مدخل:
مـن المتّفق عليه في علم الإنسان، أو علم الأجناس (الانثروبولوجية Anthropology) أنه ما من عرق بشري نقي الدم تماماً، إلا في استثناءات نادرة تنطبق على سلالة مغلقة اجتماعياً أو جغرافياً إغلاقاً حجز بينها وبين الآخرين. ومثل هذا الحكم يمكن أن يطلق على اللغات. فثمة مجموعات بشرية صغيرة اتخذت لنفسها رموزاً إشارية أو صوتية للتفاهم والتواصل واصطلح على تسميتها لغة. فإذا قُيِّض لمثل هذه المجموعات أن تبقى معزولة عن الآخرين، منقطعة الصلة بما حولها أمكن أن تَسْلَم لغتها من الدخيل. وهذا، وإن كان مستبعداً، يوحي بأن أصحابه خاملون أو يخشون الآخرين، أو إنهم شديدو التعصب والعزلة والرفض للآخر. ولا شيء من هذا يمكن أن يُنسب إلى العرب. فللعرب لغة قديمة عريقة امتدت على مدى تاريخي طويل، وعلى مساحة جغرافية فسيحة. ولم يكن العرب خاملين ولا منعزلين عن غيرهم أو متعصبين تعصباً يملي عليهم الحذرَ من الآخرين أو رفضَهم. لقد كانوا على صلة بالحضارات المجاورة، وعلى حوار إنساني مع الأمم والشعوب الذين احتكوا بهم في التجاور والتجارات والمصاهرة والسفارة والمحالفات والولاء والوكالات والهجرة والحروب.
لقد كان للعرب صلات وثيقة بالفرس عن طريق المناذرة في الحيرة ودومة الجندل وجنوبي العراق، كما كان لهم صلات وثيقة بالروم عن طريق الغساسنة في منطقة دمشق وما جاورها، وفي الجنوب اتصل العرب بالأحباش عن طريق الهجرة والحروب وعلاقات الجوار المتنوعة. وعن طريق المعاملات التجارية أقام العرب أنواعاً من الصلات بهذه الأطراف كلها، فضلاً عن صلتهم بالهند والصين منذ القديم(1). ولا يعقل أن تبقى العربية بعد هذا خالية من مؤثرات أصحاب هذه اللغات، بل ستأخذ منها من الألفاظ والمصطلحات والمسميات بالقدر الذي تستدعيه طبيعة العلاقة والتعامل. ولا ننس أن مكة المكرمة كانت مركزاً دينياً وجغرافياً وتجارياً في قلب جزيرة العرب، وهذا جعل منها ملتقى للتجار ومحطة للقوافل التجارية العابرة من الشرق إلى بلاد الشام وأوربة، ومن المنتظر أن يفتح هذا باباً للتبادل اللغوي، وللأخذ والعطاء والمحادثة والمحاورة وغير ذلك مما سيخلّف آثاراً لغوية لا سبيل إلى تجنبها.
وقبل أن نبسط القول في تفصيلات ما اقتبسه العرب من غيرهم يحسن أن نوضح بعض ما يحيط بهذا الموضوع من ملابسات، وأن نقف عند اختلاف العلماء في النظر إلى ظاهرة الدخيل اللغوي في هذه المنطقة من العالم. ولا معدى لنا في الخطوة الأولى عن الوقوف عند مفهوم الدخيل، ثم مفهوم المعرّب حتى نسمي الأشياء بأسمائها في منأى عن قلق التفسير والاجتهاد.
ولعلّ الأصل اللغوي العربي "دخل" يسعفنا بدلالته القديمة على تعريف مصطلح الدخيل اللغوي بدلالته المتأخرة، فالدخيل أصلاً: الذي يُداخلك في أمورك(2) و"فلان دخيل في بني فلان إذا كان من غيرهم فتدخل فيهم"(3). و"الدخيل: المُداخل المُباطن.. وداء دخيل: داخلٌ، وكذلك حبّ دخيل(2).
أما مصطلح الدخيل اللغوي عند صاحب اللسان فلا يعدو أن يكون إشارة مجتزأة إلى جوهر المصطلح بمفهومه الأعم، بيد أنها تنطوي على تنبّه مبكر، وفهم متطور لظاهرة الدخيل في اللغة العربية، يقول: "وكلمة دخيلٌ: أدخلت في كلام العرب وليست منه، استعملها ابن دريد كثيراً في الجمهرة"(4).
