الجرأة في الحق ، ومواجهة الباطل:
وربما كان في وسع محمود محمد شاكر أن يكون أحد علماء الرياضيات ، أو فروع الطبيعة بعد حصوله على شهادة البكالوريا: (الثانوية العامة) من القسم العلمي سنة 1925 لكنه فضل أن يدرس العربية في كلية الآداب ، وكاد قانون الجامعة أن يحول بينه وبين الالتحاق بقسم اللغة العربية، لولا تدخل طه حسين لدى أحمد لطفي السيد مدير الجامعة وإقناعه بأن يلتحق شاكر بكلية الآداب فأصدر قرارا بذلك.
وفي الجامعة استمع محمود محمد شاكر لمحاضرات طه حسين عن الشعر الجاهلي وهى التي عرفت بكتاب "في الشعر الجاهلي" ، ذلك الكتاب الذي صب فيه طه حسين أحقاده وأضغانه وما تلقاه عن أسياده في الغرب على الفكر العربي وعلى التراث العربي ، وكم كانت صدمته حين ادعى طه حسين أن الشعر الجاهلي منتحل !!؟؟ ، وأنه كذب ملفق لم يقله أمثال امرئ القيس وزهير بن أبي سلمى ، وإنما ابتدعه الرواة في العصر الإسلامي ، وضاعف من شدة هذه الصدمة أن ما سمعه من المحاضر الكبير سبق له أن قرأه بحذافيره في مجلة استشراقية بقلم المستشرق الإنجليزي مرجليوث.
وتتابعت المحاضرات حول هذا الموضوع، ومحمود محمد شاكر عاجز عن مواجهة طه حسين بما في صدره ، وتمنعه الهيبة والأدب أن يقف مناقشا أستاذه ، وظل على ذلك زمنا لا يستطيع أن يتكلم حتى إذا لم يعد في الصبر والتحمل بقية ، وقف يرد على طه حسين في صراحة وبغير مداراة، لكنه لم يستطع أن يواجهه بأن ما يقوله: إنما هو سطو على أفكار مرجليوث بلا حياء أو اكتراث.
وتولد عن شعوره بالعجز عن مواجهة التحدي خيبة أمل كبيرة ، فترك الجامعة غير آسف عليها ، وهو في السنة الثانية ، ولم تفلح المحاولات التي بذلها أساتذته وأهله في إقناعه بالرجوع ، وسافر إلى الحجاز سنة 1928 م مهاجرا ، وأنشأ هناك مدرسة ابتدائية عمل مديرا لها، حتى استدعاه والده الشيخ محمد شاكر فعاد إلى القاهرة.
عبقريته في إكتشاف شاعر العربية الأكبر ، مالئ الدنيا وشاغل الناس
وبعد عودته سنة 1929م ، انصرف إلى قراءة الأدب ، ومطالعة دواوين شعراء العربية على اختلاف عصورهم ، حتى صارت له ملكة في تذوق الشعر والتفرقة بين نظمه وأساليبه ، وبدأ ينشر بعض قصائده الرومانسية في مجلتي "الفتح" ، و"الزهراء" للشيخ العلامة الأستاذ محب الدين الخطيب ، واتصل بأعلام عصره من أمثال: أحمد تيمور ، وأحمد زكي باشا ، والخضر حسين ، ومصطفى صادق الرافعي الذي ارتبط بصداقة خاصة معه.
ولم يكن محمود محمد شاكر معروفا بين الناس قبل تأليفه كتابه: "المتنبي" الذي أثار ضجة كبيرة بمنهجه المبتكر ، وأسلوبه الجديد في البحث ، وهو يعد علامة فارقة في الدرس الأدبي نقلته من الثرثرة المسترخية إلى البحث الجاد.
والعجيب أن محمود محمد شاكر الذي ألف هذا الكتاب سنة 1936م ، ولم يتجاوز السادسة والعشرين من عمره ، ولم يكن يقصد تأليف كتاب عن المتنبي، إنما كان مكلفا من قبل فؤاد صروف ، رئيس تحرير مجلة المقتطف ، بأن يكتب دراسة عن المتنبي مسهبة بعض الإسهاب ما بين عشرين إلى ثلاثين صفحة، ولكن هذا التكليف تحول على يد محمود محمد شاكر كتابا مستقلا عن المتنبي ، أنجزه في فترة زمنية قصيرة على نحو غير مسبوق ، ونشرته مجلة المقتطف في عددها الصادر في السادس من شوال سنة1354هـ ، في الأول من يناير سنة 1936م، واستهل فؤاد صروف مجلته بقوله:
هذا العدد من المقتطف يختلف عن كل عدد صادر منذ سنتين إلى يومنا هذا، فهو في موضوع واحد ولكاتب واحد.
