وفي عصور التخلف الذي أصاب الأمة العربية والإسلامية، بعدما منيت بالغزاة من التتار والمغول والصليبيين، وما تلا ذلك من حروب أوقدت الأطماع الاستعمارية نارها، ودامت أزماناً طويلة، وما ترتب على الاستعمار من فرض لغته على المؤسسات والدواوين في جميع الأقطار العربية انعكست آثاره على اللغة العربية، فتوقفت انطلاقتها وتقلص ظلها، وكان المفروض أن تعود إلى نشاطها وتستعيد مكانها القيادي بين لغات العالم، ولكن مع صعوبة المهمة، وطول الطريق، والعزائم التي وهنت، قنعت اللغة بالصمود أمام التيارات المعادية، ولما تحررت شعوب الأمة العربية من الاستعمار حاولت العودة إلى المكان الطبيعي الطليعي لها، ولكن الأزمات لاحقتهــا من أعدائها وربما من بعض أبنائها، وأوشك المدافعون عنها أن يلقوا السلاح، ويتركوها للمصير المتربص بها.
لقد رحل الأعداء عن الأرض العربية ولكنهم تركوا في ربوعها أثراً مازال ماثلا.. لقد حاولوا أن يشككوا حتى في صلاحية اللغة العربية للحياة.
لقد تآمر أعداء الأمة العربية والإسلامية للقضاء عليها، فحاولوا طمس معالم حضارتها ومآثر ماضيها، فبثوا في نفوس أبنائها الشعور بتقدم الفكر الغربي، والإحساس بتخلف العرب عن الحضارة المعاصرة فالعبقريات غربية وأعلام التطور غربيون وأبطال الكشوف والاختراعات أوربيون. أما العرب فلم يكن لهم ذكر عندهــم، وأيد هذه الدعاوى الباطلة جماعة من أبناء الأمة العربية تأثروا بالثقافة الغربية فهم يرددون دعاواهم وينشرون فكرهم، وقد ساعد ذلك على التطور العلمي والتقني المعاصر الذي أخضع العالم كله لسلطانه، فانعكس على كثير من شباب الأمة وقر في أذهانهم أن هناك التقدم والعلم والحياة، وهنا التخلف والجهل الخمول.
ويتحدث كثير من العلماء والمتخصصين وجمهور المثقفين عن استخدام اللغة الأجنبية في التعليم في مؤسسات التعليم العالي، وبخاصة في الكليات العملية كالطب والهندسة والعلوم، فيرى فريق منهم أن التعليم باللغة الأجنبية في بعض المواد العلمية ضرورة لا مفر منها، ذلك أن هذه المواد أجنبية المولد والنشأة بأفكارها وتجاربها ومصطلحاتها، وقد تراكمت على امتداد سنوات طويلة حتى استعصت على تناولها بأية لغة غير تلك التي أنجبتها، وأن محاولة تدريسها باللغة العربية إجراء فاشل وعبث لا جدوى من تطبيقه، حتى إن بعض الأصدقاء الذين حضروا مؤتمرا طبيا في نهاية عام 1995م أكدوا أن إيجابية المشاركة في المؤتمر كانت قاصرة على من تلقوا المواد الطبية باللغة الأجنبية وامتدت دراساتهم فوق الجامعية باللغة التي ظهرت المستحدثات الطبية بين مختبراتها وتجاربها، ونشأت في بيئاتها، واكتسبت سماتها، ولهذا فإن مجرد التفكير في تعريب هذه المواد أو ترجمتها ضرب من المخاطرة بالمادة والطالب.
ويرى فريق آخر أن تدريس هذه المواد باللغة العربية ضرورة وطنية وقومية ودينية، ويؤكدون أن اللغة العربية قادرة على استيعاب المواد العلمية واحتوائها، وأن تاريخ اللغة العربية يقدم الأدلة على قدرتها، وأن غيرنا من الأمم أصر على أن يقتصر التعليم على لغاتها الوطنية وقد نجحت تلك الدول التي أزاحت كل عقبة، وذلّلت كل صعوبة بإصرارها وإرادتها.
لقد تداعت تلك الأفكار وانتشرت فشغلت عقول المسئولين والعلماء في البلاد العربية، وتبنى المركز العربي للوثائق والمعلومات الصحية هذا الموضوع مؤملا أن يصل فيه إلى اتجاه يحقق الغاية من التعليم العالي في المواد العلمية العملية من جهة، ويحافظ على كيان الأمة ويؤكد سيادتها ويحفظ للغة العربية مكانها المأمول من جهة أخرى، فكان هذا اللقاء الكبير الذي احتشد فيه صفوة العلماء في الوطن العربي لمعالجة هذا الموضوع.
ولقد كان لي شرف إعداد هذه الدراسة المحدودة لتكون إسهاما متواضعا نرجو أن تلقى الضوء على جوانب يهم الجميع النظر فيها.
أهداف الدراسة:
تستهدف هذه الدراسة إلقاء الضوء على إمكانات اللغة العربية ومكانتها بين لغات العالم، ومدى قدرتها على مواكبة التطور العلمي من خلال وقفات مقصودة في رحلة حياتها، ويمكن ملاحظة الأهداف الفرعية لهذه الدراسة بالإجابة عن الأسئلة الآتية:
* هل اللغة العربية عاجزة عن مواكبة التطور العلمي وتطبيقاته المعاصرة ؟
*هل التعليم باللغات الأجنبية أصلح من بيئاتنا العربية ؟
*هل يمكن أن يحقق التعليم باللغات الأجنبية تمكن الطالب من المادة العلمية والإبداع فيها ؟
* هل التعليم باللغات الأجنبية ينتقص من هيبة الأمة وينال من سيادتها ؟
* هل تستطيع الترجمة والتعريب أن يغنيا في إقدار اللغة العربية على أن تكون أداة التعليم في المواد العلمية ؟
إجراءات التنفيذ:
لتحقيق أهداف الدراسة، وللإجابة عن الأسئلة السابقة قام الباحث بما يأتي:
1- الاطلاع على ما توافر من وثائق ودراسات ومؤلفات خاصة بموضوع الدراسة.
2- مراجعة الدوريات التي صدرت أو نشرت في دولة الكويت، وفي بعض الدول العربية حول الموضوع.
3- الاتصال ببعض العلماء المتخصصين والخبراء المهتمين بموضوع الدراسة وممن لهم جهود بارزة في تعليم المواد العلمية باللغات الأجنبية.
وتوقف الباحث عند الجهود التي بذلها العرب والمسلمون منذ فجر الإسلام في تحصيل العلم والمعرفة، والدوافع التي كانت وراء جهادهم في هذا الميدان، وكيف أنهم لبوا نداء اللـه تعالى لنبيه في التفكير والنظر والتأمل في ملكوت السماء والأرض ليكون الإيمان ثمرة بلوغ شىء من عظمة الخالق في خلقه، وكيف كان عكوفهم على التراث الحضاري الإنساني ونقله إلى العالم تلبية لأداء رسالة العلم بعد رسالة الإيمان، وكيف كان استغراقهم في البحث والتعمق والإبداع من نواتج الشغف بالكشف عن بعض أسرار ما أودع الخالق سبحانه في خلقه، ويسرّ الباحث أن يعرض خلاصة رؤيته في هذه الورقة المتواضعة.
ثانياً :
انطلاقة اللغة العربية في ظل رسالة الإسلام
حقائق لاسبيل إلى إنكارها
حركة الترجمة
حركة التأليف
شغف المسلمين بالعلم
اللغة العربية وسيادة الأمة
* انطلاقة اللغة العربية في ظل رسالة الإسلام
يدعى أعداء أمتنا العربية الإسلامية أن اللغة العربية عاجزة عن استيعاب العلوم الحديثـة، ويذهب بعضهم إلى القول بأن الإسلام كان ومازال مضطهدا الفلسفة والعلم، وأنه جعل من دون الحرية الفكرية سدا في كل بلد احتله، بل لقد دفعهم الحقد الأعمى إلى ترديد ما أقرته التعليمات المريضة من أن اليونان والرومان هم مصادر الثقافة العالمية، وأن العرب بفطرتهم أعجز عن العلم، وأبعد عن التمدن ، قول لا يردده إلا الحاقدون، هذا القول حين يصدر عن أعداء الإسلام لا يضيرنا لأن مبعثه معروف فلا يرجى من عدو العقيدة أن يقر بفضل العرب على الثقافة أو يعترف بفضلهم وبصنيعهم في وضع البذور الأولى للحضارة في ربوع الأرض، لكن المؤلم حقا أن نجد لهذه الدعاوى الباطلة من يؤيدها بحماسة غريبة من بعض الأخوة في الدين واللغة .
إن هناك فريقاً من صفوة العلماء الأوربيين تحرروا من حكم الهوى، وتحللوا من قيود الغرض،فأقروا بالحق، وأعادوا الفضل إلى أهله، وسوف تظل كلماتهم لمسات من الضوء في ضباب العنصرية الكثيف .
1- يقول (Hearnshow): لقد خرج الصليبيون من ديارهم لقتال المسلمين، فإذا بهم جلوس عند أقدامهم يأخذون عنهم أفانين العلم والمعرفة، لقد بُهت الأوربيون أشباه الهمج عندما رأوا حضارة المسلمين التي رجحت حضارتهم رجحانا لا تصح معه المقارنة بينهما .
2- ويقول (Philip Hiti): إن العهد العباسي ليزهو باليقظة الفكرية التي تمت فيه، وقد كانت هذه اليقظة ذات أثر واضح في الحركات الفكرية والثقافية في العالم، وكانت تعتمد إلى حد بعيد على الثقافات الأجنبية، وبخاصة الفارسية والهنديـة واليونانية، وكان المسلم العربي حاذقا ذكيا شغوفا بالاطلاع، راغبا في الاستفادة والتزود من هذا الزاد الفكري الرفيع، ومن أجل هذا كانت استفادته شاملة وانتفاعه واضحا ويقول: وينبغي ألا نبالغ في فضل اليونان على المسلمين، إذ إن الثقافة اليونانية استمدت قبلا عناصرها ومقوماتها من معارف مصر القديمة، وبابل، وفينيقية، ثم عادت هذه المعارف إلى العالم الإسلامي، وهى في ثوب يوناني، وعن طريق أسبانيا وصقلية عبرت هذه العلوم إلى أوربا مرة أخرى، هدية من الشرق الإسلامي- إبان العصور الوسطى.
3- ويقول المفكر الإنجليزي (جورج سارتون): لقد حقق العرب عباقرة الشرق أعظم المآثر في القرون الوسطى، فكتبوا أعظم المؤلفات قيمة، وأكثرها نفعاً، باللغة العربية التي كانت في منتصف القرن الثامن حتى نهاية القرن الحادي عشر لغة العلم الراقي عند الجنس البشرى كله، حتى كان من الضرورة لأي فرد إذا أراد أن يلم بثقافة العصر أن يتعلم اللغة العربية، ولقد فعل ذلك كثيرون من غير الناطقين بها(2).
