حوار مع أ. د. أبو بكر العزاوي - حاوره : د.حافيظ إسماعيلي علوي

اللغة والمنطق والحجاج - حوار مع الأستاذ الدكتور أبو بكر العزاوي
حاوره : د.حافيظ إسماعيلي علوي - أستاذ وباحث في ابستمولوجيا اللسانيات واللسانيات القطاعية - كلية الآداب والعلوم الإنسانية/أكادير - المملكة المغربية

س: لقد خضعت علاقة المنطق باللغة لمجموعة من المقاربات، سواء عند القدماء أو المحدثين، ما هي أهم هذه المقاربات؟ وماهي خصوصياتها ؟

ج: العلاقة بين المنطق واللغة شائكة ومعقدة، كتب فيها القدماء والمحدثون، ونجد من هؤلاء النحاة والمناطقة والرياضيين والفلاسفة وعلماء اللغة وغيرهم. وعموما هناك ثلاث مقاربات ممكنة لدراسة العلاقات القائمة والموجودة بين المنطق واللغة:
أ- المقاربة الأولى: تتمثل في إعادة تركيب وتكوين الوقائع اللغوية انطلاقا من نسق منطقي محدد، أو من نظرية رياضية معينة، أي في نهاية المطاف اختزال اللغة الطبيعية أيا كانت هذه اللغة، إلى هذا النموذج المنطقي- الرياضي المبني قبلا.ويعارض كثير من الباحثين والدارسين، وعلى رأس هؤلاء أزفالد ديكرو وجان بليز غريز وغيرهم، وجهة النظر هذه التي تمثل برأيهم الخطر الأساسي من التقريب بين اللسانيات والمنطق أو الرياضيات.وهناك من يذهب إلى أن نحو بوررويال (Port Royal ) والأنحاء العامة للقرن 18 تندرج في هذا الإطار؛ أي ضمن هذه المقاربة التي تدعى بالمقاربة الاختزالية (le réductionisme).ويمكن أن نتساءل عما إذا كان هذا الوصف نفسه، أو الحكم، ينطبق على كتاب G.. الذي يحمل عنوان fran-math""، والذي بصف فيه اللغة الفرنسية بمصطلحات وأدوات نظرية المجموعات theorie des Ensembles الرياضية، خاصة وأن ديكرو يوضح الموقف الإختزالي بأمثلة تشبه إلى حد بعيد الوصف المجموعاتي الذي قدمه Van Hout للصفة l\\\\\\\\\\\\\\\'adgectifv épithete. أو القضية الحملية في اللغة الفرنسية.
ويرى كرستيان توراتييC.Touratier . أن مشروع Van Hout سيكون اختزاليا لو تم تقديمه باعتباره نظرية للغة، ولكن الأمر ليس كذلك، فهدف هذا الباحث يتمثل فقط في ترجمة اللغة الطبيعية إلى لغة رياضية أو منطقية، وهذا سيمكن من القيام بتمرينات بيداغوجية جد هامة.
أما المقاربة الاختزالية فإنها تندرج في إطار ما يعرق بالنزعة اللوجستيقية (logicisme).
ومتبنو هذه النزعة يبحثون عن البنيات المنطقية أو عن المنطق (ليكن المنطق الصوري أو الرياضي) في كل شيء، ويفترضون أن كل شيء له تنظيم منطقي. والأخطر في هذا أننا نجد أصحاب الموقف الاختزالي يميزون بين صنفين من أقوال وظواهر اللغات الطبيعية: الأقوال أو الظواهر اللغوية المركزية الأساسية التي تستجيب لضرورات ومقتضيات الفكر المنطقي، والأقوال أو الظواهر اللغوية الهامشية والثانوية التي تعتبر لا منطقية .
ب- المقاربة الثانية: تتعارض مع الموقف الاختزالي، وهي تتمثل في ملاحظة الظواهر اللغوية، ثم البحث انطلاقا من هذه الملاحظات، عن وصف رياضي أو منطقي يكون أكثر كفاية وملاءمة.إن الأمر يتعلق هنا بمشروع واعد ومهم، ولكن من الصعب جدا تحقيقه لأنه لا يعتمد على أي منطق موضوع من قبل.
ج: المقاربة الثالثة: هي نوع من التأليف بين المقاربتين السابقتين.
وتتمثل في الانطلاق من نسق منطقي ما أو من نظرية رياضية محددة، ولكن بدل اختزال اللغة إلى هذه النظرية أو هذا النسق المنطقي، فإننا نقوم بمجموعة من المقارنات والمقابلات بين هذه الأنساق الرياضية المنطقية والمعطيات اللغوية. وهذه المقارنة والمقابلة ستساعدنا كثيرا على اكتشاف منطق اللغة . وهذا الموقف هو أحد الاجتهادات الأصلية في العمل اللغوي الفرنسي أزفالد ديكرو. ونجده بشكل خاص في كتابه "الدليل والمقول la preuve  et le dire المنشور سنة 1973 وفي أبحاث لاحقة.
والمقابلة بين اللغة من جهة والمنطق أو الرياضيات من جهة أخرى لها قيمة استكشافية مهمة ولها فوائد بيداغوجية عديدة .

س: ما المقصود بمنطق اللغة ؟ وماهي أسباب ظهوره؟ وما الأهداف المتوخاة منه ؟
ج: مصطلح "منطق اللغة "(logique du longage) اقترحه ديكرو، في سياق الرد على الباحثين والدارسين الذين كانو يبحثون عن المنطق في اللغة، سواء أكان هذا المنطق الأرسطي أم المنطق التألفي أم منطق المحمولات أم غير ذلك . وهذا المصطلح غير محدد بدقة، وله معنى واسع .والذي دفع إلى اقتراح هذا المصطلح، أو إلى البحث عن منطق للغة هو وجود علاقات لغوية قابلة لأن توصف وصفا نسقيا بحيث يكون أحد حدودها قولا معينا، ويكون الحد (terme ) الآخر إما قولا وإما مقاما خطابيا. فالمقارنات اللغوية المنطقية المتعلقة بالنفي والشرط والروابط، وما أدت إليه بخصوص تمييز الظواهر اللغوية عن الظواهر المنطقية تندرج في هذا الإطار، ويمكن اعتبار الحجاج اللغوي جانبا أساسيا من جوانب منطق اللغة.ويمكن كذلك اقتراح صياغات أخرى لهذا المنطق.وعموما فإن منطق اللغة هو القواعد الداخلية للخطاب التي تحكم تسلسله وتناميه، وتحكم توالي الأقوال وتتاليها.

س: هل للغة الطبيعية وظيفة منطقية ؟ وما هي أهم تجلياتها إن وجدت ؟
ج: إن الذي نرفضه هو أن تكون للغة بنية منطقية، وأن يكون المقصود بكلمة المنطق هنا هو المنطق الرمزي أو المنطق الصوري، أما أن تكون للغة الطبيعية- من بين وظائفها العديدة- وظيفة منطقية، فهذا ليس محل خلاف .نعم اللغة لها وظيفة منطقية، ولكنها ليست الوظيفة الوحيدة للغة، وليست كذلك الوظيفة الأساسية للغة (إن كانت هناك وظيفة أساسية للغة).
وتتجلى هذه الوظيفة في عدة أمور منها :
نجد بين بعض أقوال اللغة العادية علاقات استدلالية، بحيث إن قبول بعضها يلزم عنه قبول بعضها الآخر، فإذا اعتبرنا القول التالي:( بعض الأشرار أشخاص ) قولا صادقا، فلا بد من قبول ( بعض الأشخاص أشرار )، ولابد من اعتباره قولا صادقا أيضا.وإذا أثبتنا عبارة من قبيل:( السماء غائمة ) فلا بد من قبول النتيجة التي تستنتج منها وهي احتمال نزول المطر.وكثير من هذه العلاقات - كما أشار إلى ذلك ديكرو- مستقل عن العالم الخارجي .
هناك مجموعة من الأقوال التي تقدم باعتبارها إثباتات قابلة للتقييم، وقابلة لأن نحكم عليها بالصدق والكذب، وقابلة بالتالي لأن يبرهن عليها .