وقد اهتدى شاكر في كتابه إلى أشياء كثيرة لم يكتبها أحد من قبله استنتجها من خلال تذوقه لشعر المتنبي:
فقال: بعلوية المتنبي ،
وأنه ليس ولد أحد السقائين بالكوفة كما قيل، بل كان علويا ، نشأ بالكوفة ، وتعلم مع الأشراف في مكاتب العلم ،
وقال: بأن المتنبي كان يحب خولة أخت سيف الدين الحمداني ، واستشهد على ذلك من شعر المتنبي نفسه.
وتم استقبال الكتاب بترحاب شديد ، وكتب عنه مصطفى صادق الرافعي مقالة رائعة أثنى بها عليه ، وعلى مؤلفه.
وكان هذا الكتاب فتحا جديدا في الدرس الأدبي ، وتحديا لأدباء العصر، فكتب بعده عبد الوهاب عزام كتابه "المتنبي في ألف عام"، وطه حسين "مع المتنبي".
وقد اتهمهما الأستاذ محمود محمد شاكر بأنهما احتذيا منهجه ، احتذاءً تاماً ، حذوة للقذة للقذة ، وقد سطيا بوضوح تام على بعض آرائه ، دون استحياء ، ولا خجل ، وهاجم محمود محمد شاكر ما كتبه طه حسين في سلسلة مقالات بلغت (12) مقالا في جريدة البلاغ تحت عنوان: "بيني وبين طه حسين".
العلامة محمود محمد شاكر أصبح قبلة للأدباء والعلماء ، وبيته قبلة للمسلمين شرقاً وغرباً يحجون إليه طلباً للبحث والمعرفة:
كانت فترة الخمسينيات فترة مشهودة في حياة محمود محمد شاكر، فقد ترسخت مكانته العلمية وعرف الناس قدره، وبدأت أجيال من الدارسين للأدب والتراث العربي والإسلامي من أماكن مختلفة من العالم العربي والإسلامي يفدون إلى بيته ، يأخذون عنه ، ويفيدون من علمه ومكتبته الغنية الحافلة، من أمثال: ناصر الدين الأسد وإحسان عباس، وأحمد راتب النفاخ ، وشاكر الفحام ، وإبراهيم شبوح ، وغيرهم كثير لا يحصون عداً.
فضلا عن كثير من أعلام الفكر الذي كانوا يحرصون على حضور ندوته الأسبوعية كل يوم جمعة عقب صلاة المغرب ، مثل فتحي رضوان ويحيى حقي ، ومحمود حسن إسماعيل، ومالك بن نبي ، وأحمد حسن الباقوري ، وعلال الفاسي ، وعبد الرحمن بدوي ، وعبد الله الطيب........................................
وشهدت هذه الندوة الدروس الأسبوعية التي كان يلقيها محمود محمد شاكر على الحاضرين في شرح القصائد الشعرية التي تضمنها كتاب الأصمعيات (وهو اختيارات شعرية مطولة لعبد الملك بن قريب الأصمعي) ، وقد انتفع بهذه الدروس كثيرون.
وكان الأديب الكبير يحيى حقي يعلن في كل مناسبة: أن محمود محمد شاكر هو أستاذه الذي علمه العربية ، وأوقفه على بلاغتها ، وأن ترجمات كتب مالك بن نبي خرجت من بيت شاكر، فقد قام أحد أفراد ندوته وترجمها إلى العربية وهو الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين ، وكان آنذاك شابا صغيرا في بداية مشواره العلمي.
وفي ندواته الفكرية في بيته كان يعارض رئيس الجمهورية جمال عبد الناصر علانية ، ويسخر من رجالات الثورة ، ويستنكر ما يحدث للأبرياء في السجون من تعذيب وإيذاء ، وكان يفعل ذلك أمام زواره ، ومن بينهم من يشغل منصب الوزارة ، كالشيخ أحمد حسن الباقوري ، وزير الأوقاف آنذاك ، ونتيجة لذلك لم يسلم شاكر من بطش السلطة ، فألقت القبض عليه سنة 1959م ، وبقي رهن السجن تسعة أشهر ، حتى تدخلت شخصيات عربية، فأفرج عنه وعاد لمواصلة نشاطه في تحقيق كتاب: (تفسير الطبري) الذي بدأ في نشره من قبل ، وانتظمت ندوته مرة أخرى.
ومما هو جدير بالذكر أن تفسير الطبري من أهم التفاسير في المكتبة العربية والإسلامية ؛ لأن محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 هـ ، يعد شيخ المحققين والمفسرين.
ومما يؤسف له أن الشيخ العلامة محمود محمد شاكر لم يتم هذا التفسير ، حيث توقف فيه عند الجزء السادس عشر ، وهو المطبوع منه ، حتى الآن ، ولو تم هذا الكتاب لعد معلمة هامة في التفسير ، وعلوم القرآن.
بركانه: كتاب أباطيل وأسمار
ودفاعه عن العروبة والإسلام ، أمام الصليبية والتبشير:
وظل محمود محمد شاكر في عزلته الاختيارية بين كتبه وتلاميذه ومحبيه، لا يشارك في الساحة الفكرية بمقالاته ، وآرائه ، حتى بدأ لويس عوض في نشر سلسلة مقالات له في جريدة الأهرام سنة 1964م ، تحت عنوان "على هامش الغفران" ، ويقصد بذلك: كتاب رسالة الغفران ، لأبي العلاء المعري ، الشاعر العباسي الشامي ، رهين المحبسين ، شاعر الفلاسفة ، وفيلسوف العلماء.
وكان الكاتب لويس عوض قد لمع نجمه بعد تعيينه مستشارا ثقافيا لجريدة الأهرام، وأصبح مهيمنا على أمور الثقافة في مصر ، وصار له حواريون وسدنة يبشرون بآرائه.
وقد أثارت مقالات لويس عوض موجة من الشغب بين أوساط كثير من المثقفين ؛ لما فيها من تحامل على الشاعر أبي العلاء المعري، ولم يجرؤ أحد على الرد على هذا الدعي سوى الأستاذ محمود محمد شاكر ، الذي خرج من عزلته ، وانبرى للويس عوض في سلسلة من المقالات المبهرة في مجلة الرسالة ، كشفت عما في مقالات لويس عوض من الوهم والخلط التاريخي والتحريف في الاستشهاد بشعر أبي العلاء المعري، وعدم تمحيص الروايات التاريخية، والادعاء بتلقي المعري علوم اليونان على يد أحد الرهبان.
وكانت مقالات محمود محمد شاكر التي ظهرت تباعا حدثا ثقافيا مدويا كشفت عن علم غزير ومعرفة واسعة بالشعر وغيره من الثقافة العربية، وقدرة باهرة على المحاجاة والبرهان، ولم تقف هذه المقالات التي بلغت ثلاثا وعشرين مقالة عند حدود الرد على كلام لويس عوض، بل انتقلت إلى الحديث عن الثقافة والفكر في العالم العربي والإسلامي، وما طرأ عليها من غزو فكري ولا سيما حركة التبشير التي غزت العالم الإسلامي.
وتدخل الناقد الكبير الأستاذ محمد مندور عند محمود محمد شاكر ؛ ليوقف مقالاته هذه لكن دون جدوى، وأصاب لويس عوض الذعر والهلع من مقالات محمود محمد شاكر التي فضحته بين أوساط المثقفين، وكشفت عن ضعف ثقافته حتى في تخصصه في الأدب الإنجليزي ، حين كشف محمود محمد شاكر عن فساد ترجمته العربية لمسرحية الضفادع لأرسطوفان، وراح لويس عوض يطوف على المجلات والصحف يستنصرهم ويستصرخهم بصليبيته القذرة ، ضد محمود محمد شاكر ، ويزعم أن المعركة بينهما معركة دينية ، ولم يتوقف محمود محمد شاكر عند كتابة مقالاته ، حتى أغلقت مجلة الرسالة نفسها ، وألقي به في غياهب السجن سنتين وأربعة أشهر ، من آخر شهر أغسطس سنة 1965م ، حتى آخر شهر ديسمبر سنة 1967م.
وقد جمعت هذه المقالات في كتابه "أباطيل وأسمار" الذي يعد من أهم الكتب التي ظهرت في المكتبة العربية في النصف الأخير من القرن العشرين.
ومما هو جدير بالذكر: أن كتابات محمود محمد شاكر ، يجب ، وأقول يجب ، على كل غيور على العروبة والإسلام أن يقرأها ، وهي ليست كتابات أدبية ، بل هي كتابات إسلامية ، بكل معنى الكلمة.
معارك فكرية أخرى:
وبعد خروجه من السجن هذه المرة عاد إلى ما كان عليه من قبل، فكتب في مجلة "المجلة"سبع مقالات إضافية تحت عنوان "نمط صعب، نمط مخيف" استجابة لصديقه الأديب يحيى حقي، حين أشاد بترجمة الشاعر الألماني "جوته" لقصيدة من قصائد الشاعر الجاهلي "تأبط شرا".
