مما لا شك فيه أن الترجمة عنصرٌ أساسٌ في التفاعل بين الشعوب والحضارات ونافذة على تراث الأمم ونتاجها الفكري والأدبي ومجمل نشاطها الإنساني – تنقله وتقتبسه وتنشره وتوطنه في مراحل مقتضبة مختصرة أو مسهبة ومطولة، حسبما ترتئيه تلك الشعوب المستوردة والمستقبلة من خلال تفاعلها وتجاوبها مع النصوص المنقولة إليها وفقَ احتياجاتها المعرفية والحضارية والتقنية والاقتصادية والسياسية العاجلة أو الآجلة.
وتتخذ النصوص المترجمة أشكالاً مختلفة في عملية الترجمة، فتـُنفخ فيها روحٌ جديدةٌ تشابه الأصلَ إلى درجة كبيرة، ومن شابه أباه ما ظلم، أو تتحول فوراً إلى مِسْخٍ أو شَبَحٍ هزيلٍ ضعيف لا علاقة له بمقاصد الكلام الأصلي ولا بمحيطه الفكري والحضاري، أو بالمحيط الجديد المغروس فيه. ولعل هذا الأمر من أكثر الأمور أهمية وخطورة في الترجمة، فمعظم الترجمات التي نراها في زماننا هذا يفتقر إلى حد كبير إلى أربعة أمور رئيسة هي: الدقة، والضبط، والتحكم في المعنى، والقبول. فالغالبية العظمى من الأعمال المترجمة لا تكون على درجة من الجدة والإبداع والاحتراف، إذ أن كثيراً من المترجمين العرب، هواة ومحترفين، تعوزهم وللأسف المقدرة على فهم النصوص الأجنبية بمجمل أبعادها الدلالية والوظيفية والحضارية، ويفتقرون إلى منهجية حديثة واعية وثابتة للنقل والتعريب والترجمة. فتدخل المعرفةُ المنقولةُ إلى اللغة من باب متهرئ وتحمل معها في جملة ما تحمله تعابير مجازيةً واصطلاحيةً لا علاقة لها بالمقصود من الكلام الأصلي، وذلك لالتصاق المترجم بحرفية الكلام التصاقاً أعمى، دون النظر في الأبعاد الحضارية والثقافية لتلك التعابير. فمن التعابير الأجنبية ما يُفهم بداهة إن تُرجم حرفياً، لشمولية المجـاز الإنساني الذي تعبر عنه تلك التعابير، وكثير منها ما يخفق في تأدية المعنى المقصود، في الترجمة، لخصوصية المجـاز وطرائق التعبير لغوياً وثقافياً وحضارياً وبيئياً.
فلو نظرنا مثــلاً إلى ترجمة التعبير الإنجليزي (carrot-and-stick policy) والتي يسارع إلى تبنيها بلا تردد، بل الدفاع عنها والمحاجة فيها، نفر من المترجمين العرب المحدثين، والهواة، وطائفة من المستعربين، والناطقين بالضاد عَرَضاً، ورجالات الفكر والسياسة والأدب وغيرهم في العالم العربي ممن يدلون بدلوهم في مهنة الترجمة اليوم، لاتضح لنا مدى جهل هؤلاء لا بتقنيات الترجمةِ وعملياتها فحسب، بل بحضارتهم وثقافتهم ولغتهم ، ناهيك عن ثقافة ولغة غيرهم، ولظهر لنا مدى قلة وعيهم لخطورة التقليد والمحاكاة التي لا تلتزم بشروط اللغة وأنماطها الفكرية والمنطقية. فالترجمة التي يرى البعض صحة استعمالها لأنها أصبحت شائعة في العالم العربي، بحكم التكرار الببغاوي، لا سيما في الإعلام وعلى صفحات الإنترنت، تأتيهم طوع الخاطر على هذا النحو: (سياسة الجَزَرَةِ والعصا). وقبل الخوض في تحليل التعبير الإنجليزي وأصوله ومعانيه وتطبيقاته لا بد لنا من السؤال البلاغي: ماذا يأكل الحـمار في بـلادي؟ أجزراً أم بطيخاً أم برسيماً إذا كان ينتمي إلى عائلة مترفـة من الحمير؟
إن الغايةَ الأولى من الترجمة هي التواصل ونقل المعرفة بمجمل أبعادها بأمانة ودقة وصحة، إلاّ إذا كان هناك مانع يمنع ذلك فيُصار إلى إسقاط المعاني الكِفافية والثانوية والاحتفاظ بالمعاني الجوهرية والأساسية فيها. وما يُتّـبع من أساليب حرفية في نقل الكلام، لاسيما في المصطلحات والتعابير المجـازية، غالباً ما يخفق إخفاقاً ذريعاً في هذه الناحية المهمة في الترجمة. ذلك أنه يولد معاني تختلف اختلافاً كبيراً عن المعاني الأصلية ويرسم صوراً دخيلة تنفصم عن المعاني المقصودة من تلك الصور الأصلية في بيئتها الطبيعية في لغة المصدر.
