من الورقيّ إلى الحاسوبيّ : قراءة تحليلية في كتاب " نون والقلم" لمحمود الشافعيّ
تشهد الدوائر العلمية والأكاديمية في معظم أرجاء العالم إقبالاً منقطع النظير على تعلم اللغة العربية والثقافة الإسلامية. وتمثلت مظاهر هذا الإقبال بافتتاح أقسام للغة العربية، وإنفاذ البعثات الدراسية للعالم العربي، وعقد الاتفاقات للتبادل الثقافي. ومهما تكن أهداف هؤلاء المتعلمين فإن إقبالهم على تعليم العربية والثقافة الإسلامية يزيد من قيمة العربية وأهميتها، فيصير تعليم العربية ونشرها في العالم قضية لا تقل عن أهمية تعريب الحاسوب وتعريب التعليم والنشر الإلكتروني بالعربية؛ وإنما ينبع ذلك كله من أن العربية هي أساس متين للثقافة العربية والإسلامية، وتراثها الثقافي والديني والعلمي، وهي المعجم الذي نفيء إليه لتفسير مفردات تاريخنا الثقافي والحضاري.
وفي هذه الظروف تواجه العربية تحدياً كبيراً؛ إذ إن تعليمها هو المدخل الرئيسي الذي تُقَدَّمُ به حضارتنا وثقافتنا، وهي وسيلتنا لإطلاع الآخر على حقيقة هذه الحضارة، ودحض الأفكار الزائفة التي يروجها أعداء العرب والمسلمين. ولذلك كله علينا استثمار إقبال " الآخر" على تعلم لغتنا؛ لاستمالتهم ولفتِ انتباههم إلى حقيقة الإسلام، وبيان قضايانا الأساسية في صورتها الحقيقية الواقعية لا كما يرسمها الآخرون.
ولعل الأردن يكون أكثر البلاد العربية استقطاباً للراغبين في تعلم العربية من الناطقين بغيرها؛ وإنما يحفز هؤلاءِ على انتقاء الأردن ما يتمتع به من استقرار أمني واقتصادي، وما يتميز به الناس هنا من كرم الضيافة وحسن الوفادة، وهي عوامل مهمة جداً تجعل مهمة المتعلمين الأجانب سهلة وميسرة؛ إذ يتعاملون مع الناس بلا حرج وبإقبال منقطع النظير.
وهكذا يجيء كتاب " نون والقلم.... مهارات القراءة والكتابة للمبتدئين" لمحمود الشافعي، الباحث الجادّ، لينضاف إلى الجهود السابقة في تعليم العربية للناطقين بغيرها، وليشهد على حركة ناهضة في هذا المجال في الأردن.
ويمثل هذا الكتاب الجزء الاول من سلسلة متكاملة في تعليم العربية يتهيأ الشافعي لإصدارها.
بنية الكتاب :
جاء الكتاب في اثنتي عشرة وحدة دراسية، ومراجعة، ومعجم ثنائي اللغة (عربي وإنجليزي) للكلمات الواردة في الكتاب بالعربية، ومعجم ثنائي آخر للأفعال الواردة في الكتاب. وقد استغرقت الوحدتان الأولى والثانية الفونيمات الرئيسة للعربية: الصوامت والصوائت، واشتملت الوحدة الثالثة على مهارات كتابية وقرائية أخرى كالألف المقصورة والألف الممدودة واللام الشمسية والقمرية والتنوين...إلخ. وأما الوحدات المتبقية فجاءت على هيئة دروس متكاملة تتناول قضايا نحوية وأسلوبية مختلفة، منها: المفرد والمثنى والجمع بأنواعه، وأسماء الإشارة، وياء النسبة، ومفاتيح التواصل والتحاور، والتحايا، وأفراد العائلة، وتصريف الأفعال وإسنادها للضمائر...... إلخ. وقد استند في ترتيبه للدروس على شكل الحرف؛ فجعل تشابه الشكل منهجاً في تقديم الحروف.
المنطلقات المنهجية :
وظاهر أن "الشافعيّ" قد صدر في كتابه عن رؤى لسانية وأخرى لسانية تمزج بين اللسانيات التربوية واللسانيات الاجتماعية؛ فقد انطلق من رؤية كلية لتقديم الحروف / الأصوات، فلم تجئ معزولة إنما جاءت على هيئة كلمات مشفوعة بصور لتعزيز الربط بين المنطوق والمكتوب والصورة النفسية لدلالة الكلمة. ثم ينتقل بعد ذلك إلى السياق الكلي في تقديم المفردات والتراكيب في جمل مفيدة تطول وتقصر إلى أن تنتهي بالنص الكامل، وهو تدرج محسوب يتوافق وبناء المتعلمين النفسي من حيث الاعتماد على إلفه واعتياده للغة العربية.
ويصرف الشافعي جهداً طيباً لتأسيس النظام الصوتي للعربية في نفوس المتعلمين؛ فهو يتجاوز كثيراً من الكتب التي تناولت تعليم أصوات العربية؛ إذ كانت تكتفي بتعليم القضايا العامة في نظام العربية الصوتي، كالفونيمات الرئيسية (الأصوات الصحيحة والحركات) وغيرها. أما الشافعي فإنه لم يكتفِ بالأصوات المفردة حسب؛ بل تجاوزها إلى القوانين الداخلية الناظمة لبنية العربية الصوتية؛ وذلك ماثل في أنه يعرض الصوت الواحد في بيئات صوتية متعددة، ليعرف الطالب بالتغيرات التي تطرأ على صورة الصوت المجردة حين يجيء في سياق كلمة أو يجيء في سياق جملة مكتملة. وهو يركز على مجموعة من القوانين الصوتية التي تتميز بها العربية وتكاد تنفرد بها من غيرها من اللغات، ومعلوم أن مثل هذه الظواهر الصوتية التي تختلف بها العربية عن لغات المتعلمين تمثل صعوبات في تعلم النظام الصوتي للعربية على الوجه المرتضى. ومن أهم القوانين الصوتية التي تناولها:
- الفرق بين الحركات الطويلة والحركات القصيرة. ومعلوم أن هذا الفرق جوهري في العربية وأنه يمثل فونيماً؛ إذ إن الطول مميز في حركات العربية، فثمة فرق كبير بين:
مَطَر و مَطار
و زَيْتٌ و زَيْتون
و مُسافراً و مسافران
و مسافرٍ و مسافرين
ومؤكَّد أن هذا الفرق يمثل مشكلة كبيرة للطلبة الناطقين بالإنجليزية تعييناً؛ لأن الطول في الإنجليزية غير مميز، وتنعكس مثل هذه الأخطاء النطقية كتابة، فيجعل هؤلاءِ الكسرةَ ياءً؛ فيجعلون (طالب)... تاليب!
- الفرق بين ال الشمسية وال القمرية في طريقة النطق حسب؛ ومعلوم أن لام (ال الشمسية) تنقلب حرفاً مماثلاً للحرف الشمسي الذي يليها وفقاً لقانون المماثلة الصوتية، فتصير كلمة ( الدار).... أدَّار.. دون أن تلفظ اللام! وهي ظاهرة اعتنى بها الشافعي في سياق قراءة الكلمات مفردة ومجتمعة في سياق.
- التفريق بين الأصوات المتقاربة جداً في صفاتها أو مخارجها، وقد تشتبه على المتعلم. ومن ذلك: التفريق بين ( س) و (ص)؛ وذلك أنهما صوتان متشابهان إلا في المخرج الثانوي؛ فصوت (ص) صوت مفخم ( لثوي-مطبق) أما (س) فهو لثوي حسب. وهما صوتان يمثلان فونيمين مستقلين في العربية، ولكن متعلمي العربية غالباً ما لا يفرقون بينهما، ولا سيما الناطقون بالإنجليزية الذين يعاملون( س) و(ص) على انهما تنوعان( ألوفونان) لصوت واحد. فلا فرق عندهم بين: سَيْف وصَيْف، و: سار وصار....إلخ. وليس الأمر مقتصراً على هذين الصوتين بل يشمل أيضاً: (د ،ض) و( ت ،ط) و( ذ ،ظ) و ( الهمزة والعين) وغيرها، على اختلاف وجه التشابه.
- تقصير العلة الطويلة قبل (ال) التعريف
- الشدة
- همزة الوصل وهمزة القطع.
أما مهارات الكتابة فقد انطلق فيها من أبسط مستوياتها؛ حيث قدَّم الحرف الواحد مستقلاً في صوره الكتابية المتعددة في جدول دالّ يكون مرجع الطالب لتصحيح الخطأ، ثم قدَّم صوراً متعددة للحرف الواحد في سياق كلمات وظيفية دالة يحتاجها المتعلم، مستعيناً بالمعينات البصرية وتقنيات الطباعة؛ فقد ميّز الحرف المطلوب باللون الأحمر. ولم يقتصر تقديمه للكتابة على مهارات كتابة الحروف حسب، فقد تجاوز ذلك عدد من القضايا التأسيسية في رسم العربية، ومنها:
- الأصوات التي تنطق بلا كتابة؛ كالألف في أسماء الإشارة: هذا وهذه وهؤلاء...إلخ.
- الحروف التي تكتب بلا نطق؛ كألف التفريق التي تلحق الفعل المسند إلى واو الجماعة....إلخ
- كتابة (ال) الشمسية والقمرية.
- كتابة التنوين.
- كتابة الشَّّّدَّة.
- همزة الوصل وهمزة القطع.
...............إلخ
طريقة تقديم المفردات
اتبع المؤلف أساليب متعددة لتعليم المفردات الجديدة؛ ولعل أهم ما يميزها الابتعاد عن الترجمة؛ انسجاماً مع الطريقة المباشرة التي صُمِّمَ الكتاب في جانب كبير منه على أساسها.
ومن أساليبه في تقديم المفردات الجديدة:
1- استخدام الصورة؛ ولا سيما في المعاني المحسوسة غير المجردة التي لا تحتاج إلى عناء كبير لتعرُّفها. وغالباً ما كانت هذه الصور دالَّة دلالة مباشرة على المعنى المراد. وهي المرحلة الأولى. ويبدو أن هناك بعض التكرار في الصور والمفردات، ولعل ذلك كان عن قصد ونيّة؛ أن يبتعد قدر المستطاع عن الترجمة المباشرة.
2- الألعاب اللغوية، وأهمها في هذه المرحلة محاولة معرفة المفردة التي تدل عليها الصورة بتركيب عدد من الحروف.
3- الترادف. وهي مرحلة متقدمة نسبياً في المستوى التأسيسيّ؛ إذ يلجأ إليها الكتاب عندما يكون الطالب قد بنى كفاية معجمية جيدة، فيفسِّر معنى الكلمة بمرادفها، وذلك مثل: طالب وتلميذ، و (أستاذ ومعلم)، و( نافذة وشباك). والقصد من هذه الطريقة إكساب المتعلم مزيداً من الثقة بالنفس، وتشجيعه على التناوب في استعمال المفردات، فإذا ما ضلَّت عنه إحداها استعان بغيرها.
4- التضاد. وهي مرحلة أكثر تقدماً من الترادف؛ لأنها تمثل مستوى أرقى من التفكير يربط بين الكلمتين بعلاقة التضاد، وذلك مثل: طويل وقصير، و( قريب وبعيد)، و(كبير وصغير).....إلخ.
5- الحقول الدلالية. والمقصود بذلك تنظيم عدد من الكلمات في سياق واحد جامع يدل على حقل معرفي محدد، وذلك مثل: الفواكه والخضراوات، ووسائل النقل، والمحالّ التجارية، ووسائل المعرفة: الكتاب والجريدة...إلخ. وغاية القصد من ذلك كلِّه تنمية قدرات المتعلِّم على الربط فكرياً بين المفردات التي تنتمي إلى حقل واحد، ولعل ذلك ينتهي إلى تَبَيُّنِ وجوه الشبه ووجوه الاختلاف بين ثقافته والثقافة العربية من حيث النظر إلى الموجودات.
6- تعرُّف الشواذّ ، والمقصود بالشواذّ هنا الكلمات الخارجة في تصنيفها عن سائر الكلمات في المجموعة نفسها. وتتكامل هذه الطريقة مع طريقة الحقول الدلالية وتنبني عليها؛ وذلك أن قدرة المتعلم على تصنيف المفردات في حقول دلالية تساعده على تَبَيُّن الكلمات الشاذَّة واستبعادها، ومن ذلك مثلاً: تفاح، برتقال، موز، خيار.
7- المعنى السياقي؛ وذلك باستعمال تمرينات تتمة الفراغ، حيث يطلب إلى الطالب ملء الفراغ بكلمة تكتسب دلالة جديدة من السياق.
طريقة الكتاب ومنهجه :
وقد صُمِّم الكتاب وبني ليدرَّس وفقاً للطريقة السمعية الشفوية، وهي طريقة البنيويين، وهي تعتمد على الابتداء بمهارة التحدث وتعزيزها بمهارة الكتابة بالدربة والمران و بناء التمرينات التي تعزز المهارة المطلوب إنجازها. ويبدو واضحاً أنَّ " الشافعيّ" قد صَدَر عن الطريقة المباشرة؛ فلم يتخذ لغة وسيطة لتعليم العربية، وأظهر ما يكون ذلك في الجمل والمفردات، فهو يقدِّم المفردات بأساليب متعددة، فمرة يقدمها بالصورة، ومرة يشرحها بالمرادِف، ومرة يقدمها بضدها.
ولكنه يفسح المجال أيضاً لاستثمار الطريقة التواصلية حين يمارس الطلبة مهارة التحدث واستخدام المفردات الجديدة في جمل وحوارات من واقعهم المعيش، وهو واقع يعيشونه في بلد عربي وباللغة العربية.
وإذا كان الكتاب قد خُصِّص لمهارات القراءة والكتابة فإنه لم يغفل وحدة اللغة وبنيتها المتماسكة، ففي الكتاب من المهارات النحوية والصرفية والأسلوبية و المقامِيَّة ما يكفُلُ للمتعلم تحقيق كفاية تواصلية مناسبة بالعربية.
الإخراج الفني :
أُخرِج الكتاب على هيئة مناسبة للمتعلمين من الناطقين بغير العربية؛ فقد طبع بخط كبير يساعد على تبين الحروف وتفريقها الواحد من الآخر، وبلونين هما الأسود الغامق والأحمر؛ وقد استعين بالأحمر ليكون مُعيناً بَصَرياً دالاً على موطِن الأهمية في الكلمة أو الجملة. أما الصور فجاءت باللونين الأبيض والأسود، ولكنها صور واضحة دالة، ولعل التقصير في إخراج الكتاب ورقياً بألوان و تصاميم متعددة مَرْجِعُه إلى التكلفة المالية الكبيرة التي لا يستطيع شخص واحد أن يتحملها. وجاء غلافه من الورق المُقَوَّى الذي يحفظ له ديمومة واستمرارية مع كثرة الاستعمال. أما في النسخة الإلكترونية فقد احتفظ الكتاب بألوانه المتعددة، وكذلك الصور، ما أضفى عليه جمالاً وجاذبية.
أهمية الكتاب :
ويتميز هذا الكتاب بأنه، غالباً، ما يحيل التعلم إلى عملية ممتعة، فهو يعتمد أسلوب الألعاب اللغوية في تنمية مهارات التفكير بالعربية، وهي الغاية النهائية التي نسعى إلى تحقيقها، وكذلك المتعلم. ومن هذه الألعاب: الكلمات المتقاطعة، وتأليف كلمات من مجموعة من الحروف، وكتابة كلمات تدل على صور معينة.....إلخ.
ثم إن الكتاب يمتاز من سواه بأنه ثمرة لجهد "الشافعي" في جَسْر الفجوة بين " اللسانيّ" و" التربوي" و" الحاسوبي" وهي معادلة صعبة يندر أن تجتمع لشخص واحد، وإنما تمثل ذلك بتهيئة نسخة إلكترونية من الكتاب محفوظة، و بذا يستطيع المتعلم استعماله متى شاء، فهو مادة ممتعة للتعلم الذاتي، وتقويم ذلك التعلم.
ومهما يكن من أمر الكتاب وطريقته ومنهجه الذي بني عليه فإنه يترك هامشاً كبيراً لابتكار المُدَرِّس وإبداعه.
--------------
د. وليد العناتيّ - جامعة البترا
Anati_waleed@hotmail.com