وإنما تكبر المسألة حين ننتبه إلى أننا نقضي الوقت الأطول نحن وأبناؤنا، أمام أجهزة التلفزيون والراديو، مستمعين أو مشاهدين، وربما أمضى نفر من الأسرة الواحدة ساعات، دون أن يحدِّث أحدهم الآخر، مشدودين جميعاً إلى تمثيلية أو فيلم أو برنامج يشاهدون.
وحين يصدر غلط من هذا المذيع أو تلك المذيعة، في اللغة أو النحو والصرف، فإن الطفل أو الفتى - والراشد أحياناً- يحسب أن هذا هو الصواب، فإذا تكرر مرات عديدة، رسخ الغلط في الذهن، حتى يعسر اقتلاعه في بعض الأحيان، نظراً لما تتمتع به العادة من قوة تتغلغل في ثنايا المزاج والعقل.
مغالط الكتاب ومناهج الصواب :
ما برحت أتمنى مثلاً أن أقرأ ترجمة فيلم أجنبي.. خالية من الأغلاط التي تقلع العين كما يقولون. بَلْه سقم الترجمة في أحيان كثيرة في حيث لا يُفهم منها شيء، إضافة إلى ركاكة لغتها وفسولتها.
ومهما يكن من أمرٍ فإنّ هذه المسألة ليست جديدة، وإنما يؤكد ذلك وجود عدة مؤلفات في المكتبة العربية، حول الأغلاط في الإعلام المقروء قبل سنوات بعيدة. من ذلك مثلاً كتاب صدر في أواخر القرن الماضي -دون ذكر تاريخ طبعه، ولكن مطبعته، والمكتبة التي عرضته يوحيان بذلك وعنوانه "مغالط الكتاب ومناهج الصواب"(2).
وثمة كتاب "إصلاح الفاسد من لغة الجرائد" المطبوع في نهاية الربع الأول من هذا القرن(3).
من أين تتسرب الأغلاط إلى وسائل الإعلام عامة، والمسموعة والمرئية خاصة؟
لا بد من الإقرار بأن ثمة ضعفاً عاماً، على اختلاف مستويات الدراسة، في اللغة العربية، يتجلى في النحو والصرف والبلاغة.. والإملاء.. واللغة ذاتها.
ولا بأس هنا، من عودة سريعة إلى مناهج التعليم في السنوات الخمسين الماضية، يوم كان نمو التعليم عمودياً، لا أفقياً، مثلما حدث في السنوات التالية، بعد أن أقرت إلزامية التعليم ومجانيته وأدخل مبدأ الترفيع الآلي على الصفوف الابتدائية. إن نوال الشهادة الابتدائية كان يعني حداً أدنى مقبولاً من الإلمام باللغة العربية. وكان يسمح لحامل هذه الشهادة بشغل وظيفة معلم وكيل، يمكن أن يُثبَّت في مابعد.. إذ ينجح في امتحان معين. أما الآن.. فإن التخرج من قسم اللغة العربية ذاته في الجامعة، عاد لا يعني إتقان اللغة العربية.. حتماً.
الغلط لا يكلف أكثر من ابتسامة :
ونستطيع الكلام، دون حرج، من جانب آخر عن تدني مستوى بعض مدرسي اللغة العربية في المرحلة الثانوية -والجامعية أيضاً- ومعروف أن فاقد الشيء لا يعطيه.
كان الوقوع في الغلط، يعني شعور صاحبه بكثير من الحرج والارتباك، حتى لو كان هذا الغلط طفيفاً. ولكنه الآن، لا يقتضي سوى ابتسامة بسيطة، قد تعني:
هل خربت الدنيا جراء هذا الغلط؟
يحدث هذا في الوقت الذي يشعر بخجل وحرج كبيرين، من يغلط في لغة أجنبية ما.. وقد يكون لذلك علاقة بعقدة الشعور بالدونية لدى هؤلاء الناس...
وتمثل الترجمة الرديئة واحداً من مجالات الإسهام الواسعة في الأغلاط اللغوية.وتسربت نتيجة ذلك تراكيب إلى اللغة العربية، هجينة تماماً، من مثل قولهم:
"كلما كثر الغيم، كلما كثر المطر" ومعروف أن "كلما" المصدرية الظرفية، لا تحتاج إلى تكرارها في الجواب مرة ثانية. قال الشاعر:
كلما أنبت الزمان قناة * * * * * ركّبَ المرء في القناة سنانا
وثمة تركيب آخر -وما أكثر الأمثلة- بات متداولاً في وسائل الإعلام المرئية خاصة في الأفلام المترجمة، ومثاله "بقدر ما تجتهد، بقدر ما تنجح". وهو الآخر غريب هجين.
غيض من فيض:
وفي مايلي أمثلة هي غيض من فيض في الأغلاط الشائعة في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية:
** جاء "نفس الرجل". ورأيتُ "ذات المرأة".
فقد استعمل لفظا "نفس" و "ذات" للتوكيد في غير سياقهما الفصيح الصحيح، ذاك أن لفظ التوكيد المعنوي: "جميع- نفس- عين- كل.. إلخ" ينبغي أن يرد بعد الاسم المراد توكيده أولاً.
ويشترط ثانياً لإقامة التوكيد بهذه الألفاظ أن تضاف إلى ضمير يعود على المؤكَّد ويناسبه(4)، فيقال: "جاء الرجل نفسه" و "رأيتُ المرأة ذاتها".
** إن كلمتي "سوى" و "غير" هما من أدوات الاستثناء، تردان هكذا دون إدخال "ال" التعريف عليهما. والغلط الصراح في تعريفهما كأن يقال: وهذا "السِّوى" من الكائنات. وهذه الألفاظ "الغير" مفهومة. والصواب القول: "وسوى هذا من الكائنات". و "هذه الألفاظ غير المفهومة".
ويدخل في هذا النوع من الغلط تعريف لفظ "بعض".. فإنها لا تعرف على الإطلاق.
** استخدام "لام" الاختصاص والملك في غير موضعها يؤدي إلى ركاكة وضعف في تركيب الجملة اللغوي. وقد كثر ذلك في السنوات الأخيرة، حتى بات نتيجة التكرار والتواتر، وكأنه صواب.
يقال مثلاً: "الجنة للمؤمنين" على سبيل الاختصاص. ويقال أيضاً: "له ما في السموات وما في الأرض" على سبيل الملك(5).
ونغلط حين نقول: "في السن المبكرة للطفل" فالأفصح أن نقول: "في سن الطفل المبكرة" فلفظ "المبكرة" هو صفة لكلمة "سن" ويجانبون الصواب عندما يقولون في نشرات الأخبار:
"جرى ذلك إثر قتل الجنود الإسرائيليين لاثنين من الفلسطينيين" وكان يجب أن يقال: "... اثنين من الفلسطينيين" لأن كلمة "اثنين" هي معمول المصدر المضاف الذي يعمل عمل الفعل المبني للمعلوم، فهي إذاً "مفعول به".
ويقولون أيضاً: "يحمِّلون اللون للجانب الفلسطيني "وهكذا أُلغي معمولا فعل "يحمّلون" الذي ينصب مفعولين فالصواب قولهم "يحمّلون اللوم الجانب الفلسطيني". أو "يحمِّلون الجانب الفلسطيني اللومَ.(6).
فتح همزة إن وكسرها :
** يكثر الغلط في فتح همزة "أن" أو كسرها. وهي واجبة الفتح في المواضع التالية:(7)
1- أن يكون للمصدر المؤول منها ومن معموليها محل للإعراب: الفاعل "أو لم يكفهم أنا أنزلنا"(8) أي: إنزالنا. أو نائب الفاعل "قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن"(9).
2- أن تقع مفعولاً لغير القول. "ولا تخافون أنكم أشركتم بالله"(10).
3- أن تقع في موضع رفع بالابتداء "ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة"(11) أو أن تقع في موضع الخبر "اعتقادي أنك فاضل".
4- أن تكون مجرورة بالحرف "ذلك بأن الله هو الحق."(12) أو أن تكون مجرورة بالإضافة "إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون(13).
5- أن تقع تابعة - على سبيل العطف أو البدل "اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين"(14).
6- أن تقع بعد "لولا" و "لو" و "إلا" نحو "لولا أنك تعمل لاحتجت الآخرين" و "لو أنه عمل لتصدى للفقر" و "تعجبني أخلاقه إلا أنه كثير النسيان"(15).
ويجب كسر همزة "إن" في المواضع التالية(16):
1- في ابتداء الكلام "إنا أعطيناك الكوثر"(17).
2- أن تقع في أول الصلة "وآتيناه من الكنوز ما إنَّ مفاتحه لتنوء"(18) أو في أول الصفة نحو "مررت برجل إنه فاضل" أو في أول الجملة الحالية كقوله تعالى: "كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون"(19). أو أن تجيء في أول الجملة المضاف إليها ما يختص بالجمل نحو "جلستُ حيث إن زيداً جالس.".
3- أن تقع قبل اللام المعلقة أي المزحلقة نحو "والله يعلم إنك لرسوله"(20).
4- أن تقع محكية بالقول نحو "قال إني عبد الله"(21).
5- أن تقع جواباً للقسم كقوله تعالى: "حم والكتاب المبين إنا أنزلناه"(22).
6- أن تقع خبراً نحو "زيد إنه فاضل".
وليس من ضابط في الإعلام المسموع أو المرئي لضبط هذه الهمزة فقد يكسرونها حيث ينبغي أن تفتح كقولهم "وأضاف إن" وقد يفتحونها حيث ينبغي أن تكسر كقولهم "قال أن".
مسألة عين المضارع :
** يصعب ضبط عين المضارع أحياناً دون الرجوع إلى المعجم، لكن هناك أفعالاً كثيرة الاستعمال قراءة وكتابة، في حيث لا يقع غلط في لفظها لو تُرك شأنها عفوياً تلقائياً.
مع ذلك فإنهم يغلطون في قراءتها حتى وهي في صيغة الماضي، في بعض الأوقات، مثل الأفعال التالية: "شرب. كسر. لعب. ضرب. سحب. عمل... إلخ".
يكثر الغلط أيضاً في قراءة الحرف الأخير، من الفعل الماضي معتل الآخر بالألف. فإن أفعالاً مثل "رمَوا-قضَوا- سعَوا" حيث ينبغي أن تكون حروف "الميم والضاد والعين" مفتوحة، تقرأ مضمومة. وثمة أفعال يجب أن يُقرأ الحرف الأخير فيها مضموماً، لكنهم يفتحونها كقولهم: "قالَوا- سامَوا- رامَوا" بفتح اللام والميمين في هذه الأفعال.
"حسب" ساكنةً... ومتحركة
** هناك كلمتان مختلفتا المعنى والدلالة والإعراب، لكنهما تستخدمان في معنى واحد، على الرغم من اختلاف المقام. عدد حروفهما واحد، لكن شكلهما يختلف. "حَسْب" و "حَسَب".
لا بد من التمييز بينهما إذاً كما يلي :
آ-1ً- نقول "حَسبْك درهمٌ" أي: كفايتك درهم. وقد تزاد الباء فيقال "بحسْبك درهم" فحسْب مبتدأ والباء زائدة. ولكن "السين" في الحالين ساكنة.
آ-2ً- ونقول أيضاً: "هذا زيدٌ حسبكَ من رجل" أي "كافياً لك" بنصب "حَسْب" حالاً من زيد.
آ-3ً- ونقول أيضاً "حسْب" غير مضافة، فتُبنى على الضمَ كقولنا:
"هذا حسْبُ يا أخي" وقد تدخل الفاء للتزيين، فيقال: "زيدٌ صديقي فحسب" أي: يكفيني عن غيره.
ب- أما اللفظ الثاني فهو "حَسَب" مفتوحة السين، وتدل هذه الكلمة على العدد والقدر كقولنا: "هذا بحَسَب هذا" ومنه "الأجر على حسَب المصيبة" و "ليكن عملك بحسَب ذلك".
وهناك أخيراً "الحَسَب" وهو ما نعده من مفاخر الآباء.(23).
مع الأفلام والبرامج المترجمة :
** يضيق المجال هنا كثيراً عن الحديث في أغلاط النحو والشكل، فإنها تكثر قراءةً بأصوات بعض المذيعين أو مقدمي البرامج أو المتحدثين، وكتابةً في ترجمة الحوار الأجنبي، في الأفلام والبرامج، إلى العربية الفصحى. وهي هنا مطبوعة على الشريط. -ولست هنا لأتحدث عن ركاكة الترجمة وسقمها إلى درجة العجز عن فهم ما يقصد بها- على أني أقف عند بعض الأفعال الماضية الناقصة، والأحرف المشبهة بالفعل: "كان وأخواتها" و "إن وأخواتها" فعوضاً عن أن يقال "كان في الدار رجل" ينصب اسم كان المتأخر، كما لو أن شبه الجملة من الجار والمجرور "في الدار" سد مسدّ اسم كان..
والأمر كذلك، لو كان مكان الجار والمجرور "ظرف مكان أو زمان"، فيقولون: "كان خلف الجبل رجلاً"(!)
