في هذه الظروف الانتقالية التي تعرفها البلاد التونسية مع ثلة من شقيقاتها العربية يتوجب إعادة النظر في مسائل عدة وعلى رأسها قضية الهوية عموما ومسألة التعريب على وجه الخصوص. وفي إطار ما أسميته "التعريب العكسي" (في نص منشور على الانترنت) أودّ أن أسلط الضوء على التمشي البيداغوجي العام المزمع إتباعه. علما وأنّ المنهاج الأصلي الذي تتسم به هذه المقاربة عموما هو إدراج تعليم اللغات الأجنبية كجسر يؤمّن النقلة السريعة للغة العربية من بَر الاعتقال والاحتباس التواصلي إلى بر التحرر. حيث إنّ ذلك يضمن تحديث لغة الضاد، ومن ورائها تسهيل مواكبة الفكر العربي للحداثة، بل تسهيل توليد الفكر لحداثة عربية تلحق بمجتمع المعرفة.
ربما هي حقيقة لا يختلف حولها اثنان: أضحى تعلّم الناطقين باللغة العربية اللغات الأجنبية وحذقها ضرورة حضارية أكثر من أي وقت مضى. والأسباب تتراوح بين نزعة التثاقف لدى الشعوب وبين هيمنة العولمة على العالم بأسره، مرورا بتلبية شروط الشراكة متعددة الأبعاد على الصعيد الدولي.
لكن ذلك لم يعُد يفي بالحاجة بخصوص التعريب وبخصوص إنشاء "حداثة لغوية" على غرار الحداثة السياسية التي حققها الشعب العربي في تونس وفي أقطار أخرى من خلال الثورة. لقد أضحى تعلم اللغات الأجنبية خيارا استراتيجيا يلبي حاجة اللغة العربية نفسها إلى الحيازة على استقلاليتها وإلى الشروع في مساندة عمليات توليد الحداثة. فهل اللغات الأجنبية أَولى من العربية بمثل هذه الوظيفة؟ كلا، بل إنّ خيار اللغة الأجنبية يبدو لنا اليوم حتميا باعتبار أنه المَخرج من أزمة لغوية طال أمدها. كما أنه خيارٌ ضامنٌ للنهوض بالتعليم ككل وبالثقافة عموما حتى يكونا قادرين على التعاطي مع الحداثة بكل انسجام.
نفترض بادئ ذي بدء أنّ إمكانية تلاؤم هذا الخيار مع متطلبات الشفاء من الداء اللغوي واردة. ثم نتساءل: ما نوع العراقيل التي تحُول دون ترقي اللغة العربية في سلم الحداثة؟ وما هي طبيعة هذه العراقيل التي أفرزت مثل هذا الخيار، وهو الذي قد يبدو غريبا للبعض؟
أن تصبح اللغة العربية حداثية يعني أن تصبح معبرة عن حداثة الناطقين بها. ومن أجل ذلك لا بد عليها أن تتطور في العقول وعلى الألسنة بناءا على تطور الفكر لديهم. إذ إنّ العقل واللسان هما أداتان محوريتان في عملية التفاعل مع الواقع ثم في الإسهام في تشكيل الحداثة، ومنه تبليغ معاني الواقع الجديد في الكلام واللغة. لكن هنالك عوائق جمة تنتصب اليوم ومنذ زمن بعيد (منذ الصدمة التحديثية على إثر دخول الاستعمار) أمام تحديث لغة الضاد.
ولعل أكبر عائق أمام العربية يبرز عندما نراقبها وهي تُدرّس. حينئذ سنلاحظ أن ليس هناك إنتاجا أدبيا حداثيا يتم اعتماده كأصل، مسموع ومقروء، بمثابة "نص الانطلاق"، في درس تعليم هذه اللغة. وإذا غابت المادة المصدرية غابت أولى الحلقات في سلسة الدرس. إذا غاب النموذج الناجح المزمع عرضه على المتعلم، انعدمت حظوظ تكرير النموذج من طرف المتعلم بعد أن يقتدي به هذا الأخير، وبالتالي انعدم توليد فكرٍ لغوي جديد. حيث إنّه من الأبجديات أن تُتَعلم اللغة انطلاقا من سند لغوي حيّ وموصول بالعقل وبالواقع معًا ليتمكن المتعلم من إعادة إنتاج الحيوية والتواصلية وعديد الوظائف المختلفة المُناطة بعُهدة اللغة.