4- وهذا مادفع العالم (ليبري) إلى القول: لقد لمع العرب في كل الميادين العلمية، وفي الوقت الذي كان فيه الشعراء والأدباء، والفقهاء يقومون بأدوارهم في نهضة العرب الروحية والنفسـية والخلقيــة، كان العلماء في كل الميادين يقومون بقسطهم في البحث والنقل والتجويد، لم يدعوا بابا إلا طرقوه .
5- ويقول (كارنبكس): إن الخدمات التي أداها العرب للعلوم غير مقدرة حق قدرها من المؤرخين، وإن البحوث الحديثة قد دلت على عِظَم دَيْننا للعلماء المسلمين الذين نشروا نور العلم حينما كانت أوربا غارقة في ظلمات القرون الوسطى، وإن العرب لم يقتصروا على نقل علوم الإغريق، بل زادوا عليها، وقاموا بإضافات مهمة في ميادين مختلفة .
هذا هو مستوى العلماء العرب كما أوردته شهادات التقدير والاعتراف بالفضل الذي يعتز به كل عربي مسلم، فلا وجه للمقارنة بين مالدى العلماء الأوربيين وما لدى علماء العرب والمسلمين، وكيف تكون المقارنة بين من يعطي فنون المعرفة ومن يأخذها، ثم إن الثقافة اليونانية منقولة عن الفراعنة والبابليين والفينيقيين، وهم من الأصول التي ينتمي إليها العرب والمسلمون، فإذا عاد اليونانيون بها اليوم إلى العرب فإنهم أعادوا مما أخذوه بالأمس، لذلك فإن دَيْن العرب والمسلمين على الأوربيين كبير، وإنه من الضروري لأي فرد يريد أن يلمّ بثقافة عصره (يريد في القــرون الوسطى) أن يتعلم العربية، ذلك أن نهضة العرب لم تقتصر على مجال واحد، وإنما كانت شاملة ومتكاملة، روحية ونفسية وخلقية وعلمية.
لقد نشأت في أوربا حركة واسعة النطاق لنقل أهم المؤلفات العربية إلى اللغة اللاتينية، وكان من أشهر من قاموا بهذه الحركة ريموند (Raymond) الذي كان مطرانا لطليطلة من عام 1130 إلى عام 1150م فقد أسس جمعية لنقل أهم كتب الفلسفة والكتب العلمية العربية إلى اللغة اللاتينية.
ولما جاء فردريك الثانى عام 1215م، واتصل بالمسلمين في صقلية، اقتبس كثيرا من آرائهم ومعتقداتهم، وقد وصفه المؤرخون بأنه كان معجبا بفلاسفة المسلمـين، وكان يعرف اللغة العربية، ويستطيع أن يقرأ بها الكتب العربية ومصادرها، وبفضل فردريك ذهب "ميكائيل سكوت" إلى طليطلة وترجم مشروع ابن رشد على أرسطو، وفي القرن الثالث عشر كانت كتب ابن رشد جميعها تقريباً قد ترجمت إلى اللاتينية، وكانت أهم مراكز لتعاليم ابن رشد في جامعة بولونيا وجامعة بادوا (Padua).
لقد ظلت اللغة العربية لغة العلم والمعرفة في جميع ميادين الحياة الإنسانية في الفلك والطب والزراعة والصناعة والكيمياء والحساب والجبر طيلة خمسة قرون أو يزيد، كانت خلالها سيدة لغات العالم دون منازع.
فهل توصف لغة هذا شأنها بأنها عاجزة أو قاصرة ؟
إن الذين تجنوا على الإسلام، ووصفوه بأنه دين يعارض التطور العلمي، يصمون أنفسهم بالجهل، ونحن نقول لهم: لم تعرف الإنسانية دينا سماوياً أو أمة من الأمم، أو منظمة من المنظمات الدولية دعت إلى العلم وتابعت تنفيذ ما دعت إليه، ورغّبت من ينتمي إليها في طلبه من أي مكان وفي أي زمان، وأصرت على استمراره ما بقيت الحياة، سوى الإسلام، فالدعوة إلى العلم وطلبه وتعليم الناس كان الأمر الأول من اللـه تعالى إلى نبيه في أول آيات القرآن الكريم التي نزلت على سيدنا رسول اللـه صلى اللـه عليه وسلم: أقرأ باسم ربك الذي خلق(1) خلق الإنسن من علق(2) أقرأ وربك الأكرم(3) الذى علم بالقلم(4) علم الإنسن مالم يعلم(صدق الله العظيم).
كما أن كثيرا من آيات القرآن الكريم تدعو إلى طلب العلم وترفع أقدار العلماء إلى أسمى الدرجات، قال تعالى:
يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجت والله بما تعملون خبير(11).(صدق الله العظيم).
قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون. (صدق الله العظيم).
إنما يخشى الله من عباده العلمؤا. (صدق الله العظيم).
وفي الهدي النبوي الشريف تكريم لطالبه أي تكريم
يقول الرسول الأمين صلى اللـه عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل اللـه له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن طالب العلم يستغفر له من في السموات والأرض، حتى الحيتان في الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولادرهماً، إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر) "حديث صحيح".
- إن الإيمان المبنى على التقليد مرفوض في الإسلام، لأن الإيمان عقيدة، ولا تقبل إلا عن طريق الاقتناع، وسبيل الاقتناع هو العلم المبنى على النظر، والتأمل، وإعمال الفكر، وليس العلم الذي يكتسبه الفرد مستمعا أوقارئا، بل هو استطلاع ما في الكون من آيات قدرة اللـه، ودلائل عظمته التي لا يمكن أن تصدر إلا عن طريق الخلاق العظيم، عن طريق الوقوف عند أعظم ما خلق اللـه في السماء والأرض وما بينهما، وما أبدع فيهما، والوقوف عند أدق مخلوقاته، وعن طريق الوقوف بالعقل والوجدان عند دورة الحياة للخلق، والحركة الدائبة في الليل والنهار، والشمس والقمر، والنجوم، في البر والبحر، هذه الحركة المنتظمة الدقيقة، الوقوف المتأمل المتبصر في الكون والحياة، ثم العودة إلى القرآن الكريم ليتدبر المرء قول الحق تبارك وتعالى:
والشمس تجرى لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم(38) والقمر قدرنه منازل حتى عاد كالعرجون القديم(39) لاالشمس ينبغى أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون(40). (صدق الله العظيم).
والله الذي أرسل الريح فتثير سحاباً فسقنه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور(9). (صدق الله العظيم).
كثيرة تلك الآيات الكريمة التي تصور حركة الحياة ودورانها وتجددها في كل شيء دون توقف، هذه الصنعة من يدبرها ويسخرها وينظمها ويحقق لها التوازن ؟ ثم هي جميعاً تلتقي في موكب التسبيح لله سبحانه وتعالى.
أما اللغة العربية فهي لغة القرآن الكريم، وما من مجتمع على وجه الأرض قدر له أن يفتح أبوابه لدعوة الإسلام إلا أحس من آمن من أبنائه بحاجته إلى تعلم اللغة العربية لتكون له عوناً على قراءة القرآن وفهمه والتعبد به فعكف المسلمون من كل جنس ولون على اللغة العربية يتعلمونها ليتفقهوا في الدين الإسلامي، ولقد جعل اللـه تعالى للنسيج اللغوي العربي خصوصية لا يمكن أن يحسها المرء في غير اللغة العربية، جمالا، وبياناً وإيقاعــا، لذلك لم يكن للترجمة أن تؤدي جزءا مما امتاز به النسق اللغوي القرآني من جمال، فجانب التأثير القرآني لا يتحقق بغير اللغة العربية.
حقائق لا سبيل إلى إنكارها:
1- أن اللـغة التي اختارها اللـه تعالى لتكون لغة القرآن الكريم، ولسان رسالة الإسلام خاتم الأديان، الصالح لكل زمان ولكل مكان، لا يمكن أن توصف بالعجز أو القصور إذ إن المفروض فيها وهي تصاحب رحلة الإسلام عبر كل زمان وكل مكان أن تستجيب لكل جديد يطرق أبــواب الحيـاة، وتستوعب كل متغير يصيب المجتمعات، ويحل ما تواجهه من مشكلات، فلا يعقل أن توصف بالعجز، ولا يعقل أن يختار اللـه تعالى لغة قاصرة ضعيفة، وإذا كان هنـاك من عيب فهو فينا نحن، وليس في اللغة، فلنعد إلى أنفسنا لنرى ماذا فعلنا ؟ وماذا ينبغي أن نفعل؟
2 - أن اللغة التي ظلت صامدة قوية متماسكة طوال أربعة عشر قرنا لا توصف بعجز أو قصور، لقد حاولت لغات كثيرة أن تزحزحها من مقامها لتحل محلها، أو تقضى عليها، ليخلو لها مسرح الحياة، فلم تفلح، كان ذلك واضحاً أمام اللغات اليونانية والرومانية والإنجليزية والتركية، تلك اللغات التي كانت تمثل القوة في أزمنتها، وصمدت اللغة العربية مع أنها لغة الأمة المغلوبة، وغيرها كان لغة الغالبين، وما أن رحلت القوة المسيطرة حتى تبعتها لغتها، وعادت اللغة العربية لتحتل مكانها على ألسنة أبنائها، وفي نشاطهم اليومي في جميع مؤسسات المجتمع.؟
3 - أن اللغة التي ظلت أكثر من خمسة قرون لغة العلم والمعرفة في جميع ميادين النشاط الإنساني، وكانت معاهدها ومدارسها ومكتباتها تملأ عواصم العالم الإسلامي، تستقبل الوافدين إليها من مختلف بلاد أوربا، يتعلمونها أو ينقلون عنها ما زخرت به موسوعاتها من علوم وفنون وآداب ليبدءوا بفضلها رحلة الحضارة في أوربا الحديثة، وكان لتفاعل الدارسين مع اللغة العربية أن ظهرت في لغاتهم مئات من مفردات اللغة العربية، مثل هذه اللغة لا يمكن أن توصف بأنها عاجزة عن مسايرة التطور العلمي المعاصر.؟
4 - ذكر الدكتور كارم السيد غنيم في دراسته القيمة (اللغة العربية والنهضة العلمية المنشودة في عالمنا الإسلامي) أن هناك شبه إجماع على ثلاث نقاط:؟
- أن العربية قادرة على استيعاب العلوم، وأنه لا يمكن لأي مجتمع أن ينهض، ويتحضر إلا من خلال لغته، ومن ثم لن ينهض العرب إلا بواسطة لغتهم العربية.؟
- أن معرفة أكثر المشتغلين بالعلوم للغة الإنجليزية لا ترقى إلى مستوى معرفة أهلها أنفسهم، فهــم يستخدمون لغة لا يحسنونها، ويهملون لغتهم التي يمكن أن يحققوا بها مستوى أداء أفضل، فيزدادون ضعفا على ضعف.؟
- أن مستوى استيعاب الطلاب في الكليات العلمية لما يتلقونه بالإنجليزية ضعيف، وهو أضعف قطعاً مما لو تلقوا موادهم بالعربية على أيدي أساتذة يحسنونها.؟
لقد كانت الدعوة إلى العلم قبل الدعوة إلى إبلاغ رسالة الإسلام، فقد نزل قوله تعالى: "اقرأ باسم ربك الذي خلق". في أول لقاء بين وحى اللـه تعالى وسيدنا رسول اللـه صلى اللـه عليه وسلم .؟
ثم نزل قوله تعالى: يأيها المدثر قم فأنذر. ثم توالت آيات القرآن الكريم داعية إلى طلب العلم، مرغبة في الاستزادة منه مبينة فضل العالم ومنازل العلمـاء، وأدرك المسلمون أن هناك دواعي قوية وراء هذا النــداء القرآني لطالب العلم، منها:؟
1- أن الإسلام لا يقبل إيمان المقلد، فدعا القرآن الكريم إلى طلب العلم حتى يعرف المسلـم ربه عن طريق معرفته لخلقه، وأن يصل إلى رب العالم عن طريق هذا العالم، ولقد سلك القرآن الكريم في الدعوة إلى الإيمان مسلكا خاصا فهو يوجه المسلم إلى أن ينظر ويتأمل ويفكر ليتبين من كل شيء دلائل وحدانية اللـه تعالى، وآيات عظمته وقدرته، لم ينهج الإسلام نهج الفلاســفة في دوران العقل حول نفسه ليستنبط نظريات مجردة ويستنطق مقدمات ونتائج محددة، وإنما طلب القرآن أن تمتزج نفس المؤمن بالعالم ليصل إلى اللـه تعالى عن طريق هذا العالم، وهذه طريق شاقة لا يمكن لأي فرد أن يبلغها بإمكانات محدودة، لقد جمعت الرؤية بين قلب المؤمن وعقله، وما كان لها أن تتم إلا بهما.؟
2- أن هذه الأفواج التي دخلت الإسلام وتطلعت إلى تعميق صلتها بالقرآن لابد لها من معرفة اللغة العربية لأنها:؟
- سبيل الاتصال بكتاب اللـه تعالى للتعبد بآياته. ؟
- سبيل تدبر آياته وفهم معانية وتعرف قيمه وغاياته، هؤلاء القوم الذين كانوا بالأمس يتميزون بالخشونة والقسوة وإثارة الحروب الطاحنة دون مبرر معقول، يحملون عبء أعظم دعوة عرفها تاريخ الإنسانية بالسماحة واللين والنبل والإيثار والكلمة الطيبة، لقد آتاهم اللـه الحكمة، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، إن الإسلام رسالة التوحيد ورسالة العلم ورسالة الخلق.؟
3- أن غايات الفتح لم تكن الاستيلاء على الأرض، أو فرض سيطرة على شعب، أو استغلال خيرات مجتمع، وإنما كانت فتوحات قيم ومبادئ، وإصلاح، وإرساء لقواعد العدل والحق والسلام في ربوع الأرض، لقد غزا الإسلام العقول والقلوب قبل أن يغزو الممالك، فكان لابد لغذاء العقول والقلوب التي تفتحت لدعوة الإسلام، لابد من غذائها بألوان العلم والمعرفة في ظل الحرية التي منحها الإسلام كل من استظل بظله مسلماً كان أم غير مسلم، لقد جاء الإسلام ليوجه الحياة إلى سبيل الخير والتعمير، ولتحقيق هذه الغاية اتجهت عزائم الفاتحين في طريقين.؟
الأولى - حركة الترجمة:
لما كانت غاية الإسلام توجيه العالم إلى سبيل الارتقاء، فقد انطلق أبناؤه إلى كل تراث يمكن أن يكون إحدى دعائم التطور المعرفي لخدمة المجتمعات في ظل الإسلام، وقد تبنى الخلفاء المسلمون هذا التوجه باستدعاء العارفين باللغات القديمة، القادرين على نقل كنوز المعرفة من اليونانية والرومانية والهندية والفارسية إلى اللغة العربية، لم يفرقوا بين جنس أو دين، ولكنهم تعقبوا رجال الفكر والعلم باللغات التي ضمت خزائنها شيئا من التراث الإنساني، وقد بنى المأمون دار الحكمة فكانت مجمعا علميا، ومرصدا فلكيا، ومكتبة عامة، يأوي إليها كل طالب للمعرفة، وقسمت إلى مجالس للمترجمين بحسب لغاتهم، وتوافرت لهم مطالب الكتابة وأجريت عليهم الأرزاق، كما كانت منتدى للعلماء في مختلف العلوم والفنون، في الطب والفلك والجغرافيا والحساب والكيمياء، بالإضافة إلى الفلسفة وعلوم اللغة وعلوم الدين، ولم يكد القرن التاسع الميلادي يشرف على نهايته حتى كان المسلمون قد ترجموا إلى اللغة العربية معظم ما خلفته جهود العلماء والحضارات القديمة.
وانتشرت الترجمة في جميع الأمصار الإسلامية ليس على مستوى الأمراء والحكام فحسب، بل على مستوى الأثرياء من الأفراد كذلك.
لم يكن المسلمون نَقَلة كما يزعم المتعصبون من الفرنج، وإنما كانوا في بحثهم عن المعرفة، وسعيهم وراء التراث الحضاري ذوي نظرات متأملة، وأفكار متعمقة، لم يتركوا شيئا من ذلك الــتراث إلا تناولوه بالنظر والتحليل والتقويم، فخلصوا العلوم من الأوهام والخرافـات، ونقوها من الأهواء، ووضعوها في منظومة علمية كبرى بلغت ثلاثمائة علم، كما أحصاها (طاشكيري زادة) في كتابه (مفتاح السعادة).
لقد كانت الثقافة الإسلامية نتيجة العقيدة الإسلامية، فإن هي اتجهت إلى الاستعانة بالعلوم اليونانية أو الثقافة الفارسية أو الهندية فلأن الدين حملها على ذلك، وطلب منها أن تطلب العلم حيث كان، ومن أي كائن كان، لقد بذر الإسلام في نفوسهم بذوراً تأصلت فيهم، فكانوا إذا اقتبسوا من أي ثقافة لم يكونـوا مقلديـن فقط، بل كانوا دائما يعملون العقل فيما نقلوا، ويحكمون العقيدة فيما قرءوا، فإذا نظرنا إلى كتب الفارابي وابن سينا وابن رشد، رأيناهم ينقدون ويزيدون، ويمدون كل شيء أخذوه بروح من عندهم، فكان لثقافتهم طابع خاص، وسمة تعرف بها.
لقد أصبح العقل العربي في العصر العباسي عقلاً متفلسفا، كما أصبح عقلا علمياً، لامن حيث فهمه وفقهه بعلوم الأوائل، بل أيضا من حيث إسهامه فيها وإضافاته الجديدة، حتى ليضيف علوما لأول مرة في تاريخ الحضارة الإنسانية، على نحو ما أضاف الخوارزمي في علم الجبر، وكان هذا العقل قد أظهر نضجه العلمي، وإحكامه لوضع العلوم منذ القرن الثاني الهجري.
الثانية، حركة التأليف:
بعد أن درس العلماء المسلمون ما نقلته حركة الترجمة من مختلف العلوم إلى اللغة العربية، وبعد عكوف كثير من المسلمين من غير العرب على تعلم اللغة العربية وإجادتها، وبعد التطور العلمي الذي انتشر في جميع العواصم العربية والإسلامية، اتسعت صدور العلماء وعقولهم لكثير من العلوم والمعارف، فبدأت حركة التأليف بجد ونشاط ورغبة، لا تقل عن حركة الترجمة، بل زادت عليها، وقد اتضحت من متابعة النشاط العلمي الدلالات الآتية:؟
- تناول المؤلفات القديمة بالشرح والتفسير والاختصار والتقويم في ضوء العقل والمنطق من ناحية، وفي ضوء قيم الإسلام وهدي القرآن الكريم والحديث الشريف من ناحية أخرى.؟
- الانطلاق في مجال التأليف في مختلف العلوم والفنون سواء في المجالات المألوفة لدى الباحثين والعلماء أم في مجالات جديدة لم تطرق من قبل.
- الاتـجاه نحو العلم التطبيقي والتجريب الذي كان من ثمراته فتح آفاق جديدة أمام العلماء، فتعددت فروع العلم والمعرفة، فظهر الرواد المسلمون في جميع المجالات، ولمعت أسماء العباقرة العرب الذين طبقت شهرتهم الآفاق، ونبغ في كل فن وعلم عشرات الأفذاذ من أبناء الأمة، وانتقلت كتبهم وبحوثهم إلى اللغة اللاتينية، وظلت أكثر من ستة قرون منارات يهتدي بها السائرون في دروب المعرفة، فهل كان ذلك لأنهم نقلوا عن القدامى من اليونان والروم ؟ ولماذا لم يأخذ هؤلاء تراث أجدادهم ويبنوا به حضارتهم الحديثة ؟ لو كان قصارى ما فعله المسلمون هو النقل لما كان لهم بذلك هذا الثقل التاريخي، ولكنهم درسوا وأنشؤا وابتكروا وبثوا من روحهم المبدعة، لقد بدأ علماء أوربا يبحثون نواحي تأثير الثقافة الإسلامية في الثقافة الأوربيــة وكان آخر ما أظهروا في هذا الباب، كما ذكر الأستاذ أحمد أمين، كتاب ما خلفه الإسلام( Legacy Of Islam ) تناول فيه كاتبه أثر الثقافة الإسلامية في الجغرافيا والتجارة وفي القانون والاجتماع والفن والعمارة والزراعة وفي الأدب والتصوف وفي الفلسفة وفي الطب والعلوم والرياضيات وهذا البحث وإن كان آخر ما ألفوا، لكنه أول ما اكتشفوا من طريق يشرف على آثار قيمة ضخمة لا تزال تنتظر مكتشفين أبعد مدى، وأقوى على تحمل مشاق الطريق.؟
ويتساءل الأستاذ أحمد أمين:؟
- هل كان العالم يستطيع أن يقف على درجة السلم التي يقف عليها الآن لو لم تكن مدنية الإسلام؟
- هل كانت النهضة الأوربية الحديثة تحدث في الزمن الذي حدثت فيه لو لم ترتكز على المدنية الإسلامية؟ وماذا يقول المنكرون في هذه العلوم الغريبة التي أنشأها العرب والمسلمون حول دينهم من تفسير القرآن الكريم والحديث الشريف والفقه والأصول، وما وضعوه من علوم النحو والصرف والبلاغة والأدب؟
ساروا به على منهج خاص ليس لدى اليونان ولا غيرهم علم به، لقد نظم الأوربيون حركة للترجمة استهدفت نقل العلوم العربية إلى اللاتينية وشيدوا مدارس للترجمة على نحو ما ذكرنا قبل ذلك.؟
لقد قدم المسلمون هذا الحشد العظيم من العلوم والمعارف ما كان لأمة أن تقدم مثله في أضعاف الزمن الذي استغرقه الرواد في تأليف هذه الأعمال، فما سر ذلك؟
1- لقد عشقوا اللغة العربية حتى امتزجت بوجودهم وصارت جزءاً من كيانهم لكونهـا لغــة القرآن، وسبيل صلتهم بـه، وفهم آياته وأداة ارتباطهم بعلوم الدين، فالداعي إلى حب اللغة هو العقيدة، ولو كان الهدف غير ذلك، لم يكن بمقدور أحد أن يبدع فيها وعن طريقها، بدليل أن كثيراً من غير المسلمين كانــوا يحفظون القرآن ليستفيدوا من أسلوبه، ويتعلموا منهجه في التأثير والإقناع.؟
2- إن أعظم ما يتميز به العالِم هو الاعتراف بعجزه وجهله أمام أسرار العلم التي أودعها اللـه تعالى هذا الكون ولذلك كان تواضع العلماء ورغبة الاستزادة التي ملكت عليهم أنفسهم، وإلا فهل يعقل أن تبلغ تصانيف بعض المؤلفين بضع مئات من الكتب والشروح والرسائل، وإن من المؤلفات ما يقع في عشرات المجلدات، فلأبي عبيدة مائتان، ولابن حزم أربعمائة، وللقاضي الفاضل مائة، وجاء في فتح الطيب أن مؤلفات عبدالملك بن حبيب عالم الأندلس قد زادت على سبعمائة، وأن ابن النفيس قد أعد العدة لوضع موسوعة في مائتي مجلد، فلم ينجز منها سوى ثمانين وأدركته منيته، لذلك لا نرى كبير مبالغة إذا علمنا أن بعــض المكتبات التي اقتناها محبو العلم من الخلفاء والأمراء زادت على المليون مجلد، على أن توالي المحن لم يترك للعصر الحديث من هذه الكنوز سوى ثلاثين ألفا.؟
3- لقد أخلصوا للعلم فوهب اللـه لهم ما هو فوق العلم، لقد آتاهم اللـه الحكمة التي تميزوا بها عن غيرهم من العلماء فرأوا مالم يره غيرهم، وبلغوا ما قصر دونه سواهم، لقد رأوا هذا الكون ببصائرهم فاتحدوا بأسراره، وامتزجوا بأعماقه وخرجوا على العالم بما لم يألفه من قبل، فمن كان يظن أن عمر بن الخطاب الذي عاش في الصحراء لم ينل من العلم إلا النذر اليسير، تصدر عن عبقريته ما يسوس دولا ضربت في أعماق الحضارة وهو البدوي الذي عاش في مكة يدبر أمور دولة امتدت لتنتظم أعظم دول العالم القديم الفرس والروم، ومن كان يظن أن خالد بن الوليد يذهل العالم في عصره بفنون الحرب، إنها رؤية البصيرة التي بلغت حد الإلهام من اللـه تعالى.؟
بهذه الدفعة الإيمانية العريقة يهتف القائد العربي: واللـه لو أعلم أن وراء هذا البحر يابساً لخضته في سبيل اللـه، وبهذه القوة الإيمانية يهتف الشاعر العربي مصورا دهشة الفرنج حين وثب طارق بن زياد من على ظهر السفينة فوق الجزيرة الخضراء.؟
ويسـائلون بك الــبروق لوامعـاً * والموج في الإزبــاد والإرغاء
من علّم البدوي نســــج شراعهـا * وهــداه للإبحـــار والإرســاء
أين القفار من البحـار، وأيــــن من * جـن الجبـــال عرائس الدأمــاء
يا ابن القباب الحمر ويحك من رمـــى * بك فوق هـــذي اللجــة الزرقــاء
تغزو بعينيك الفضـــاء وخلفـــه * أفـق من الأحــــلام والأضــواء
ووقفت والفتيــان حولك وانـــبرت * لك صيحة مرهوبـــة الأصــــداء
هذى الجزيزة إن جهلتم أمرهـــا * أنتم بها رهـــط من الغربــــاء
البحر خلفي والعدو إزائـــيى * ضاع الطريق إلى السفــين ورائــي
وتلفتوا فـإذا الخضم سحابــــة * حمراء مطبقـــة على الأرجــــاء
قد أحرق الربـــان كــل سفينة * من خلفـــه الاشــراع رجـــاء
وأتى النهــار، وسارفيــه طارق * يبني لملك الشــــرق أي بنـــــاء
________________
شغف المسلمين بالعلم :
لقد شغف المسلمون بالعلم حتى أصبح طلبه جزءا من كيانهم، والاستزادة منه ضرورة حياة لهم، فكان فريق منهم يقومون عائدهم اليومي من الحياة على قدر ما حصلوا من معارف، وكان بعضهم يقضي في المكتبة في داره طول يومه وجزءا كبيراً من ليله، ويحدثنا التاريخ عن استئجار بعض العلماء المكتبات من أصحابها ليقضي فيها أياماً يقرأ مالم يتيسر له من كتب في بعض المواد، وكان يجتهد في أن ينجز ما يريد في الفترة المحددة، وبالمبلغ الذي دفعه مقابل إقامته في المكتبة، كما يحدثنا التاريخ أنه لما أذيعت عمليات إحراق كتب الــتراث علـى أيدي الغزاة من المغول والصليبيين والفرنج في الأندلس، كان العالم حين يبيت النية على الفرار من القتل يحرص على حمل ما استطاع حمله من كتب كحرصه على أخذ نفائس ما اقتناه من حلي ومجوهـرات، وبمثل حرصه على شرفه وعرضه، بل إن هناك حكايات تروى من مصادر مختلفة تعد من قبيل الغرائب أو العجائب.
حكى ابن بطلان عن شيخه أبي الفرج الطيب قال: بقيت عشرين عاما في تفسير مـا بعد الطبيعة، أحد مؤلفات أرسطو، وحكى ابن سينا نفسه قال: قرأت ما بعد الطبيعة، فما كنت أفهم ما فيه، والتبس علي غرض واضعه، حتى أعدت قراءته أربعين مرة، وصار لي محفوظاً، وأنا مع ذلك لا أفهمه، ولا المقصود به، ويئست من نفسي، وإذا أنا في يوم من الأيام حضرت وقت العصر في الوراقين، وبيد دلاّل مـجلد ينادي عليه، فعرضه علي، فرددته ردّ متبرم، معتقداً أنه لا فائدة من هذا العلم (يعني ما بعد الطبيعة)، فقال لي: اشتر مني هذا فإنه رخيص، أبيعكه بثلاثة دراهم، وصاحبه محتاج إلى ثمنه، فاشتريته، فإذا هو كتاب لأبي الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة، فرجعت إلى بيتي، وأسرعت في قراءته فانفتح علي في الوقت نفسه أغراض ذلك الكتاب بسبب أنه قد صار محفوظاً لي عن ظهر قلب، وفرحت بذلك، وتصدقت ثاني يوم بشيء كبير على الفقراء شكرا للـه تعالى.
لقـد كانت هذه الرغبة صورة مصغرة لرغبات الأمراء ووجهاء المجتمع في العلم، لقد كاد بيت المال أيام المأمون تنفذ خزائنه من كثرة ما كان يدفع أجراً للمترجمين، فقد روي أن جبريل بن بختيشوع طبيب هارون الرشيد والبرامكة والمأمون قد جمع ثروة تقدر بـ ثمانية وثمانين مليوناً وثمانمائة ألف درهم أي نحو 7104000 سبعة ملايين ومائة وأربعة آلاف دولار، أما حنين بن إسحاق فقد كان يتقاضى وزن ما يترجم ذهباً، ولما كان الرجل نحيلاً وحريصاً على نمو ثروته، فقد كان يكتب بخط كبير الحجم، كما كان يكتب على لوحات ثقيلة، ولا غرابة في هذا المسلك فيما وصلت إليه أمة الإسلام في ذلك العصر من عز ومجد حضاري وثقافي واجتماعي كان نتاجاً طبيعياً لحصيلة العلم والرغبة في المعرفة، ويكفي دلالة على ذلك أن المسلمين قد حصلوا منــذ بداية القرن الثالث للهجرة مالم يصل إلى بلاد الفرنج إلا بعد أربعمائة عام (1)فما الذي غرس في المسلمين هذه الرغبة، وملأ نفوسهم بالشغف بالكتب؟
- أورد الدكتور محمد الصادق عفيفي أن البروفسور "هوكينج" العالم المتعصب الذي لم يشأ أن يخفي حقده يقول:؟
إن الشغف بالعلم والتعطش الدائم لارتياد مناهله، صفات امتاز بها العرب، وهي التي تمد عبقريتهم بالقوة المبدعة الخلاقة، يعشقون الحرية ويتطلعون دوما إلى المثل العليا بدون تعصب ولا تزمت، ولسوف نرى عندما تزول اللفحة المحرقة التي أصابت العرب وخدرت نفوسهم، أن عناصر الثروة العلمية الكامنة، والشجاعة الفكرية الخابية سوف تنطلق من عقالها، وتتحرر من أسرها ليعودوا سريعا لاحتلال مكانتهم على الأرض، ويضيف: والدليل على قولي هو ماكان من انطلاق العرب في نهضتهم الأولـى وما تركوا للأجيال من تراث علمي، وآثار خالدة، وهذا ما يزمعون فعله في العصر الحاضر.؟ -
- وذكر الإمام الغزالي في (إحياء علوم الدين):
أن أعظم الأشياء رتبة في حق الإنسان هو السعادة الأبدية، وأفضل الأشياء ما هو وسيلة إليها، ولن يتوصل إليها إلا بالعلم والعمل، ولا يتوصل إلى العمل إلا بالعلم بكيفية العمل، فأصل السعادة في الدنيا والآخرة هو العلم.؟
- إن طلب العلم قيمة إسلامية،
وإن استمرار تحصيله لمتابعة الجديد قيمة إسلامية،
وإن السعي وراءه على امتداد الزمان والمكان قيمة إسلامية،
بل إن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة،
وإن النظر والتأمل في ملكوت اللـه، وكشف ما خفي من أسرار الكون أمر إلهي، ورد في مئات الآيات من القرآن الكريم، لأنه طريق الوصول إلى اللـه تعالى، ولأن فيه خشية اللـه تعالى، ولأنه ضرورة إيمانية، ولأن فيه تحقيقاً لإرادة اللـه سبحانه الذي كرم الإنسان وسخر له ما في السماوات وما في الأرض، ومنحه العقل ليحيل ما خلق اللـه تعالى لخدمته كي يؤدي وظيفته، ومع كل ما كشفه الإنسان العالم على امتداد الزمن الماضي وكل ما سوف يكتشفه على امتداد الأزمنة القادمة إن هو إلا قليل مما خلق اللـه تعالى، لقد قال الحق سبحانه "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا".