عندما ترجم العرب المحدثون مصطلح (skyscrapers) ،إبـّان الصحوة الحضارية الوجيزة في القرن الماضي، قبل أن يسارعوا إلى العودة إلى سباتهم العميق، فقد اعتادوا على الخمول والبلادة والغطيط والغياب عن ركب الحضارة، أخضعوا المصطلح لعملية توطين حضاري. فلم يترجموه حرفياً كما يجري الآن على أيدي المترجمين المتـأخرين العابثة في ترجماتٍ كثيرةٍ كالتي سبقت ، بـ (خادشات السماء) أو (خامشات السماء) بل (ناطحات السحاب). فـ (skyscrapers) في اللغة الإنجليزية تعبير مجازي يدل على مبانٍ شديدةِ الارتفاع فيخيل للناظر أنها تخدش السماء، وهي تمر مرَّ السحاب. فتوافقت الصورة المجازية، من خلال الكلمات الإنجـليزية المنتقاة للتعبير عنها، مع طبيعة البيئة الاجتماعية الأميركية والموقع الذي تحتله كلمة (sky) [1] في اللغة والحضارة الإنجليزية، فسموّا ذاك النوع الجديد من الأبنية الشاهقة بـ (skyscrapers. ولكن الترجمة العربية الحرفية الارتكاسية، أي (خادشات السماء)، لم تتوافق مع الذوق العربي والطبيعة الحضارية عند العرب، بل تعارضت كلمة (السماء) في سياق هذا المصطلح مع مضامينها القدسية في اللغة العربية. فأبدلوا المجاز الغريب بمجاز عربي مقبول، ألفاظه فصيحة لا "تخدش" الأذن، ومدلولاته لا تتعارض مع الرموز الحضارية والفكرية والقيم الخلقية والأدبية . فحـاكى المجـاز الجديد في العربية المجـاز الأصلي من حيث المفهوم بصورة لطيفة عذبة سائغة. وهكذا شاع لفظ ناطحات السحاب، وتوطن في اللغة والحضارة ورسخ في الوجدان ، رغم بداءة وسائل الإعلام العربي آنذاك، وبطء حركة الترجمة والعمل المصطلحي في مجامع اللغة العربية وغيرها.
أما اليوم فنجد ترجماتٍ كثيرةً لا تعير هذه الناحية أي اهتمام. فالقائمون على أمور الترجمة في أغلبهم طائشون مستهترون وعابثون ، تعوزهم بلا ريب مهاراتٌ كثيرةٌ ووعيٌ كبيرٌ لتلك المحاكيات الحضارية والمستنسخات الثقافية في النصوص المترجمة. وهذا الوعي هو ما يميز المترجم المحترف الواعي والملتزم بلغته وحضارته عن المترجم المتطفل على مهنة الترجمة بحكم معرفته السطحية والضحلة لإحدى اللغتين وربما الاثنتين معاً.
في ذروة نشاط الترجمة في عصور القوة الحضارية عند العرب كانت الترجمات الهزيلة تخضع لعملية توطين وتكييف لغوي وحضاري من منطلق القوة والثقة والجبروت الحضاري واللغوي. فكان العرب يأخذون المصطلح فيقلّبونه ويفككونه ويعيدون تركيبه بما لا يتنافى مع الذوق العربي أو يخالف قواعد اللغة ومنطقها، ودون تكلف أو تباطؤ أو عيّ لغوي أو عناء فكري. وحسبهم في ذلك قول أبي الطيب المتنبي "أنام ملءَ جفوني عن شواردها ويسهر الجمعُ جَرَّاها ويختصم". فكان المجسطي والبلغم والملغم والبرقوق وغيرها من المفردات التي أخضعها العرب لنظامهم الصوتي.
أما اليوم ، فنحن أمة مستوردة فكرياً وحضارياً ولغوياً، لا من منطلق القوة والتقدم، بل من موقع الضعف والمسكنة والاستلاب والتنصل والتخلف والشعوبية. وما نستورده في جله استهلاكي يفتقر في معظمه إلى القيمة المعرفية والعلمية. وخلافاً لذلك، فلنتأمل لحظة واحدة كيف تعامل أهل اللغة الإنجليزية، الذين لا يفتقرون إلى الثقة اللغوية والحضارية ولا يجدون حرجاً في تطويع المقترضات لأنماطهم الفكرية وتوطينها، مع اللفظ العربي (انتفاضة)، بمعناه الاصطلاحي الجديد إشارة إلى نضال الشعب الفلسطيني. فالانتفاضة لغةً هي في الأصل الهزَّةُ والرعشة. ولكنها تعني في الاصطلاح الحديث حركة شعبية تناضل لرفع الظلم وإحقاق الحق. ففي البداية، راحت وسائل الإعلام الإنجليزية تستعمل اللفظ كما هو (intifada) ،وذلك لحداثة الخبر وجدّته وطرافة اللفظ العربي وغرابته والغموض الذي يلفّه. ثم صارت تَستعملُ اللفظ العربي وبجانبه اللفظ الإنجليزي (uprising) إيناساً لمتلقي الخبر. ثم سرعان ما أسقطت اللفظ العربي تماماً ، وراحت تستعمل اللفظ الإنجليزي بمفرده. وذلك لأمرين: الأول، فقدان الخبر أهميته عندهم، وإصابتهم بالكلل والملل من رتابة الحدث ورَذْمِـهِ[2]. والثاني، عدم توازي الجانبين حضارياً وتقنياً وقوةً. وفي المقابل، عندما سمع الأميركيون اللفظ الياباني (kamikaze) للمرة الأولى إبان الحرب العالمية الثانية، استخدموه في حينه مع مقابل إنجليزي تفسيري (suicidal air attack)، ثم سرعان ما أسقطوا اللفظ الإنجليزي وأبقوا على اللفظ الياباني فصار جزءاً من المفردات الإنجليزية اليومية. ذلك أن اليابان كانت نِـداً حضارياً وعسكرياً قوياً لهم آنذاك، على عكس الشعوب العربية التي لا يأبه لها اليوم أحد ولا يعيرها أي اهتمام أو اعتبار.
وهذه المحاكيات الحضارية، أو الميمات (memes) كما يسميها تشسترمان (1997)[3]، تحدث إشكاليات كثيرة في نقل المعارف والعلوم من اللغات المصدرة للفكر والحضارة والمعرفة إلى اللغات المستوردة والمقلدة لمجمل النشاط الإنساني. فمن الثابت في علم التواصل أن التواصل لا يتم بين أفراد المجتمع الواحد إلاّ إذا كان بينهم ذاتية مشتركة أو ما يعرف بالإنجليـزية بـ (intersubjectivity). والذاتية المشتركة تنجم عن المعرفة التي يتشارك فيها المتواصلون أو المتخاطبون، وتنتقل بين لَبـِنِ المجتمع الواحد عبر المحاكيات الحضارية (الميمات) فتتأصل فيه فكراً ووجداناً وثقافةً ومعرفةً عامةً. وهذه المعرفة العامة تتألف من التجارب الإنسانية المشتركة بأبعادها النفسية والوجدانية والاجتماعية والحضارية، والتي تنطوي على المشاعر والعواطف والتطلعات والاستدلالات والعقائد التي يتشاطرها المتخاطبون بحيث تكوّن عندهم نظرة مشتركة إلى الوجود والحياة والمصير. فعندما استخدم الناطقون بالإنجليزية التعبير (carrot and stick) كانت بين المتخاطبين ذاتية مشتركة ، تولدت من خلال التفاعل التراكمي والزمني. وبذلك تحكمت باستجابة القارئ إلى الكاتب أو السامع إلى المتكلم عبر المتعارف عليه ضمن المجتمع الواحد. فمن المعروف عند الناطقين باللغة الإنجليزية أن الجزرة (carrot) تستعمل للترغيب والعصا (stick) للترهيب. ومنها الاصطلاح (to hold out a carrot). فإما الطاعة وجزاؤها الجزرة ، وإما المعصية وجزاؤها العصا. والعبدُ يُقرَعُ بالعَصَا[4] .
بيد أن الرسوم المتحركة التي أنتجها والت ديزني وغيره قد شوهت الصورة الأصلية للمجاز بتصويرها حماراً يركبه شخص يحمل عصا تتدلى من طرفها جزرة ، فتشوه التعبير وصار (the carrot on the stick)، وهو بمعنى الإغراء فقط، فالحمار يرى الجزرة ويشمها فيجدّ السعي في الوصول إليها فلا يستطيع الدنو منها، ولكنه لا ينفكُّ عنها، لأنه حـمار! وهذان التعبيران يستعملان اليوم بدرجات متفاوتة في اللغة الإنجليزية ، وبمعنى واحد أحياناً لالتباس الصورتين عندهم ، لاسيما الأجيال المتقدمة التي ترعرعت على الرسوم المتحركة وباغزبني ودافي ضك وميكي ماوس.
وفي إطار نموذج وظيفي للترجمة ، يمكننا تحديد ثلاثة مستويات من الترجمة: المستوى الأولي والمستوى الوظيفي والمستوى التأويلي، أو كما أسميها في الإنجليزية تباعاً (primary, operative and interpretive)[5] . ولا ينبغي الانتقال من مستوى إلى آخر إلا حسبما تمليه المحددات والمقيدات اللغوية والمنطقية والحضارية في اللغة المنقول إليها. وواجب المترجم ومسؤوليته الأدبية بالدرجة الأولى الانطلاق من أقرب نقطة بين لغة المصدر ولغة الهدف. ويكون ذلك في المستوى الأولي للنقل. فإن كان هناك ما يمنع ذلك لغةً أو حضارة ، وجب الانتقال إلى المستوى الوظيفي ، وإن لم تستقم الترجمة للأسباب ذاتها ، وجب الانتقال إلى المستوى التأويلي.
وأثناء عملية الترجمة ضمن هذا الإطار ، يُضطر المترجم إلى التدخل في النص على نحو مشروع لاستيفاء المعنى أو استقامة التعبير وسلامة اللغة. وهذا التدخل (intervention) مقبول إذا تعذر إيجاد أقرب مقابل طبيعي للنص الأصلي. ولكن يخطئ المترجم عندما يتعرّض للنص الأصلي فيشوه معناه والمراد منه لغاية في نفسه أو عن سهو أو عدم دراية بمتطلبات الترجمة. وهذا التعرض (interference) غير مقبول في جميع الحالات إذ انه يخل بالأمانة العلمية وبنزاهة المحتوى البياني والقيمة التواصلية للنص الأصلي. فيخرجه عن الترجمة إلى الاقتباس والتأويل. وفي هذه الحالة ينتفي مبدأ المقابلة والمطابقة وتدخل الترجمة حيز التقريب والاستنساب غير المقبول.
والتعرض نوعان: تعرض عفوي غير مقصود وتعرض مقصود. ويشمل التعرض العفوي مشكلات الفهم ، والاستيعاب والنقل ، والمجاز والاستدلال المغلوطين. أما التعرض المقصود فما هو في الواقع إلا تغرّض وتحيز. ويمكن تصنيفه في فئتين: تعرض شخصي، وتعرض عام. ويكون التعرض الشخصي لغاية في نفس المترجم تنبع من فكر معين أو نهج خاص أو عقيدة أو افتقار إلى الأمانة العلمية والمهنية. وواجب المترجم بالدرجة الأولى أن يكون محايداً تماماً، فهو همزة وصل بين لغتين ينقل الكلام دون تشويه معانيه أو إقحام فِكَرٍ ومعلوماتٍ ليست موجودة في النص الأصلي بقصد أو غير قصد.
أما التعرض العام فيشمل السياسات التي تفرضها الهيئات المسؤولة لغاية أو هدف لا علاقة له بالترجمة، وإنما امتطى الترجمة لخدمة أغراض معينة كحماية المجتمع من فِكَرٍ دخيلةٍ عليه أو صَوْنِهِ من التأثيرات الخارجية. والتعرض العام هو بمثابة الرقابة والمِرْشَح البياني والحضاري (cultural filter). فيقوم المترجم أو من يشرف عليه بتعديل الترجمة أو حذف مفاهيم لا تتناسب مع تقاليد المجتمع وقيمه نحو (single parent) وغيرها. ورغم حساسية هذا الموضوع ووظيفته في المجتمع، فإنّ التعرض للنص بهذا الشكل يخل بأحد مبادئ الترجمة وهو الأمانة العلمية. تأمل الترجمة الآتية لعنوان كتاب باللغة الإنجليزية:
فضل الإسلام على الحضارة الغربية[6]
The Influence of Islam on Medieval Europe
نجد هنا كيف تعرض المترجم العربي للنص الأصلي باستخدامه كلمة (فضل) وما تحمله من استعلاء ومنـّة ، ترجمةً لـ (influence) بدلاً من (تأثير) أو (أثر)، وكيف ترجم (Medieval Europe) إلى (الحضارة الغربية) ، فعَمَّ الفضل الحضارة الغربية كلها بينما اختص النص الأصلي حِقبةً تاريخية معينة من تاريخ أوربا ، وهو العصور الوسطى. وهذا التصرف ، سواء أقبلنا بما توحي به الترجمة أو لم نقبل، هو تعرض صارخ غير مشروع في الترجمة لأنه شوه مقاصد الكلام الأصلي. ولعل المترجم أدرك تلك الناحية فتدارك الأمر ووصف ترجمته للكتاب بأنها نقل إلى العربية.
والتعرض المقصود أو غير المقصود يؤدي إلى إحداث حضارة زائفة عبر المحاكيات الحضارية والمعرفية المغلوطة. تأمل المقطع الآتي :
عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قَدِمَ ناسٌ من الأَعرَابِ على رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ، فقالوا: أَتُقَبِّلونَ صِبْيَانَكُم؟ فقال : "نعم". قالوا: لَكِنَّا واللهِ لا نُقبّل! فقال رسولُ اللهِ صَلى الله عليه وسلم: "أَوَ أملِكُ إنْ كانَ اللهُ نَزَعَ مِنْ قُلُوبِكُم الرَّحْمَةَ ! " (متفق عليه)[7] .
Hazrat Ayeshah (R.A.A.) relates that some Arabs from the villages came to the Holy Prophet (S.A.W.) and asked him as to whether he kisses his children. He (S.A.W.) answered: “Yes”. They said: “But we never kiss them. “He said: How can I be held responsible if Allah has deprived you of love and affection?”
بالإضافة إلى الخلل اللغوي في الإنجليزية والانتقال بلا مبرر من الكلام المباشر إلى الكلام غير المباشر، نلاحظ التصوير الكاريكاتوري الذي صبغ النص الأصلي بصبغة غريبة عنه في الترجمة. فمن الأمور التي أخطأ المترجم الباكستاني فيها ترجمة (الأعراب) بـ (some Arabs from the villages). بدلاً من (pasture dwellers)[8] ، أو ما شابه ذلك ، وكذلك ترجمته لـ (صبيانكم) بـ (your children)، و (أَتُقَبِّـلونَ صِبْـيَانَكُم) بـ (he kisses his children) ، وتوسيع (الرحمة) إلى (love and affection)، و كذلك ترجمته لـ (نَزَعَ من قلوبكم الرَّحمة) بـ (deprived you of love and affection). فشوّه مجمل المعاني بل أضاع الفكرة الرئيسة التي تضمنها النص الأصلي ، ألا وهي تقبيل الأبناء عند المسلمين. وبهذا اكتسبت الترجمة من خلال استخدام المحاكيات المغلوطة شخصيةً حضاريةً ومعرفيةً جديدةً لا علاقة لها بالنص الأصلي، فبقيت دخيلة وزائفة في اللغة المنقول إليها، لا يستطيع قارئها التفاعل معها على وجه صحيح لغياب الذاتية المشتركة ووجود المحاكيات الحضارية الزائفة.
وخلاصة القول إن المترجم يُسقط أحياناً خصائص حضارية ومعاني ضمنية ، إما لعدم درايته بها أو لصعوبة نقلها إلى لغة الهدف أو لعدم استساغتها في الترجمة لما قد تحمله من دلالات ومضامين لم تكن موجودة في الأصل. وأحياناً كثيرة يُدخل معاني وصوراً مختـلقـةً وزائفةً، عن قصد أو غير قصد. فلو عدنا إلى التعبـير (carrot and stick) وترجمته إلى العربية لوجدنا أن لفظ (الجزرة) له مضامين في العربية تختلف عن مضامينه في الإنجليزية ، فالعرب لا يلوحون بالجـزرة إغـراءً ولا ترغيباً، لا للحـمار ولا للإنسان. رغم أنَّ لهم فيها مآرب أخرى. وطوبى لحـمارٍ كان الجـزر مأكله وبلاد العُرْبِ مرتعه، فحظه أسعد من حظ الإنسان فيها !
________________________________________
[1] تحفل اللغة الإنجليزية بتعابير اصطلاحية منها (the sky is the limit) و (a pie in the sky) و (sky-high) . وعلى غرار ذلك ، تزخر اللغة العربية بتعابير اصطلاحية مشابهة يحتل السحابُ فيها موقعاً رئيساً ، منها: (سحابة يوم) و (ولا يُضر السحابَ نبحُ الكلاب) و (سحابة صيف). كما يحتل السحاب حيزاً مهماً في الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وجاء ذكرها تسع مرات وفي ثماني سور. أما (السماء) فقد جاء ذكرها أكثر من مرة ، بلفظيها المفرد والجمع ، (السماء) و (السموات)، معظمها بمدلولات ومجازات قدسية . وذُكِـرَ الغمام أربع مرات في ثلاث صور. مما يثبت لنا أن العرب المحدثون تجنوا هذا اللفظ في ترجمة (skyscrapers) عن وعي لأبعاده الحضارية.
[2] يجري استعمال (الرِّتـم) في العربية المعاصرة مقابل (rhythm) تأثراً باللفظ الفرنسي. والصحيح هو (الرَّذْم) من رَذَمَ يَرْذُمُ رَذْماً ورَذَمَاناً ، أي امتلأ حتى سال ما فيه على جوانبه. فأصل كلمة (rhythm) في الفرنسية الوسطى (rhythme) ، مأخوذة من اللاتينية (rhythmus) ومن الإغريقية (rhythmos) ، المشتقة من الفعل (rhein) بمعنى (الدفق) أو (السيلان). ولا يخفى على عاقل الاشتراك اللفظي والمعنوي بين المفردتين العربية والإنجليزية.
[3] محــاكيات التـرجمـة ، انتشارُ الفِـكَرِ في نظرية الترجمة. تأليف أندرو تشسترمان (Chesterman, A (1997). Memes of Translation: The Spread of Ideas in Translation Theory. John Benjamins: Amsterdam. )
[4] ما تزال العصا تشكل رمزاً للقوة والسلطة والحماية منذ فجر التاريخ. فقد كانت العصا القصيرة في المجتمعات البدائية رمزاً للنشاط والإنسان والقوة. وكانت العصا عند الفراعنة رمزاً للقسط والعدل بين الناس إلى جانب السوط. وتحولت في المجتمعات الدينية إلى رمز للسلطة الروحية والقوة الغامضة. وفي المجتمعات العربية، اكتسبت العصا إلى جانب ذلك سلطة تأديبية، فالعصا لمن عصى ، والعبد يقرع بالعصا ، وعبيدُ العصا ، وعصا الجبان أطول، وشق عصا الطاعة ، وإِنَّ العصا قُرِعَتْ لذي الحلم ، وقَشَرَ له العصا، وغيرها. ولم تقترن الجـزرة بالمكافأة ، ولم تكتسب صوراً مجـازية في السياق العام للغة العربية.
[5] أنظر كتاب دليــــل المتـــرجم ، تأليف علي محمد الدرويش ، شركة رايتسكوب ، ملبورن ، .
[6] دار الشروق ، تأليف مونتجومري وات ، نقله إلى العربية حسين أحمـد أمـين. .
[7] رياض الصالحين ، ترجمة مدني عباس. الناشرون الإسلاميون الدوليون. كراتشي ، باكستان. ص .
[8] مثل (nomads) أو (Bedouins). الأعراب هم سكان البادية ممّن يتتبعون مساقطَ الغيث ومنابتَ الكلأ ، إذ جُـلّ معيشتهم من الرعي. والبادية هي بقعة واسعة من الأرض فيها ماء وكلأ، وليست الصحراء كما تذكرها المعاجم الثنائية التي تنسخ بعضها بعضاً فتكرر الخطأ تلو الخطأ.
-----------------
* علي درويش: أستاذ الترجمة والتواصل التقني في جامعات ملبورن ـ أستراليا، ومؤلف وكاتب تقني.
مصدر المقال : صحيفة المناخ ( صحيفة استرالية بالعربية ) :
http://www.al-manac.com/kutta_almanac/ali%20darwish%20Ishkalia.htm