وتساءل حول الترتيب الذي اقترحه الشاعر الألماني حين ترجم القصيدة إلى الألمانية، وحول الشعر القديم وروايته وافتقاد القصيدة العربية إلى الوحدة.
وقد اقتضت الإجابة حول هذه الأسئلة تشعبا في الكلام، وامتدادا في أطرافه بلغ (400 صفحة) حين جمع المقالات في كتاب، وقد تخلل ذلك نقد محكم للدكتور عبد الغفار مكاوي حين أعاد ترجمة قصيدة جوته إلى العربية، ودارت بينهما معركة قصيرة حول هذه الترجمة التي اتهمها محمود محمد شاكر بالركاكة والسقم.
ثم دارت معركة أخرى بينه ، وبين الباحث العراقي الدكتور علي جواد الطاهر حول تحقيقه كتاب "طبقات فحول الشعراء" لابن سلام الجمحي.
وتولد عن ذلك كتابه "برنامج طبقات فحول الشعراء".
منهجه في تحقيق كتب التراث العربي:
يعد محمود محمد شاكر على رأس قائمة محققي كتب التراث العربي ، وأطلق عليه عباس محمود العقاد: المحقق الفنان.
وإنجازاته في هذا المجال كثيرة، وهي عنوان على الدقة والإتقان، ومن أشهر الكتب التي حققها:
- تفسير الطبري (16 جزءا) ، ولم يتم ، وكان من المنتظر أن يتم في ثلاثين مجلداً.
- طبقات فحول الشعراء ، لابن سلام الجمحي(مجلدان).
- تهذيب الآثار ، لابن جرير الطبري (6 مجلدات).
- جمهرة أنساب قريش ، للزبير بن بكار.
- إمتاع الأسماع ، للمقريزي.
- أسرار البلاغة ، لعبد القاهر الجرجاني.
- دلائل الإعجاز ، لعبد القاهر الجرجاني.
- المكافئة وحسن العقبى ، لابن الداية.
- فضل العطاء على اليسر ، لأبي هلال العسكري.
ومن أشهر الكتب التي ألفها:
- المتنبي
- أباطيل وأسمار .
- رسالة في الطريق إلى ثقافتنا.
- برنامج طبقات فحول الشعراء.
- القوس العذراء (وهي قصيدة طويلة).
- نمط صعب ونمط مخيف.
- قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام الجمحي.
- وقد جمع صديقي وأخي الدكتور عادل سليمان جمال ، مجموع مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر في مجلدين ، تحت اسم:
جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر وجاءت في (1274) صفحة ، من الحجم الكبير ، وهو كتاب جدير بالقراءة.
وفيه مقدمة ضافية عن أستاذنا الكبير نحو 40 صفحة ، وهي عبارة عن مذكرات للمؤلف عن أستاذه الشيخ العلامة.....................................الناشر مكتبة الخانجي بالقاهرة سنة 2003م.
و محمود محمد شاكر لا يحب أن يوصف بأنه محقق لنصوص التراث العربي، وإنما يحب أن يوصف بأنه قارئ وشارح لها ، وهو يكتب على أغلفة الكتب التي يقوم بتحقيقها عبارة: "قرأه وشرحه" ، وهذه العبارة كما يقول الدكتور محمود الربيعي: "هي الحد الفاصل بين طبيعة عمله ، وطبيعة عمل غيره من شيوخ المحققين ، إنه يوجه النص ويبين معناه بنوع من التوجيه ، أو القراءة التي تجعله محررا ؛ لأنها قراءة ترفدها خبرة نوعية عميقة بطريقة الكتابة العربية ، وهو إذا مال بالقراءة ناحية معينة أتى شرحه مقاربا، وضبطه مقنعا، وأفق فهمه واسعا، فخلع على النص بعض نفسه وأصبح كأنه صاحبه ومبدعه".
أخلاقه وزهده وورعه:
لم يكن محمود محمد شاكر في يوم من الأيام موظفا يمد يده نهاية كل شهر إلى مرتب ينتظره ، فتكون للحكومة كلمة نافذة في رزقه ومكانته، بل انقطع لعلمه ، وفكره ، ومكتبته العامرة ، وبحثه ، ودرسه ، وزملائه ، وتلاميذه ، كالراهب الذي انقطع للعبادة في صومعته.
وعاش على أقل القليل يكفيه ، ويسد حاجته ، ومرت عليه سنوات عجاف لكنه لم ينحن أو يميل على الرغم من أن بيته كان مفتوحا لتلاميذه ، وأصدقائه ، وعارفي فضله.
ولم يكن له من مورد سوى عائده من كتبه التي كان يقوم بتحقيقها، وكان اسمه على صدرها يضمن لها النجاح والرواج، ولم يكن يأخذ شيئا على مقالاته التي يكتبها، فأعاد لمجلة العربي الكويتية سنة 1982م مائة وخمسين دولارا نظير مقالة كتبها ردا على الكاتب اليمني عبد العزيز المقالح حول طه حسين، ورفض أن يتسلم من دار الهلال مكافأته عن تأليفه كتابه المهم "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا".
ولأنه كان يشعر أنه صاحب رسالة فإنه كان ينتفض حين يرى انتهاك حرمة من حرمات اللغة العربية فيقف مدافعا عنها بكل ما يملك من أدوات علمية وفكرية، تجعل الخصم يسلم بما يقول ، أو يلوي هاربا.
ومعاركه كلها جمعت في كتب ، وصارت وثائق في تاريخنا الفكري الحديث ، كتبها هو من موقع المدافع ، والحارس لثقافة الأمة ، ولولا خصومه لما ظهرت معظم مؤلفاته ؛ لأنها كانت استجابة لتحديات عظيمة ، وهي تظهر عظمة شاكر ؛ لأنه لم يحتشد لها مثلما يحتشد المؤلفون عند تأليف كتبهم ، وإنما دخلها كارها مستندا إلى ثقافة واسعة ، وعلم غزير ، وفكر ثاقب ، وروح وثابة ، فأتى بالعجب العجاب.
وفي أخريات عمره رد له بعض الاعتبار ، فنال جائزة الدولة التقديرية في الأدب سنة 1981م.
ثم جائزة الملك فيصل في الأدب العربي عام 1984م.
وفي أثناء ذلك اختير عضوا في مجمع اللغة العربية بدمشق ، ثم بالقاهرة.
وبعد رحلة حياة عريضة رحل أبو فهر شيخ العربية وإمام المحققين في الساعة
الخامسة من عصر الخميس الموافق 3 من ربيع الآخر 1418هـ= 6 من (آب) أغسطس (1997م) ، ولبى نداء ربه..
رحمه الله ، وأسكنه فسيح جنانه ، لما قدمه من خير للغة كتابه ، ودفاعاً عن حياض الإسلام أمام المعتدين من الحاقدين والمبشرين وغيرهم.
وأخيراً وليس آخراً:
يعد الأستاذ العلامة الكبير محمود محمد شاكر:
ظاهرة فريدة في الأدب والثقافة العربية الحديثة، فهو كاتب له طريقته الخاصة لا تبارى أو تحاكى، وشاعر مبدع حقق في الإبداع الشعري ما بلغ ذروته في قصيدته "القوس العذراء" ، ومحقق بارع لكتب التراث العربي والإسلامي ، قادر على فك رموزها وقراءة طلاسمها ، ومفكر متوهج العقل ينقض أعتى المسلمات، ومثقف واسع الاطلاع في صدره أطراف الثقافة العربية كلها فكانت عنده كتابا واحدا.
غير أن العلامة الشيخ محمود محمد شاكر ظل سنوات طويلة في عزلة اختارها لنفسه، يقرأ ويدرس ويصدح في واحته الظليلة، لا يسمع غناءه إلا المقربون منه من تلامذته ومحبيه تاركا الدنيا ببريقها وأضوائها وراء ظهره، ولم يخرج من واحته إلا شاكي السلاح ، مستجيبا لدعوة الحق ، حين يشعر بأن ثقافة أمته يتهددها الخطر ، فيقصم بقلمه الباتر زيف الباطل، ويكشف عورات الجهلاء المستترين وراء الألقاب الخادعة؛ ولذلك جاءت معظم مؤلفاته استجابة لتحديات شكلت خطرا على الثقافة العربية.
ولم يجد الزمان بمثله إلا في ديار الشام ، وهو أستاذنا وشيخنا علامة الديار الشامية ، وخليفة علامة الديار المصرية الشيخ الفاضل أحمد راتب النفاخ ، والذي كان يقول عنه الأستاذ محمود محمد شاكر في كتبه ، عندما يذكره:
تلميذي وشيخي وأستاذي بعد ذلك أحمد راتب النفاخ.
---------
المصدر : منتديات الجمعية الدولية للمترجمين العرب :
http://www.arabswata.org/forums/showthread.php?t=634
The world is yours – Neue Sneaker, Apparel und mehr für Kids