فالذي يحصل الآن أنّ المتعلم العربي يَلقى نفسه وجها لوجه مع نصوص لا يمكن أن تقوم بوظيفة الانطلاق الصحيح للعملية التعليمية. إما أنّ النصوص من الأدب القديم؛ وهو أدب لا يمتُّ إلى الواقع الحاضر بصلة وبالتالي فالواقع الذي يصفه محكوم بأن يبقى نائيا عن عقول المتعلمين المعاصرين. وإما أنها نصوص من أدبيات معاصرة لكنها ليست حداثية بالمعنى الشامل للكلمة. إذن لا هذه ولا تلك تؤدي الدور الساند للتعلم الذي يشترطه تعلم اللغة "الحية". وفي كلتا الحالتين تتسع الهوة بين المتعلم المعاصر وبين لغة "المرمى" (العربية) التي يرغب المعلم في تسهيل اكتمالها، اسما ومسمًّى في أذهان المتعلمين.
هكذا يتضح أنّ العملية التعليمية في هذه المادة التأسيسية تدور في حلقة مفرغة. وهي صورة نرى فيها المتعلم كالبهلواني الذي لم يستطع الإقلاع من أرضية قاعة الرياضة (لأنّ الأرضية مبللة ومحفرة ومليئة بالتضاريس) كي يشرع في العمل. و في الأثناء زُجّ به من الأعلى، فرَضِيَ بمكان فضائي مؤقتا، مُوهمًا نفسه بأنه قد حاز بَعدُ على مكان لائق بعمله. لكن سرعان ما أكمل عرضه قفزًا ودورانًا ورقصًا في الفضاء حسب متطلبات المهنة، تراه يرجئ الهبوط على اليابسة حتى إشعار آخر. وهل يمكن أن يرسي على أرضيةٍ مَن لم تتوفر له أرضية للإقلاع؟
إذن ما من شك في أنّ غياب الأرضية الأدبية الحداثية، الساندة لعملية الانطلاق في التعلم، زادت قضية التعريب تعقيدا. فلم تعُد مسألةَ ارتقاءٍ بالإنتاج الرمزي العربي بجميع أصنافه بل تجاوزتها لتصبح مسألة تهيئة مادةٍ أولية حداثية يُبنى فوقها هذا الإنتاج. فغياب هذه الأرضية سببٌ في ظهور الحاجة للتعريب؛ وهو سبب في تحوّل الحاجة إلى قضية ("قضية التعريب") وربما إلى أزمة.
والأخطر من ذلك كله أنّ العامل الأول (أرضية أدبية حداثية) يُعدّ في نفس الوقت "أرضية للانطلاق" و"مرمى"، ممّا يفترض أن تكون تلبية الحاجة إلى التعريب ذات رأسين اثنين: واحد يُعنَى بإنشاء الأرضية وآخر يُعنَى بإعداد العربية السليمة ("المرمى"). مع ذلك فالأنصار الكلاسيكيون للتعريب لا يولون هذه المفارقة أي اعتبار، بينما هي مفارقة قاتلة وتستدعي تدخلا إنقاذيا استعجاليا. تراهم يُركزون كل اهتمامهم على إعداد عربية سليمة ("المرمى") من دون إنشاء الأرضية السليمة لها ("نص الانطلاق"). هكذا ندرك لماذا مطلبية التعريب، مع أنها مُلحة، تعطي الانطباع لدى الكثير من المثقفين الذين يرونها ملحة أنها غايةً صعبة المنال إن لم نقُل لا تُنال. وهذا يعيد إنتاج الإشكالية ولا يحلها.