س: معلوم أن اللسانيات انفتحت على علوم معرفية عديدة منها المنطق، ما هي أوجه العلاقة القائمة بين هذين العلمين؟
ج: لقد تشكل داخل المنطق، منذ مدة طويلة تزيد على نصف قرن ،علم جديد يعنى بدراسة الأنساق الصورية، وقد أدى هذا العلم أو هذا الفرع من فروع المعرفة إلى تطوير المنطق، وإلى تطوير اللسانيات، وغيرها من العلوم.والحقيقة أن اللسانيات استفادت كثيرا من المنطق والرياضيات، واستفاد المنطق بدوره من اللسانيات، وتطورت العلاقات اللسانية المنطقية وتعمقت واتسع البحث فيها وتطور بشكل كبير.
فإلى جانب اللسانيين والمناطقة، وجدنا المناطقة اللسانيين أمثال ريشارمونتغيوR.Montague وبريور rior P ووجدنا اللسانيين المناطقة أمثال جورج لايكوف مكاولي Macawley وغيرهما .
وإذا كانت وظائف المنطق الأساسية تتمثل في وظيفتين اثنتين هما:
- وظيفة الصورية la formalisation والوظيفة الاستكشافيةla fonction heuristique، فإن استفادة اللسانيين من المنطق تتجلى في هذين المستويين. فقد أصبحت النظرية اللسانية مع التوليديين وخصوصا مع تشومسكي تقدم على شكل نماذج منطقية وأنساق صورية.وقد أدى هذا إلى تطور الدرس اللساني بشكل كبير وواضح في العقود الأخيرة. فالنمذجة أو الصورية أو الترييض مسألة ضرورية وحتمية. فالفرضية العلمية لا يمكن اختبارها والتحقق من صحتها أو بطلانها إلا إذا صيغت صياغة واضحة، أي صياغة رمزية صورية. والصورية قد تكون بأدوات المنطق وأدوات الرياضيات كما هو معلوم. ولقد استفاد المنطق من اللسانيات، فتكاثرت النماذج والأنساق المنطقية، وأصبح لكل ظاهرة منطقها أو نماذجها المنطقية.

س: هل اللغات أنساق منطقية ؟

ج: هناك من يستعمل هذه العبارة التي مفادها أن اللغات أنساق منطقية، ولا مانع من استعمالها، بل هي عبارة صحيحة ومقبولة بوجه من الوجوه وبمعنى من المعاني. فإذا قلنا إن اللغات أنساق منطقية، فلا يعني هذا أنها مماثلة ومشابهة لأنساق المنطق الرياضي الرمزي أو لأنساق الرياضيات الحديثة، فثمة فرق كبير وشاسع بينها من حيث الطبيعة والوظيفة والمجال، ومن حيث الوسائل والأدوات وكيفيات الاشتغال .
فخصائص اللغات الطبيعية مختلفة كل الاختلاف عن خصائص اللغات الصورية الاصطناعية.قد يكون المقصود من العبارة السابقة أن اللغة الطبيعية لها منطقها الخاص، وهو منطق اللغة بحسب ديكرو، أو هو هذا النموذج أو ذاك من نماذج المنطق الطبيعي التي اقترحها جان بليز غريز أو جورج لايكوف أو غيرهما .
طبعا نستعمل هنا وهناك مصطلح اللغة. واللغة- أيا كانت طبيعتها، طبيعية أو اصطناعية- تتكون من أبجدية ومن مجموعة قواعد تضبط عملية التأليف بين حروف هذه الأبجدية.
فاللغات الطبيعية والاصطناعية، بهذا المعنى، هي أنساق منطقية صورية، والاختلاف بين هذين النمطين من اللغات هو الاختلاف القائم بين ماهو طبيعي  le naturle
وما هو اصطناعي (l’artifisiel).

س: من العبارات المتداولة بكثرة مفهوم المنطق الطبيعي ونماذجه، ما المقصود بها؟
ج: مصطلح المنطق الطبيعي logique naturelle يطلق على عدد من النماذج التي قام بوضعها المناطقة أو اللسانيون أو علماء النفس، والتي كان الهدف منها أن تكون ملائمة للخطاب الطبيعي أو اللغات الطبيعية.ويمكن أن نذكر من هذه النماذج الأعمال التالية:
- نموذج جورج لايكوف G.Lakoff : أورد هذا اللغوي مصطلح "المنطق الطبيعي" في مقاله الشهير الذي يحمل عنوان"اللسانيات والمنطق الطبيعي".ويتمثل هذا العمل أو هذا المشروع في محاولة وصف "الصورة المنطقية للجمل"في لغة معينة، ويكون الهدف إذ ذاك هو :"التعبير عن كل المفاهيم القابلة لأن يعبر عنها في اللغة الطبيعية، وتخصيص كل الاستدلالات الصحيحة التي يمكن أن تنجز داخل اللغة الطبيعية، بشكل يتلاءم مع وصف لساني كاف لكل اللغات الطبيعية".ويستعمل لايكوف أحيانا مصطلحات منطق المحمولات الكلاسيكي، وقد يستعمل أحيانا مصطلحات دلالة النماذج أو دلالة العوالم الممكنة لمعالجة الظواهر المفهومية مثل الاعتقاد أو الظواهر السياقية.وتمتزج هنا مهام النحو بمهام المنطق، فالمنطق، بالنسبة إلى هذا اللغوي، مجرد نحو اصطناعي يسند دورا أساسيا لدوال الصدق.
- نموذج لورنزن P.Lorenzen :إذا كان لايكوف يسعى إلى تأسيس البنيات الدلالية للغات الطبيعية انطلاقا من البنيات المنطقية، أي بنيات الخطاب الصادق vérdictif ، فإن مشروع المنطقي الألماني لورنزن يتمثل في بناء البنيات المنطقية وتأسيسها انطلاقا من قواعد الجدل الحجاجي، أي القواعد التي لا علاقة لها بمفهومي الصدق والكذب.
وفي هذا الإطار، فإن التلفظ بقول ما باعتباره صادقا، ليس معناه أن نسند إليه قيمة صدقية خارجية، ولكن معناه أن نلتفظ به داخل حوار ما.
ويتعلق الأمر هنا بتصور إجرائي للمنطق، بحيث إن مصطلح الاستدلال لم يعد معناه الاستنباط ولكنه أصبح يعني قبول أو رفض الإثباتات. لقد أصبح مصطلح المنطق الطبيعي، مع لورنزن، أكثر غنى، وأصبح مرتبطا بالنشاط الإنساني.
- نموذج جان بليز غريز G.B.Grize :والمنطق الطبيعي عنده " نسق من العمليات الذهنية التي تمكن فاعلا- متكلما، يوجد في سياق ما، من اقتراح تمثيلاته على مستمع ما، بواسطة الخطاب" ويتسم هذا المنطق بسمتين أساسيتين هما:
إنه منطق للذوات المتكلمة ( logique de sujets )
إنه منطق للموضوعات logique des objets) )
وبعبارة أخرى، فإن هذا المنطق يتمثل في مجموعة من العمليات المنطقية الخطابية التي تمكننا من توليد الخطاطات والتمثيلات وإنتاجها.
نموذج جان بياجي G.Piaget : وهذا الباحث يستعمل مصطلح المنطق الإجرائي logique operatoire كثيرا، ولكن مدلوله ومحتواه هو مدلول مصطلح المنطق الطبيعي.
ويذهب هذا الباحث إلى أن كل أشكال الفكر طبيعية، بما في ذلك النماذج والأنساق الصورية المنطقية.
ويمكن اعتبار نظرية الحجاج في اللغة التي اقترحها الفرنسي أزفالد ديكرو، منطقا طبيعيا، لأنها تندرج فيما أسماه "منطق اللغة"؛أي منطق الخطاب الطبيعي واللغات الطبيعية .

