حوارٌ مع د. عبد الحميد مدكور عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة

د. عبد الحميد مدكور عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة:
مع الاهتمام بتغيير ثقافة المنطقة .. تتجدد محاولات تخريب اللغة العربية

المجتمع الثقافي :
لا يبدو أننا ندرك بشكل كاف خطورة إضعاف وضع اللغة العربية على ألسنتنا وفي كتبنا ومعاهدنا العلمية، مما يترجم عن أزمة عميقة يعيشها العقل المسلم والعربي؛ إذ لا يدري الشيءَ الكثير عن أمراضه وعلله، دعك من علاجها ودوائها!! ومن تجليات ذلك أن خطابنا الرسمي لغته معطوبة، وخطابنا العلمي لسانه سقيم، وحتى الكثير من الدعاة لا تحسن ألسنتهم الترجمة عن المعاني التي يدعون إليها.
وهذا حوار مع عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة، الدكتور عبد الحميد عبد المنعم مدكور أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة وقد دار الحوار معه حول هموم اللغة، وما يمكن أن يتجدد من محاولات النيل منها مع السعي الدءوب لتغيير ثقافة المنطقة، وأهمية الانطلاق من مواد الدساتير العربية في تعزيز مكانة العربية في بلادها، ودور مجمع اللغة العربية تجاه مناهج تعليم اللغة، وغير ذلك من القضايا:


=الارتباط بين اللغة وهوية أصحابها ارتباط وثيق؛ لأن اللغة وعاء الفكر، ومستودع التراث، وصلة الحاضر بالماضي، وأداة التعبير عن الآمال والطموحات، وبدون اللغة لا يمكن التوصل إلى تحقيق المعنى الكامل للإنسان بصفة عامة. وما يُقال عن توصل حي بن يقظان في قصة ابن طفيل الشهيرة إلى تصور صحيح للوجود بمستوياته المختلفة، من أدناه إلى أعلاه، بدون تعلمه لغةً بشرية ليس إلا ضرباً من الخيال الفلسفي، والرمز الذي لجأ إليه ابن طفيل هنا؛ لأنه لم يستطع أن يواجه المجتمع بما يريد من أفكار.
والإنسان ابن حضارته؛ أي ابن لغته المعبرة عن هذه الحضارة، فإذا كانت اللغة عريقة قديمة جديدة كاللغة العربية، التي هي أقدم اللغات الحية المستعملة دون انقطاع فإنها تزداد قدراً؛ لأنها تطبع في ذهن أصحابها الأخيلة والتصورات والمفاهيم المتوارثة عبر القرون، فتؤثر في عقول أصحابها ووجدانهم تأثيراً جوهرياً.
وإذا انضم إلى ذلك أن هذه اللغة هي اللغة التي اختارها الله عز وجل لكي ينزل بها كتابه الكريم، وهو القرآن؛ فإن ذلك يزيدها تأثيراً في الأنفس والعقول. ولقد رأيت في بعض بلاد العالم من يصف هذه اللغة بأنها "اللغة الشريفة".
فللغة العربية موضع ضخم من تكويننا الشخصي، ومن ثم لا يجوز إهمالها أو استبعادها من مناهج التعلم أو الفصل بينها وبين لغة الحياة ولغة العلم ولغة الفنون وسائر جوانب الحياة، بل لابد من إقامة الرابطة القوية بين العربية وهذه المجالات. والذين يريدون الفصل بين الناس ولغتهم يعتدون على جانب مهم جداً من جوانب شخصيتهم وفكرهم؛ ليجعلوا منها مَسخاً شائها من الآخرين الذين ينتسبون إلى لغات وحضارات أخرى.
ولعلنا نتذكر في هذا المقام ما لجأت إليه فرنسا، التي تبذل كل جهد مستطاع للحفاظ على لغتها وأدبها وفنها وفكرها، بحيث لا يُسمَح هناك خاصة في الأمور الرسمية والمعبرة عن واجهة الحياة الفرنسية والمجتمع الفرنسي باستعمال لغة أخرى غير الفرنسية، ومن يخالف ذلك يدفع غرامة ضخمة عقوبة له على ترك التعبير بلغته القومية.