ولم يستوِ الدخيل مصطلحاً خالصاً في الدراسات اللغوية عند العرب، أو لم يشعْ مصطلحاً متّفَقاً عليه بالدقة والتحديد، وإن حظي باهتمام السلف في مرحلة التصنيف في غريب القرآن، ومرحلة "تنقية" اللغة بعد ذاك(5) إلى أن جاء الجواليقي فأضفى عليه مزيداً من الإيضاح عندما نظر إليه بالقياس إلى العربي الأصيل أو الصريح حيث قال في مقدمة كتابه "المعرب":
"هذا كتاب نذكر فيه ما تكلمت به العرب من الكلام الأعجمي، ونطق به القرآن المجيد، وورد في أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، رضوان الله عليهم أجمعين، وذكرته العرب في أشعارها وأخبارها. ليُعْرَفَ الدخيل من الصريح، ففي معرفة ذلك فائدة جليلة، وهي أن يحترس المشتقّ فلا يجعل شيئاً من لغة العرب لشيء من لغة العجم"(6).
فالدخيل والكلام الأعجمي هنا وضعا في مقابل العربي الصريح، ولغة العجم في مقابل لغة العرب، وتلك صورة تزيد مفهوم الدخيل وضوحاً وتعزّز استقراره مصطلحاً. وقد اتسع مفهوم هذا المصطلح في مراحل لاحقة على النحو الذي يصفه ابن خلدون في إطار الظاهرة اللغوية الأشمل، قال:
"فلما هجر الدينُ اللغاتِ الأعجمية، وكان لسان العرب القائمين بالدولة الإسلامية عربياً هُجرت كلها في جميع ممالكها لأن الناس تَبَعٌ للسلطان وعلى دينه، فصار استعمال اللسان العربي من شعائر الإسلام وطاعة العرب، وهَجَر الأممُ لغاتهم في جميع الأمصار والممالك، وصار اللسان العربي لسانَهم حتى تُرَسَّخَ ذلك لغةً في جميع أمصارهم ومدنهم، وصارت الألسنة العجمية دخيلة فيه وغريبة"(7).
وعلى هذا النحو من الاستعمال التلقائي للفظة "الدخيل" في الموضع الموافق للمصطلح بمفهومه العلمي بدأت فكرته تترسخ وتشيع في الكتابة والبحوث اللغوية، حتى جرى بها العرف ولقيت من العلماء قبولاً، بل إقبالاً يشبه أن يكون اتفاقاً ضمنياً اصطلحوا عليه من غير نصّ صريح، وبالمقابل من غير دفع أو معارضة أو استنكار(8) وتعمم هذا المصطلح بعد ذاك في تعابير حديثة من مثل "المصطلحات الدخيلة" و"العلوم الدخيلة" وما يشبه ذلك مما استعير من اللغات الأخرى.
ويلحظ في هذا الإطار أن القدماء قد ساووا بين "الدخيل" والأعجمي من غير تعريف مقيّد نصوا عليه فيهما، ولا تفريق مذكور بينهما، وإنما انطلقوا من النظر إلى مفهوم العجمة المناقض للإفصاح والبيان في الدلالة اللغوية. وشيئاً فشيئاً تراجعت تسمية الأعجمي ليستخدموا بدلاً منها تسمية "المعرَّب" الذي ما لبث أن استوى مصطلحاً، ولكنها لم يكن موضع اتفاق، أو إجماع، بل كان موضع خلاف بين العلماء قديماً وحديثاً، وعلى أوجه منها:
أ-النظر إليه من جهة الدلالة، فإذا كان الأصل اللغوي يتجه إلى الإبانة والإفصاح اتجه المصطلح إلى نقل اللفظ من العجمة إلى العربية على نحو مستساغ نطقاً وصوتية. والمشهور فيه "التعريب" وقد عبّر عن هذه الفكرة سيبويه في وقت مبكّر حين سماه "إعراباً" استئناساً بأصل المعنى، وعليه يقال: معرّب ومُعْرَب(9).
ب-النظر إليه من جهة الإجراء عند النقل إلى العربية، وقد لخص هذه الفكرة غير واحد من علمائنا، من ذلك قول الجوهري في "الصحاح": "تعريب الاسم الأعجمي أن تتفوه به العرب على منهاجها، تقول: عرّبته العرب وأعربته أيضاً"(10).
فعبارة "تتفوّه به على منهاجها" تقتضي مجموعة من الإجراءات هي التي فصّل فيها الخالفون ممن عرضوا الظاهرة الدخيل والمعرب.
ج-النظر إليه من جهة الزمن، فقد ذهب بعضهم إلى أن ما دخل العربية بعد عصر الاحتجاج يعدّ مولَّداً أو دخيلاً، وما قبل ذلك يعد معرّباً. ويحدد عصر الاحتجاج غالباً بنهاية منتصف القرن الثاني الهجري (150هـ). وفي هذا اعتداد لا يخفى بالعرب الخلّص الذين يحتجّ بلغتهم في السلامة والصحة، وفي التعريب.
د- النظر إليه من جهة الوزن، أي "إذا جاءت لفظة أجنبية، وهذبت من حيث لفظها بحيث أشبهت الأبنية العربية القحة في ميزانها الصرفي، اعتبرت من المعرب. أما إذا بقيت على وزن غريب على اللغة العربية فهي من الدخيل"(11).
وهذا الاشتراط في تعريف المعرّب لم يقل به القدماء صراحة، وإنما أشاروا إليه بصفته واحداً من الإجراءات العامة في التعريب. وبهذه الرؤية المتنوعة الموزعة بدا مصطلح المعرّب موضع خلاف. أما القول الأقرب إلى الصواب فيه فهو إن المعرب دخيل في الأصل وقبل كل شيء. وتعريب هذا الدخيل كان بأن يجري العرب عليه تعديلات تتفق وطبيعة العربية وتجعله ينقاد لخصائصها بالقدر الممكن: في أوزانه ومعانيه وأصواته، فتُغَيِّرُه بالحذف والإضافة والإبدال والتصريف (التنوين) وإدخال (لام) التعريف عليه (للتمكين) وحتى يصير (محمولاً) على كلام العرب(12).
وثمة مظاهر أخرى للتعريب لم ينصّ عليها اللغويون بالتسمية والحد، ولكنها جاءت عرضاً في بعض كتب التراث، كقول أبي إبراهيم إسحاق بن إبراهيم الفارابي: "الزبرجد: إعراب زُمُرّد"(13). وقول الأصمعي:
"سكّر طبرزد، وطبرزل، وطبرزن ثلاث لغات مُعْرَبات"(14).
وتتضمن إشارة الفارابي إلى تعريب "الزبرجد" مفهومات: الصرف، والإبدال الصوتي، والتغيير في الحركات، والحذف. كما تشير فكرة الأصمعي بثلاث اللغات المعربات إلى التعريب عن طريق القلب الموضعي، والتغيير الصوتي- الفونيمي Phoneme ، والصرف بوضع الحركات العربية (الإعرابية) على أواخر الكلم.
وكان من معاني الإعراب عندهم ما يقابل مفهوم الترجمة عندنا اليوم كقول الأصمعي: "الحَنْدَقُوق نبطي، ولا أدري كيف أعربه إلا أني أقول: (الذُّرَق). قال: ولا يقال: (حِنْدقوق) ولا(حِنْدقوقة)(15).
وهذا يعني وضع الأصيل العربي في مقابل الدخيل الأجنبي أو بدلاً منه (من وجهة نظر الأصمعي)، كما يعني عدم قبول الأصمعي، أو عدم استساغته لفظة حِندقوق (بكسر الحاء) لأنه وزن غير مألوف في الأبنية العربية، وكذلك لا يجوز (عند الأصمعي) أخذ مفردة منه بلفظ (حندقوقة) وقد يكون المراد أيضاً عدم قبوله أن يقال (حندقوقا) بألف التعريف الآرامية التي تلحق بأواخر الأسماء بدلاً من بدايتها في العربية.
ذلكم هو التعريب بمظاهره التي عرفها وعرض لها القدماء.
أما الدخيل فامرأة أقل إشكالاً وغموضاً، ويتلخص حدُّ مصطلحه في أنه "أعم من المعرّب، إذ يشمل ما نقل إلى لغة العرب، سواء جرت عليه أحكام التعريب أو لم تجر عليه، وسواء أكان في عصر الاستشهاد (الاحتجاج) أم بعده"(16).
v v v
وبعد، فما هي اللغات التي نعدّ ما تسرّب منها إلى العربية دخيلاً؟!
قبل الإجابة عن هذا التساؤل يحسن أن نشير في إيجاز إلى أن لغويينا القدماء لم يفرّقوا بين مصطلحي "اللغة" و"اللهجة" كما يعرفهما علم اللغة حديثاً، إذ عبروا عن الاختلافات اللهجية بين القبائل بما درجوا على تسميته "اللغات"، وأخذاً بهذا التصور جاء عنوان كتاب "اللغات في القرآن" الآنف الذكر،(17) المنسوب إلى عبد الله بن عباس. وفي هذا الكتاب صُنِّفت الظواهر اللهجية (وهي صوتية في الغالب) منسوبة إلى "لغات" كالحميرية والحبشية والحورانية والنبطية ولغة طَيِّءوأهل اليمامة ولغة قريش ومذحج وجرهم وكنانة ولغة عُمان.. إلخ.
ومن المتّفق عليه بين الباحثين المحدَثين أن تلك "اللغات" التي ذكرنا تنحدر من أصل لغوي واحد هو الذي أطلق عليه عالم اللاهوت النمسوي الألماني شلويتسر A.l. SHLOESTER مصطلح "اللغات السامية"، وذلك عام 1781م، وتبعه في الأخذ بهذه التسمية ألماني آخر هو ايخهورن Eichhorn منذ عام 1807م. ثم شاعت هذه التسمية غير الدقيقة (كما أقرّ مجموعة من الباحثين)(18).
وإذا كان من أخذوا بهذه التسمية قد ميزّوا ما أسموه "اللغات السامية" من اللغات المجاورة، فإن لغويينا القدماء لم يلتفتوا إلى ذلك، بل سموا اللهجات العربية والمحلية واللغات المجاورة جميعاً لغاتٍ. وهذا أيضاً غير دقيق، لا بالمعايير العلمية، ولا من وجهة نظر علم اللغة المقارن Comparativ linguistic والذي نأخذ به وندعو إليه هو اعتماد التسمية الأقرب إلى الحقيقة وروح العلم، وهي "العربية القدمى"(19)، بدلاً من اللغات السامية أو اللغة السامية. وتكون اللغات "الأعجمية" أو اللغات "الأجنبية" تلك التي من أسرة أو أسر لغوية أخرى، كالفارسية والهندية والرومية والتركية واللغات الأوربية الحديثة وغيرها مما ندرسه بالقياس إلى العربية تحت مصطلح "علم اللغة التقابلي Contrastive linguistic . وما توقُفُنا القصير هذا إلاّ لإيضاح ما قد يعتور التسميات أو المصطلحات من غموض والتباس، وللإجابة عن تساؤل قد يدور في بال القارئ هو: هل نعد اللهجات العروبية المتفرعة من العربية القدمى أجنبية لنعدّ من ثم ما رشح إلى العربية منها دخيلاً أو في جملة الدخيل؟ والإجابة بداهة بالنفي للأسباب الآتية:
أ-لأن الكلمات التي تنسب عند التأصيل إلى الكنعانية والأوغاريتية والبابلية والآشورية والآرامية والحبشية وأشباهها وفروعها- تنحدر كلها من سلالة لغوية واحدة، أو من أسرة واحدة هي اللغة العربية القدمى. وأفراد الأسرة الواحدة أو الأصل الواحد ليسوا غرباء ولا دخلاء.
ب-لأن الدراسات اللغوية التحليلية والتاريخية والتأصيلية ليست بقادرة على إثبات انتماء الألفاظ التي هي موضع أخذ ورد إلى هذه اللهجة أو تلك من لهجات العربية القدمى، لأن التداخل اللهجي قديم لا تعرف طبيعته ولا أزمنته ولا قنواته، ولأن متكلمي تلك اللهجات كانوا في حالة انتقال وارتحال واختلاط على نحو غير منقطع وغير مرصود بضوابط موثوقة، لذلك يعدّ البحث في الفرز اللغوي هنا جهداً غير علمي خالص، بل سيكون عملاً مبنياً على التخمين والافتراض والاجتهاد.
ج-لأن جلّ الدخيل اللغوي في العربية- كما سيجيء- يعزى في منشئه وطبيعته إلى مسميات غير موجودة في الأرض العربية، وليست من مفرزات البيئة العربية ولا من طبع العرب ومجتمعاتهم، وعلى هذا سيكون ما دخل من لهجات العربية القدمى -لو تمت معرفته بحق- شيئاً مألوفاً تداوله الناس والألسنة ببعض اختلاف في النطق أو تنوع في المدلول، وهو أمر لم تخل منه العربية الفصيحة الباقية نفسها، أي أنه لا يسلك في معايير التأثير والتأثر بين اللغات والحضارات على النحو الذي نتطلع إلى رصد جانب منه. ففيم إذن بذل الجهد والإمعان في التكلف والافتراض؟! ونخلص من هذا إلى القول: إن الدخيل اللغوي الحقيقي إلى العربية هو الذي أخذه العرب من لغات الأمم المجاورة لأطراف جزيرتهم كالفارسية واللاتينية واليونانية والهندية والتركية وأشباهها.
v v v
ومما يجدر ذكره هنا أننا لسنا بصدد عمل إحصائي أو استقرائي تام لما أخذه العرب من اللغات المذكورة قبل قليل، فذلك أمر له ميدان آخر. أما الأمر الثاني فهو أن مسألة القطع بأمر الدخيل لا تخلو من جدل بين الباحثين اللغويين، إذ قد يرى بعضهم أن الألفاظ كذا وكذا عربية صريحة، ويراها آخرون دخيلة صريحة. فضلاً عن أن بعض باحثينا يبالغ فيصل إلى حدّ الزعم أن ألفاظ اللغات كلها عربية الأصل، وهو أمر دفعه وأنكره العلماء منذ القرن الثامن عشر، أو سلكوه في جملة اللهو والتوهم. وتفادياً لمثل تلك الاجتهادات والأحكام العاطفية القلقة نعتمد مبدأ الترجيح المعزز بما بين أيدينا من أقوال وأدلة ارتضاها الثقات من علمائنا الذين يُشْهَد لهم بمعرفة العربي الأصيل، وارتضاها الثقات ممن يُشهد لهم بمعرفة اللغات الأخرى من الباحثين المحدثين.
- ما أخذه العرب من الفرس:
وسنبدأ من القديم، ممّا وقفنا عليه من دخيل توزّعته مصادرنا اللغوية من شعر ونثر ومعجمات وأقوال. وفي القديم ، في العصر الجاهلي لم يكن العرب يتحفظون أو يتخوفون من أخذ ألفاظ أجنبية، أو يفكرّون بعقابيلها، ومع ذلك كان أخذهم قليلاً، لأن صلتهم بغيرهم كانت محدودة. ولعل الصلة الطويلة والقديمة بالفرس هي الأبرز والأدعى إلى اقتباس الألفاظ الفارسية قبل غيرها وأكثر من غيرها، فقد استمرت تلك الصلة ما يزيد على عشرة قرون، بل إن علاقات الجوار والحدود لم تنقطع أو تغلق، بصرف النظر عن طبيعتها السلمية أو الحربية أو التجارية.
ونقف قليلاً عند مثال واحد يفتح الباب لتسرب بعض الدخيل اللغوي الفارسي إلى العربية هو الشاعر الجاهلي الأعشى (ميمون بن قيس) الذي ولد في إقليم اليمامة حيث كانت قبائل بكر التي نشأ في أحضان أحد بطونها "بنو قيس بن ثعلبة". فالأعشى كان يتردد بين اليمامة والعراق، ونجدُ في شعره ذِكراً لبلدتي "عانة" و"بابل" من العراق. كما نجد ذِكراً للحيرة، عاصمة المناذرة القريبة من الكوفة. ونقرأ بيته في الخمر:
ولقد شربت الخمر تركضُ حولنا تُرْْكٌ وكابُلْ
ولعلّه يقصد بالترك والكابل جواري أو راقصات ممن استُجلبن من بلاد الترك وأفغانستان التي عاصمتها الحالية "كابل" أو كابول"(20) ويذكر في شعره الأديرة التي شرب قربها أو فيها، كما يذكر الرياحين والطيوب مما كان يستحضر في تلك المجالس، كما في قوله:
لنا جُلَّسانٌ عندها وبنفسجٌ * وسِيْسَنْبَرٌ والمَرْزَجُوشُ مُنَمْنما
وآسٌ وخِيْريٌّ ومروٌ وسوسنٌ * إذا كان هِنْزَمْنٌ ورحتُ مُخشَّما
وشاهَسْفَرِِمْ والياسمين ونرجسٌ * يُصَبِّحنا في كلّ دَجْنٍ تَغَيّما
فكم من الألفاظ الفارسية في هذه الأبيات الثلاثة وحدها؟
إن احتكاك الأعشى برهبان الأديرة، وبالجواري التركيات، ووقوفه على مسميات غريبة يعجّ بها مجلس خمر في بيئة فارسية مترفة(21)، ومشاهدته لألوان من الرياحين وأنواع من آلات الطرب التي لم يعرفها العرب.. كل ذلك يجعل من المحتّم عليه أن يقتبس المسميات ويضمّنها شعره، ولو من باب الهزل والاستطراف. وعلى هذه الصورة وشبيهاتها بدأ العرب يأخذون الدخيل الفارسي.
ونطيل هذه الوقفة عند الأعشى قليلاً فنقول: إن ما أدخله في شعره من الفارسية يمكن رصد معظمه في المسميات الآتية:
آس، إبريق، أرجوان، أرندج، إوان، باطية (وعاء للخمر)، بربط (آلة طرب)، بستان، بقّم، بنفسج، تامورة، جُلّسان، جون، خندق، خسرواني، خيم (الطبيعة والسجيّة)، دخارص (جميع دِخْرِص: قطعة تزاد في الثوب)، دوسر (إحدى كتيبتي النعمان بن امرئ القيس، اسم نبات، الجمل الضخم، اسم قلعة جعبر المعروفة قرب الرقة بشمال سورية، اسم شاعر هو دوسر بن ذهيل القريعي، ومعناها: ذو الرأسين)، دهقان، ديابوذ (ثوب ينسج على نيرين أو ذو لحمتين)، ديسق (خوان من فضة)، راووق، زبرجد، زمهرير، زنبق، زير (وتر دقيق حاد الصوت)، سلجم (لفت)، سُنبك، سوسن، صنج وصناجة، طنبور، طرجهار، (شبه كأس يشرب به)، طرجهارة (آلة مائية، فنجان. ويقال: طرجهالة)، مستقة (آلة طرب)، شيدارة (بساط منقش وثمين، بُرد يُشق ثم تلقيه المرأة على عنقها من غير كمين ولا جيب. قال:
إذا لبستْ شيدارةً ثمّ أرّقتْ * بمعصمها والشمسُ لمّا ترجَّل
مكوك (آلة تخص النساج والخياط، أو مكيال، مُلاب، مهارق، نمارق، ياسمين.. إضافة إلى ما جاء في الأبيات السابقة، وما صرفنا النظر عنه لغرابته)(22).
ويُلحظ أن معظم هذه الألفاظ يتعلق بآلة العيش، وبمجالس الطرب والخمرة ولوازمهما من (الكماليات) المتممة للترفيه، إلى جانب ألفاظ تتعلق بالعمران، أو بما يُلْبس، وكل ذلك مما لم تعرفه العرب على تلك الصورة، وكله من المسميات المادية الخالصة التي لا تخترق دائرتها كلمة واحدة تخلص للفكر أو للذهنية والتجريد.
ومما يشبه تلك المسميات أخذ العرب ألفاظاً فارسية تتصل بالثياب وألالوان من مثل أرمغان: (نسيج حرير فاخر)، استبرق، جورب، جُمان، دخدار (ثوب)، ديباج، زركشة، سروال وسربال، صندل، جوخ، طيلسان، يلمق، أَبْرَيْسَم، بَرَّكان وبرنكان (ثوب أسود) تَبّان، قرطف (لباس شبيه بالقباء، ذو طاق واحد)، خزّ، زرياب (ماء الذهب)، نرمق (من الثياب)، آذريون (زهر أصفر في وسطه خمل أسود، معناه: شبه النار...)...
كما أخذوا ألفاظاً تدور في فلك المعادن والأحجار الكريمة مثل: فولاذ، زئبق، سمبادج، دانق، خردق، بهرمان، أيريز، جوهر، اسبيداج، خنجر، أسربّ، جنزار، آنك، ستّوق (درهم مزيف)، تنك، بوتقة، فيروز، توبال (ما يتساقط من الحديد أو النحاس عند طرقهما)، لازورد، توتياء..
ومن النباتات والرياحين والأشجار المثمرة وغير المثمرة أخذ العرب مسّميات لم تكن معروفة في لغتهم مثل: نيلوفر، سنديان، صنوبر، تفاح، أبلوج (نبات السكر، ويعني: السكرّ الأبيض) ترمس (للحَبّ، أما الترمس للوعاء المعروف حديثاً فمن اليونانية Ther mos)، مردقوش (الزعفران، أو نبات عطري، وعرّب أيضاً: مرزجوش ومرزنجوش)، ازدرخت، أي: الشجر الحرّ، من (أزاد: حرّ) و(درخت: شجر) ويَرِد في بعض الكتب بلفظ (زنزلخت)، نسرين، خربز (بِطّيخ) ياسمين، باذنجان، خرّم، جرجير، خلنج (شجر)، تنَّوم، جزر، خيار، سرو، لوز، دَسْتنْبويْه (نوع من البطيخ الشمّام)، زعرور، عرموط، جِلَّوز (بندق)، أيهقان (عشب يطول، وهو اسم الخردل البري)، جلّنار، راوند، جوز، زنبق، كُركُم، هليون، طرخون، أفيون... وأخذوا من أسماء الحيوانات: سمنْد أو سمندر، بَبْر (الأسد الهندي)، سنجاب، فُرانق (جنس من السباع، وعرّب بلفظ برانق)، سنّور (الهرّ) جاموس، دلق (حيوان شبيه بالسنجاب).. ومن الطيور: كروان، سوذنيق وسوذانق (الصقر، أو شبيهه)، ببغاء، كُرَّذ (الباشق، والباشق أيضاً بالفارسية: باشِه)، باز، شاهين، طيهوج، قُبَّح (الحجل)...
وأخذوا من الأشربة والأطعمة: لوزينح، بختح (عصير مطبوخ مسكِر)، باذق (أيضاً عصير مطبوخ)، جردق (الغليظ من الخبز)، جلاّب، شوربا، جلنجبين (معجون يعمل من الورد والعسل)، زلابية، رشته (طعام يصنع من العجين الملفوف المقطع...) شبارق، دوشاب (نبيذ التمر أوالدبس)، زماورد، بوظة، سكباج، بقلاوة، سنبوسك، بقسماط (وقيل إنها يونانية الأصل)، طباهجة (الكباب)، برغل، فالوذج، فانيد (نوع من الحلوى)، خُشْكنان، كعك، وفيهما يقول الراجز:
يا حبذا الكعكُ بلحم مثرود * وخشكنانُ وسَوِيقٌ مقنود
وسويق ومقنود بالفارسية، أما الخشكنان فدقيق الحنطة إذا عجن بشيرج (دهن السمسم) وبُسط وملئ بالسكر واللوز أو الفستق وماء الورد وجمع وخبز..
أما ما يمكن سلكه في جملة الألفاظ العامة والإدارية والتنظيمية فقد أخذ العرب ألفاظاً ومسميات تتباعد وتتوزع في مجالات كثيرة، من ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
جَنْدار (حافظ الأمير أو الملك)، د سكرة، إسوار (الفارس الذي يحسن ركوب الخيل والرماية للسهام، واحد الأساورة)، ديوان، بارة، بلاس، زنديق، خوان، باركان، نموذج، رستاق، بندار، وبندر، ديدبان، خندق، دربان، شادروان (حافظ الخيمة)، دهقان، بريد، بيمارستان، برنامج، خزندار (مركبة من الفارسية والعربية)، دستور (من الفهلوية Dast war بمعنى القاضي والحاكم وكبير الزراد شتيين. وتستعمل في الفارسية والتركية بمعنى القواعد الأساسية لعلم من العلوم أو صناعة من الصناعات. ومن معانيها: الإذن، عند الترك والعرب إذا دخل الرجال على النساء، أو همّوا بالدخول في مكان مظلم استئذاناً من الجن. وهي الدخيل المتأخر في العربية)(23)، دَرْبَند (غلق الدكّان والباب، من (در: باب) ومن (بند: رباط) ومنه البند بمعنى الراية والشارة)، جُلاهق (جسم صغير كروي من طين أو رصاص يرمى به الطير)، بَرَوانة (مروحة السفينة، وحاجب الملك، سرادق، صهريج، طسّوج (الناحية والمحافظة، جمع طساسيج.)، سرداب، دهليز، سردار، عسكر، سندان، صولجان، فرند، سباهي (رتبة عسكرية، تحوّل معناها إلى مالك القرية)، قيروان، سرسام، زرنيخ، ساباط، فهرس، كشك، ربان، دورق، ماخور، مرزبان (حارس الحدود)، جوسق، درفس، بهلوان، تاج، مهرجان، مومياء، بُنْدُقدار (من يحمل جراوة البندق خلف السلطان، صاحب البندقة)، أريكة وزرابي وطنافس... وأخذوا بعض مسميات الآلات الموسيقية والطرب ومصطلحاتهما، وبعض أسماء الخمرة وألقاب الشعراء كالفرزدق، والطغرائي، ودوسر..
- ما أخذه العرب عن الهنود:
إن ما عرفه العرب عن طريق الهنود من النبات والحيوان والسيوف والعقاقير والطيوب والأحجار الكريمة والمنسوجات القطنية أخذوا مسمياته منهم مباشرة بطريق المعاملات التجارية وتبادل السلع، أو أخذوه عن طريق الفرس الذين كانوا أحياناً شبه وسطاء بين العرب والهنود، كما كان العرب أحياناً وسطاء بين أوربة والشرق في جلب البضائع الهندية والصينية وإيصالها إلى الأوروبيين قبل أن يتاح لهؤلاء الاتصال المباشر بالشرق الأقصى في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي(24)، ومن هنا يقع بعض الباحثين اللغويين في الوهم حين ينسبون بعض الألفاظ الهندية والفارسية إلى العربية، لأنهم عرفوها عن طريق العرب. وتنقل عن المسعودي فكرة حرص العرب على استعمال الألفاظ المحلية في مختلف المناطق التي ترددوا إليها، من ذلك قوله: "إنما نعبر بلغة أهل كل بحر وما يستعملونه في خطابهم فيما يتعارفونه بينهم".
ويقول: "إنما نخبر عن عبارة كل بحر وما يستعملونه في خطابهم(25)" ومما يجدر ذكره هنا تعليق الدكتور محمد يوسف (من جامعة كراتشي) على كلام المسعودي بقوله:
"ويلاحظ في هذا الصدد أن العرب لم يأخذوا الكلمات الهندية من اللغة السنسكريتية الفصيحة، ولا هم اعتنوا بأشكالها الصحيحة في الكتابة، بل إنما [كذا] أخذوها من أفواه التجار وسكان المناطق الساحلية التي كانوا يترددون عليها، ولا يخفى أن تلك المناطق كانت ولا تزال تسودها لهجات متعددة بل لغات مستقلة"(26).
ومن الألفاظ الهندية التي أخذها العرب:
الأترُجّ (ويرد في الكتب العربية أيضاً بلفظ: أُتْرُنج وتُرُنْج)، أرزّ (وبلفظ: آرز بالمدّ، رنز، رزّ)، أوج (الأصل: ارتفاع الشمس أو تشا)، أرجوان (بالسنسكريتية Ergewan Argawan، اشتيام (رئيس الركاب) اطريفل (معناها بالهندية: ثلاثة أخلاط هي: إهليلج، وبليلج، وأحلج)(27) ألنج (يلنج، ألنجوج، يلنجوج، وهو عود يتبخر به، بالسنسكريتية laghu)، أنبج (بالهندية Anbo والأنبجات هي المربيات أو المربّبات من الرُّب)، بقّم، بهار، تنبول، توتياء، جلفاط (قلفاط)، بنج، جونة العطارين (Goni)، خرص (للرمح)، خيزران، رانج (الجوز الهندي، بلغة بورما ong)، زنجبيل، ساسم (نوع من شجر الجبال)، سكر، سمهري، شطرنج، شنكل (معقاف، وقيل هو بالفارسية)، شيت (نوع من النسيج chites)، صندل، طاووس، طباشير (من: تبا بمعنى مثل، وشير بمعنى اللبن، أما تباشير الصباح فبالعربية)، طنّ، عاج، فانيد (نوع من الحلواء، وقيل إنه بالفارسية)، فلفل، فنجان، فوطة، فيل، قرفة، قرنفل (ويزعم بعضهم أنها يونانية بلفظ: خاريوفِلَّون، لكنّ أصل منبته بالهند، والأرجح أن اليونانية أخذته عن الهندية بطريق ما)، قماري (عود يتبخر به)، قنا (للرماح)، قند (لقصب السكر)، كافور (أصله بالسنسكريتية Karpura وبالهندية والفارسية Capoor، وبالفرنسية Camphora واشتق منه فيها الفعل Camphorer بمعنى دهن بالكافور وذلك حوالي عام 1751م (دائرة المعارف الفرنسية) وفي العصر الحديث أطلق على زيت الكافور اسم Campol(27)، كركدن، كرنده (الرُّنْد)، ليمون، مسك، المندلي (عود طيب الرائحة Mandal)، النردين (السنبل الهندي)، نارنج (ويقال في دمشق: لارنج)، النمط (بالهندية Namata)، النارجيلة، النيلج، هيل أوهال، ورس، وشيح (نوع من الشجر، والوشيج ينبتُ الخطيّ- ومنه الرماح الخطية.
وجاء في لسان العرب: وقيل: "الخطّ مرفأ السفن بالبحرين تنسب إليه الرماح.. وليست الخطّ بمنبت للرماح، ولكنها مرفأ السفن التي تحمل القنا من الهند" وقال: "وليس الخطيّ الذي هو الرماح من نبات أرض العرب، وقد كثر مجيئه في أشعارها، قال الشاعر في نباته:
وهل يُنبتُ الخَطيَّ إلا وشيجُهُ * وتُغْرَسُ إلا في منابتها النخلُ؟"
واعتماداً على هذا القول رأى الدكتور محمد يوسف أن الوشيج في الأصل كلمة هندية من Vansho فتأمّل(28).
ووضع العرب ألفاظاً أملتها صلتهم بالهند كقولهم: هندة، هنيدة، هندواني..
---------------
نشر هذا البحث في :
مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العددان 71 - 72 - السنة 18 - تموز "يوليو" 1998 - ربيع الأول 1418