ويقولون: "إن الأمر عظيماً" و "ليت الطريق قصيراً.. وهكذا.
.. ثم حدث ولا حرج عن الخلط بين الأحرف الشمسية والقمرية.. وهو ما كان جيلنا يعرفه بعد الصف الأول الابتدائي.
مسألة اللهجة العامية :
الأمر الثاني الذي نحب أن نقاربه في وسائل الإعلام المسموع والمرئي هو اللغة العامية أو اللهجة العامية. وإذا كان ثمة لهجات عامية عربية متعددة، إلا أن المشكلة التي نشكو منها في هذا الصدد هي واحدة تقريباً.
وأحب أن أتساءل هنا: هل يمكن الاستغناء عن العامية في وسائل الإعلام؟
ويتبع ذلك حكماً سؤال آخر طبيعي، فلماذا يرغب الكتاب وخاصة كتاب التمثيليات أن يعبروا عن الأحداث الجارية والنماذج الإنسانية المتحاورة، بالعامية؟
1- سهولة التعبير بالعامية :
فالكاتب هنا، لا يصرف أي جزء من اهتمامه، نحو ضبط مفرداته وتراكيبه، من حيث خضوعها إلى قواعد النحو والصرف وبعدها عن الركاكة والفسولة. فيطلق العنان لأفكاره وخواطره تسترسل في الحوار دون قيود.
2- حرارة الحوار وصدقه :
ينطلق الكاتب في حواره هنا، من وجوب إنطاق نماذجه الدرامية، باللغة ذاتها التي تتكلم بها في بيئتها الطبيعية. وهو يرى أن من غير المناسب أو المعقول جعل "نموذج درامي" مغرق في عاميته الفكرية واللفظية، يتحدث في أثناء الحوار مثلما يتحدث المتعلمون أو المثقفون.
ولو أنه فعل ذلك، لكانت نتيجته المباشرة، هي شعور المستمع أو المشاهد بالافتعال، مما ينأى بالأحداث والحوار عن الوصول إلى قلبه والتأثير فيه.
3- عدم اعتياد الأذن على الفصحى :
إن لغة الحوار الدارج في حياة الناس اليومية هي العامية. حتى المتعلمون والمثقفون أنفسهم، فإنهم يديرون أحاديثهم بلغة هي أقرب إلى روح العامية، من حيث عدم خضوعها لضوابط النحو والصرف واللغة، وإن يكن بعض الألفاظ المغرق في عاميته بعيداً عنها. كما أن هؤلاء المتحدثين لا يهتمون كثيراً بضبط تلفظهم بالأحرف اللثوية.
"البخيل"... وعدة مستويات لغوية :
لقد أحس الكاتب المسرحي مارون نقاش بهذه المشكلة، منذ أن قدم مسرحيته الأولى "البخيل" عام 1847، فجعل فيها عدة مستويات لغوية "فأنطق الخادمة اللبنانية "أم ريشا" بالعامية اللبنانية، وأنطق "عيسى" بالعامية المصرية. وترك "غالي" و "نادر" ينطقان بالعربية كما ينطق بها الأتراك، وسمح للشخصيات المتعلمة بنطق الفصيحة. لكن عمله لم يكن حلاً لمشكة الحوار."(24).
ونشر سليمان فيضي الموصلي عام 1919 رواية عنوانها "الرواية الإيقاظية" استعمل في حوارها بعض الكلمات العامية رغبة في أن يفهمها الأُميّون ويتأثروا بها. وتلك أيضاً حال "يعقوب صنّوع" مؤسس المسرح العربي في مصر، فقد كتب مسرحياته بالعامية رغبة في تثقيف الشعب(25).
ودون أن يكون الكتّاب عاجزين عن الكتابة بالفصحى، فإنهم كانوا يكتبون الحوار بالعامية أو يلجؤون إلى أسلوب الجمع بين الفصحى والعامية، تلك حال محمد تيمور الذي كتب مسرحيات ذات حوار عامّي: "العصفور في قفص -عبد الستار أفندي- الهاوية" بل إنه كتب حوار مسرحية "العصفور في قفص" بالفصحى أول الأمر، لكنه نقله إلى العامية حين رغب في تجسيد المسرحية على الخشبة.(26).
وكذلك فعل أخوه القاص المعروف محمود تيمور الذي كانت حوارات قصصه القصيرة الأولى حتى عام 1928 بالعامية.. ثم عدل عن العامية إلى الفصحى، وأعاد نشر بعض أعماله الأولى بعد أن جعل الحوار فيها فصيحاً.(27).
إذاً، فإن مشكلة العامية قديمة تعود إلى أواسط القرن التاسع عشر الماضي، مع بزوغ أول تباشير النهضة العربية.
مشكلة اللهجات العامية العربية :
وأقول إن الكثرة الكاثرة من الأعمال التمثيلية في الإذاعات والتلفزيونات العربية، بما فيها الأقنية الفضائية، تقدَّم للجماهير العربية داخل الوطن الكبير وخارجه باللهجة العامية.
لقد استطاعت هذه الجماهير أن تستوعب العامية المصرية، نظراً للكم الضخم من الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية. مما جعل أذن العربي معتادة على سماع هذه اللهجة قادرة على فهمها. ولكن ماذا يقال، حين يدور الحوار بعاميات المغرب العربي في السينما والتلفزيون.. إن المستمع أو المشاهد، يغيب عن إدراكه كثير من معاني المفردات والتراكيب المتداولة هناك، في لهجة كل قطر من أقطار المغرب العربي الكبير. وقد رأى بعض الكتاب أنّ هذا في مقدمة ضرورات استخدم العربية الفصحى، لغة في الحوار التمثيلي فإن "استعمال اللغة الفصيحة يساعد على التواصل اللغوي- والثقافي.. من ثم -بين العرب من المحيط إلى الخليج"(28).
كتاب المسرح.. والفصحى :
.. ولئن كان مما يلفت النظر، أن كتاب المسرح في الوطن العربي في العقود الأخيرة، أمسى كثيرون منهم يكتبون مسرحياتهم باللغة العربية الفصحى كالمغربي عبد الكريم برشيد في "مرافعات الولد الفصيح" والعراقي عادل كاظم في "الزمن المقتول في دير العاقول" والمصري الفريد فرج في "الزير سالم" والسوري د.علي عقلة عرسان في "الغرباء" وسعد الله ونوس في "حفلة سمر من أجل 5 حزيران" إلا أن ذلك لم يحسم الأمر، وبقيت المشكلة معلقة.. فهل يمكن السير في طريق وَسَط والأخذ باقتراح توفيق الحكيم؟
لقد كانت الكتابة للمسرح هم توفيق الحكيم الأول منذ بداية حياته الأدبية، لكنه كتب معظم أعماله الأولى بالعامية مثل "المرأة الجديدة" و "الزمار" و "جنسنا اللطيف" و "رصاصة في القلب." ثم عدل عن ذلك إلى الكتابة بالفصحى.
ثم قدم اقتراحاً في نهاية مسرحيته "الصفقة" التي صدرت عام 1959 دعا فيه إلى الكتابة، بلغة تجمع بين الفصحى والعامية، وهي نفسها التي كتب بها هذه المسرحية. وهذه اللغة الثالثة هي "لغة صحيحة لا تجافي قواعد الفصحى. وهي في نفس الوقت مما يمكن أن ينطق به الأشخاص ولا ينافي طبيعتهم ولا جوَّ حياتهم. لغة سليمة يفهمها كل جيل وكل قطر وكل إقليم، يمكن أن تجري على الألسنة في محيطها.
قد يبدو لأول وهلة لقارئها أنها مكتوبة بالعامية، ولكنه إذا أعاد قراءتها طبقاً لقواعد الفصحى فإنه يجدها منطبقة على قدر الإمكان. بل إن القارئ يستطيع أن يقرأها قراءتين: قراءة بحسب نطق الريفي فيقلب القاف إلى جيم أو إلى همزة تبعاً للهجة إقليمه، فيجد الكلام طبيعياً مما يمكن أن يصدر عن ريفي. ثم.. قراءة أخرى بحسب النطق العربي الصحيح فيجد العبارات مستقيمة مع الأوضاع اللغوية السليمة."
الازدواجية اللغوية والنمو الثقافي :
... وبعد، فإني ليخيل إلي أن حل المشكلة هذه الازدواجية اللغوية على نحو جذري، مرتبط بنمو أمتنا التعليمي ورقيها الثقافي، وسوف تظل مطروحة ما دام في الوطن العربي أميون ترتفع نسبتهم أحياناً حتى ستين بالمئة في بعض البلدان الناطقة بالضاد.
وحين تؤذن هذه المعضلة بحلٍ، فقد لا نصل مباشرة حينذاك إلى المستوى المنشود في لغة فصحى سليمة تماماً، وهذا أمر طبيعي لدينا، ولدى أمم العالم المختلفة. إلا أن الأمر المهم هو أن نرتقي بوسائل إعلامنا المسموعة والمرئية إلى درجة تقل معها الأغلاط إلى الحدود الدنيا. والعلاقة بيننا وبين هذه الوسائل جدلية، فهي تؤثر فينا مثلما نؤثر فيها.
وعلى كل حال، فلا بأس في إيراد بعض المقترحات لتحسين الأداء:
1- يجب تقديم دروس تقوية، حضورها إلزامي، في مسائل اللغة العربية ونحوها وصرفها، يشارك في الاستماع إليها العاملون الرئيسيون في كل ما يتصل باللغة العربية، في الإذاعة والتلفزيون... من مذيعين ومقدمي برامج ومترجمي الأفلام والمسلسلات والبرامج الأجنبية.
2- ضرورة وجود دائرة من المراجعين المدققين اللغويين ذوي الأهلية، يتابعون نشرات الأخبار والبرامج والأعمال المترجمة، من أجل تصويب ما يرد فيها من أغلاط ولفت أنظار المسؤولين عنها مباشرة، عن طريق الاتصال بهم شفهياً وكتابياً. وتمكن استشارتهم في أثناء إعداد نشرات الأخبار.
3- عرض ترجمات الأفلام والتمثيليات والبرامج الأجنبية، على المراجعين المدققين اللغويين قبل طباعتها وتسجيلها على الأشرطة، على أن يكون هذا شرطاً لشرائها أو مبادلتها.
4- إصدار نشرة بأهم الأغلاط الملحوظة، مع تصويبها.. وتعميمها على العاملين الرئيسيين في الإذاعة والتلفزيون.
الحواشي:
1- مجلة "الجيل" المجلد 19- العدد9- سونيا سلوم- ص154.
2- "مغالط الكتاب ومناهج الصواب"، بقلم "الأب جرجي جنن البولسي- مطبعة القديس بولس- حريصا (لبنان)- دون تاريخ.
3- "إصلاح الفاسد من لغة الجرائد" تأليف: محمد سليم الجندي -مطبعة الترقي- 1925.
4- ذكرت كتب النحو المختلفة سبعة ألفاظ للتوكيد هي: نفس-عين-كلا- كلتا- كل- جميع- عامة" فقط. ولكن بعضهم أضاف لفظاً آخر هو "ذات" وهو دارج ولا أرى مانعاً من استخدامه: "شذور الذهب في معرفة كلام العرب" لابن هشام-شرحه محمد محيي الدين عبد الحميد -مصر الجديدة- يولية 1948- ص442 فما بعد- و "قواعد اللغة العربية" تأليف: حفني ناصيف وآخرين "دون تاريخ"- القاهرة و "الواضح في القواعد والإعراب" تأليف: محمد زرقان الفرخ "دون تاريخ" دمشق.
5- "أقرب الموارد في فصح العربية والشوارد" تأليف: سعيد الخوري الشرتوني- مطبعة مرسلي اليسوعية - بيروت سنة 1889.
6- ليس بين الأفعال التي تنصب مفعولين، فعل "حمَّل" ولكن هناك مرادفه "أعطى" وهو في معناه تقريباً.
7- "شذور الذهب" ص 217-218.
8- من سورة العنكبوت -من الآية 51.
9- من سورة الجن- من الآية1.
10- من سورة الأنعام - من الآية81.
11- من سورة فصلت - من الآية 39.
12- من سورة الحج- من الآية 6.
13- من سورة الذاريات - من الآية23.
14- من سورة البقرة - من الآية 47.
15- "الواضح" محمد زرقان الفرخ - ص180.
16- "شذور الذهب" ص 215-216.
17- من سورة الكوثر - من الآية 1.
18- من سورة القصص - من الآية 76.
19- من سورة الأنفال - من الآية5.
20- من سورة المنافقين - من الآية 1.
21- من سورة مريم - من الآية 30.
22- من سورة الدخان -من الآية 1.
23- "أقرب الموارد".
24- "اللغة العربية الفصيحة في العصر الحديث" -تأليف: سمر روحي الفيصل- منشورات اتحاد الكتاب العرب - دمشق 1993- ص259.
25- 26- المصدر ذاته- ص260.
27- المصدر نفسه- ص261.
28- المصدر السابق - ص 263.
--------------
نشر هذا البحث في :
مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 78 - السنة 20 - كانون الثاني "يناير" 2000 - رمضان - شوال 1420