= نحن هنا نتحدث عن مشكلة ذات جوانب متعددة، ولا يمكن حلها إلا بنظرة شاملة تتكافأ مع جسامة المشكلة، ويساعد على استمرار هذه المشكلة عوامل كثيرة منها:
التعامل مع الفصحى على أنها لغة أجنبية، فلا يكاد المرء منا يستمع إليها إلا في مناسبات محدودة، حيث تطغى العامية على قاعات الدرس في المدارس والجامعات والمؤسسات العلمية عامة، وهي تُعَامَل هذه المعاملةَ نفسَها في وسائل الإعلام، ومن ثم فهي غريبة على الأسماع، وقد يُنظَر إلى من يحرص على استعمالها نظرة استخفاف واستهزاء، قد يوصَف بالتقعر واستخدام لغة غير عصرية. هذا في الوقت الذي يفتخر فيه كثيرون باستخدامهم لغات أخرى قد لا يجيدونها في واقع الأمر إجادة تامة.
ومما يساعد كذلك على استمرار المشكلة أن العربية لا تُعامَل على أنها لغة علمية تصلح للتعبير والاستعمال في مجالات البحوث المختلفة؛ للظن بوجود هوة فاصلة بينها وبين العلم؛ ولذلك تشيع اللغات الأجنبية، خاصة الإنجليزية، في كليات كثيرة، بوصفها اللغة القادرة على التواصل مع البحث العلمي والباحثين في بلاد العالم الأخرى. وهذا الفصل بين اللغة والعلم يؤدي إلى نتائج كثيرة منها: إضعاف اللغة نفسها بعزلها عن هذا المجال الحيوي المتطور الذي يمكن أن يمد اللغة بالقوة والنماء والحيوية، ثم يؤدي كذلك إلى ضعف مستوى المتعاملين باللغات الأخرى، التي قد لا يصلون إلى درجة الإجادة الكاملة لها، وينعكس ذلك على مستوى التحصيل باللغات الأخرى ومستوى التعبير عن هذا التحصيل، وقد أُقيمت اختبارات علمية للمقارنة بين من يطلبون العلم بلغاتهم ومن تُفرَض عليهم لغات أخرى غير لغتهم، فأظهرت النتائج أن الذين يتعلمون بلغاتهم أكثرُ فهماً، وأقل جهداً في التحصيل، وأكثر قدرة على التعبير من هؤلاء الذين يتعلمون بلغات غير لغتهم.
يضاف إلى ما سبق من عوامل ضعف الناتج من عملية تعليم اللغة العربية عموماً: أن المختصين باللغة العربية لا يحسنون في أحيان كثيرة أن يقدّموا للناس ما يرغِّبهم في هذه اللغة، التي تمثل إجادتها مهارة من المهارات التي يمكن اكتسابها.


= ليس للمجمع حتى الآن مشاركة حقيقية في وضع مناهج اللغة العربية في مراحل التعليم المختلفة، وليس له مشاركة في كتابة الكتب التي تُؤدَّى بها هذه المناهج. ولدى بعض الأعضاء العاملين فيه رغبة في اقتحام هذا المجال الحيوي المهم، وقد قُدمت اقتراحات لتحقيق هذه الرغبة، ولكنها لم ترَ النور بعد، وكل ما يفعله المجمع بالنسبة لهذه الجزئية هو أن يقدم المعاجم التي تيسر فهم الكلمات الصعبة في النصوص التي تتضمنها مناهج اللغة العربية في مستويات التعليم المختلفة، فقد أصدر في هذا الصدد معجمين؛ أحدهما المعجم الوجيز الذي يُوزَّع على الطلاب في المدارس المصرية، ثم المعجم الوسيط الذي يلبي كثيراً من حاجات الدارسين في مستويات أعلى.
وهناك جهود أيضاً في المجمع لتحديث هذين المعجمين، واستكمال المادة اللغوية فيهما، وتزويدهما بما جد في الحياة العصرية من ألفاظ وأساليب تنتشر بسبب الاحتكاك الحضاري بين مجتمعاتنا العربية والمجتمعات الأجنبية.


= من عيوبنا في بعض الأحيان أنه توجد لدينا نصوص دستورية وقانونية جيدة، لكن لا يتم تنفيذها من الناحية العملية، وعلى سبيل المثال يوجد في مصر قانون منذ أكثر من أربعين عاماً يمنع كتابة اللافتات على المحالّ والمؤسسات باللغة الأجنبية وحدها، ويلزم أصحاب هذه المحال بضرورة الإعلان عنها باللغة العربية، ومع ذلك لا يتم من الناحية العملية تطبيق هذا القانون. ويحتاج الأمر إلى مزيد من الإصرار والصبر والدعوة المستمرة إلى تطبيق مثل هذه القوانين، وهذا ما تلجأ إليه بعض الجمعيات العاملة في حقل الدعوة إلى العناية باللغة العربية، فهي تصدر التوصيات، وترفع الالتماسات إلى المسئولين أن يعملوا على تطبيق هذه القوانين، ولكن ليس لمثل هذه الجمعيات سلطة لوضع القوانين موضع التطبيق.
وأذكر على سبيل المثال أنه عندما أُنشئت كلية العلوم بجامعة القاهرة سنة 1925م قام بالتدريس فيها عدد من الأساتذة الإنجليز، وشاركهم عدد آخر من الأساتذة المصريين الذين درسوا في الجامعات الإنجليزية، وكانت لغة التعليم في الكلية عند إنشائها هي اللغة الإنجليزية، ولكن بعض الأساتذة ومنهم الدكتور محمد ولي رفض التدريس بالإنجليزية، ودعا إلى أن تكون العربية هي لغة التدريس، وتصدى له عدد كبير من الأساتذة، ولكنه أصر على موقفه؛ استناداً إلى مادة في قانون إنشاء الجامعة المصرية تنص على أن اللغة الأساسية في التعليم فيها هي اللغة العربية. وأفلح هذا الرجل في أن يجمع من حوله عدداً من زملائه وتلاميذه الذين ناصروه في ضرورة أن يكون التدريس باللغة العربية، وأصدروا مجلة بعنوان "رسالة العلم"، دعوا فيها إلى أن تكون العربية لغة علم وبحث، كما قدموا مؤلفات علمية في العلوم الأساسية التي تُدرس في الكلية باللغة العربية، وواجهوا فيها مشكلات تعريب المصطلحات والتعبير عنها بالعربية، وجاهدوا في ذلك جهاد الأبطال.
ومن هذا الفريق: الأستاذ الدكتور محمود حافظ نائب رئيس مجمع اللغة العربية الآن والأستاذ الدكتور محمد رشاد الطوبي، والأستاذ الدكتور حامد عبد الفتاح جوهر، وأمثالهم من كبار العلماء في هذه الكلية.


= لا يُخفي الأمريكيون رغبتهم في تغيير الخريطة السياسية للعالم العربي، ورسم خريطة جديدة له، ولا يخفون كذلك رغبتهم في التغيير الثقافي للعالم العربي؛ لأن ذلك يرتبط من وجهة نظرهم بالجوانب السياسية. وقد أعلن وزير الخارجية الأمريكي عن ورقة لتغيير بعض المفاهيم والمناهج التعليمية. وهم يذكرون هذا صراحة، ويسعون إلى تحقيقه بكل الوسائل المتاحة لهم، وهي كثيرة. ويمكن أن يتحقق ذلك عن طريق التغيير في المناهج التعليمية بإضافة موضوعات إليها، وحذف موضوعات منها، وتغيير نمط دراسة موضوعات أخرى، بحيث يثمر ذلك على المدى الطويل تغييراً في المفاهيم والأفكار والمواقف والتوجهات.
ومن الواضح أن اللغة العربية تمثل الآن العامل الأهم تقريباً في إحساس العرب كأساسٍ أول للأمة الإسلامية بأنهم ينتمون إلى أمة واحدة، ولذلك ليس من المستبعد أن تنال العربية قدراً أكبر من التخطيط لفصم عروة هذا الاتحاد العربي فيها، وربما أصبح المجال مهيَّأً لتجديد دعوات قديمة ظهرت في عصور الاستعمار القديم لإحياء اللغة العامية أو الكتابة بالحروف اللاتينية، وربما أدى ذلك إلى تقليل الاعتماد على العربية في المناهج الدراسية، إلى غير ذلك من الوسائل التي تحاصر اللغة، وتؤدي إلى إضعاف تأثيرها في الوعي والفكر لدى الذين يتحدثون بها.
وربما تُعامَل اللغة العربية على أساس أنها مصدر من مصادر القوة لهذه الأمة، ومن ثم ينبغي مواجهتها بما يؤدي إلى إضعافها وتقليل آثارها في وحدة الفكر والشعور بين أهلها كما تُعامَل الجيوش أو الموارد الاقتصادية؛ لأنه إذا تم القضاء على اللغة العربية فلن يكون لأهلها الناطقين بها رابطة تجمعهم بعدها.


= ينبغي أن يكون واضحاً عندنا نحن المسلمين أن العربية هي لغة القرآن الكريم، وأن تعلمها يرتقي إلى درجة الفريضة التي لا ينبغي التفريط فيها، وقد قال ذلك كثير من علماء الإسلام من قديم، وفزع الصحابة أنفسهم حين وجدوا اللحن يتسرب أو يتسلل إلى ألسنة الموالي الذين كان بعضهم يخطئ في قراءة بعض الآيات القرآنية، وقال عمر بن الخطاب مرة لرجل: "لخطؤك في كلامك أشد علينا من خطئك في سهامك".
وليست العربية عبئاً على أحد، بل هي في الحقيقة مصدر قوة وامتدادٍ تاريخي وحضاري وعمق بشري، حيث يجتمع من حولها مئات الملايين من المسلمين، ومن ثم يجب العناية بها، والعمل على التمكين لها.=>
---------------
مجلة المجتمع :
http://www.almujtamaa-mag.com/Detail.asp?InNewsItemID=137456

Ανδρικά Nike

التصنيف الرئيسي: 
التصنيف الفرعي: 
شارك: