالعربية بالإضافة إلى ذكره لاسم دائرة المعارف الإسلامية واثنتي عشرة دورية. كما تضم هذه القائمة خمسة من كتبه هو. فإذا لم نحسب هذه الكتب الخمسة فإن عدد المصادر يبقى 217 كتابا. فإذا أضفنا دائرة المعارف الإسلامية والدوريات وجدنا أن عدد المصادر لا يتجاوز المائتين والثلاثين، فأين ذهبت بقية المصادر يا ترى؟ إن الفاحص للكتاب يجد ما يزيد عن ثلاثين كتابًا لم يضمنها عبد التواب قائمة المصادر، يضاف إلى ذلك أنه يجب عدم الاكتفاء بذكر أسماء الدوريات. كما أننا إذا تفحصنا الكتاب وجدنا حوالي 47 مقالة بعضها من دائرة المعارف الإسلامية، وبعضها الآخر نشر في دوريات مختلفة. فإذا صحّ له ألا يفصّل المعلومات عن المقالات في دائرة المعارف الإسلامية فلا يصح له أبدًا أن يترك المقالات المنشورة في الدوريات دون توثيق.
أما ترتيب المصادر الأجنبية فسيئ للغاية ذلك أنه يرتب المؤلفين بحسب الحرف الذي يبتدئ به اسم عائلة المؤلف، لكنه يأتي أولاً بالاسم الأول للمؤلف. فيورد اسم نولدكه، مثلاً، هكذا Th. Noldeke فإذا أردت أن تبحث عن مؤلف معين فلا بد لك من قراءة الاسم الأول الذي ليس له دور في الترتيب.
وكان من الأحسن لو أن الدكتور عبد التواب، وإن رجع إلى الطبعات القديمة، أن يرجع إلى الطبعات الحديثة للكتب، ويشير إلى مواضع الاستشهاد فيها، لأنها أقرب إلى تناول القارئ، بعد أن أصبحت تلك الطبعات القديمة محصورة في بعض المكتبات العامة أو الخاصة.
وهذا العمل مهم لأن بعض الطبعات التي اعتمد عليها المؤلف غير محققة أو أنها طبعات أوروبية قديمة. هذا بالإضافة إلى أننا نجد اختلافًا بين ما هو موجود في الطبعات القديمة والطبعات المحققة للكتب. فنجد مثلاً أنه يذكر في (ص22) أن سيبويه "أطلق الرفع والجر والنصب على النهايات الإعرابية التي تتعاور الكلمات المعربة، ويستخدم الضم والكسر والفتح للحركات، وأواخر الكلمات المبنية". فإذا رجعنا إلى الكتاب لسيبويه (بتحقيق هارون ج1 ص: 13) وجدنا: "فالرفع والجر والنصب والجزم لحروف الإعراب". وفي (ج1 ص: 15): "وأما الفتح والكسر والضم والوقف فللأسماء المتمكنة". ففي عبارة سيبويه هنا زيادة.
بقي أن نشير إلى أن قائمة المصادر غير دقيقة، فهو يذكر في قائمة المراجع طبعات تختلف عن الطبعات المذكورة في صلب الكتاب. ومن أمثلة ذلك أننا نجده يذكر في قائمة المراجع "الكتاب" لسيبويه (طبعة بولاق)، ثم يشير إلى أن الإحالات في الكتاب ترجع إلى الطبعة الأوروبية. فلماذا لم يرجع إلى طبعة بولاق نفسها، ويذكر لنا موضع الاستشهاد فيها؟ كما يشير إلى رقم الطبعة في الكتاب لكنه في قائمة الصادر لا يذكر رقم الطبعة (انظر مثلاً،( ص: 40 هامش 3) حيث يشير إلى الطبعة الثانية لأمالي القالي، لكنه لا يذكر أي رقم في قائمة المصادر)). كما أن هناك تضاربًا في سنوات الطبع، ففي (ص9 هامش1) يشير إلى طبعة القاهرة لكتاب المزهر (1282هـ) في حين يذكر تاريخ الطبع في قائمة المصادر (1352هـ)، كذلك تاريخ طبع أمالي الزجاجي فهي في صلب الكتاب (1342هـ) أما في القائمة فهي (1324هـ)، وفي (ص12 هامش 1) يشير إلى تاريخ طبعة القاهرة للمثل السائر وهي (1312هـ) أما في المراجع فهي (1282هـ).
الهوامش التي جاء بها الدكتور عبد التواب :
أما الهوامش التي جاء بها الدكتور رمضان عبد التواب فلا تزيد عن ثمانية وعشرين هامشًا، يتكون معظمها من إضافة بعض المراجع أو الإحالة إلى كتبه هو، أو الاعتراض بصورة مقتضبة على ما ورد في الكتاب، أو تصحيح بعض الأخطاء أو الإشارة إلى فصول من الكتاب ستأتي. . . إلخ. لكن الجدير بالإشارة أن أطول تعليقاته لا يزيد عن خمسة أسطر. كما كانت معاملته لهوامش شبيتالر أكثر إنصافًا من معاملته لهوامش النجار. ففي (ص19 هامش 2) يورد تعليق شبيتالر ثم يختمه بكلمة (شبيتالر) ثم يعلق على القضية نفسها ويذكر كلمة (المترجم)؛ لكنه لا يفعل ذلك مع هوامش النجار (انظر ص ص: 16 ـ 17 هامش 1). كما نجده ينتقد النجار في مقدمته (ص ص3 ـ 4) لأنه ترك "شيئًا غير قليل" من الهوامش دون ترجمة، ولأنه كان يلخص بعضها تلخيصًا شديدا. لكننا نجده، هو نفسه، يقرّ بأنه لم يترجم الهوامش كلها. فهو يقول (ص4): "ولكنني آثرت ترجمة هذه الهوامش المتروكة إلا ما ندر. . .". فلماذا يترك بعض الهوامش دون ترجمة؟ ألأنها غير مهمة؟ ربما. ثم ما المانع أن نجد العذر نفسه للدكتور النجار على عدم ترجمة بعض الهوامش التي لم يكن يراها مهمة؟ وعلى الرغم من لومه للنجار بسبب إسقاطه بعض الهوامش فهو يسقط واحدًا من أهم الهوامش التي كتبها النجار (ص 5 هامش 1) وفيه يتعرض لفوللرز وكاله حيث يريان أن القرآن الكريم نزل بلغة غير معربة، لكنه عُدِّل فيما بعد ليوافق لغة الشعر الجاهلي المعربة.
مقدمة شبيتالر وتعليقاته :
أما تعليق شبيتالر الذي جاء في أول الكتاب فهو وإن كان يعطينا وجهة نظر مخالفة للنظرية التي يقوم عليها كتاب (فوك)، فهو تعليق مقتضب باعتراف شبيتالر نفسه (ص 7 هامش 1) فهو يقول: "ما يلي لا يعرض من تصوري إلا إطاره العام، ولا يمكن في هذا الحيز الضيق أن يشرح التفاصيل. وإني لأرجو أن أتناول المشكلة كلها بالتفصيل في مكان آخر".
أما تعليقاته في صلب الكتاب فلا تزيد عن 27، وهي على العموم، مختصرة: فلا يزيد أطول تعليق منها عن عشرة أسطر. أما الغالب منها فتتراوح بين أقل من سطر إلى أربعة أسطر، حيث تقتصر تلك الهوامش على إعطاء مراجع عن القضية المطروحة، أو تصحيح كلمة، أو مناقشة مختصرة تزيد الأمر غموضاً أكثر من زيادته إيضاحا.
ولا يزيد التعليق في بعض الأحيان عن جملة واحدة. انظر مثلاً (ص19، هامش 2) حيث يعلق على ما ورد في نص الكتاب حول تعريفه العنعنة. تقول جملة الكتاب: "ومن تلك الفروق ـ مثلاً ـ العنعنة، أي إبدال النطق المفخم للهمزة"، فيقول تعليقه: "ليس هذا التعبير مصيبا، لأن العين ليست صوتًا مفخما". أما استدراك الدكتور رمضان عبد التواب على تعليق أستاذه فهو: "والصواب أن يُقال: أي إبدال الهمزة عينا". وفي أحيان أخرى يأتي شبيتالر بتعليق يدل على عدم فهمه للقضية المطروحة. فيعلق شيخ المستشرقين على قول (فوك) ص 147 : "وأسوأ من هذا أن أخاه سليمان بن عبد الله صاحب الشرطة ببغداد 255 ـ 265هـ صاغ مثنى لاسم العدد عشرون في شعر له:
ومضت لي عشرونان اثنان
قائلاً (هامش 3): ". . . وذِكْر الرقم اثنين أو اثنتين بعد المثنى ليس أمرًا نادرًا في العربية، ففي القرآن الكريم: {زوجين اثنين} سورة 13/3، {إلهين اثنين} (كذا) (سورة 16/15)". لكن اللحن الذي يعاب على شطر البيت هذا، كما هو واضح من كلام (فوك)، هو في تثنية "عشرون" وليس في ذكر (اثنان) بعد هذا المثنى. والطريف أن الدكتور رمضان عبد التواب لم يتوقف عند هذا الفهم الخاطئ، فلقد كان الأجدر به أن يصححه.
التغييرات والإضافات التي أدخلها الدكتور رمضان عبدالتواب :
لا شك أن تغيير بعض الكلمات، وصياغة بعض الجمل، وترجمة ما سقط من الكتاب في الترجمة الأولى، سواء أكان ذلك هوامش أم جملاً، والرجوع إلى المصادر العربية للتحقق من قول ما، عمل جيد لا ينكره أحد. لكن حتى لو سلمنا بما قاله أحمد سمير بيبرس (الرياض 16/1/1405هـ) من أن الأخطاء قد بلغت أكثر من خمسمائة، فهذا لا يكفي أن يكون عذرًا للاعتداء على جهد إنسان آخر وادعائه بكامله. ثم ما هو مفهوم الخطأ؟ صحيح أن بعض ما أشار إليه الدكتور رمضان عبد التواب (الرياض 1/2/1405هـ) أخطاء وقعت في الترجمة الأولى، لكن هل من الممكن أن نسمي استعمال كلمة معينة خطأ لأنها لا تعجبنا؟ فمن أطرف أنواع التغيير في الكلمات أن الدكتور رمضان عبد التواب يغير كلمات في ترجمة النجار يستعملها هو نفسه في ترجمته لكتاب "فقه اللغات السامية" لبروكلمان (طبعة جامعة الرياض 1397هـ). فهو يغير عبارة "ما بين النهرين" (النجار، ص: 190 س2) إلى "بلاد الرافدين" (ص197 س11)، وكذلك في (ص24 س21). غير أنه يستعمل هو نفسه لفظ "ما بين النهرين" في فقه اللغات السامية (ص12، س27). أما القول بأن ترجمة النجار "تفيض بالأخطاء الفادحة والأغلاط الشنيعة" أو أن فيها "أخطاء قاتلة" فأحسبه لا يخلو من المبالغة، كما لا يخلو من المبالغة أيضًا الادعاء برجوع المترجم الثاني إلى المصادر العربية للتأكد من النصوص التي يوردها المؤلف وذلك لما قدمناه عند حديثنا عن المراجع أعلاه.
ومن أشد الأمور غرابة في الموضوع كله، ما يتعلق بالعنوان الفرعي للكتاب، فنجد في كلتا الترجمتين العنوان الفرعي للكتاب كالتالي: "دراسات في اللغة واللهجات والأساليب"، لكن شبيتالر يذكر (ص5 ، س س4 ـ 5) أن العنوان الفرعي هو "دراسات في اللغة والأساليب العربية". فإذا كان قول شبيتالر صحيحا، أليس من الضروري أن يضع الدكتور رمضان عبد التواب العنوان الفرعي للكتاب بصورته الصحيحة؟ أما إذا افترضنا أن شبيتالر كان واهمًا فإن تلميذه أولى الناس بتنبيهه إلى هذا الوهم.
قضية الفهارس :
يذكر الدكتور رمضان عبد التواب أنه وضع فهارس للترجمة الجديدة. وربما يوحي هذا أن الكتاب في طبعته الألمانية لم يفهرسه مؤلفه. لكن شبيتالر يذكر (ص6) أن للكتاب فهارس متنوعة للأشخاص والموضوعات والكلمات والآيات القرآنية.
أما في ترجمة الدكتور رمضان عبد التواب فلا نجد إلا فهرسين اثنين أحدهما للموضوعات والآخر للأشخاص. لكن هذين الفهرسين هما الوحيدان الموجودان في ترجمة الدكتور النجار أيضا. فكيف يكون عمله جديدًا وهو لم يكتف بعمل ما قد عمله النجار تمامًا، بل تابعه أيضًا في عدم وضع فهرس للآيات القرآنية والكلمات؟ أما إذا وازنا بين فهرسي الأشخاص في الترجمتين فنجد أن عدد صفحات فهرس الأشخاص في ترجمة الدكتور رمضان عبد التواب لا يزيد إلا بصفحة واحدة، عن عدد الصفحات عند الدكتور النجار (أي 43 صفحة عند عبد التواب و42 صفحة عند النجار). زيادة على ذلك، نجد أن بعض الأشخاص لم يذكرهم صاحب الترجمة الثانية في فهرسه، في حين أنهم ذُكروا في صلب الكتاب، بل ذكرهم النجار في فهرسه أيضا. وواحد من الأشخاص الذين سقطت أسماؤهم من الفهرس هو "آكل المرار"، وقد ذكر في ترجمة الدكتور عبد التواب (ص172 هامش 3). وهذا لا يعني أن النجار لم يسقط بعض الأشخاص فقد أسقط بعضهم.
أحسب أني قد أقمت الدليل على نقل الدكتور رمضان عبد التواب من الدكتور عبد الحليم النجار نقلاً حرفيًّا عند استعراضي للكتب التي لم يرجع إليها. ولكي يزداد الأمر وضوحًا، فسأورد بعض الأدلة التي تؤكد لنا أن الدكتور رمضان عبد التواب كان أقرب إلى النقل الحرفي من الدكتور عبد الحليم النجار منه إلى الترجمة الأصلية. فبالإضافة إلى ما قدمناه، من عدم رجوعه إلى بعض مصادر الكتاب، وعدم إكماله لأشطار الأبيات التي تركها المترجم الأول، وتركه بعض الهوامش دون ترجمة، نذكر ما يلي:
1ـ إنه يتابع المترجم الأول حتى في الأشياء التي لا تستدعي تفكيرا. ومن هذه الأشياء ذكر عبارة "صلى الله عليه وسلم" بعد ورود محمد أو الرسول. صحيح أن المترجم الثاني ذكر هذه العبارة في مواضع قليلة، في حين أن المترجم الأول تركها في مثل (ص63 ، س9) حين وضع "عليه السلام"، في حين لم يذكرها النجار في الموضع نفسه (ص54، س11). أو "عليه الصلاة والسلام" (ص17 ، س10) في حين يتركها النجار في الموضع نفسه (ص6 ، س4). لكننا نجده في أكثر من 90% من الحالات، يوردها إذا أوردها النجار، ويتركها إذا تركها. وحتى في الصياغة فإنه يورد الصياغة التي يوردها النجار. فإذا أورد النجار "صلى الله عليه وسلم" أوردها عبد التواب كذلك، وإذا أورد "عليه السلام" فعل عبد التواب كفعله، كذلك إذا وضع النجار تلك العبارات داخل أقواس وضعها عبد التواب كذلك. أما إذا لم يضعها النجار فإن عبد التواب لا يضعها. ويبلغ التشابه حدَّه حين يتابع المترجم الثاني المترجمَ الأول في شكل الأقواس التي يضع العبارات السابقة داخلها. ومن الأمثلة على ذلك ما يلي: ففي (ص81 ، س9) لا يضع عبد التواب عبارة "صلى الله عليه وسلم" بين أقواس، وهذا ما فعله النجار في صفحة (73 ، س9)، ويضعها بين قوسين معقوفتين في (ص80 ، س17) وذلك ما فعله النجار (ص73 ، س1). وفي (ص33 ، س19) يضع المترجم الثاني العبارة بين قوسين هلاليين ( )، وهذا ما فعله النجار (ص23 ، س10). وفي (ص244، س س16 ـ 17) وهذا ما فعله النجار (ص226، س14) أيضا. وفي (ص 250) يستعمل عبد التواب عبارة "صلى الله عليه وسلم" ويضعها بين قوسين معقوفتين أربع مرات (س12، و س س14 ـ 15 ، وس17 مرتين) وهذا ما فعله النجار (ص242 ، س س 5 ـ 6 ، وس9 ، وس10). إلا أن النجار يستعمل في (س14 من الصفحة نفسها) عبارة "عليه السلام"، ويضعها ين قوسين معقوفتين، وهذا ما فعله رمضان عبد التواب (ص251 ، س5)، ثم يرجع في الصفحة نفسها إلى استعمال "صلى الله عليه وسلم" ثم وضعها بين قوسين معقوفتين (س12) وهذا ما فعله النجار (ص243 ، س3). وهو لا يذكر هذه العبارة في المواضع التالية (ص84 ، س14 ، وس19) متابعًا ما فعله النجار (ص76 ، س15، وص: 77 ، س5)، وغير ذلك كثير.
وعلى الرغم من ذكر بعض أسماء الصحابة مثل عمر بن الخطاب، ومعاوية، وعبد الله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وصهيب، وبلال رضي الله عنهم أجمعين، فإنه لم يذكر مرة واحدة عبارة الترضي عنهم، وما ذلك إلا متابعة للنجار.
2ـ
أـ إنه تابع النجار في استعمال بعض المصطلحات النحوية الخاطئة. فيستعمل الدكتور النجار مثلاً لفظ (التوقيف) (ص11 ، س11) فيتابعه الدكتور رمضان عبد التواب في ذلك الاستعمال الخاطئ (ص22 ، س11) والصحيح هو "الوقف".
ب ـ إنه يحاكي في علامات الترقيم، مثل النقطتين (:) بدلاً عن (أي) وهذا مبثوث في الكتاب.
ج ـ إنه يتابع النجار في عدم ذكر واو العطف، بل يستغني عن ذلك بالفاصلة ـ انظر مثلاً (ص29 ، س15).
د ـ التقيد باستعمال بعض الألفاظ التي يستعملها النجار بكثرة مثل (إذ ذاك)، فقد استعملها النجار كثيرًا، وتابعه عبد التواب في المواضع نفسها. وقد يذكر ذلك اللفظ ثلاث مرات في صفحة واحدة.
هـ ـ استعماله تعبير "الحوار الخلافي" (ص61)، وكان الأجدر أن يترجمه بكلمة "المناظرة"، خاصة أن ذلك التعبير استعمل في قصة مناظرة سيبويه والكسائي، لكنه استعمله لأن النجار استعمله (ص52 ، س17).
و ـ استعماله لتعبيرات مثل الدوائر الإسلامية، والدوائر الأدبية. وهي التعابير التي استعملها النجار في المواضع نفسها.
ز ـ يستعمل بعض التعبيرات التي يستعملها النجار على الرغم من أن هناك اصطلاحات محددة لما تعنيه تلك التعبيرات. فهو يستعمل لفظ "الشعر" أي القصيدة أو القطعة الشعرية. فحين يتكلم المؤلف عن قصيدة أبي المنهال عتبان بن وصيلة (ص37) والتي منها:
ومنا أميرُ المؤمنين شبيب
يقول في (هامش 1) من الصفحة نفسها «وكثيرًا ما تساق أبيات هذا الشعر دون تسمية قائليه. . . ". وهذا الهامش بنصه موجود عند النجار (ص37، س 3). وفي (ص72 ، س15) "والإيطاء (وهو تكرار لفظ القافية في الشعر الواحد). . . ". وهذا ما نجده عند النجار (ص64 ، س14). وفي (ص143، س8) ". . . وأنه أنشد شعرًا واحدا. . . " وذلك مذكور بنصه عند النجار (ص135 ، س س12 ـ 13) وغير ذلك.
ح ـ استعماله مصطلح "شعر الفُرَص" أي شعر المناسبات في (ص133، س8). وهو عند النجار (ص125، س7) وغيرها. والأعجب من ذلك كله أن المترجم الثاني يتابع المترجم الأول حتى في الأخطاء. فقد قدمنا أنه أورد "مسكا" بدل "حسكا" وهو الخطأ الإملائي الذي نجده عند النجار.
وفي ص: 68 ترد عند المترجم الأول كلمة "دأبية" عند الحديث عن بيت أعشى همدان:
مــن دعــا لي غزيـِّــلي أربــح اللــــه تجارتــــه
كما ترد هذه الكلمة على صورة "دأبية" عند المترجم الثاني (ص76)، فلا ندري ما تعنيه هذه الكلمة، فهي لم تشرح في كلتا الترجمتين. والإحالة الوحيدة فيهما إلى أن هناك "دأبية" مثل هذه في أشعار الهذليين رقم 171. وليست الإحالة إلى أشعار الهذليين مباشرة، بل الإشارة إلى كتاب لفلهوزن. فإذا أردت أن تعرف ما تعنيه فلا بد من الرجوع إلى ذلك الكتاب ومن ثم الرجوع إلى أشعار الهذليين. وهذه من جنس الأمثلة التي قدمتها لعدم رجوعه إلى المصادر.
فعلى ماذا يدل هذا التوافق العجيب؟ أهو أمر لا مفر منه؟ أليس في مقدرة المترجم الثاني أن يتفادى هذه المتابعة الحرفية؟
الأســـــــلوب :
أما الأسلوب فنجد أن المترجم الثاني جاء بأكثر من 95% من جمل الترجمة الأولى كما هي. أما ما بقي منها فقد صاغه صياغة مختلفة في بعض المواضع إلا أنه يكتفي في حالات كثيرة بتغيير كلمة هنا وكلمة هناك.
والأسلوب بعامة، يقترب من الترجمة الحرفية، وهو بحاجة إلى غير قليل من إعادة الصياغة حتى يقترب من الأسلوب العربي. ومن الأمثلة على ذلك: "ولا يوجد أفصح ولا أبلغ، ولا أنصع ولا أبين في إصابة المحز من ذلك التعبير: لحن القول، في وصف طريقة التعبير المعسولة التي لا يبدو في ظاهر جرسها سوء التي يرمز بها أعداء محمد [صلى الله عليه وسلم] إلى معان يفهمها إخوانهم في الرياء والنفاق" (ص251). و "وليكن من الفرص قبل الإسلام أيضًا ما يسمح باختلاط العرب بغيرهم من الأعاجم في المناسبات المختلفة، فإن الهجرة العربية الكبرى التي تمت في القرن الأول للإسلام، وهيأت الفرصة العظمى لاحتكاك العرب بالأعاجم واصطدام لغتهم باللغات الأخرى، هي التي يعول عليها بالنسبة لما ترتب عليها من آثار جماعية غير فردية" (ص254). و"هذا ولا يزال ينقصنا كل دليل يبين متى تم نقل اللحن إلى معنى الخطأ في الكلام" (ص254). و"نعم هو لا يحدد في ذلك مناطق استعمال كل تعبير، بيد أن مواضع أخرى من كتابه، وورود الكلمات في مظان أخرى، واشتقاقها اللغوي، وبعض التقييدات التي توجد عند كُتاب آخرين، كل ذلك يساعد أحيانًا على ذلك التحديد" (ص201). ومن ذلك أيضًا أنه عند بدء مناقشة فكرة معينة يضع الجملة الأولى على صورة سؤال، وهو أسلوب غير عربي، يعرفه كل من يقرأ الإنجليزية أو غيرها من اللغات الأخرى. ومن أمثلة ذلك في ترجمة النجار "وفي أي صورة كانت تصدر هذه اللغة الجديدة؟" (ص20)، و"وفي أي صورة من البطء أخذت العلاقات تتغير؟" (ص24) و"وإلى أي حد كانت الأحوال متشابكة معقدة؟" (ص161)، و"وهل وقع .. لحن شنيع مثله؟" (ص ص74 ـ 75) و"وإلى أي حد كانت صعوبات التصريف الإعرابي هي الموجهة لقواعد النحو الناشئة؟" (ص ص21 ـ 22).
وهناك ملاحظة أخيرة حول الأخطاء المطبعية في ترجمة رمضان عبد التواب؛ فعلى أنني لم أتعمد تتبعها، لكن الذي وقع عليه بصري يتجاوز الخمسين خطأ. ومن المؤكد أن هناك أكثر من هذا العدد. أما في ترجمة النجار فتقل عن ذلك بكثير.
استعماله كلمة "المتزمتين" :
تكررت كلمة "المتزمتين" مرات عديدة في ترجمة عبد الحليم النجار ورمضان عبد التواب لتعني اللغويين الذين كانوا يحرصون على نفي الكلمات والاستعمالات الدخيلة من اللغة العربية. وأظن أن هذا اللفظ ترجمة لكلمة مشابهة لكلمة إنجليزية هي Purist . غير أن لهذه الكلمة في الإنجليزية، وأحسبها كذلك في الألمانية، معنى سلبيا، خاصة في دراسات الاجتماع اللغوي. أفلم يكن من الأحسن أن تترجم هذه الكلمة بكلمة ألطف منها مثل "الغيورين على سلامة اللغة"؟ أو ألم يكن من الأوفق لو أبقى على كلمة "المتزمتين" حتى تكون أمينة بقدر الإمكان، ثم يعلق عليها بما يفيد عدم رضاه عنها؟ أَفَيُحب أن يوصف هو نفسه بهذا الوصف لأنه، وبشهادة محكمي جائزة آل بصير، قد دافع دفاعًا مجيدًا عن اللغة العربية؟
خاتمــــــة :
إن ما قدمته في هذه الموازنة ليس من قبيل التحامل وتسقُّط المآخذ، بل حاولت قدر الإمكان أن أكون موضوعيًّا وأمينًا في موازنتي بين الترجمتين. ولقد وجدت أن ما يزعمه رمضان عبد التواب من الرجوع إلى المصادر الأصلية للكتاب ليس صحيحًا على إطلاقه. وأوضحت أنه في كثير من الأحيان ينقل عن الترجمة الأولى بغض النظر عما إذا كان المنقول مطابقًا لما في المراجع المشار إليها أم لا، وبعد ذلك وجدنا أن المترجم الثاني تابع المترجم الأول متابعة تبعث على الدهشة. وليس من قبيل توارد الخواطر أو الإبقاء على ما هو صالح في الترجمة الأولى أن يستعمل المترجم الثاني نوع الأقواس التي يستعملها المترجم الأول، أو أن يوافقه في ذكر الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض المواضع أو في تركها في مواضع أخرى.
أما ما زاده المترجم الثاني وما غيرَّه، فقد وجدنا أنه لا يجعل من الترجمة الثانية ترجمة جديدة، وإن أفاد بعض الإفادة. هذا بالإضافة إلى أن بعض تلك الإضافات خاطئة أحيانا. فالصحيح إذن أن ينسب الكتاب إلى مترجمه الأول مع احتفاظ المترجم الثاني بنسبة الزيادات والتعديلات إليه.
والله من وراء القصد.
الهوامش :
1ـ بروكلمان، كارل. "فقه اللغات السامية". ترجمة رمضان عبد التواب، الرياض: جامعة الرياض، 1397هـ / 1977م.
2ـ البصري، أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي. كتاب النقائض: نقائض جرير والفرزدق (تحقيق المستشرق الانجليزي أنتوني أشلي بيفان) (في مجلدين)، ليدن: بريل، 1905 ـ 1912م.
3ـ سيبويه، أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر. الكتاب. تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1977م.
4ـ السيوطي، عبد الرحمن جلال الدين. المزهر في علوم اللغة وأنواعها. تحقيق محمد أحمد جاد المولى وعلي محمد البجاوي وأبو الفضل إبراهيم. القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه، د.ت.
5ـ السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن. الإتقان في علوم القرآن. وبهامشه إعجاز القرآن للقاضي أبي بكر الباقلاني. القاهرة: مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر (الطبعة الرابعة) 1398هـ ـ 1978م.
6ـ الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير. تاريخ الرسل والملوك. تحقيق المستشرق الألماني بارث وآخرين، (في 15 مجلدا) وصوّرته مكتبة خياط في بيروت في سلسلة روائع التراث العربي، 1965م.
7ـ فوك، يوهان. العربية: دراسات في اللغة واللهجات والأساليب. ترجمة عبد الحليم النجار، القاهرة: الخانجي، 1951م.
8ـ فوك، يوهان. العربية: دراسات في اللغة واللهجات والأساليب [ترجمة] رمضان عبد التواب، القاهرة: مكتبة الخانجي بمصر، 1400هـ ـ 1980م.
9ـ المقدسي، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر. أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم. تحقيق المستشرق دي غويه، ليدن: بريل، 1906م صوّرته مكتبة خياط في بيروت في سلسل روائع التراث العربي. د.ت.
________________
* نشرت هذه المقالة في جريدة الرياض (العدد 5984، السبت 17/2/1405هـ، ملحق ثقافة اليوم.
* أثار هذه القضية الدكتور علي البطل في جريدة الرياض (العدد 5940، الخميس 2/1/1405هـ، ملحق ثقافة اليوم) تحت عنوان "الجامعة وأزمة الضمير العلمي"، وكذلك في جريدة الرياض (العدد 5947 الخميس 9/1/1405هـ، ملحق ثقافة اليوم) تحت عنوان "أمانة البحث العلمي"؛ وقد رد عليه الدكتور أحمد بيبرس في جريدة الرياض (العدد 5954، الخميس 16/1/1405هـ ملحق ثقافة اليوم) بعنوان "رد على مقال الدكتور علي البطل عن ترجمة كتاب (العربية)"؛ كما كتب الدكتور رمضان عبد التواب في الملحق نفسه وفي الفترة نفسها ردًّا على الدكتور علي البطل (الرياض، ملحق ثقافة اليوم، في 1/2/1405هـ)؛ وفي جريدة الرياض (العدد 5992، الأحد 25/2/1405هـ، ملحق ثقافة اليوم) رد الدكتور علي البطل على مقال الدكتور أحمد بيبرس تحت عنوان "حول كتاب العربية: رد على الرد المنسوب للدكتور أحمد بيبرس"؛ كما رد الدكتور البطل على رد الدكتور عبد التواب في جريدة الرياض (العدد 5996، الخميس 29/2/1495هـ، ملحق ثقافة اليوم) تحت عنوان "الرد على الدكتور رمضان عبد التواب".