س: نجد مواقف عديدة بخصوص المقارنة بين اللغات الطبيعية واللغات الاصطناعية. ما هي الأسس التي تنطلق منها هذه المقاربات؟
ج: نعم، هناك من يميز بين اللغات الطبيعية وللغات، ويقول باختلافهما وتباينهما.وهناك من الباحثين المناطقة والفلاسفة من يرى عكس ذلك، أي أنه يقول بتماثل هذين النمطين من اللغات .
الموقف الأول: نجده عند كثير من المناطقة واللغويين، وفي مقدمتهم جان بليز غريز وأزفالد ديكرو .وهذا الموقف الذي نتبناه نحن أيضا وندافع عنه، ويؤكده ما أشرنا إليه سابقا بخصوص خصائص كل من اللغات الطبيعية واللغات الاصطناعية .
أما الموقف الثاني: فنجده مثلا عند المنطقي الشهير ريشار مونتغيو R.Montague  ونجده في كثير من أبحاثه التي جمعت بعد وفاته في كتاب بعنوان :"الفلسفة الصورية". فهذا الباحت يقول بعدم وجمد اختلافات نظرية مهمة بين اللغات الطبيعية واللغات الاصطناعية. وقد نفهم هذا الكلام بمعنيين:إما أن هذين النمطين من اللغات لهما خصائص متشابهة ومتماثلة، وإما أنه يمكن أن ندرسهما بالأدوات نفسها، أي بطريقة واحدة.ولكن أغلب الباحثين يميلون إلى تبني الموقف الأول.

س: ما الفرق إذن، بين اللغات الطبيعية واللغات الاصطناعية ؟
ج: اللغات الطبيعية لها خصائصها، واللغات الاصطناعية الصورية لها خصائصها أيضا ولكل نمط من هذين خصوصيته وتميزه. فاللغات الطبيعية لغات ملتبسة استعارية مجازية، تتسم بالتناقض والتعارض والإضمار والاشتراك والتعدد الدلالي والغموض بمختلف أنواعه، بل إن هذه الأمور خصائص جوهرية أساسية للسان الطبيعي، أما اللغات الاصطناعية فتقوم على مبادئ تتعلق بالوضوح والدقة وأحادية الدلالة. ويمكن أن نصوغ هذا بشكل أدق، فنقول: إن اللغات الطبيعية تقوم على مجموعة من المسلمات نوردها كالآتي:
أ- مسلمة الحوار: كل خطاب حوار كما يقول جان بليز غريز، وكل فعل كلامي هو حوار بين شخصين (المتكلم والمخاطب).وينطبق هذا على كل أشكال الخطاب وأنماطه.
ب- مسلمة المركب الثقافي القبلي le preconstruit culturel : فاللغة الطبيعية ظاهرة ثقافية اجتماعية، ولهذا فإن الكلمة الواحدة تختلف معانيها باختلاف الشعوب والمجتمعات والثقافات .
ج- مسلمة السياق: كل حوار يجري في سياق معين، وهو ما يفتح المجال للإضمار والتضمين واستعمال العبارات الإشارية.
د- مسلمة إنشاء الموضوع : فالحوار يبني موضوعاته بشكل متنام وتدريجي، ولا تكون الموضوعات المعالجة محددة بشكل تام إلا عندما نصل إلى نهاية الحوار- الخطاب.
هـ- يمكن استعمالها بمثابة ميتالغة metalangue بالنسبة إلى اللغات الصورية .
أما اللغات الاصطناعية فإنها موضوعة لتلبية الحاجات والضرورات العلمية .
تعيد صياغة المعارف والمعلومات .
مجرد وسيلة للحساب (وهو يمكن أن تقوم به الآلة) كل شيء فيها واضح، وله طابع مغلق.
الموضوعات المرتبطة بها إما فارغة (أي تحصيل حاصل) وإما محددة بشكل كلي منذ البداية.
بخلاف اللغات الطبيعية التي هي وسيلة للحوار.ووسيلة لإبداع المعارف وتمثيلها، والتي يتم إنشاء موضوعاتها أثناء الحوار وداخل السياق.