أبعد هذا يقال إن الإسلام يحارب التطور العلمي، أو يقال: إن العرب بطبيعتهم عاجزون عن مسايرة ركب الحياة العلمية.
هذا بترارك شاعر إيطاليا العظيم ينعى على قومه تخلفهم في مضمار العلوم وقعودهم عن مجاراة العرب، وهو من رجال القرن الرابع عشر، فلا جرم أن شهادته حجة، قال في لهجة مرة من التعجب والإنكار:
أبعد "ديمستين" يمكن أن يكون شيردن خطيباً، وبعد هوميروس يستطيع فرجيل أن يكون شاعراً، وبعد العرب يستطيع أحد أن يكتب؟
فظهر الرواد المسلمون في جميع المجالات، ولمعت أسماء العباقرة العرب والمسلمين الذين طبقت شهرتهم الآفاق، ونبغ في كل فن أو علم عشرات الأفذاذ من أبناء الإسلام، وانتقلت كتبهم وبحوثهم إلى اللغة اللاتينية فكانت على أيديهم أولى خطوات الحضارة العربية الإسلامية التي جعلت الإسلام يتزعم العالم كله في القوة والنظام وتطور الحياة الإنسانية في الأدب والبحث العلمي والعلوم والطب والفلسفة خمسة قرون من عام 700 إلى عام 1200م.
المكتبات العربية:؟
أنشئت المكتبات في جميع العواصم الإسلامية، وتسابق الحكام والأمراء في بنائها وتزويدها بالكتب العلمية والفلسفية والأدبية والدينية، وكان المأمون مثلا يحتذى في العناية بالمكتبات وتنظيمها ورفدها بكل ما يجلبه الرسل المنتشرون في كل مكان لجمعها وشرائها وتخصيص المشرفين عليها، واقتدى حكام الأندلس بما انتشر في المشرق العربي من العناية بالمكتبات، ولقد كان الحكم بن الناصر الذي تولى الخلافة عام 350هـ محباً للعلم مكرماً لأهله جماعا للكتب بأنواعها بما لم يتيسر لأحد من الملوك قبله، فكان يبعث في شرائها رجالاً من التجار ومعهم الأموال، ويحرضهم على البذل في سبيلها لينافس العباسيين فاجتمع له من الكتب مالم يسبق له مثيل في الإسلام في عصره، فجعلوها في قاعات في قصره بقرطبة، وأقاموا عليها مديراً ومشرفاً، وذكروا أن نقلها إلى القصر استغرق ستة أشهر، وأن فهارس الدواوين بلغت (44) أربعة وأربعين مجلدًا وأن مجموع الكتب بلغ 44000 أربعة وأربعين ألفا.
كما اقتدى الخلفاء الفاطميون بمصر بخلفاء الأندلس، بدأ بذلك منهم العزيز باللـه، ثاني خلفائهم الذي تولى الخلافة عام 365هـ، وهو شاب أحب اقتناء الكتب، فجمع منها جانباً كبيراً خصص لها قاعات في قصره، وسمّاها (خزانة الكتب) وبذل الأموال في الاستكثار من مؤلفات التاريخ والأدب، ولو اجتمع من الكتاب الواحد مائة نسخة، وكان للعزيز باللـه عناية كبيرة بخزانته يتعهدها بنفسه بين وقت وآخر، وقد رتب لها قيِّما يتولى شؤونها، وجاء ابنه الحاكم بأمر اللـه فأنشأ دار الحكمة بجوار قصره، وحمل إليها الكتب من خزائن القصور ووقف لها أموالا ينفق عليها من ريعها، وخصص فيها أماكن للقراء، وقد عد بعضهم دار الحكمة مدرسة لأن الحاكم أباح الدخول إليها لسائر الناس، وذكر بعضهم أن خزانة العزيز باللـه الفاطمي حوت مليونا وستمائة ألف مجلد، نزل بها ما نزل بمصر من الأحداث فأغرقت في النيل أو ألقيت في الصحراء تسفي عليها الرياح حتى صارت تلالا تعرف بتلال الكتب، ولقد دمر كيمينيس في ساحات غرناطة ثمانين ألف مجلد، وأحرق التتار في بخارى وسمرقند مثل ما تقدّم.
بالإضافة إلى المكتبات العامة فقد حرص رجال الدولة الإسلامية أن يكون في كل مسجد مكتبة تعد مكتبة عامة مصغرة حيث تحولت المساجد إلى جامعات، كما كان في كل مستشفي مكتبة طبية تعين الأطباء فيرجعون إليها دائما نظراً لتجددها المستمر والحاجة الداعية إلى المراجعة، ولم تقتصر المكتبات على الجهات الرسمية وإنما كان شغف الأفراد صورة من حرص الدولة على اقتناء المكتبات.
لقد اقتدى رجال الدول بالأمراء والحكام في العناية بالمكتبات واقتنائها وتيسير الاستفادة منها لطلاب العلم، فقد أورد الدكتور عز الدين فراج في كتابه "فضل علماء المسلمين على الحضارة الأوربية" أن رجال الأندلس اقتدوا بالحكم بن الناصر في إنشاء المكتبات في سائر البلاد حتى قالوا: إن غرناطة وحدها كان فيها سبعون مكتبة مــن المكتبات العامة، وأصبح حب الكتب صفة مميزة لأهلها، وأصبح اقتناء المكتبات من شارات الوجاهة والرقى عندهم، وأضاف:
وقد يكون الرجل جاهلا، ويرغب في أن يكون في بيته خزانة كتب. قال الحضرمي: أقمت مرة بقرطبة ولازمت سوق كتبها مدة لأنتظر منه وقوع كتاب كان لي بطلبه اعتناء، إلى أن وقع بخط فصيح وتفسير مليح ففرحت به أشد الفرح، فجعلت أزيد في ثمنه، فيرجع إلي المنادى بالزيادة علي إلى أن بلغ فوق حده، فقلت له: ياهذا أرني من يزيد في هذا الكتاب حتى يدفع فيه مالا يساوي أضعاف قيمته، فلما رأيته وجدته تاجراً لا فقيها، يريد اقتناء الكتاب كذخيرة لها قيمتها.
المدارس الإسلامية:؟
انتشرت المدارس انتشاراً مذهلاً بعد اتساع حركة الترجمة وتنوعها فاستقبلت دور الحكمة وأماكن الترجمة كثيراً من طلاب المعرفة في مختلف العواصم الإسلامية، كما انتظمت المساجد مجالس للعلم والعلماء، وضمت كثيراً من الطلاب، ثم أنشئت المدارس في جميع أرجاء الدولة الإسلامية حتى لم تخل مدينة من عشرات المدارس يؤمها الدارسون من مختلف الجهات، ويقوم علىالعمل فيها معلمون من مختلف المواد العلمية، ثمتطورت مجالس العلم في المساجد فأصبحت جامعات يتخرج فيها العلماء وينالون إجازات من قبل العلماء تعترف بها الدولة الإسلامية، ومن أشهر مدارس الأندلس مدرسة طليطلة التيأنشئت عام 1130 التي تولاها الأسقف (ريموند) ونقلت نفائس الأسفار العربية إلى اللاتينية.
ولقد كان من الحكمة أن ترك أمراء بني أمية المدارس الكبرى قائمة في الإسكندرية وبيروت وإنطاكية وحرّان ونصيبين وجنديسابور لم يمسوها بأذى حيث احتفظت بأمهات الكتب فاستهوت العارفين باللغتين السريانية واليونانية، وما لبثت أن ظهرت ترجماتها إلى اللغة العربية.
قـال بنيامين ركودليه: لقد رأيت في الإسكندرية عام 1173م عشرين مدرسة، فماظننا بدمشق والقاهرة وقرطبة وإشبيلية وطليطلة وغرناطة وغيرها من المدن والعواصم الإسلامية، لاشك أن مئات المدراس كانت منتشره في أرجائها، لقد كان فيها جامعات للثقافة وما يتبعها من وسائل البحث كالمعامل والمراصد والمكتبات.
وقال المؤرخ الإنجليزي "جورج ميلر" في "كتابة فلسفة التاريخ" إن مدارس العرب في أسبانيــا كانت هي مصادر العلوم، وكان الطلاب الأوربيون يهرعون إليها، ويتلقون فيها العلوم الرياضية والعلوم التطبيقية، وما وراء الطبيعة، لقد أصبح جنوب إيطاليا منذ احتله العرب واسطة لنقل الثقافة إلى أوربا وممن وردوا تلك المناهل الراهب "جربرت" الفرنسي، فإنه بعدما ثقف اللاهوت في أوربــا، ورد إشبيلية فدرس فيها، ثم في قرطبة، الرياضيات والعلوم والفلك ثلاث سنين، ولما عاد إلى قومه ينشر فيهم نور الشرق وثقافة العرب رموه بالسحر والكفر، ولكنه ارتقى سدة البابوية عام 999م باسم (سـلفسـتر الثانـي) .
كذلك تخرج على علماء قرطبة (ملك ليون) وأولع بعض أمراء إيطاليا باللغة العربية، وعدّوها لغة الأدب الرفيع وأوصى الراهب بيكون الإنجليزي في كتبه بتعلم العربية وقال: إن اللـه آتى الحكمة الإغريق واليهود والعرب ولم يؤتها اللاتين، وروى (فولتير) أن جميع ملوك الفرنج كانوا يتخذون أطباءهم من العرب واليهود.
وذكر جيبون في الفصل الثاني والخمسين من كتابه "تاريخ اضمحلال الدولة الرومانية، وسقوطها" أن مدرسة (سالرنو) التي نشرت الطب في إيطاليا وسائر بلاد أوربا كانت غرس العبقرية العربية.
_____________________
اللغة العربية وسيادة الأمة:؟
تعد اللغة من أهم السمات التي تميز الأمة عن غيرها من الأمم وهى معلم وحدة الأصل أما غيرها من الخصائص فقد تجمع كثيرا من الأمم في إطارها، فالدين يمثل رابطة قوية بين أبنائه مع اختلاف أجناسهم ولغاتهم، والأرض تعد رابطة بين دول تعيش على أديمها، وبمثل ذلك التاريخ المشترك، والمصائر المشتركة وغيرها قد تكون روابط بين الشعوب، أما اللغة فهي أخص الخصوصيات للأمة فإذا انضمت إليها روابط أخرى مما تجمع بين الشعوب ازدادت بها قرباً وتوحدا، وهكذا الحال بالنظر إلى الأمة العربية، فأول ما يتبادر إلى الذهن وحدة اللغة، فإذا أضيف إلى ذلك ما سبق الحديث عنه من أن اللـه تعالى ميز اللغة العربية حين اصطفاها لغة القرآن الكريم، ولسان الإسلام العربي المبين، فقد اكتسبت من وراء ذلك الفضل ميزة تنفرد بها بين لغات العالم لارتباطها بالعقيدة من جهة ولالتقاء الملايين من المسلمين حولها لسانا مشتركا يسيطر على القلوب والأرواح، وأقرب اللغات إلى مناجاة المسلم لربه صباح مساء وإذا كان المسلم يعتز باللغة العربية لكونها الوسيلة التي يتقرب بها المسلم إلى ربه في صلاته، وفي دعائه وضراعاته، فإن اعتزاز العربي بلغته أولى، وإذا كان المسلم في أي مكان يعتز بلغته الأصلية فيجعلها لغة الحياة والثقافة والعلم والأدب والفن فنحن بذلك أحق وأجدر.
لغتنا الجميلة أصبحت غريبة على ألسنة أبنائها مع أنها خير اللغات وأسهلها وأقلها كلفة في تعلمها، وما أقربها على من يقترب منها... لكن الانصراف عنها يزداد، والجفوة التي تحول بين اللغة وأبنائها تتأكد يوما بعد يوم، والفجوة تتسع، ونحن لا نتحرك لإنقاذها بل لإنقاذ أبنائنا مما ينتظرهم إن هي رحلت عن حياتهم وأصبحت كما يريد لها أعداء أمتنا.
- ألأنها أكثر لغات العالم تعرضا لسطوة اللهجات المحلية العامية؟
- ألأن مناهجنا مازالت بعيدة عن أساليب التطوير؟
- ألأن الاستعمار نجح في إقامة الحواجز بين شباب الأمة ولغتها؟
- ألأن التطور العلمي المعاصر ارتبط باللغات الأجنبية حيث المستحدثات التقنية والأجهزة الحديثة؟
- ألأن الأسرة العربية تهاونت في تنشئة أبنائها على حب لغتهم والتمسك بها؟
كل تلكم الأسباب وغيرها قد يكون من عوامل التباعد بين أبنائنا ولغتهم، ولكن هناك حرباً ضارية للقضاء على لغتنا العربية قد تشتعل فتعلن عن نفسها، وتكشف عن نوايا أصحابها، وقد تخمد جذوتها ولكن إلى حين، حتى تتاح فرصة اندلاعها حين تختلق لها المناسبات.
لقد أعلنوا أن اللغة العربية لا تصلح للعلم، ولكنها لغة أدب، وقالوا إنها لغة عبادة فقط، فينبغي أن تحتجب داخل المساجد،
ودعوا إلى أن تكتب بحروف لاتينية،
وشجعوا الكتابات العامية،
وتصدى المؤمنون بلغتهم يدافعون عنها، ولكن دفاعاتهم تذوب مع عواصف المؤامرة التي هدفها ضرب الإسلام في قرآنه، ومادامت الحرب المعلنة على الإسلام لم تفلح فلا بد من محاربته في اللغة وفينا سماعون لنداءاتهم المضللة.
ومازال الترغيب في اللغات الأجنبية يسد الطريق أمام أية محاولة للعودة إليها، حتى إن فريقاً من أبنائنا يتظرفون باستخدام اللغات الأجنبية في معاملاتهم وحياتهم اليومية، ويسخرون ممن يتحدث اللغة الفصيحة.
لقد أحب اللغة العربية أقوام اعتنقوا الإسلام حين وجدوا فيها الأداة التي تصلهم بالقرآن الكريم وبعلوم الدين، فعكفوا على العربية يدرسونها وامتزجت بأرواحهم ودمائهم، فألفوا بها في مختلف العلوم والفنون، وعبروا بها عن مشاعرهم وأحاسيسهم، وقدموا إلينا روائع في الأدب شعره ونثره وملاحمه وقصصه، لقد احتلت اللغة العربية مكان اللغات الأصلية على الألسنة في ظل الإسلام، فلم تختلف حياتهم الإبداعية حين انتقلت من لغة أم إلى لغة الإسلام، بل ربما كانت كشفاً لطاقات كامنة أراد لها اللـه أن تتجلى في اللغة العربية.
لقد نجح أعداء الأمة في التشكيك في قدرة اللغة العربية على مواكبة التطور العلمي، بل وفي التشكيك في صدق ما نقله المؤرخون من أن اللغة العربية كانت يوما ما سيدة لغات العالم كله، يأتى إليها في مواطنها الراغبون في الاستنارة بنور العلم والمعرفة.
أي أمة غير أمتنا العربية يباهى أبناؤها بأنهم يتحدثون في حياتهم اليومية باللغة الأجنبية؟ إننا مازلنا نعيش في بقايا الأيام الحالكة من تاريخ اللغة، حيث انتابت الأرض العربية موجات الغزو والحروب الاستعمارية فأصيبت اللغة بمثل ما أصيب به أبناؤها من تخلف وتوقف وفتور، ثم قدر للدول المظلومة أن تنال حريتها وتعود إلى امتلاك مقدراتها والتخلص من التبعية، وكان المتوقع أن تحتل اللغة مكانها الطبيعي وتعود إلى سالف عهدها حية نابضة في جميع مجالات الحياة، ومعبرة عن مناشطها وبخاصة في معاهد العلم، ولعلنا في فترة من الزمن كنا بحاجة إلى وقت للتحرر من اللغات المفروضة علينا لكي تتكامل سيادتنا، ولكن اللغات الأجنبية بقيت بإرادتنا ضاغطة على ما تبقى من لغتنا حتى استحالت الحياة في بعض الدول العربية وفي كثير من مؤسساتها لاتستخدم إلا رطانات أجنبية تشوبها اللهجات العامية.
بقيت اللغات الأجنبية تبسط سلطانها على كثير من دولنا العربية، لقد أصبحنا شعوباً غريبة السمات متباينة الصفات، فمتى نصحح هويتنا، ونقول إننا عرب مسلمون، هذه هويتنا متمثلة أول ما تتمثل في لغتنا، لأنها السمة الأولى التي تميزنا في هذا العصر.
إن كثيراً من الأمم لا تسمح لأبنائها أن تنطلق ألسنتهم بغير لغاتها إلا لضـرورة، بل إن الإنسان العادي في بلده يباهي بأنه ملتزم بلغته، فإذا أردت أن تتعامل أنت معه فلتتعلم لغته، هكذا كنا وهكذا يجب أن نكون.
- إن إسرائيل استقدمت أبناءها من جميع دول العالم، كل منهم ينتمي إلى دولته التي نشأ فيها ولا يجمع بينهم إلا اليهودية، إنهم يمثلون جميع الدول الأوربية والأمريكية والعربية في آسيا وفي إفريقيا، لقد جمع الإسرائيليون شتات لغتهم وجعلوا منها مناهج لمدارسهم، وفي الجامعة العبرية لا تدرس العلوم في جميع كلياتها ومعاهدها إلا باللغة العبرية وكأن قائلهم يقول:
- أتريد أن تكون العربية لغة التعليم؟
- كيف؟ والمادة في بعض المعاهد والكليات كلها بفكرها وأدواتها ومصطلحاتها باللغة الأجنبية؟ وما المانع من أن تكون باللغة الأجنبية؟
إن هناك استحالة أن تكون الدراسة باللغة العربية في مواد مولدها ومنشؤها ونموها وتجاربها وانتشارها وموطنها أجنبية.
ونجيب وباللـه التوفيق، أن هناك مبادئ لابد أن نذكرها ونبثها قبل الإجابة عن التساؤلات السابقة.
أولاً:-
ليس معنى جعل العربية لغة تدريس المواد في معاهدنا وفي كلياتنا الجامعية أننا نرفض وجود اللغات الأجنبية في جميع معاهد العلم، لأننا حينئذ نريد أن توصد المنافذ التي تمدنا بالتطور العلمي والتقني في العالم كله، ومعنى ذلك أيضاً أننا نظل في متاهات التخلف عن ركب الحياة المعاصرة.
إننا نريد أن نعمق دراساتنا للغات الأجنبية وبخاصة أكثر تلك اللغات اتصالا بالحضارة الحديثة والتطور العلمي في مختلف المجالات.
إننا نريد أن نزيد في خططنا الدراسية ساعات لتتسع برامج تعليم اللغات الأجنبية في الوطن العربي ليسهل علينا الاستفادة من كل جديد في أي من دول العــالم.
إن الإسلام حين دعا إلى طلب العلم من المهد إلى اللحد، وحين دعا إلى طلب العلم ولو في الصين، لم يقصد أننا نطلب العلم في مجال واحد وفي بلد واحد أو في منطقة واحدة أو في زمن واحد.
لقد أطلق الزمان والمكان ليتواصل طلب العلم جيلاً بعد جيل، وليسلم كل جيل إلى الآتي بعده خلاصة تجاربه وثمرات جهوده، ولا يقصد أن نطلب العلم في الصين باللغة العربية، بل يريد أن نتعلم اللغات لنستفيد بما حققته البشرية من تقدم في مختلف البلدان واللغات والأجناس والأوطان.
ثانياً:-
إن الإنسان لا يمكن أن يفكر تفكيراً منطلقاً من كل قيود، سابحا في كل المجالات إلا بلغته التي تربى عليها وعاش في ظلها يتمرس بها ويتفاهم على أساسها في جميع شئون الحياة، ولا يمكن أن يبدع إلا في لغته وبلغته مها تكن قدرته على امتلاك أدوات اللغات الأجنبية، ذلك أن اللغات تختلف في تراكيبها وفي دلالاتها، وفيما يتعلق بالتعبيرات الحقيقية والتعبيرات المجازية، وفيما يتعلق بقيم الحياة والتقاليد الفكرية التي تحكم مسيرة الحياة، فكان من الضروري أن يستقبل أفكار الآخرين بلغته هو.
ثالثاً:-
إن المعلم كالمتعلم تماما، إذ من اليسير أن يفهم من لغته ويفهم عن طريقها، ويتصرف في مادته وصولاً إلى ما يريد إذا كان نشاطه الفكري والثقافي عن طريقها، وتعامله مع طلابه على اختلاف مستوياتهم يكون يسيراً أو صعباً بحسب تمكنه من لغته وقدرته على استخدامها.
رابعاً:-
إن المادة العلمية التي هي مصدر الصعوبة في العمل العلمي مهما تكن غرابتها أو خصوصياتها، فإن العزيمة والإرادة تستطيعان تذليل كل عقبـة، ولدينا الأمثلة كثيرة.
1- حين أراد محمد علي باشا إنشاء دولة حديثة، وبناء جيش قوي في مصر على غرار الجيوش الأوربية أرسل البعثات إلى أوربا ليكونوا نواة البناء الجديد، وافتتح مدارس للطب والهندسة والحربية والزراعة، وأتى بالعلماء في مختلف التخصصات من الدول الغربية، حيث كــان المدرس يؤدي درسه باللغة الأجنبية ومعه مترجم ينقل المادة باللغة العربية، أمـا الترجمة فكانت تعد قبل الدرس وتراجع ويعيد المترجمون ترجمتها إلى لغتها من العربية، فإذا تأكد المعلم من سلامة المادة أشار بترجمتها.
لقد فتحت مدارس لتعليـم المترجمين اللغات الأجنبية، كما كلف بعض المعلمين بدراسة اللغة العربية وإتقانها، وسارت الأمور دون أزمات، وتبع ذلك وضع المصطلحات العلمية في مختلف العلوم التي كانت تدرس في المدارس المصرية بواسطة الأجانب، كما وضعت معاجم لغوية يستعين بها المعلم والطالب، وخرجت المدارس نخبة من المترجمين، كما خرجت مجموعة من المعلمين تمكنوا من اللغة العربية وأصبحوا يدرسون بلغتنا مع أنهم أبناء لغات أخرى.
2- وهناك تجربة الجمهورية العربية السورية، وسوف يتناولها السادة الخبراء في دراساتهم، ومهما يكن حولها من ملاحظات فإنها سوف تتخطى العقبات وتزداد نموا واتساعاً، وحسبنا أنها اجتازت كثيراً من العقبات وسوف تزداد رسوخاً وثباتاً إن شاء اللـه تعالى .
لقد تبع تطبيق تدريس اللغة العربية في كلية الطب في جامعة دمشق نشاط مكثف تجلى في إصدار المعاجم الطبية ووضع المصطلحات ووضع قواعد علمية لاختيار المصطلحات وتحكيمها وتثبيتها.
إن كل تجربة لابد أن يكون لها سلبياتها وإيجابياتها، والتقويم العلمي الموضوعي يضع أمامنا مؤشرات مهمة يمكن أن نستجيب لها ونرصد الجهود لمعالجتهــا حتى تستقيم التجربة على السبيل السوي دون التفكير في العودة إلى التبعية تحت أي ظرف من الظروف.
3- أورد الدكتور كارم السيد غنيم في دراسته القيمة المنشورة في مجلة (عالم الفكر العدد الرابع ينايــر- فبراير- مارس 1989م) تحت عنوان التجارب المعاصرة ومشكلاتها، التجربة الفيتنامية في فتنمة العلوم وهي تجربة جديرة بالتأمل والدراسة فلقد، احتج الأطباء في فيتنام بعدم إمكانية فتنمة كلية الطب لأن المصطلحات تتميز بعموميتهـا وألفاظهــا الخاصــة بها، وطلبوا من (هوشي منه) "الرئيس الفيتنامى آنذاك" أن يمهلهم خمسة أعوام لذلك العمل، ورفض الزعيم (هوشي منه) ذلك الـحل المتباطئ، وحسم القضية بقوله: تستطيعون أن تقوموا بالدراسة بشكل متواز، بمعنى أن تقوم الدراسة باللغة الفرنسية لغة العلوم آنذاك عندهم، وفي نفس الوقت تتعلمون الفيتنامية، على أن تجرى الامتحانات في نهاية السنة باللغة الفيتنامية، ونجحت التجربة وتخلصت فيتنام من عقدة الخواجة في نهضتها العلمية المعاصرة.
ثالثاً :
النتائج والتوصيات - تقديم
* أولا: النتائج
* ثانيا: التوصيات
مراجع الدراسة
* النتائج والتوصيات
قبل البدء في ذكر نتائج الدارسة وتوصياتها ينبغي أن نعود بالتركيز على بعض الأمور المتصلة بهما.
الأمر الأول:
هو أن العمل الذي ندعو إليه اليوم ضرورة حياة للأمة العربية، وإذا لم يتضح أثره اليوم فسوف يتجلى في المستقبل، لأنه يعمق عاماً بعد عام بُعْدَ لغتنا عن التحرك العلمي والتقني وتطوراته وسيطرة اللغة التي صاحبت نشأته ونموه، كما يعمق الفجوة التيبين اللغة العربية والأجيال شيئاً فشيئا، وهذا ما يرجوه أعداء الإسلام وأعداء لغته، بل ربما أدى ذلك إلى تدني النظرة إلى اللغة العربية بين أبنائها جيلا بعد جيل، وبخاصة حين تعنى المؤسسات فوق الأرض العربية وتستخدم في شعاراتها وأسمائها وأقسامها اللغة الأجنبية بدلا من اللغة العربية.
الأمر الثانى:
هو أن دراسة اللغات الأجنبية ذات الصلة بالتطور العلمي والتقنى ضرورة حياة أيضا، إذ كيف نواكب ركب التطور في مختلف شئون الحياة دون تعرف أدوات التطور ووسائله وآثاره، وكيف نحصل على كل ذلك لولا تعلم اللغة، لذلك فإننا بحاجة إلى أن يدرس أبناؤنا جميع اللغات المسيطرة على التحرك العلمي والتقني كالإنجليزية والفرنسية والألمانية وغيرها.
لقد ذكر لي صديق عالم أنه حضر مؤتمرا علميا في العام الماضى 1995م وأهم انطباع خرج به هو أن تفاعل المشارك وإيجابيته واستفادته كانت متوقفة على مدى صلته باللغة الأجنبية في جانبها التخصصى الذي ساد المؤتمر، فإهمال اللغات الأجنبية قصور لا ينبغي لأي طالب أو معلم أو باحث أن يوصم به.
الأمر الثالث:
هو أن العمل الذي ندعو إليه اليوم من خلال هذا المؤتمر ليس أمراً عادياً يجزئ فيه جهد موقوت بسنوات معدودات طالت أو قصرت، بل هو عمل يمتد زمنه منذ اليوم وعلى امتداد عمر الزمن، وأنتم خير من يعلم أن الدول الكبرى تبذل جهودا متواصلة لمتابعة الجديد ونقله إلى لغاتها، وهو عمل لا تغني فيه إمكانات دولة واحدة أو دولتين من دولنا العربية مهما تكن تلك الإمكانات وفرة وقدرة وتنوعا- مادية وبشرية وثقافية- ولكنه عمل يحتاج إلى حشد الطاقات والإمكانات ورصد الخبرات كلها حتى يمكن أن تحقق شيئا من المأمول.
إنه يتطلب قاعدة تنتظم جميع البلاد العربية، وعلى كل مستوى، طلابا ومعلمين ومثقفين وخبراء متخصصين، وتلتقي عليها جميع المؤسسات العلمية والتربوية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والأدبية، هو عمل لايدرك أبعاده وغاياته ومطالبه إلا من آمن بمكانة اللغة من الوجود العربي وأثرها في عزتنا وسيادتنا ومستقبل أمتنا، ولا يقدر تكاليفه إلا من عايش ما كابدته اللغة وعلماؤها من أخطار اقترنت بمسيرتها منذ فجر الإسلام إلى اليوم، إنه عمل يوازى مكانة اللغة لقوم يصرون على أن تكون، لأن مصير الأمة مرتبط بها، والاستمرارية والحرص والتجدد من أهم متطلباته.
لقد وضع العلماء في مطلع عصر النهضة في مصر معجما طبيا عربيا فرنسيا، أسموه "الشذور الذهبية في المصطلحات الطبية" استمر العمل فيه خمسة وعشرين عاما، ولم يطبع منه سوى مائة صفحة، وضاعت مئات الصفحات، ولم يعرف مصيرها إلى اليوم، وأهدرت بسبب الإهمال جهود عشرات العلماء الباحثين والخبراء خلال ربع قرن من الزمان.
إننا نريد مع استمرارية العمل الحرص على كل جهد يبذل للاستفادة به والمحافظة عليه واستمرار تطويره.
الأمر الرابع:
هو أن التصدي لمثل هذه الأعمال الكبرى يحتاج إلى جمع كل ما بذله العلماء السابقون العرب والمسلمون من جهود في مجالات الترجمة والتأليف والتعريب، سواء كانت باللغة العربية أم مترجمة إلى لغات أخرى، وفي جميع المجالات، وإلى جمع ما حوته اللغات الأجنبية من مصطلحات علمية أو أسماء لآلات أو أشياء وضعها العرب والمسلمون، ونقلت إلى لغات أخرى، وكل ما وضعه العلماء المعاصرون والمؤسسات العلمية في جميع الدول العربية من معاجم أو مصطلحات علمية، وذلك للاستعانة بها والإفادة منها فيما تقدم عليه الأمة من إحياء للغتها وتراثها الحضاري.
في ضوء ما تقدم يمكن أن نلتمس من الدراسة النتائج والتوصيات الآتية:
أولا: النتائج
1- إن اللغة العربية في القرون الوسيطة كانت لغة عالمية بكل ما يحمل هذا المصطلح من دلالات، وأنها كانت سيدة اللغات بجدارة ودون منازع .
2- إن اللغـة العربيـة ليست قاصرة ولا عاجزة، وأنها يمكن أن تستعيد مجدها وعظمتها، وتحتل مركزها القيادي بين لغات العالم إذا أتيحت لها فرص الدعم والرعاية .
3- إن العوامل التيتضافرت والجهود التي بذلت ومازالت تبذل للنيل من اللغة العربية نجحت إلى حد ما في إبعاد الشباب العربي عن لغتهم حتى تغيرت نظرة كثير منهم إلى أهميـة اللغة ومكانها بوصفها أحد مقومات الشخصية العربية الإسلامية، ومن أهم سماتها.
4- إن اكتمال سيادة الأمة على مقدراتها، وتحرر مسيرتها من التبعية لا يتم إلا عن طريق إحياء اللغة العربية على ألسنة أبنائها، وإن العناية باللغة ليست واجباً وطنياً أو قومياً فقط وإنما هي واجب ديني .
5- إن التفريط في حق اللغة علينا يُعد تفريطاً في حق ديننا وقوميتنا ومقومات شخصيتنا العربية الإسلامية .
6- إن انتشار اللغة العربية سوف يجد صداه سريعاً في جميع الدول الإسلامية في مختلف القارات لأنها لغة القرآن الكريم، ولسان الإسلام العربي المبين، وأداة اتصـال المسلم بكتاب اللـه وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وبالتراث الإسلامي.
7- إن الإنسان العربي لا يمكن أن يسلم تفكيره وتصفو معانيه ويرتقي تعبيره إلا إذا كانت اللغة العربية أداته وأسلوبه.
8- إن التعليم بغير اللغة العربية عيب يلحق بنا نحن العرب، ولا بُدَّ من إعادة النظر فيه.
9- إن التعليم باللغة العربية في مختلف المجالات، وبخاصة في التعليم العالي لا يعني ترك اللغات الأجنبية، بل هو يلح في أن يكون نصيب الطالب منه وفيراً ومؤثـراً.
10- إن التعليم باللغة العربية وبخاصة في المراحل العليا يتيح الاستفادة من جميع اللغات ذات العلاقة بالتطور العلمي العالمي، وليس الاقتصار على لغة واحدة.
11- إن النهضة العلمية المعاصرة في إطار اللغة العربية لا يمكن أن تقوم بها دولة واحدة مهما تكن إمكاناتها، بل لابد من تضافر جهود الدول العربية جميعها في تبني مثل هذا المشروع، فهي مجتمعة تستطيع أن تحيل هذا الحلم إلى حقيقة.
12- إن التصدى لجعل اللغة العربية هي لغة التعليم في جامعاتنا وفي جميع المواد يجب أن يسير في خطين متوازيين.
12-1 - بدء حركة ترجمة تخصصية واسعة في جميع المواد التي تدرس في مؤسسات التعليم العالي.
12-2 - تكثيف برامج تعليم اللغات الأجنبية في مراحل التعليم العام وتحقيق الربط من خلالها بين المرحلة الثانوية ومرحلة التعليم العالي.
13- من الضرورى الاستعانة بتجارب الدول التي مرت بالتجربة لدراستها والاستفادة منها، وأخذ مقومات تجاربها بعين الاهتمام لتكون الانطلاقة سائرة على أرض ثابتة وإلى أهداف محددة واضحة.
14- إن ترغيب الإنسان العربي في لغته القومية أمر في غاية الأهمية، فالذي لا يحب لغته لا يمكن أن يبدع فيها أو في أي علم عن طريقها
15- إن إعـادة النظر في المناهج المطبقة في التعليم العام ضرورة حياة في الوطن العربي كله، فيجب أن تتسع تلكم المناهج للجديد في مجالات العلم والمعرفة حتى تكون خطاها العلمية والعملية مواكبة لحركة الحياة المتطورة في عالمنا المعاصر.
ثانيا: التوصيات
1- في مجال المناهج الدارسيــة.
1-1 - أن تتضمن برامج اللغة العربية في مراحل التعليم العام ما يبرز مكانتها وأهميتها بوصفها لغة القرآن الكريم ووعاء الحضارة الإسلامية.
1-2 - أن يعرض محتوى مناهج اللغة العربية صفحات من عصور ازدهارها ما يرد على دعاوى الأعداء عن قصور اللغة العربية وعجزها عن مسايرة التطور العلمي والتقني المعاصر.
1-3 - أن تكون برامج اللغة العربية منذ الحلقة الأولى قاعدة لغوية صافية متنامية لدى المتعلمين لتكون أساس تفكيرهم وأداة تعبيرهم، وألا تنطلق ألسنتهم في نشاطهم اليومي إلا باللغة العربية .
1-4 - أن تركز مناهج اللغة العربية على الممارسة اللغوية والجانب التطبيقي للغة بما يجعل المتعلم يوظف لغته في مواقف الحياة المختلفة.
1-5 - أن تعنى برامج اللغة العربية بما يكون الحس اللغوي لدى الطفل منذ التحاقه بالمدرسة الابتدائية.
1-6 - أن تحرص المناهج الدراسية منذ الحلقة الأولى على ربط المتعلم بالتطور العلمي والتقني مما يثير اهتمامه ويستقطب تفكيره .
1-7 - أن تحرص المناهج الدراسية بمراحل التعليم العام على الإشارة إلى نشأة العلوم الإنسانية وإبراز الدور الذي أداه العلماء العرب والمسلمون في خدمة المعارف الإنسانية.
1-8 - أن تتسع مناهج التعليم العام لتدريس أكثر من لغة أجنبية، وبخاصة تلك اللغات ذات العلاقة بالتطور العلمي والتقني المعاصر ليكون تنويع اللغات سبيلاً إلى إعداد جيل مواكب لحركة التطور العلمي في مختلف اللغات والبلاد.
1-9 - أن تكون اللغة العربية الفصيحة هي لغة التعليم في جميع المواد ماعدا اللغات الأجنبية بحيث يكون المعلم في أي مرحلة تعليمية معلم لغة قبل أن يكون معلما للاجتماعيات أو العلوم أو الرياضيات.
1-10 - أن تتسع أوجه النشاط اللغوى لإجراء مسابقات بين الطلاب في مختلف مجالات الإبداع الفكري والعلمي والأدبي لتحيا اللغة دائما على ألسنة أبنائنا وعقولهم ووجدانهم.
1-11 - أن تتجه عناية مخططي المناهج وبناتها إلى تدريب المتعلمين منذ المرحلة الابتدائية على التفكير الناقد والتفكير الإبداعي، وأن نرعى الفائقين في مختلف فنون المعرفة.
2- في مجال الترجمة والتعريب:
2-1 - أن تشكل فرق عمل على أعلى مستوى من الخبرة لكل مادة علمية، ومن المتمكنين في اللغات الأجنبية والمتعمقين في اللغة العربية تكون مهمتها ما يأتي :
2-1-1 - توحيد المصطلحات العلمية بين جميع الدول العربية بدءا بمرحلة التعليم الأساسي، وانتهاء بالتعليم العالي في جميع المجالات الدراسية، على أن تكون متدرجة ومتكاملة ومسايرة لنمو المناهج حلقة بعد أخرى.
2-1-2 - متابعة الجديد في المواد العلمية بجميع فروعها، ونقله إلى اللغة العربية، وذلك لتضمينه في المناهج المطبقة فترة بعد أخرى، وفي ضوء توحيد المصطلحات .
2-1-3 - وضع معاجم عربية أجنبية لكل مادة علمية، وبكل لغة ذات علاقة وطيدة بالتطور العلمي المعاصر، تكون بين أيدي بناة المناهج والمسئولين عنها والقائمين على تنفيذها.
2-1-4 - أن نعمل جميعاً على نشر اللغة العربية، وذلك بتدريسها للوافدين الذين يريدون العمل في البلاد العربية في أي مستوى ليكون التحدث بالعربية شرطاً أساسياً لالتحاقهم بأي عمل، ليكون اللسان السائد بين الجميع على الأرض العربية هو اللسان العربي .
2-1-5 - أن نكون في مدى سنوات التعليم العام والتعليم العالي العادية جيلا من المتمكنين من اللغات الأجنبية القادرين على استيعاب معطيات التطور العلمي والتقني في مختلف مجالات الحياة .
2-1-6 - أن يتم التعاون والتكامل بين المؤسسات العلمية والتربوية على كل مستوى في الدول العربية، وبخاصة المجامع اللغوية، ومراكز البحث العلمي، وذلك عن طريق عقد ندوات وحلقات نقاشية ومؤتمرات علمية بصورة دورية لمتابعة منجزات فرق العمل، ووضع استراتيجيات تطبيقها في جميع الدول العربية.
3- في مجال الأسرة:
3-1 - أن تكوِّن الأسرة ميل الطفل إلى اللغة، فتنمي استعداده للقراءة وتؤكد أهميتها لديه في قضاء حاجاته وتلبية مطالبه وتفاهمه مع الآخرين.
3-2 - أن تقدم إلى الطفل القصص المصورة الجميلة، وتعينه على تفسير محتواها، وتمده بالألعاب المسلية، وتهيئ له ممارستها واكتساب الخبرات اللغوية عن طريقها.
3-3 - أن تنشئ الأسرة أبناءها على حب اللغة فتربطها بالعقيدة وتجعلها، سبيله إلى رضا اللـه ورسوله وأداته لحفظ القرآن الكريم والتعامل مع الآخرين.
4- في مجال الإعلام:
4-1 - أن يتبنى الإعلام العربي اللغة الفصيحة الميسرة مادة لبرامجه بعامة، وما يبث للأطفال والشباب بصورة خاصة .
4-2 - أن يسهم الإعلام في متابعة الجديد في مجال العلم والتقنية ويقدمه بصورة صافية ومحببة للمتعلمين في الوطن العربي، وحبذا تعاون جميع وسائل الإعلام في هذا المجال.
4-3 - أن تعنى وسائل الإعلام بما يحبب الأطفال في اللغة من قصص هادفة خفيفة وأخبار طريفة، وبرامج للتسلية متجددة، وألعاب محببة تشد الصغار إلى ممارستها فينفقون فيها أوقات فراغهم.أن تعنى وسائل الإعلام بما يحبب الأطفال في اللغة من قصص هادفة خفيفة وأخبار طريفة، وبرامج للتسلية متجددة، وألعاب محببة تشد الصغار إلى ممارستها فينفقون فيها أوقات فراغهم. أن تعنى وسائل الإعلام بما يحبب الأطفال في اللغة من قصص هادفة خفيفة وأخبار طريفة، وبرامج للتسلية متجددة، وألعاب محببة تشد الصغار إلى ممارستها فينفقون فيها أوقات فراغهم.
مراجع الدراسة :
1- أحمد أمين. الإسلام كعامل في المدنية . مجلة الرسالة، س4، ع146 و147، 1936.
2- التلمساني، أحمد بن محمد المقري . نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب/ تحقيق إحسان عباس .- بيروت: دار صادر، 1988.
3- السيد عبد العزيز سالم. تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس من الفتح العربي حتى سقوط الخلافة بقرطبة.- الإسكندرية: مؤسسة شباب الجامعة، 1991.
4- شوقى ضيف. العصر العباسى الأول. ط6. - القاهرة: دار المعارف، 1984. (سلسلة تاريخ الأدب العربي-3).
5- عبد الغني عبود. المسلمون وتحديات العصر.- القاهرة: دار الفكر العربي، 1985 . [سلسلة الإسلام وتحديات العصر- 15]
6- عزالدين فراج. فضل علماء المسلمين على الحضارة الأوربية.- القاهرة: دار الفكر العربي، 1990.
7- عصام الدين محمد علي. آفاق الحضارة الإسلامية والأوربية.- الاسكندرية: منشأة المعارف، 1993.
8- علي محمود طه.
9- الغزالى، أبو حامد محمد. إحياء علوم الدين. - بيروت: المكتبة العصرية، 1992
10- قاسم السارة. تعريب المصطلح العلمي، إشكالية المنهج. مجلة عالم الفكر، مج 19، ع 4، يناير / مارس 1989 .
11- القرطبي، أبو عبداللـه محمد بـن أحمد الأنصارى . الجامع لأحكام القرآن.- بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1985.
12- كارم السيد غنيم. اللغه العربية والنهضة العلمية المنشورة في عالمنا الإسلامي. مجلة عالم الفكر، مج 19، ع 4، يناير / مارس 1989 .
13- كارم السيد غنيم. ملامح من حضارتنا العلمية وأعلامها المسلمين.- القاهرة: الزهراء للاعلام العربي، 1989.
14- محمد الصادق عفيفي. تطوير الفكر العلمي عند المسلمين.- القاهرة: مكتبة الخانجي، د. ت.
15- محمد عبد الغني حسن. مدن الحضارات . مجلة الرسالة، س 9، ع 418، 1941.
16- هونكة، زيغريد. شمس العرب تسطع على الغرب، أثر الحضارة العربية في أوربة. ط 8 .- بيروت: دار الجيل، 1993.
----------------
المصدر : موقع مركز تعريب العلوم الصحية :