ما العمل إذن؟ هل نعالج العلة القاتلة بالانتحار؟ وكيف يتمّ إنشاء الأرضية في إطار البديل الذي أسميناه "التعريب العكسي" ؟ وما هي طبيعة "نص الانطلاق" من هذا المنظور؟
أولا: لا مفرّ من التشديد على انتهاء صلوحية الدرس اللغوي الذي يتبنى الأدب العربي الكلاسيكي. وذلك بالرغم من اعتزازنا به اعتبارا لقيمته، إن أهليا ونسبيا أم عالميا وكونيا. فالاعتماد هكذا على "نص الانطلاق" من الصنف غير الحداثي يُعدّ بمثابة اعتماد المريض على الانتحار عوضا عن اجتثاث العلة القاتلة. وهل يجدر بنا أن نقبل معادلة الانتحار مقابل الموت لا سمح الله؟
على أية ليس تدريس الأدب الكلاسيكي بصفة قسرية للشباب، مثلما يحدث الآن، الطريق الأمثل إلى إحياءه. لا لشيء إلا لكون الشباب المتناول للجرعة تلو الأخرى من قصائد أبي نواس و بشار ابن برد وغيرهما من فطاحل الأدب العربي لا يتملك واقعَه. فكيف يراد من الشباب أن يستبطن روائع الكتابات القديمة بينما هو لا يستبطن مرتكزات واقعه؟ ونأيُ الشباب عن الواقع يبرز من خلال عدم تبليغه للواقع بواسطة اللسان العربي الفصيح.
لذا فمَن يغار على التراث الأصيل ويريد إحيائه بالفعل عليه بالشروع في تسهيل تملك الشباب للواقع. ومن ميزات تملك الواقع أنه يُوفر لدى المتعلم ملكات المد والجزر بين القديم (التراث الأدبي) والواقع، فتتوفر لدى المتعلم إمكانيات ضخ التراث في اللغة الحديثة. والتملك يحصل بواسطة أدوات معاصرة. واللغة الأجنبية أداة معاصرة لم ندرِ إلى الآن كيف نستغلها لفائدتنا. استغلها المجتمع لدعم الاغتراب والاستلاب للآخر، ولم يستغلها للاستقلال اللغوي، ومنه للاستقلال الوجودي.
ثانيا: لا بدّ من إنجاز عمل تصحيحي لدى أهل الذكر إزاء النقطة التي سبق أن شرحناه. ومفادها أن لو كانت هنالك أرضية لغوية سليمة صادرة من معين فكرٍ عربي متطور، لوَقَع اعتمادها في تكرير وفي إعادة إنتاج السليم من السليم، لَمَا كانت هنالك قضية اسمها "التعريب".
ثالثا: الحداثة اللغوية تستدعي تحديث العقل أولا، لا اللغة. وفي مرحلة موالية ستنجز اللغة العربية تحديثا ذاتيا، بصفة طبيعية، وذلك بمساعدة عامل التفاعل بين هذه اللغة وواقع الناطقين بها. فالتحديث اللغوي نتيجة ( للتحديث العقلي) وفي نفس الوقت عاملٌ ينعكس إيجابيا على العقل ليسهم في تيسير ودعم التحديث العقلي. وليس التحديث اللغوي مقدمة للتحديث العقلي. إذ إنّ فاقد الشيء لا يعطيه. إنّ العربية فاقدة للحداثة، لذا فليس هنالك مبررا لأن ينزعج "أهل الاختصاص" من ضحالة التحصيل لدى المتعلمين ومن خيبة المسعى. إنّ الخطأ ليس خطأهم. ولا هو خطأ المتعلمين، ولا هو خطا اللغة.
رابعا: إنّ الخطأ استراتيجي بالأساس. وبالتالي فاعتبار أنّ الخبراء في اللغة العربية وآدابها هُم المعنيون دون سواهم بالتعريب إنما هو الخطأ الاستراتيجي الأكبر. في الشروط التي شرحناها من المُرجّح أن يكون الخبراء في اللغة الحية الأجنبية وآدابها هُم أهل الاختصاص في عملية التعريب؛ "التعريب العكسي".
خامسا: في ضوء الغرض الجديد ( التحديث الفكري) وفي ضوء تعرفنا على أهل الاختصاص الجدد، نقترح إحداث مادة مدرسية جديدة تقوم مقام جسرٍ بين ما يَدرسه المتعلم بواسطة اللغة الأجنبية وما يدرسه في مادة اللغة العربية. ومن المناسب أن نتوخى منهجية التعليم المقارن فنسمي المادة "درس اللغة المقارن"، وذلك تبعا لمبادئ و إجراءات من أهمها نذكر:
أ. عرض مادة مكتوبة أو مسموعة ناطقة باللغة الأجنبية ("نص الانطلاق") على المتعلم العربي في حصة أولى من " درس اللغة المقارن"، بما يتطلب العرض اللغوي من تمارين مُتسقة. كما يُشترط أن يكون المضمون الثقافي لنص الانطلاق مضمونا أجنبيا بحتا يحيل المتلقي العربي على عادات وتقاليد وأخلاق وآداب ونمط عيش الناطقين باللغة الأجنبية التي كُتب بها النص أصلا، دون سواهم.
وفي الحصة الأولى، كما في الحصة الموالية، من هذا التمشي المقارن، لا تصحّ مطالبة المتلقي العربي بالتماهي مع شخصيات أو ملابسات النص الأجنبي بصفة غير صفته العربية الإسلامية. بل المطلوب في المقابل أن يحرص المعلم على استغلال جوانب النص التي تبرِز خصوصية الثقافة الأجنبية التي ينطوي عليها. أما اللغة التي يتوجب استخدامها في هاته الحصة الأولى لا يمكن أن تكون إلاّ لغة النص: الأجنبية.
ب. هذا من جانب. أمّا من الجانب الآخر فالمعلم مطالب أيضا، في هذه الحصة الأولى، باستدراج المتعلم شيئا فشيئا إلى الإحساس، إنْ بالتفرد عن الشخصية الأجنبية أم بالتماثل معها، كنتيجة للتلاقح العاطفي والعقلي عبر اللغة. ويتم هذا بفضل حث المتلقي العربي الدارس للنص الأجنبي على مساءلة مضمون النص و التفاعل معه ونقده واستقراء سنن الإنسان والطبيعة والحياة من خلاله. والأجدر أن يخول المعلم للمتلقي التعمق في ذلك إلى حدّ يشكل صورة جديدة عن نفسه وعن مواطنيه وعن أمته من خلال القيم والمبادئ التي تُوجت بها المساءلة والتفاعل مع النص. واللغة في هذه المرحلة الثانية من الحصة الأولى فينبغي أن تكون الأجنبية أيضا.
ج. بعدئذ يمكن التحول من الأجنبية إلى العربية. وإنجاز التمرين الذي نقترحه في هذه المرحلة يستلزم حصة موالية تُبرمَج على حدة. كما يُشترط أن يشرف على هذه الحصة الثانية معلم غير المعلم الذي أشرف على الحصة الأولى. ومن البديهي أن يكون قد تلقى تكوينا تخصصي بحسب شروط "التعريب العكسي".
أمّا الحصة ذاتها فيُشترط أن تُبرمَج على إثر الحصة الأولى، مع الحفاظ على بضعة أيام كفارق زمني بينها وبين الحصة السابقة. ويكون المتعلم المستفيد من الدرس مطالبا بـ"البث" بواسطة اللغة العربية دون سواها. وقد يكون ذلك في شكل شفوي أو كتابي أو في الاثنين، إن بالتناوب أم على التوالي. ويتطلب هذا النشاط طرح موضوع ذي علاقة موصولة بموضوع النص المدروس في الحصة الأولى، يكون الهدف الأساس منه شحذ إمكانيات التعبير، عن هوية وعن واقع المتعلم "الباث" معا، إلى أقصاها، واستغلالها أفضل ما يكون الاستغلال حتى يكون المتعلم قادرا على تبليغ ما يحتاج إلى تبليغه.
وينبغي أن يكون حرص المعلم كبيرا خلال هذا التمرين على توجيه المتعلم (المتكلم/ المحرر) نحو توليد خطاب عربي، يتراوح بين المعروف والمألوف من جهة، والنادر والطريف والجديد من الجهة الأخرى. هذه هي الحداثة اللغوية.
نختم بالقول إنّ الحداثة اللغوية، التي نأمل بلوغها بواسطة التمشي العكسي الذي وصفناه، صورة رمزية للحداثة الفكرية، سندِ الحداثة بالذات. وهي كذلك لأنها ضمان لاستعادة البُعد التواصلي على حساب البُعد الأداتي للغة عموما وللعربية بالخصوص. و هذه وضعية طبيعية تتحول فيها اللغة العربية من "فراري" محبوسة في مستودع السيارات التائهة إلى قاطرة للمعارف والعلوم فضلا عن تحولها إلى مرآة عاكسة للذات وللحياة.
محمد الحمّار