س: يتداخل مصطلح الحجاج مع مصطلحات أخرى، خصوصا عند غير المختص، ومن ذلك تداخله مع البرهنة والاستدلال.ما هي حدود الوصل أو الفصل بين هذه المصطلحات؟
ج: أشير هنا إلى أن أغلب الدراسات والبحوث التي لها صلة بهذا الموضوع، كانت تميز الحجاج من البرهنة، وتبين التعارض القائم بينهما.فمجال الحجاج هو المحتمل وغير المؤكد والمتوقع... فأرسطو، على سبيل المثال، في دراسته لأصناف المقدمات، كان يؤكد فكرة تعارض الاستنتاج البرهاني الذي ينطلق من الإثباتات الصادقة مع الاستنتاج الجدلي الذي ينطلق من أفكار وآراء مقبولة فقط، ثم إن البرهنة مجالها هو المنطق أو اللغات الاصطناعية الرمزية بشكل عام، ومجال الحجاج هو الخطاب واللغات الطبيعية .
ولمزيد من التوضيح، نأخذ الاستدلال التالي:
كل إنسان فانٍ
زيدٌ إنسان
زيدٌ فانٍ
إن النتيجة التي يؤدي إليها هذا الاستدلال نتيجة حتمية ضرورية، لأن الأمر يتعلق هنا ببرهنة أو باستدلال منطقي صوري، أو بعبارة أدق بقياس منطقي ( syllogisme ) أما إذا أخذنا استدلالات أخرى من قبيل:
- الجو غائم، سينزل المطر.
- زيد مجتهد، إذن سينجح في الامتحان .
فسنجد أنها تندرج في الحجاج أو الاستدلال الطبيعي.والنتيجة الواردة في هذين المثالين، نتيجة احتمالية.ووجود الغيوم في السماء شرط كاف فقط (condition suffisante) لتحقق النتيجة (نزول المطر) ولا يمكن اعتباره شرطا ضروريا (condition nécessaire)، والشيء نفسه بالنسبة إلى المثال الثاني، فالاجتهاد غالبا ما يؤدي إلى النجاح، ولكنه ليس شرطا ضروريا وكافيا، والنتيجة هنا متوقعة ومحتملة فقط. وقد يكون الاحتمال قويا أو ضعيفا بحسب قوة الحجة أو ضعفها. فكم من مجتهد خانه الحظ أو أفرط في الاجتهاد والعمل فأصيب بالعياء والإرهاق فرسب في الامتحان، وكم من متقاعس أسعفه الحظ فنجح، ومع ذلك فإننا نعتبر ونسلم بأن الاجتهاد يؤدي إلى النجاح ، وهو قاعدة عامة مطردة تنطبق في جل الحالات .
أما النتيجة الواردة في القياس المنطقي السالف الذكر فإنها حتمية ضرورية، وكون زيد إنسانا شرط ضروري وكاف لتحقق النتيجة (زيد فان )، والعلاقة بين القضيتين هي علاقة لزوم أو استلزام منطقي.
فالخطاب الطبيعي إذن، ليس خطابا برهانيا، وبالتالي لا يحترم مبادئ الاستنتاج المنطقي أو البرهنة الرياضية(démonstration)، ولا القوانين المنطقية التي نجدها في منطق القضايا أو منطق المحمولات أو في أي نسق آخر من الأنساق المنطقية والرياضية. فما نجده في الخطاب أو في اللغات الطبيعية هو الحجاج وهو منطق اللغة أو هو – على الأصح – تصور من التصورات الممكنة لهذا المنطق الذي يحكم اللغة الطبيعية والذي يختلف اختلافا كبيرا عن المنطق الرياضي أو المنطق الصوري، يختلف عنه من حيث طبيعته ومجاله واشتغاله. أما بخصوص الاستدلال فهناك في الحقيقة ألفاظ عديدة يشار بها إلى الاستدلال وأنواعه وأنماطه. فاللغة العربية تتضمن مصطلحات عديدة منها :الاستدلال والحجاج والبرهنة و الاستنتاج والاستنباط والاستقراء والتدليل والتعليل والتبرير والقياس...الخ. ولكن المصطلح العام الذي يشير إلى جنس الفعل هو مصطلح الاستدلال .
والاستدلال أنواع، فهناك الاستدلال المباشر والاستدلال غير المباشر، الاستدلال الحجاجي والاستدلال البرهاني، الاستدلال الصوري والاستدلال الطبيعي،الاستدلال الاستنتاجي والاستدلال غير الاستنتاجي. الاستدلال الاستقرائي أو الاستنباطي أو التمثيلي إلى غير ذلك. وفي الاستدلال المباشر نجد التقابل والعكس المستوى ونقص المحمول وعكس التنقيض، أما الاستدلال غير المباشر فيقصد به – من بين ما يقصد به - القياسات بمختلف أنواعها: الحملية والشرطية والمضمرة والمعللة. الاستدلال الطبيعي هو الذي ينجز باللغة الطبيعية، ويكون الحامل له (le supporte) هو الخطاب الطبيعي ، ومن أبرز أنماطه الحجاج، في حين أن مجال الاستدلال الصوري الرمزي، أي البرهنة، هو اللغات الاصطناعية. وقد يكون الاستدلال استنتاجيا، أي يؤدي بنا إلى نتيجة معينة وسيترجم في هذه الحالة بلفظة inférece، وقد يكون غير استنتاجي، ويترجم إذ ذاك باللفظة العامة: raisonnement والشيء نفسه نجده في اللغة الفرنسية التي تتضمن ألفاظا من قبيل: déduction.inducton.démonstration .argumentation; inférnce ;raisonnement والتي يشار بها إلى أنماط الاستدلال وأنواعه وأشكاله.لكن الذي نؤكد عليه هو أن الحجاج يرتبط بالخطاب، والبرهنة ترتبط بالمنطق أو الرياضيات، وأن لفظ الاستدلال هو المصطلح الأعم الذي يشملها جميعا، فكل حجاج استدلال، وليس كل استدلال حجاجا، وكل برهنة أو استنباط أو قياس تعتبر استدلالا والعكس غير صحيح.

