اللغة بين لسان العربى وعقله.. تحيا العربية من دون أن يسقط سيبويه - فاطمة ناعوت

من الدلائل الأخرى على عبقرية الموسيقى فى علم النحو هو مادة الممنوع من الصرف ، ليس فقط فى الاختيار المدهش للكلمات التى يجب ألا تُصرف لدواعٍ موسيقية مثل "مساجد- كنائس - مصر- مكة - سجاجيد.... الخ"، لكن الأجمل برأيى هو علامة "جر" تلك الكلمات وهى "الفتحة"، عكس ما هو سائد فى اللغة وهى "الكسرة" كعلامة للجر.
دعنا نجرّب جرَّ مفردةٍ ممنوعة من الصرف بالكسرة سنجدها تلتبس "سمعيًا" مع ياء الملكية بسبب عدم إمكانية تنوينها. ولنضرب مثالا: تتجلى العمارة القطوية فى "كنائسِ" كثيرةٍ ، تلك الكلمة، لو جريناها بالكسرة، سيتلقاها السامع وكأنها "كنائسي: أى الكنائس التى تخصني"، لأننا لم نستطع أن نقول "فى كنائسٍ"، بتنوين الكسر، بسبب منعها من الصرف. من هنا كان الحل العبقريّ الموسيقيّ فى جرّها بالفتحة "فى كنائسَ كثيرةٍ"، هنا فقط ترتاح الأذن. وتنطبق النزعة الموسيقية كذلك على مخالفة التمييز لنوع المميّز على نحو: ستة أقلام، ثلاث زهرات الخ. من هنا ارتأيت أن محاولة تغيير النحو العربى يهدد الموسيقى الخبيئة فى متن هذه الأجرومية الفذّة، لأن النحو يقوم فى الأساس على الموسيقى "وليس على العروض الفراهيدية كما يزعم بعض السلفيين فى الشعر".

ما أود أن أبرزه من الكتاب هو مجموعة من الأفكار المهمة التى خفتت للأسف تحت وطأة عنوان الكتاب الملتبس الذى استفز الكثيرين. فالبعض قد أوّل "لتحيا اللغة العربية: يسقط سيبويه" على أنه هتافٌ أو شعار تعبوى على غرار: لتحيا مصر، ليسقط الاستعمار! والشاهد أن الشوباشى لو قصد ذلك لقال ببساطة ليسقط سيبويه . لكنه أسقط "اللام"، بما يؤكد أن الجملة شرطية. أى "من أجل أن تحيا اللغة العربية يجب أن يسقط سيبويه". وأزعم أن تلك الجملة الشرطية البسيطة لم تكن لتثير كل تلك العواصف التى أثارتها الهتافية التى حُمِّلَت على العنوان غُبنًا، وكأن سيبويه هو مبتكر اللغة العربية.

أشار الكتاب إلى بعض المشكلات المتجذرة فى الذهنية العربية والتى ربما تعود إليها، فى رأيي، معظم الأزمات التى نحياها. سوف ألمح إلى تلك النقاط ثم أورد تعقيبى السريع عليها:
- ميل العقل العربى إلى المبالغة.
- ميل العربيّ إلى الكلام أكثر من سعيه إلى الفعل.
- خوف العربى من مواجهة الواقع وجنوحه للوهم عوضا عن ذلك.
- لتباس مفهوم اللغة عند العربي، فهو مازال يعتبرها غاية فى ذاتها لا وسيلة للتواصل مع الآخر.
- ميل العربى إلى المراوغة فى الخطاب عوضا عن المباشرة.
- العرب أبناء حضارة اليقين.
- اهتمام العرب بالشكليّ على حساب الجوهريّ.

وقبل إبداء وجهة نظرى باختصار فيما سبق أعلن أن قد وصلنى منذ الوهلة الأولى لقراءتى مقدمة الكتاب، ودون أدنى جهد، أن الدافع الوحيد الذى حث المؤلف على الكتابة هو دافع قومى عروبى وغَيرة على العربية وحزنٌ على غيابها من خارطة اللغات المعترف بها عالميا. وأتفق معه فى معظم ما أورد بشأن أزمة العقل العربى الراهن والذى أفرز قدرًا من الجمود والركون إلى السلبى انتظارا لحلٍّ قد يهبه الغيب أو يضن به. أوافق أننا أبناء ثقافة الأذن وربما كان ذلك سببا وراء كوننا نقليين أكثر منا عقليين. أى نركن للنقل عوضًا عن العقل . ومن أسفٍ أننا لا نكتفى بالنقل من السلف بغير سعى للتطوير أو التجاوز، بل نركن إلى النقل من الآخر الغربى ثم نلعنه لأنه سبب تخلفنا. وأتفق معه أننا نحفل كثيرا بالشكليّ أكثر من سعينا لبناء النسغ الحقيقى لمعظم المبادئ. فلم نر أبدًا رجل دين قد اتهم أحدا بالخروج عن الدين لأنه لم يراع حقوق الآخر ولم يتقن عمله ولم يعمل على نظافة بيئته بصريا وسمعيا وفكريًّا. وأتفق معه كذلك فى كوننا أبناء ثقافة المبالغة فى القول إلى درجة أن جملة تخلو من "جدا - للغاية - إلى أقصى درجة الخ" تُحسب على الحياد ولا يعوّل عليها كثيرا.

وأن ثمة هوةً واسعة بين خطابنا والخطاب الغربى نتيجة اعتيادنا تضخيم الكلم والركون إلى امتلاك اليقين. لكننى هنا أود أن أشير إلى أن الكتاب قد خلط بين لونيْن من الخطاب: الخطاب الأدبيّ البلاغيّ، والخطاب الحياتيّ الإبلاغيّ. اللون الأول من الخطاب يندرج تحت باب الفن فيجوز له- شأن كل فن- أن يجنح نحو المبالغة وعدم المباشرة بل والمراوغة فى الخطاب. وأحيله إلى الفن التشكيليّ، بعيدا عن التباسات اللغة ومراوغتها وتعدد مستوياتها. فالبورتريه الذى يصوّر وجه إنسان بنسبة الحقيقة تماما سيكون فقيرًا من الفن، وهذا ما أقرَّه الرسامون منذ انتهاء المدرسة الكلاسيكية وبزوغ الحركة التأثرية مرورا بكل ما تلا ذلك من حركاتٍ ومدارسَ وحتى اليوم. لأن الكاميرا سوف تتفوق دقةً وتحديدًا على هذه اللوحة الصحيحة الصادقة التى لا غبار عليها. ويبدأ الفنُّ حين تنحرف النِسَب عن الحقيقيّ والمرئيّ والصادق لتغدو غبارٌ عليها . لأن الفن انحرافٌ عن الواقع تصنعه طاقةٌ فى روح الفنان وفى عينيه تتوق إلى إعادة تشكيل العالم. ينطبق الأمر تماما على الخطاب الشعرى والأدبي. عكس الخطاب الثانى الذى هدفه الأساس الإيصال والإبلاغ، وهو ما يجب أن يتسم بالمباشرة والوضوح والتخلص من الديابيج والمقدمات والنتوءات التى قد تعوّق عملية التلقي. بل إننى أتمادى أكثر وأقول إن اللغة على إطلاقها- حتى اليوميّ منها وبعيدا عن الأدب- لا يمكن أن تخلو من المجاز. وهو ما حاول إثباته مؤلفا الكتاب الأمريكى Metaphors We Live By "المجازات التى بها نحيا". وهما أستاذان فى جامعات أمريكا، أحدهما فى الألسنيات واللغويات والآخر فى علم اجتماع. أثبت المؤلفان خلال الكتاب أننا نتحدث بالمجاز طوال الوقت، وأن المعاجم تتراسل طوال الوقت. فحين تناقش فكرة "الجدل" لابد أن تستعير مفردات من معجم "الحرب" فتقول: تراشقنا بالكلمات لكننى صرعته فى الأخير- كان الجدال حامى الوطيس، نازلته فمُنّى بهزيمة نكراء ومن ثم كسبت أرضا جديدة..... الخ. ولننتبه أيضًا إلى أن الكتاب أمريكيّ مكتوب باللغة الأنجلو- أمريكية التى أقرَّ الشوباشي، ونقرُّ معه، أنها لغة متقشفة محددة تنأى عن البديع فى القول وتهرب من الزوائد ما أمكن، ومن ثم استحقت لقب اللغة الأولى فى العالم. إذن ليس للأمر علاقة بأزمة خاصة فى اللغة العربية بقدر ما هو إشكالية آلية نقل الفكرة من العقل إلى اللسان. أى تحويل الفكرة الهيولية التجريدية المهومة فى المخ البشرى إلى مفردة محددة ذات دلالة. وهى عملية ذهنية شديدة التعقيد وليست مقصورة على اللغة العربية وحدها، وهذا ما يجعلنا نتكلم دوما عن قصور اللغة. كل لغة. وأنا هنا لا أنفى الصعوبة عن اللغة العربية، لكننى أردُّ الأزمة إلى مأساة نُظُم التعليم فى الوطن العربى كلّه، ليس فى مادة اللغة العربية وحسب، بل فى مختلف فروع العلم.
فسياسة التعليم العربى تقوم على النقل وحشو الأدمغة بغير تفعيل حقيقى لعمل العقل. أما عن زخم المترادفات "غير المهجورة" فى اللغة العربية، وهو ملمح انتقده الكتاب، فأراه ملمحَ ثراء لها وإن كنت أتفق بقوة مع الشوباشى حول قصور النحو العربى عن تحديد دقيق لزمن الفعل الماضى قياسا باللغات الأخري. فالزمن الماضى عندنا واحدٌ ولا يمكنك تحديد ترتيب أزمنة وقوع الأفعال من خلال تصريفها مثلما فى الإنجليزية أو الفرنسية. وهو الأمر الذى يستشعره كل ما أقدم على الترجمة من وإلى العربية. إذن فإشكاليات المبالغة فى القول واستبدال الكلام بالفعل الخ، مردُّها الحقيقى ليس اللغة بقدر ما هى طبيعة فى نمط التفكير تخصنا نحن كعرب أكثر مما تخص لغتنا. أى إنها أزمة صياغة وتعامل مع الكلمات لأن ذات اللغة بوسعها خلق خطاب رشيق محايد لا يعوزه المنطق ولا تصدعه مبالغة وإطناب. والعربيّ المبالغ فى لغته الأم سوف يرتكب ذات المبالغة حين يتكلم بلسان فرنسى أو ألمانيّ الخ.
بظنى الخاص أن أزمة الخطاب اللغوى العربية حديثة ومرتبطة بتدنى المستوى الثقافى للفرد العربى فى الزمن. ودليلى على ذلك كنزٌ صغير أمتلكه.
وهو مجموعة من الخطابات المتبادلة بين جدى وجدتى خلال فترة خطوبتهما. أما جدى فلم يكن سوى طالب فى كلية الحقوق فى حين لم تحصد جدتى سوى البكالوريا القديمة "الثانوية العامة". أدهشنى كمُّ الرقى الفكرى والثقافى واللغوى بل والإنسانى لديهما معا. اللغة العربية هى هى بل كانت أشد تعقيدًا وأقرب إلى المنفلوطية حينئذ، والعقل العربى هو هو، الفارق هو ما تلقاه هذان العروسان من تعليم فى عصرهما مقارنةً بما يتلقاه الطلبة التعساء الآن. نسيت أن أقول إن جدتى هذه كانت تحفظ إلى جوار المقطوعات الموسيقية التى تجيد عزفها على البيانو الكثيرَ من الشعر الجميل والذى ظهر فى رسائلها. أستاذ شريف الشوباشي، أهنئك بالفعل على هذا الكتاب الذى نكأ الكثير من الجروح بشأن إشكاليات حقيقية فى آلية التفكير ورؤية العالم والتعامل مع الوجود تخصنا ككيان عربي، وهو ما أشرتَ إليه فى كتابك الراهن واستفضت فيه فى كتابك السابق المهم الداء العربى . أتفق معك فى أننا فى أزمة مروّعة وحقيقية بل ومُهدِّدة لوجودنا.

نحن ننحدر ونتقزم وسائرون بدأب وانتظام نحو هاوية. لكن هل تكمن الأزمة فى "اللسان" أم فى "العقل"؟ لماذا نطالب اللغةَ أن تُحنى هامتَها من أجلنا، لماذا لا نحاول نحن أن نعلو قليلا؟
-----------
موقع الجمعية الدولية للمترجمين واللغويّين العرب :
http://arabswata.org/forums/showthread.php?t=1447

Ανδρικά Nike

التصنيف الرئيسي: 
التصنيف الفرعي: 
شارك: