يعتري المنطق اللغوي في العربية المعاصرة خللٌ وعيبٌ فاضحان ويشوبه اضطراب يتجاوز الفكر النقدي عند المثقفين العرب ، الذين إن أنتجوا الكلام وأبدعوا فيه نقلوه في الأغلب جملة وتفصيلاً عن نصوص وقراءات أجنبية ، إما من خلال ترجمات مباشرة حرفية أو من خلال نصوص مترجمة جاهزة. فإن تلقوه من منتجيه ومبدعيه تلقفوه ولم يعيروا سلامة منطقه أي اهتمام ولم يخضعوه للملكة والسليقة اللغوية. وهذه الظاهرة المتفشية في العربية المعاصرة بحكم الترجمة والاستيراد الفكري بقوالبه اللغوية الأصلية يظهر مدى الوعي عند المفكرين والأدباء والكتاب والإعلاميين والمترجمين العرب ، بل غيابه عند معظمهم في القرن الحادي والعشرين.
بالمقارنة ، لا نجد مبدعاً إنجليزيَّ اللغةِ ، سواء أكان بريطانياً أم أميركيا أو أسترالياً ، يلجأ إلى أطر فكرية خارجة عن بيئته ليعبر عن ذاته ووجدانه وفكره. فإن عرض له ما يخالف منطقه اللغوي من خلال قراءات مترجمة لا تستوفي شروطها البيانية وأنماطها البلاغية أخضعه للرقابة الذاتية اللغوية والمرشح الحضاري لكي يكيفه ويطبعه بما ينسجم مع سليقته وفطرته ومنظوره الحضاري. فعلى سبيل المثال، عقب قمة وزراء الخارجية العرب في شرم الشيخ في تشرين الأول/أكتوبر عام 2000 ، صرح عمرو موسى ، وزير الخارجية المصري آنذاك ، قائلاً: موقف الدول العربية من إسرائيل واضح. فقام الترجمان العربي بنقل كلامه إلى الإنجليزية كالآتي:
The attitude of the Arab countries towards Israel is clear.
وعند نقل الخبر إلى المشاهد الغربي ، قام مراسل الشبكة الإعلامية الأميركية ، سي إن إن (CNN) ، بتصحيح الجملة بشكل عفوي وبديهي كالآتي:
The Arab countries’ position towards Israel is clear.
فقد حكم عليه منطق اللغة الإنجليزية وسليقته الفكرية بأن يميز بين (attitude) و (position) والفرق في استعمالهما. وسأترك لك أيها القارئ الكريم أن تتحرى الفرق بينهما في مصادر اللغة، إن لم يكن ذلك ظاهراً لديك بداهة، لضيق المجال هنا وكيلا يتحول الأمر إلى درس في اللغة الإنجليزية.
أما العرب المحدَثون ، فمن الواضح أن السليقة تخونهم في نواحي كثيرة من الاستعمالات اللغوية والجوانب المنطقية المتعلقة باللغة العربية، وبخاصة فيما يتعلق بالمترجم منها ، رغم أنهم كثيراً ما يهللون لكل أجنبي يتفوه بكلمات عربية ، وكأن تعلم اللغات أضحى شيئاً غريباً عجيباً على الناطقين بالضاد وإتقانُ أجنبي للعربية معجزةً من معجزات العصر ، تفتر لها ثغور العرب ، لا سيما الإعلاميون منهم، ويسيل لعابهم لرؤية شابة أو شاب يتحدث اللغة العربية بشيء من التمكن والبراعة والطلاقة. وربما يحتاج هذا الأمر إلى شاهد عِـيـَــان[1] !
ويعزون كل ما يخالف المنطق اللغوي إلى التجديد والتحديث في اللغة والحداثة والعولمة ، سواء أكان ذلك في المجالات العامة والسياسة والصحافة والإعلام، أم في الأدب والشعر والفنون. وقد يوفق الكاتب أحياناً لغرابة التعبير المقترض واستهلاك المادة اللغوية الأصلية المحلية واجترارها في غياب الإبداع الفعلي فيها، فتلقى تلك المادة الجديدة صدى عند السامع الذي صار يأنف من العبارات المبتذلة والقوالب المصبوبة ، ويمل من الكلمات المتحجرة التي تكاد تفقد وقعها ومعانيها مع تقادم العصور واختلاف البيئات والمناظير الثقافية وربما الحضارية. ويكون التجديد من خلال الاقتراض أشد وقعاً إذا كان من مصادر لغوية جديدة لم يعهدها العرب كالروسية واليابانية والصينية ولغات أوربا الشرقية سابقاً. فمن حسنات الأوضاع المتردية الاجتماعية والسياسية والتربوية والتعليمية في الوطن العربي الكبير لا الأكبر[2] - لأن الجامعة العربية ، خلافاً لمشروع الشرق الأوسط الأكبر القابل للتكبير والتصغير، حسب مشيئة أصحابه ونزواتهم ومطامعهم ومخططاتهم، لا تنوي توسيعه بقبول عضوية بلدان جديدة تستدرك فجأة أنها عربية الانتماء أو الأطماع ، إذ أنه بلغ غاية المنتهى، بل أنه بدأ ينحسر وينقبض على ذاته وينفجر أو يكاد ، وبدأ أعضاؤه ينصرفون عنه ويهجرونه كما تفعل الجرذان والفئران عندما تبدأ السفينة بالغرق ، عملاً بمبدأ يا ربِ نفسي ومن بعدي الطوفان، بحجة تقليص الخسارة والضرر. فوطننا العربي ، وللأسف ، سفينة متهرئة مضعضعة البيان بلا ربان ، سيست فساست فضلت سبيلها في خضم الأمواج السياسية المتلاطمة، والتيارات الفكرية المتضاربة ، والقوى الدولية والإقليمية المتناحرة، والرياح الاجتماعية والحضارية العاتية ، فارتطمت بصخور الواقع الأليم ، وبدأت تغرق في بحر من الظلمات ، حتى راح بعضهم ينادي بالاستسلام للأمر الواقع والاستمتاع بالاغتصاب طلباً للنجاة ودرءاً لموت محتمل— ومن يتهيب صعود الجبال يعشْ أبد الدهر بين الحفر ، أو لعله يختفي في واحدة منها كالخُلد والمناجذ . "وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ". فكيف يكون لك ولمن يأتي من بعدك؟ وكما قال الشاعر:
وكانت على الأيامِ نفسي عزيزةً ** فلما رأتْ صبري على الذُّل ذلّتِ
فقلتُ لها يا نفسُ موتي كريـمةً ** فقد كانتِ الدُّنيـا لنـَا ثُـمَّ ولّـتِ
نعم ، إن من حسنات الأوضاع المتردية أنها أجبرت بعض أبنائه على الهجرة المؤقتة أو للأسف الدائمة إلى بلدان كثيرة في العالم ، منها بلدان ما كان يعرف بالمعسكر الاشتراكي ، بمنح حكومية وحزبية وهبات خيرية وغير ذلك من إغداقات وخلع — اللهم إلا من قلّ حظه منهم أو ربما كثر فغادر أوطانه سباحة أو شق طريقه في دروب الآلام والمعاناة بكد وشرف بلا منة أو امتنان. وطوبى لمن قَرَض الدنيا قَرْضاً ، فأوطانه بتعفناتها ونظمها الطائفية والمذهبية والعشائرية والقبلية والإقطاعية والدكاكينية والمزرعية ، وغيرها من التصنيفات المتهرئة والمتعفنة والمريضة التي لا توجد في مكان آخر في العالم ، والتي تفرز الناس كالغنم ، لم تعطه الكثير ولم تمنحه فرصة رد الجميل — فتعلم هؤلاء لغات جديدة نوّعت مصادر الاقتباس والاقتراض والمناظير الفكرية ، وأحدثت تجديداً طبيعياً لغرابة وطرافة التعابير المقترضة وجدّتها . وما يؤخذ منها اليوم لم تألفه العربية بعدُ بقوالبه الجامدة وترجمته الحرفية المباشرة، وما يزال له طرافته ووقعه الجميل في النفس، إلى أن تتكشف مصادره ويكثر اجتراره ويتم إخضاعه للمنطق اللغوي، فإما أن يكتب له القبول والبقاء أو يحكم عليه بالزوال ، فيُهمل ويُسقط من المادة اللغوية.
ومن الأمثلة على الاقتراض من المصادر المعجمية الأجنبية التعريفية لعجز فاضح عند العرب والمستعربين تعبير قبـــول الآخــر ، وعليك أن تنطق بها بصوت جهوري وتشدد أواخر الحروف كالخروف[3] ، كما يفعل جهابذة نشرات الأخبار في وسائل الإعلام العربي ، فكأن الواحد منهم مصاب بمغص معوي أو إمساك ، حتى تستسيغها وتروق لك موسيقاها ويحلو لك جرسها. وهذا اللفظ هو عنوان كتاب لمفكر عربي نال منذ سنوات جائزة دولية من الأمم المتحدة التي تعمل على مبدأ الحصص القومية والفتات الموسمي . وما هو في الواقع إلا ترجمة للفظ (tolerance). فعلى حد قول مفكرنا الكبير، لم يجد في طول وعرض وعمق اللغة العربية التي تتجاوز مفرداتها سبعين ألف مادة باستثناء مشتقاتها ، ولا في لهجاتها العامية ، كلمة واحدة تعبر عن اللفظ الإنجليزي والمفهوم الإنساني العام الذي يبدو وكأنه قد دخل الفكر العربي لأول مرة منذ نشأة المجتمع العربي الأول. فلا الرحابة ولا السماحة ولا سعة الصدر، وفّت على حد قوله ، إن خطرت بباله أصلاً ، ذاك المفهوم حقه واستوفت أبعاده المعنوية والفلسفية والاجتماعية. وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين . فراح يبحث في بطون المعاجم الأحادية الأجنبية والثنائية ، على طريقة هومر سيمسون في البحث والتنقيب ، ويعصر ما تبقى من المادة الرمادية، ليجد ضالته في تعريف إنجليزي للفظ في بيئته اللغوية الأصلية. أفلا يستحق جائزة نوبل ونوفل ودعجان بن نعسان على هذا الجهد الرائع والبحث العلمي الباهر؟ وليكن دنوك من الناس ليناً ورحمة.
المفكرون العرب ، وهناك طائفة منهم ، في هذا الزمن الذي تجاوز كل وصف رديء ، استيقظت ذات صباح وقررت أن تتخذ التفكير مهنة ولقباً لها، فهم يفكرون وغيرهم لا يفكر ، يؤسسون لهذا ويؤسسون لذاك. وفي رأيهم أن هذا الكاتب يؤسس لهذا المفهوم وذاك النهج وتلك المنهجية ترجمة لـ (lay the foundation for)، مما يتكرر في لغة الأكاديميين ولغطهم. وما يؤسسون إلا خراباً لغويا وخللاً منطقياً وبلبلة فكرية. ثم يوظفون هذا المفهوم وتلك النظرية ترجمة لـ (employ). وشاعت تلك الأخيرة بين المثقفين في العقد الأخير من الزمن ، ولم ينجُ منها حتى علماء اللغة ، علماً بأن التوظيف لغةً واصطلاحاً هو إسناد العمل إلى الشخص ، وصار يعني في محدث الاستعمال الاستثمار في أي أمر. ووظَّف الشيءَ على نفسه ووَظّفَه توظِيفاً أَلزمها إياه، نحو: وظَّف المعلمُ على الطالب حِفظَ خمسين بيتاً من الشعر، أي عَيَّن له خمسين بيتاً لحفظها. ولا شك أن التجديد والتغيير سنة الحياة وظاهرة صحية في اللغة المجتمع الذي يتفاعل مع واقعه ويستجيب له بوسائل تعبير مبتكرة. ولكن التجديد الذي يستقي جدته وحداثته ورونقه وقوالبه من مصادر لغوية أجنبية ، إنجليزية وفرنسية أو غيرهما ، تتبلور إبداعاتها أو بدعها من خلال تفاعلات مع نصوص أجنبية لا تمت إلى الواقع العربي أو المنظور الحضاري للعرب بصلة كبيرة ولا تتأتى بأشكالها المختلفة إلا بمقدار قدرة أولئك المفكرين والمستفكرين على الترجمة. وما على وسائل الإعلام سوى أن تكررها كالببغاوات الحمقاء حتى تصبح معياراً ومقياساً للأغرار من كتبة ومترجمين وطلاب، فيكثر اللغو واللغط والغلط.
وذاك مفكر يطبق مفهوم الشمولية فيصدح بكلام عن المشاهد والمشاهدة والمواطن والمواطنة ، ويكثر من التأتأة الفكرية والتأرجح اللغوي اللذين يصرفان السامع عن فحوى الكلام ومغزاه ، تيمناً بالطريقة الحديثة في اللغة الإنجليزية. ولا نعيب هذا الاستعمال على هذا المفكر ، الذي يخالف بآرائه الكثيرة إجماع الجهلة في الانبطاح والاستلاب ، فهو يعيش في بلد أجنبي. أما أن نرى النهج ذاته من أناس متخصصين وعاملين في الترجمة والإعلام وقائمين على شؤونها وشؤون اللغة العربية في جمعيات ومنتديات هلامية في مواطنها الأصلية ، تشبها وتشبباً بالأساليب الإنشائية واللغوية الإنجليزية ، فهذا أمر مخجل ومعيب جداً ولا عذر فيه ولا معذرة، ولا مبرر له ولا تبرير ، لأنه يسخّف قضية المرأة من جهة ويخالف قوانين ضبط الكلام ضبطاً واضحاً في اللغة العربية من جهة أخرى ، ناهيك عن خرقه لمبدأ الاقتصاد والإيجاز الذي تقوم عليه اللغات الحية كافة.
لقد انتقدت إحدى الباحثات اللغويات السويديات منذ عهد أساليب الإنشاء العربي في معرض تقويمها ، بل تثمينها كما يحلو لبعضهم أن يقول في السياسة والإعلام، في آخر الصرعات (à la mode)، لأعمال الروائي المصري نجيب محفوظ ، مدعية أن الكتاب العرب يعتمدون عطف التكافؤ في تداعي الأفكار وربط الجمل وإحكامها . وقامت بتحليل اللغة العربية من منظور أجنبي ومن خلال ترجمات حرفية عوراء رعناء في الإنجليزية، فأخذت على العرب الإكثار من حروف العطف ، فلم تدرك طبيعة التعاطف الإنشائي في اللغة العربية ، وطرائق ترابط الجمل وتماسكها ، وأن لتلك الحروف وظائف لا تنحصر في ما يسمى بالإنجليزية بـ (coordination). والتزام المترجمين من العربية إلى اللغات الأخرى بحرفية الأدوات ، دون وعي ومراعاة لطبيعة تلك الحروف ووظائفها ومعانيها يعطى قارئ الترجمة، وباحثتنا ، انطباعاً بأن اللغة العربية لغة متخلفة بمقاييس الإنشاء الإنجليزي تحديداً. فيسارع الكتّاب والباحثون العرب بلهفة إلى تبني نظرياتها وتطبيقها في كتاباتهم ، إكراماً لمحاضرة أجنبية مستوردة من جامعات أوربا ، لا تعرف من العربية إلا أذن الجمل بل ذيله. وحتى في برامج التدقيق اللغوي في الصائغات العربية ، أو ما يعرف بمعالجات النصوص والنشر المكتبي، فإنك تجد قواعد ضبط الإنشاء الإنجليزي تطبق على اللغة العربية ، لاسيما قاعدة الابتداء بـ (and). ومن الطريف أن تلك البرامج تظهر آيات القرآن وغيرها من النصوص المقدسة والتراث الأدبي بأنها خطأ لغوي. فهنيئاً لقوم استرسلوا في الاستيراد والاتجار بهويتهم اللغوية. فقد ضنّوا على أنفسهم حتى بلغتهم فظنوا أنهم يواكبون التقدم فضنّوا[4] وما برحوا مكانهم.
عندما قال الشاعر: اذهب عميقاً في دمي ! استيقظ الحس الوطني والحمية القومية والسليقة اللغوية عند العرب كلهم من المحيط إلى الخليج ، فتقبلوا ذاك التعبير الركيك الذي يخلو من الفصاحة والبلاغة وأخذوه عن صاحب ريتا دون اعتراض . ولم يجرؤ أحد في بلاد صاغرة ذليلة مستلبة أن يقف عند هذا التعبير ويحلله بشيء من الفطرة اللغوية. وصارت القصيدة أغنية ونشيداً له رذمه وإيقاعه. وفي الواقع فإن هذه الصورة ليست سوى ترجمة حرفية للتعبير الإنجليزي (go or run deep in my blood) لا يدركه إلا من يعرف مصادر الكلم. قبل تلك القصيدة كان الشيء يتوغل في الدم ويتأصل في النَّفْسِ، ويخرج في كل نَفَس. ثم صار يذهب عميقاً في لزوجة الدم فيغرق فيه ولا يجد أساً أو أساساً لغوياً لذلك فيذهب دَرَجَ الرياح ، ودون رجعة، أو يكاد!
وها هو الشاعر ينشد مرة أخرى "في بلادي ، وهي الفقيرة مثل أجنحة القطا ..." (ناصباً مثل لأمر ما)، فيصفق له المستمعون وتميد القاعة بالحضور، فكأنما ألقى عليهم سحر قرون منكسرة من الفصاحة والبلاغة فغيّبهم في نشوة كلمات لا تعني شيئاً كثيرا عند إخضاعها للتحليل النقدي والتدقيق المنطقي. فيسارع المراسلون والصحفيون ، ويتهافت المتهافتون ، ويتملق المتملقون ، ويداهن المداهنون ، ويتدافع المتدافعون إلى الإخبار عن ردود الأفعال ، وهو في الواقع فعل واحد بسيط يفتقر إلى المنطق اللغوي السليم. ولا شك أن للشاعر ما ليس لغيره من الحقوق والجوازات ووثائق السفر التي يخرق بها قوانين اللغة والطبيعة وحواجز المنطق وحدود البيان : وطني حقيبة، وطائرة ، وزورق ، وأغنية سليبة ، وعصفور، وسيجارةٌ عاشقةٌ بلا عقب، ولاجئ بلا هوية ، وفندق في البندقية ، وفنجان قهوة في الأزبكية ، وطني حقيبة وشمسية، وجواز سفر... إلى غير ذلك من سفسطة ... ليحدث رد فعل في نفس القارئ ، وذلك من خلال استخدام التشبيه والاستعارة والمجاز وغيرها من الأساليب البيانية والبديعية. ولكن هل سأل أحدكم كيف تكون أجنحة القطا فقيرة قبل أن ينتشي في سكرته ويغيب في غيبوبته؟ وكيف تكون البلاد فقيرة مثلها؟ وكيف يستقيم التشبيه بين البلاد الفقيرة والأجنحة الفقيرة؟
إن من شروط التشبيه البليغ أن ينقل القارئ من الشيء نفسه إلى شيء آخر طريف يشبهه أو صورة بارعة تمثله ، فيبالغ في وصفه لقرينة منطقية وعلاقة بين المشبه والمشبه به. وكما يذكرنا الهاشمي في كتابه (جواهر البلاغة) ، فكلما كان هذا الانتقال بعيداً ، لا يخطر في البال فوراً، أو كان ممتزجاً بقليل أو كثير من الخيال، كان التشبيه أروع في النفس، وأدعى إلى إعجابها واهتزازها، لما هو متأصل في الطبع البشري من أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له والاشتياق إليه ومعاناة الحنين نحوه كان نيله أحلى، ووقعه في النفس أجل وألطف. فتتجلى براعة الأديب أو الشاعر في عقد المشابهة بين حالتين يكون وجه الشبه فيهما غير ظاهر بداهة ولكن يفهم بعد إعمال الفكر فيه ، فإن أدركه فجأة بعد إمساك كان أبلغ وأجمل. والغرض من التشبيه البليغ هو الإيضاح والبيان بعد إبهام. وتكمن قوته في وضوح الدلالة ، وإن بعد جهد ولأي. وإلا فما فائدة التشبيه إذ استغلق على القارئ وتجاوز إدراك السامع لافتقاره إلى العلاقة ووجه الشبه ... اللهم إلاّ إذا كان لا يريد للقارئ أن يسبر غور بلاغته وفصاحته وغرابة رموزه. فما هو وجه الشبه بين البلاد الفقيرة وأجنحة القطا؟
إن القطا هو نوعٌ من اليمام يشبه الحمام ، يُؤْثِرُ الحياةَ في الصحراء ، ويطير جماعاتٍ وأسرابا، ويقطع مسافاتٍ شاسعة، ويُضرب به المثل في الهداية ، نحو قولهم أهدى من قطاة ، وهي الواحدة من القطا. فلو حملنا إيثار الحياة في الصحراء وجهاً للتشبيه لوجدنا مشكلة أخرى في الدلالة. فشاعرنا لم يقل في بلادي وهي الفقيرة مثل القطا ، بل أجنحة القطا. وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال : هل هو فقر في الألوان؟ فإذا كان الأمر كذلك فكيف تكون بلادي فقيرة وهي الغنية بصخب الحياة وألوانها، بل بدماء شهدائها وأشلائهم وأرواحهم؟ فإن حملنا الفقر على أنه زهد في الدنيا وتنسك لم نجد وجه الشبه بين البلاد الفقيرة والأجنحة الفقيرة. فكيف تكون الأجنحة الفقيرة زاهدة في الدنيا وقد لبس القطا ثوب العيش لم يُستشر؟
نحن هنا لا نتعرض للشاعر العظيم ، فهو حر فيما يكتب ويختار من كلام. بل نتساءل عن السامع أو القارئ الذي يتلقى الكلام فيتفاعل معه دون أن يسأل نفسه لماذا؟ وهنا العيب الأكبر. فلطالما سمعنا في مجالات كثيرة تعابير تفتقر إلى المنطق يرددها المرددون بل ويعنتون في استعمالها حمقاً وجهلاً وصلفاً وكبرياء ، يتلقفها السامع وكأن الدر يخرج من أفواههم. ومنها ردود الأفعال التي تخالف قوانين الطبيعة ومنطق اللغة. إذ أن لكل فعل رد فعل أو ردود فعل في أوضاع مختلفة. فإن أطلقنا هذا القانون على أمور أخرى من الحياة لوجدنا أن هناك رد فعل وردود فعل، نحو: كان للعرب ردودُ فعلٍ مختلفةٌ تجاه اعتقالِ الرئيسِ العراقي السابقِ صدام حسين. فالاعتقال فعل واحد ومواقفُ الناس منه المتعددةُ هي ردود عليه. وقد يختلط الأمر على معظمهم ظناً منهم أن رد الفعل هو فعل الرد. فالرد هو فعلٌ لفعلِ . وهذا بالطبع ليس هو المقصود. بل هو كما عرضنا في مكان آخر ، ترجمة سيئة مغلوطة للفظ الإنجليزي (reactions) لعدم دراية المترجم بشروط الاشتقاق في اللغة الإنجليزية وما يقابلها من شروط في اللغة العربية.
ويكثر في الآونة الأخيرة استعمال التعبير (عدد الضحايا مرشح للارتفاع). ويتكرر على ألسن المراسلين والمذيعين والصحفيين وغيرهم من إعلاميين ومفكرين. ولو نظرنا إلى معنى (رَشَّح) لوجدنا الآتي:
رَشَّحَ يُرَشِّحُ تَرْشِيحاً فلاناً : رَبَّاه ونَمَّاه؛ نحو رَشَّح الوالدُ وَلَده، يفيد الخير. ورشَحَّهٌ للشيْءِ: أَهَّلَه له وأعدَّه؛ ورشَّح فلاناً لوظيفةٍ ما: زكَّاه لها؛ ورشّحت الأمُ ولدَها : عوَّدته المشيَ ؛ ورشّحَ السَّائلَ: فَصلَ الأجسامَ العالقةَ فيه باستخدام مادة مسامِّية تسمح للسائل بالنفاذ خلالها محتجزة الأجسام الصلبة.
فكيف يمكن للعدد الضحايا أن يكون مُرَشَّحاً للارتفاع؟ فكأن ذاك المراسل اختطف معنى أهّل وأعدّ دون أن ينظر في مضامينه الإيجابية. ولعل الأمر اختلط على أول من استعمله بين مرجح ومرشح ، في حالة تعرف في الإنجليزية بـ (malapropism). فذهب مثلاً يقتدى به. أو لعله مجرد تجديد!
ويشيع في العربية المعاصرة كذلك مصطلح (اللغة الكونية)، وهو ترجمـة عوراء للمصطلح الإنجليـزي (universal language)، بدلاً من اللغة العالمية، نحو: الإسبرانتو لغة كونية. ولم يسأل ناقل المصطلح إلى العربية فيما إذا كانت هذه اللغة الكونية ستستعمل لمخاطبة أهل المريخ أو كوكب آخر في مجرّة أخرى. بل راح يردده بكل فخر وثقة واعتزاز وحماقة، ودون رقيب ذاتي أو خارجي في مؤسسات ومنظمات على قدر من الإدعاء برفعة المستويات ورقيها، وفي وسائل إعلام أخذت على عاتقها مسؤولية تثقيف الناس وتسييسهم وقولبة أدمغتهم، فأصابها العنت والصلف والغرور، فراح بعضهم يتمرد على المشاهدين ويستهزئ بهم ويتمادى في طغيانه وفرض منهجه ونظرته عليهم. وهذا من أدبيات الذين ينادون بالتخلص من العَسْف والظلم والاستبداد. فهل يعقل أن تكون هناك لغة كونية؟ فالإسبرانتو لغة عالمية غايتها توحيد وسيلة التواصل بين البشر في الأرض وليس مع الجن أو العفاريت في كوكب آخر. ولطالما كان شعار المروجين لتلك اللغة الموضوعة المصطنعة هو عالم واحد ولغة واحدة. فتـتأتى للقارئ الدلالة بأن القصد ليس الكون بل العالم. ومن هذا القبيل القرية الكونية نقلاً مغلوطاً للتعبير الإنجليزي (global village). وينسحب على هذه العبارة الكلام السابق نفسه، فاللفظ (global) مشتق من (globe) وهو الكرة الأرضية، لا الكونية. وسواء أكان القصد من كونية هو ما ينسب إلى الكون، وبخاصّة ما يتصل بتركيبه الفلكي ، والنّظام الكَوْني هو الكَوْنُ، أم كانت النية هي ما ينسب إلى الكينونة ، فإن مصطلح القرية الكونية وكذا اللغة الكونية خطأ منطقي وعيب فكري.
ومن الجديد في الأمثلة على المنطق الأعوج عند العرب المصطلح الجديد "عقيدة بلير للمجتمع الدولي ترجمة لـ (Blair's 'international community' doctrine). فصاحبنا لم يميز بين المفردات التي سردها له المورد فاختار (عقيدة) بدلاً لـ (مبدأ)، فالعقيدة هي ما يُستوثق به من حكم ثابت ودائم لا يَقبل المعتقِدُ الشكَّ فيه ولا يحيد عنه ، والمبدأ هو القاعدة ، وهي الأصلُ والقانونُ والضابط ، وهو أمر قابل للتبديل والتعديل والتغيير والإهمال والإسقاط حسب المقتضيات والمتغيرات. وكأنما الوحي قد نزل على طوني (وليس توني كما يحلو لبعضهم) بلير كما نزل على غيره من قبله فأوحى له أن يعتنق هذه العقيدة.
ومنه كذلك التعبير الذي يتردد اليوم كثيراً في وسائل الإعلام على ألسنة الصحفيين والمترجمين، وهو "التقدم إلى الأمام"، ترجمة لـ move forward. ويكمن الخلل المنطقي في هذه الترجمة العوراء الحمقاء في أن التقدم لا يكون إلا باتجاه واحد وهو الأمام. أم أن ذلك الحشو غير المفيد هو زيادة في إيضاح ما هو واضح وضوح الشمس؟ وقس على ذلك من الأمثلة الكثيرة التي تصيب المرء بالإعياء والغثيان. فكلما نطق هؤلاء بتلك الحماقات اللغوية كلما ثبت ثبوتاً قاطعاً أن هناك خللاً منطقياً مزمناً لا يقبل الجدل في العربية المعاصرة.
ويُعزى هذا الخلل المنطقي، في جانب كبير من النشاط المعرفي ، إلى أمرين متداخلين ومتشابكين لا يمكن فصلهما بسهولة ويسر. الأول ، هو نظم تصنيف المفاهيم عند الفرد والمجتمع، في معاجم ثنائية فكرية ، أي في ذاكرة الإنسان ، وفي المعاجم المادية ، أي المطبوعة في الكتب وغيرها من الوسائل المدركة بالحس. فالإنسان الذي يتعلم لغة أخرى يصنف المفاهيم في ذاكرته يحسب مصادرها اللغوية الأجنبية فيقابل ويطابق تبعاً لذلك. وينحصر الأمر في أغلبه في المعاني المعجمية للكلام. ويعزز عمليةَ المقابلةِ والمطابقة المعاجمُ الثنائيةُ التي يعتمدها المرء للتحقق من معاني الكلمات، والتي تضع المعاني في قوالب جامدة لا محيد عنها. وهذا الأمر يصيب نظم التصنيف بالخلل والاضطراب. فلو عدنا إلى المصطلح (universal) لوجدنا الخلل في مطابقته بالكوني لعدم تجاوزه إلى السياق العام. وهذه العلة المستفحلة هي إحدى أسباب التخلف المعرفي والفكري والحضاري والتقني عند الشعوب المتخلفة والمستنمية.
والثاني هو الترجمة وعيوبها. فقد أصبحت الترجمة عند كثير من المبدعين العرب منهجاً وإطارا فكرياً ومصدراً رئيساً من مصادر الإبداع لضحالة المادة الأصلية عندهم. فقلما تجد من يجدد من واقع البيئة العربية الطبيعية الحالية. فهناك طائفة تستقي مناهجها الفكرية ورموزها اللغوية من التراث القديم فتحسبها ما تزال في القرون الوسطى. وهناك طائفة تتلقف المعارف بلغات أجنبية، سواء أكان ذلك على المقاعد الدراسية، إذ أن كل المعارف والعلوم تُدرس بلغة أجنبية ، إنجليزية أم فرنسية ، ومن كتب مستوردة ، أو من خلال قراءات وبحوث ومطالعات فردية لكتب أجنبية، — والغريب في هذا الأمر الحملة الجديدة المسعورة لتحديث المناهج وزيادة تغريبها ، وهي في معظم الدول العربية مورثة ومتوارثة عن الاستعمار البريطاني والفرنسي ، لا سيما مناهج الجمهورية الثالثة منها في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، والتي كانت مصممة بالدرجة الأولى لتمكين الأثرياء والنخب الاجتماعية والطغم السياسية من السيطرة على مقدرات الأمة على حساب الوطن والمواطنين والانتماء — فتجدها تترجم ما حفظته وأودعته بواطن الذاكرة بشكل تلقائي يتراءى في الكتابات المختلفة وفي التعابير المقتبسة من تلك المصادر. وهذا الانفصام في الفكر وعملياته الثنائية المشوهة عند العرب يتسبب في نقل تراكيب تخالف المنطق اللغوي، دون وعي وإدراك لأبعاده الحضارية وانعكاساتها السلبية. فهاك شاعرة تقول في كلمات أغنية:
كم جميلٌ لو بقينا أصدقاء...
إن كل امرأة تحتاج إلى كف صديق...
كن صديقي
هواياتي صغيرة
واهتماماتي صغيرة
وطموحي أن أمشي ساعات معك
تحت المطر
عندما يذكرني الحزن
ويبكني الوتر.
فلماذا تهتم بشكلي ولا تدرك عقلي...
أنا محتاجة جداً لميناء سلام ...
أنا متعبة من قصص العشق وأخبار الغرام
فتكلم !
لماذا تنسى حين تلقاني نصف الكلام
ليس في الأمر انتقاص للرجولة
غير أن الشرقي
لا يرضى بدور غير أدوار البطولات.
وبغض النظر عن المغزى الاجتماعي للقصيدة التي استبقت عصر الفضائيات والبرامج الساقطة، والرموز الجنسية الغربية فيها ومراميها العاطفية التي تتعارض مع القيم الاجتماعية الشرقية ، والسير تحت المطر وليس فيه، وإن أمطرت في الخليج أوحلت فكيف يكون السير في المطر أنشودة العاشقين، ومفهوم (macho man) في أدوار البطولات، والاضطراب في بعض أوزانها لاسيما في آخرها، حيث أجبرت الملحن على تغيير اللحن بشكل درامي، فإن في مطلعها خللاً نحوياً ومنطقياً في ناحيتين: الأولى في اسم الاستفهام المرفوع (كم جميلٌ) ، والثانية صيغة الجمع في (أصدقاء). فمن المعروف أن كمْ اسمٌ مبني على السكون يُعَبَّر به عن عدد مُبْهَم القَدْر والجنس ولذلك يحتاج إلى اسم يميزه. وتكون ناصبة للاسم الذي يأتي بعدها، إذا كانت استفهامية للسؤال عن العدد، ويكون مميزها مفرداً منصوباً ؛ نحو: كَمْ كتاباً قَرأتَ؟ وخافضةً له إذا كانت خَبَرِيَّةً تدل على عدد كثير ويكون مميزها مجروراً بالإضافة أو بمن مفرداً أو جمعاً، نحو : كم من شهيدٍ قضى في سبيل الوطن.
واعتمدت الشاعرة كذلك صيغة الجمع بدلاً من صيغة المثنى ... لضرورات شعرية تأرجحت بين العامية والاقتباس المستهتر من الإنجليزية. فمعظم المثقفين العرب ، لا سيما الذين درسوا في جامعات أجنبية ، بريطانية وأميركية بشكل خاص، يتخاطبون باللغة الإنجليزية ، بل ويستخدمونها أداة للتفكير والتعبير في مناحٍ كثيرة من حياتهم. فلو تأملت تلك النخب واستمعت إلى أحاديثهم لصعب عليك أن تفرز الألفاظ العربية عن الألفاظ الأجنبية، التي تتكرر كاللازمة الموسيقية وهذا (wishful thinking) كما يردد الآن في فضائيات "البسيه واشلحيه"! فتعطي صاحبها شعوراً بالتفوق الحضاري والتعقيد الاجتماعي. ولطالما ظننت أن هذه الظاهرة منحصرة في المجتمعات الاغترابية بحكم البيئة اللغوية والعوامل الاجتماعية والاقتصادية والمهنية المؤثرة ، والتي تجبر المقيم في تلك المجتمعات على تبني لغة البلد المضيف شيئاً فشيئاً فتتأثر لغة أمه ولسان أبيه ويشوب كلامه ألفاظ وتعابير أجنبية بألفاظها الأصلية أو بترسم معالمها وتضاريسها وخطوطها الكفافية. واسأل مجرباً قضى معظم حياته في الغرب . ولكن يبدو أن العرب في بيئتهم الطبيعية أشد تأثراً باللغات الأجنبية، وأقل حفاظاً على لغة آبائهم وأمهاتهم، اللهم إلا إذا كن أجنبيات ، and there is nothing wrong with that!
من الجائز أن الشاعرة استلهمت مطلع القصيدة من العبارة الإنجليزية (how nice if we could stay or remain friends…) التي تكون قد سمعتها أو استخدمتها في موقف أوحى لها بالقصيدة. فهذه بالطبع آلية الوحي الشعري وغيره. وهكذا ، نجد أن التعبير "كم جميلٌُ لو بقينا أصدقاء" مخالف لهاتين القاعدتين الأصليتين في اللغة العربية ، وذلك كما أسلفنا بحكم التبعية اللغوية للمصادر التي جاءت منها تلك الإيحاءات، ويخالف طريقة العرب في التمني والتعجب والرجاء، نحو : ما أجمل أن نبقى صديقين!
والمؤسف أن تلك القصيدة بعيبها اللغوي ومنطقها المختل صارت أغنية يرددها الناشئة في جملة التطبيع والتطويع. ويُذكر هنا كيف كان الموسيقار العبقري محمد عبد الوهاب يغير ويبدل بل ويعيد هندسة القصائد إذا كان فيها خلل أو عيب أو شائبة. فعندما لحن قصيدة الشاعر إيليا أبو ماضي (جئت) والتي جاء مطلعها كالآتي:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ووجـدت طـريقاً قـدامي فمشيت.
أبدل قدامي بأمامي فجاءت الأغنية سلسة متناغمة قريبة إلى نفس السامع. ويُظهر هذا المثل لنا حيوية الفنان ووعيه بل قدرته على التعامل بإبداع مع المادة الفنية. وفَعَلَ الشيءَ ذاته في إخراجه لترجمة الشاعر أحمد رامي لرباعيات عمر الخيام.
سمعت صوتًا هاتفًا في السحر
نادى من الحانِ غفاة البشر
هبُّوا املأوا كأس الطلا
قبل أن تُفْعِم كأس العمر كفُّ القدر!
فأبدل لفظ الحان بالغيب والطلا بالمنى وتُفْعِم بتملأ ، فجاءت كلمات الأغنية كالآتي:
سمعت صوتًا هاتفًا في السحر
نادى من الغيبِ غفاة البشر
هبُّوا املأوا كأس المنى
قبل أن تملأ كأسَ العمر كفُّ القدر!
وفي معرض الحملة لتحديث وتبسيط وتسهيل اللغة العربية ونحوها وقواعدها ، التي كانت بلغت ذروتها في مطلع السبعينات سارع أحد الباحثين وعلماء اللغة في لبنان إلى شن هجوم على اللغة العربية واصفاً إياها بأنها لغة ضرب وقتل وعنف ، مستشهداً بعدد قليل من التعابير الاصطلاحية نحو: ضرب به عرض الحائط ولنضرب لك مثلاً. ولم أجد ناطقاً واحد باللغة الإنجليزية يعيب عليها تعابير اصطلاحية مشابهة فيصفها بأنها لغة ضرب وعنف. ومنها على سبيل المثال لا الحصر الآتي:
Hit it big
Hit it off
Hit the books
Hit the bottle
Hit the hay
Hit the jackpot
Hit the road
Hit the roof
Hit the sack
Hit the spot
Strike a balance
Strike a deal
Strike a match
Strike down
Strike hands
Strike it lucky
Strike it rich
Strike out
Strike up
ويتضح لنا عند التحليل والتدقيق كيف يسارع العرب إلى التخلي عن لغتهم ، وتظهر لنا النفسية المتخاذلة والضائعة والتائهة عند أغلبهم والتي تبني ، ولا تؤسس، على معرفة مجتزأة وقواعد واهية وتطلعات واهمة . ولا ريبة أن ثمة تصلباً وتحجراً في الآراء والمواقف وتحاملاً على اللغة العربية بحجة التجديد والتحديث والعولمة. وما هو في الواقع سوى غطاء صغير يستر العجز اللغوي والمنطقي الكبير ، فلا يكاد يخفي منه إلا النزر اليسير. وعلى ضوء ما تقدم فإن الترجمة من العربية المعاصرة إلى الإنجليزية من الأمور التي لا تشكل عائقاً كبيراً إذا كان المترجم على دراية بمصادر الكلام. فما يكتب وما يسمع فيها لا يتجاوز التراكيب والتعابير الأصلية والمنطق اللغوي لتلك المصادر والذي يخالف كما رأينا منطق اللغة العربية. وقد يكون هذا جَسْراً للهوة الحضارية ، كما يحلو لبعض المساكين أن يترجم (bridge the gap) ، ولكنها تبقى فاغرة فاهاً. ولا يسمع منها إلا ثغاء ورغاء.
----------
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف ، 2004
_________________________
[1] العِيَان : مصـ. عَايَنَ يُعَايِنُ مُعَايَنَةً وعِيَاناً : الرؤية بالعَيْن؛ لقيته عياناً، ومنها شاهدُ عِيان ، بكسر العين لا فتحها ، وتخفيف الياء لا تشديدها كما يشيع في الإعلام العربي المعاصر.
[2] للوقوف على الفرق انظر المقال أزمة الترجمة والرقابة الذاتية في الفضائيات العربية ومدرسة الإعلام العربي الجديدة، (2004) ، للمؤلف.
[3] يُعزى هذا العيب في النطق أحياناً إلى عدم تمكن المرء من قواعد اللغة فلا تأتيه طوع الخاطر. لذا يلجأ إلى مط الكلام ليعطي نفسه فرصة لاستدراك الحالة النحوية فيما إذا كانت رفعاً أم نصباً أم جراً. وقد يكون سببه المفهوم المغلوط بأن على المذيع أن يظهر أواخر الكلمات للوضوح ، تبعاً للمدرسة الإعلامية الأجنبية، فيلتبس عليهم الفرق بين الإيضاح والتشديد والمط والمغط والاستطالة . فيخففون ما يجب تضخيمه ويضخمون ما يجب تخفيفه ، ويخلطون بين الإظهار والإخفاء والإدغام والإقلاب. يحكى أن رجلاً دخل مسجداً يوم الجمعة في تركيا. فتقدم يشكر الإمام على خطبته الجيدة وتجرأ أن يلفت نظره إلى أنه ضخم اللام في لفظ الجلالة وخفف الطاء في الشيطان ، في أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فنهره الإمام التركي قائلاً: "فالان ديديم ! آنتمو الأربو تدخمونى الشيتان وطخافيفون الآآآه." ولا يبتعد هؤلاء العرب عن صاحبنا التركي في بعض تلفظهم للأصوات العربية.
[4] لمن يريد التعمق: ضَنَّ يَضَنُّ اِضْنَنْ ضَنّا وضَنَانَةً : بَخِلَ وبَخُلَ ، وضَنَّ بالمكانِ ونحوه: لم يبرحْه وبقي فيه.
-------------
* علي درويش : أستاذ الترجمة والتواصل التقني والحضاري في جامعات ملبورن ـ أستراليا، ومؤلف وكاتب تقني.
مصدر المقال : صحيفة المناخ ( صحيفة استرالية بالعربية ) :
http://www.al-manac.com/kutta_almanac/Ali%20darwish%20march.htm