س: انطلاقا من الملاحظات السابقة، ماهو التعريف الذي يمكن أن نعطيه للحجاج، وماهي أهم النظريات الحجاجية ؟
ج: لقد انبثقت نظرية الحجاج في اللغة من داخل نظرية الأفعال اللغوية التي وضع أسسها أوستين وسورل.ويتمثل الحجاج (argumentation)، من وجهة نظر هذه النظرية اللسانية في إنجاز تساسلات. داخل الخطاب – من نمط استنتاجي. وبعبارة أخرى، يتمثل الحجاج في تحقيق متواليات من الجمل والأقوال، البعض منها بمثابة الحجج، والبعض الآخر بمثابة النتائج التي تستنتج منها.ويمكن أن نقول أيضا إن الحجاج أو المحاجة هو تقديم مجموعة من الحجج والأدلة التي تؤدي إلى نتيجة معينة، والتي يكون القصد منها التأثير في الآخر أو إقناعه بفكرة أو تغيير آرائه ومواقفه بخصوص موضوع ما. ويمكن التمثيل لذلك كما يلي:
انخفض ميزان الحرارة، سينزل المطر .
هند جميلة ولكنها بليدة .
زيد إنسان جاد ومؤدب، إذن هو الشخص المناسب .
الجو جميل، لنخرج إلى النزهة .
فالجزء الأول من هذه الجمل يتضمن حجة مقدمة لخدمة النتيجة التي يشتمل عليها
الجزء الثاني من الجملة نفسها. والحجة هنا هي عنصر دلالي يقدمه المتكلم باعتباره يستدعي النتيجة المقصودة ويؤدي إليها.وقد تتحقق على شكل كلمة أو جملة أو نص أو سلوك غير كلامي، ثم إنها تتصف بالنسبية والمرونة ولها طابع تدرجي وسياقي، وهي بالإضافة إلى ذلك قابلة للإبطال، إن كون اللغة لها وظيفة حجاجية، ولها بنية حجاجية، يعني أن التسلسلات الخطابية محددة، لا بواسطة الوقائع (les faits) المعبر عنها داخل الأقوال فقط، ولكنها محددة أيضا بواسطة بنية هذه الأقوال نفسها، وبواسطة المادة اللغوية التي تم توظيفها. إن اللغات الطبيعية تتضمن مجموعة من الأدوات والروابط الحجاجية.التي لا يمكن أن نعرفها إلا بالإحالة على قيمتها الحجاجية.والحجاج نجده في كثير من الظواهر اللغوية المعجمية والصرفية والتركيبية والدلالية، إن بشكل وإن بآخر.
بخصوص النظريات الحجاجية: هناك نظريات حجاجية عديدة، بعضها ينتمي إلى البلاغة وبعضها ينتمي إلى المنطق أو المنطق الطبيعي، وهناك من عالج الحجاج من منظور لساني، ويمكن أن نعرف – ولو بإيجاز – بثلاث نظريات أساسية في هذا المجال، لكل
من برلمان وجان بليزغريز وأزفالد ديكرو بالشكل الآتي:
يتمثل الحجاج بالنسبة إلى برلمان (C.Perelman) في مجموعة من التقنيات الخطابية الموجهة إلى إقناع المتلقي أو الرأي العام. وهو إن كان يلح على ضرورة التمييز بين البرهنة والحجاج، فإنه يعتبر البرهنة شكلا من أشكال الحجاج، إلا أنها تختلف عنه من حيث إنها تركز على جانب واحد هو الجانب الصوري الاستنتاجي. فإذا كانت البرهنة يمكن أن تقدم على شكل حساب، فإن الحجاج يهدف إلى الإقناع والتأثير والاتفاق، ولا يمكن تصوره إلا في إطار نفسي اجتماعي .
أما جان بليزغريز فينظر إلى الحجاج باعتباره نشاطا منطقيا خطابيا، إنه نشاط خطابي لأن الأمر يتعلق بتفكير كلامي؛ أي أن الوسيلة المستعملة للتواصل هي اللغة، وهو نشاط منطقي لأنه يتمثل في مجموعة من العمليات الذهنية، ولأنه ينتمي بالتالي إلى ما يعرف بالمنطق الطبيعي، إن الحجاج – بالنسبة إلى غريز – هو مجموعة من الاستراتيجيات الخطابية لمتكلم ما، يتوجه بخطابه إلى مستمع معين، من أجل تغيير الحكم الذي لديه عن وضع محدد. ويتأسس الحجاج عنده، انطلاقا من مفهوم الخطاطة التي هي أهم منه، فليس هناك إنتاج خطابي لا يؤدي إلى إنتاج خطاطات وتمثيلات عن العالم الآخر، ولكن ليست كل غاية خطابية حجاجية بالضرورة .
أما النموذج الذي اقترحه أزفالد ديكرو، فهو نظرية لسانية تدرس الحجاج في اللغة، باعتباره ظاهرة لغوية. الحجاج، بالنسبة إلى هذا اللغوي، فعل لغوي ووظيفة أساسية للغة الطبيعية، ثم إنه مؤشر له في بنية اللغة فهناك أدوات وروابط وعبارات لغوية يتمثل دورها الوحيد أو الأساسي في القيام بالعمليات الحجاجية.
---------------
المصدر / د.حافيظ إسماعيلي علوي

nike air max invigor mid wheat ridge park

التصنيف الرئيسي: 
التصنيف الفرعي: 
شارك: