" إن الخيار بين اللغة العربية ولغة أجنبية أمر غير وارد البتة ولا رجعة في ذلك، ولا يمكن أن يجري النقاش حول التعريب بعد الآن، إلا فيما يتعلق بالمحتوى والمناهج والمراحل". الميثاق الوطني الجزائري (1986، ص 14).
* اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية... وتمازيغت هي كذلك لغة وطنية". (المادة 3 من دستور 1996)
إذا أردنا أن نعرف المعنى الحقيقي للتنمية، يتعين علينا منذ البداية أن نشير إلى أنه بفضل التنمية، أصبحنا نعيش في "مجتمع المعرفة" وليس في مجتمع زراعي أو صناعي، لأن "مجتمع المعرفة" يتميز عن غيره من المجتمعات بامتلاك المعلومات العلمية والتقنية وتوظيفها في الإنتاج والخدمات والإدارة. فالمجتمع الذي تنتشر فيه المعلومات بغزارة يتمتع بصفة آلية بالتنوع الاقتصادي وتتكاثر فيه فرص العمل، وبالتالي، يرتفع دخل الفرد.
وبناء على هذه الحقيقة، يمكننا أن نقول بأن مصطلح التنمية في جوهره يعني بناء مؤسسات تعليمية وثقافية وسياسية لإحداث مجموعة من التغيرات الجذرية في مجتمع معين وذلك بقصد إكساب ذلك المجتمع القدرة على التطور الذاتي وتلبية الحاجات الأساسية والضرورية المتزايدة للأفراد. وكما لا يخفى على أي فرد فينا، فإن التنمية في إطار المؤسسات والقوانين الموضوعية التي تعتبر بمثابة مقاييس للعمل المنظم والهادف إلى إحداث التغيير الإجتماعي العادل، تهدف في الأساس للوصول إلى مستوى الدول الصناعية في مجالات التنمية الاقتصادية وترسيخ مفاهيم الوطنية والولاء للدولة الوطنية.
وانطلاقا من تحديدنا لمفهوم التنمية، يمكننا أن نقول بأن مفهوم التنمية يرتبط بالعديد من حقول المعرفة. فمفهوم التنمية الثقافية يهدف إلى رفع مستوى الثقافة في المجتمع وترقية الإنسان، ومفهوم التنمية الإجتماعية يسعى إلى تطوير التفاعلات المجتمعية بين أطراف المجتمع، سواء أكانوا أفرادا أم جماعات أم منظمات المجتمع المدني.
إنني لا أقول شيئا جديدا إذا قلت أو تساءلت لماذا توحد الجزائريون لمحاربة الظلم المسلط عليهم من طرف قوات الاحتلال الأجنبية الدخيلة واقتنعوا بضرورة استعادة حريتهم وممارسة السيادة داخل وطنهم، غير أنه لم يقع توافق فيما بينهم حول استعادة سيادة لغتهم في بلدهم. إننا نلاحظ أن هناك نسبة معتبرة من الجزائريين الذين لم يظهروا نفس العزيمة القوية لاستكمال الاستقلال وعودة الجزائر إلى سابق مجدها الحضاري وهو الشيء الذي لن يتم إلا بالعودة إلى سيادة العربية على أرضها. إن هذه الفئة من الناس تكاد تنسى حقيقة جوهرية وهي أن اللغة العربية، لغة القرآن، قد تعرضت للغزو من طرف لغة المستعمر التي عادت لتغزوا بيوت الجزائريين وعقولهم وأفكارهم عن طريق الفضائيات الفرنسية التي أحكمت قبضتها على الفكر والمجتمع في الجزائر. يبدو أن هناك من ينسى أن سلطات الاحتلال الأجنبي في بلدنا قد حاولت طوال وجودها بهذا البلد طمس ومحو ومحاربة ونسخ لكل ماهو جزائري طيلة تواجد الاحتلال الأجنبي. وزيادة على ذلك، فقد لعبت سنوات الأزمة السوداء الدور الرهيب في تكريس ابتعاد المجتمع عن الاهتمام باللغة العربية الفصحى، وبروز حزازات نخبوية منذ الاستقلال أو صراع أيديولوجي بين الدوائر الفرانكوفونية والدوائر المعربة في دواليب النظام السياسي قد ألقى بتبعاته لاحقا على القالب العام للبلد، والذي أثر على قالب العقل والشخصية الجزائرية ككل. ونتيجة لهذا الصراع كانت انطلاقة الجزائر في استرجاع المكانة اللائقة باللغة العربية، تكاد تكون عرجاء من الأساس. وعليه، فإن إصرار بعض القيادات، في أعلى مستويات المسؤولية في اتخاذ القرار، على الاستمرار في تهميش اللغة العربية قد خلق فجوة بين المواطنين وتأثرت بذلك قضية اللغة العربية والهوية في المجتمع الجزائري.
من الناحية المبدئية، هناك إجماع بأن اللغة العربية هي لغة الحياة لأنها تختزن حياة وتاريخ الأمة، وتحمل ذاتيتها واختصاصها ومن ثم يستحيل إلغاؤها إلا إذا ألغينا ذاتنا وحضارتنا. كما أن ميزة اللغة العربية أنها ارتبطت بالدين الإسلامي، ودفع بها القرآن إلى العالمية، وأضحت السبيل الوحيد لممارسة الشعائر الإسلامية. إنه لمن الواضح أن أجدادنا تربوا على حب أمتهم لأنهم تعلموا بلغة شعبهم، فحافظوا على كيانها ومكانتها، ومن لا يحترم لغته وأصله لا يحترم نفسه وبالضرورة لا يحترمه أحد.
إن مجتمع المعرفة يتطلب حماية الهوية الوطنية، وتدعيم اللغة في أرضها، لأن اللغة هي تجسيد حي لكل معارف الإنسان، وخيراته، ودليل على شخصيته وهويته الثقافية. وفي إمكان أي باحث متخصص في الموارد البشرية أن يجزم أن الاستثمار الموجه للموارد البشرية يعتبر ركيزة أساسية لأية أمة تسعى للتطور والتنمية. فالإنسان هو الثروة الأساسية الأولى والأخيرة لتحقيق معدلات التنمية الشاملة لأن جودة التعليم والتعلم هي التي تساهم في تماسك النسيج الاجتماعي وتمنع تزايد الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتقضي على التفاوت الطبقي، وبالتالي، تساعد على استتباب الأمن وتحول دون تحول الفقراء للعنف.
إنه لمن الواضح أنه لا يمكن أن تتم عملية التنمية اللغوية في المجتمع بفصل رأس المال المادي عن رأس المال البشري، فبفضل الإنسان المعلم والمتعلم يمكن تنمية المواهب والقدرات وإحداث التغيرات الإيجابية في بنيان الأمة. إن تنمية رأس المال البشري اللغوي يساعد على بناء الإنسان عن طريق التدريب باعتباره سياسة تعليمية أساسية في إعادة تكوين وتشكيل محتوى المعارف والمهارات لدى الشباب، وبذلك تتمكن الأمة من رفع مستوى المهارات والمعرفة اللغوية اللازمة لبناء العقول.
إن ما نقصده بتنمية اللغة ومساهمة العنصر البشري في ترقيتها هو أن المعرفة اللغوية هي العنصر الأساسي للتحصن ضد الجهل، وهي التي تمكن الإنسان وتساعده على إنتاج الجمل المفيدة، وتوليد الأفكار والتعبير عنها وتجسيد الوعي اللغوي المتميز وإنتاجه، وبالتالي، ترتفع قدرات الأفراد على الابتكار والتجديد من خلال الإسهامات الذاتية في الأنشطة اللغوية وتوطيد علاقاتها بالتكنولوجيا.
إننا كدولة نامية، نحتاج إلى تكثيف برامجنا اللغوية وإدخال النوعية عليها بحيث يكون في إمكاننا التنافس مع لغات أخرى، وهذا يتطلب العمل لإنتاج علمي غزير في مستوى تطلعات شبابنا. إن التقدم والتطور في التخصصات العلمية يفرض علينا وجود تراكم معرفي في مجال المعرفة اللغوية أو الإنتاج اللغوي. وبطبيعة الحال إن الابتكار اللغوي والتجديد يعدان مصدر الإنتاجية اللغوية.
إذا افترضنا أن العنصر البشري متوفر، نسبيا، وأن مؤسسات تنمية التعليم تكاد تكون كافية، وأن الثروة المالية مكدسة في البنوك الوطنية والأجنبية وتبحث عن من يستثمرها ويخدم بها مصالح شعبه، وأن المعرفة مبعثرة في جميع أنحاء العالم، فماذا ينقصنا لانطلاق مسيرة البناء والتشييد اللغوي في بلدنا وتجسيد مجتمع المعرفة في أرض الواقع؟.
وإجابة على هذا التساؤل، يمكننا أن نجيب على ذلك بأن عوامل بناء مجتمع المعرفة وتنمية اللغة موجودة أو متوفرة، ولكن إرادة العمل بطريقة عقلانية ومدروسة تكاد تكون غائبة. والمشكل في رأيي يكمن في عناصر جوهرية ومسائل أو صعوبات يمكن التغلب عليها إذا توفرت الإرادة الحسنة.
1. الصعوبة الأولى تكمن في قلة الإلمام بمنهجية البناء اللغوي ونقصد بذلك أنه لا يوجد منهج علمي مدروس لتدريب التلاميذ والطلبة على تفعيل اللغة الصحيحة وجعلها لغة التعليم وكفاءة العملية التعليمية. المشكل هنا أن طريقة التعليم تتم بطريقة بدائية بسيطة لا تحمل في طياتها البعد الحضاري للمجتمع، والأفراد المشرفون عل التعليم لا يدركون أو غير مقتنعين بأن مجد الأمة وعزتها وكرامتها لا يمكن أن يعود ويقف هذا المجد على قدميه إلا بالعودة إلى سيادة العربية على أرضها. إذا قال لك أحد بأن هناك أمة نهضت باستعمال لغة غير لغتها، فهذا كلام مغاير للحقيقة.
إنه لمن الواضح أن كل أمة أحرزت تقدما ملموسا ونهضة علمية، لابد أنها تكون قد اعتمدت المنهج العلمي الصحيح والمتمثل في تدريس المناهج العلمية والتقنية بلغة الأم وليس باللغات الأجنبية التي تستعمل كأدوات اتصال مع الثقافات والحضارات الأخرى.
لقد لاحظت عندما كنا نناقش برنامج إصلاح المنظومة التربوية في بداية القرن الحالي، والتي كنت عضوا بها، بأن مناقشات وتدخلات الزملاء كانت تنصب على تكثيف التعليم بلغة أجنبية أوروبية معينة ولا تنصب على تحسين نوعية التعليم والارتقاء به إلى مستوى أعلى، وفي قناعتهم أن تقديم اللغة الأجنبية إلى السنة الثانية ابتدائي، بدلا من السنة الرابعة، هو السبيل الوحيد إلى ملاحقة العصر بعلومه وتقنياته ومتطلبات حاجات السوق العالمي من خلال إتقان مهارات لغوية. وقد قال لي أحد الزملاء في لجنتنا الفرعية أنني مخطئ إذا كنت أظن أن بداية تعليم اللغة الأجنبية في السنة الثانية ابتدائي سيضر بالتلاميذ، بل بالعكس سيعطيهم فرصة لتعلم لغة أجنبية وتحسين فرص توظيفهم في المستقبل ويلتحقوا برجال النخبة الذين يعلمون أبناءهم في المدارس الأجنبية ببلدنا. وبما أنه كان مصرا على فكرة مزاحمة اللغة الأجنبية للغتنا العربية في هذا البلد العربي اللسان، أجبته بأنني تعلمت في أكبر دولة متقدمة في العالم، وأجبرت على تعلم اللغة الإنجليزية لمدة سنتين كاملتين، مثل أهل البلد، لأن منهجهم يقوم على أساس ترسيخ قواعد اللغة في ذهن كل طالب، ومن لا يتقن لغة وطنه ويوظفها بكفاءة عالية يعتبر إنسانا خائبا في مهنته وفي وظيفته.
وباختصار، فإن الخطأ الذي نرتكبه في حق تنمية لغتنا هو أننا لا ننتقي لها المعلمين الأكفاء والقادرين على جعل التلاميذ والطلبة يحبونها ويتعلقون بها، ثم إننا لا نقوم بتدريس اللغة في الجامعة لجميع التخصصات. فالمفروض أن تكون مبرمجة وإلزامية في السنة الأولى والثانية في الجامعة، وتبدل مجهودات لتحفيز الطلبة، لتذوق النصوص العربية والتعبير بها بطلاقة، كل في مجال تخصصه. وعليه، فإن هناك خطأ في منهجية تعليم اللغة بالجامعات في جميع التخصصات ، وإذا رأيت ذات يوم شخصيا يتكلم ويخاطب الناس، وعنده معلومات غزيرة، لكنه غير قادر على التعبير عن أفكاره بدقة وبلغة سليمة، فاعرف أنه ينقصه التدريب وإتقان اللغة وذلك بسبب حرمانه من استكمال برامج تعليم لغته الوطنية في الجامعة.
2. الصعوبة الثانية التي تواجهها برامج التعليم، على جميع المستويات، تتمثل في النقص الملحوظ في الحوافز المادية والمعنوية. إن الإستراتيجية الخاطئة المطبقة في مؤسسات التعليم قائمة على أساس أن المربي أو المعلم هو موظف عادي، وغير معترف به بأنه يقوم بمهمة نبيلة. لقد لاحظنا في الأعوام الأخيرة أن مؤسسات التعليم لا تلتجئ لاستعمال العصا لمن عصى وقصر في أداء واجباته المهنية ولكنها تستعير العصا من العدالة وتضرب بها المربين الذين يطالبون بحقوقهم في الحصول على رواتب مالية تضاهي مجهوداتهم ومؤهلاتهم العلمية. إن هذه الظاهرة مؤسفة، لأن من يربي أبناءنا، يجب علينا أن نحترمه ونحفزه للعمل ونمنحه تقديرنا واعتزازنا بما يقوم به، حتى يتوفق في مهمته ويساعدنا على بناء جيل متخلق ومؤهل للمساهمة في بناء الوطن.
ولكي لا يبقى كلامي عبارة عن شعار براق، أجزم بأن الدول المتقدمة تكافئ المربين والمعلمين بحصولهم على زيادات تفوق 40% عن المتخرجين الآخرين الذين يحملون نفس الشهادة لأن المبدأ الثابت هو أن قطاع التربية والتعليم لابد أن يستقطب أحسن وأذكى وأكفأ المتخرجين من كل جامعة. وعليه، ينبغي أن نكون واضحين بأنه في تحليلنا للوضع الحالي بأن قطاع التربية والتعليم قد هبط مستواه ومستوى خريجيه وذلك بسبب قلة الحوافز فيه، من جهة، ومن جهة ثانية، بسبب إقبال الباحثين عن الوظائف للحصول على مناصب بسلك التعليم بأية طريقة كانت حتى ولو لم تكن لهم ميول للتعليم والتدريس ، لأن الغاية هي العثور على منصب عمل.
ومن أراد أن يتأكد من ذلك، فليسأل لماذا لا يوجد إنتاج علمي؟ ولماذا هبط مستوى التعليم؟ إن الجواب على ذلك أن هذا النوع من الأشخاص دخل إلى ميدان التعليم بحكم الضرورة للحصول على الخبرة وليس بقصد ممارسة هواية التعليم والإبداع فيه.
3. الصعوبة الثالثة التي تواجهها مسألة تنمية اللغة هي الغياب التام للبحوث الجيدة ذات المستوى الرفيع. أريد أن أكون صريحا معكم وأقول لكم الحقيقة المرة بأنني أصرف جزءا كبيرا من ميزانيتي لاقتناء الكتب والبحوث العلمية من الخارج وذلك نظرا لغياب المادة الخام من المعرفة والتقنيات الحديثة في مجال تخصصي داخل الوطن. وبصراحة تامة، إن حقل المعرفة في داخل الوطن يعاني من التصحر وكثرة الأعشاب الضارة والتربة المغمورة، ولا توجد أية فرضية في الوقت الحاضر تشير إلى إمكانية أن ينبت العلم في تربة مغمورة. وعليه، فإن غياب المجلات والكتب العلمية، يعني غياب إنتاج الباحثين من رفوف المكتبات والأكشاك أو السوق المحلية، و ذلك يشكل ضعفا في سد الفراغ الموجود في مجال المعرفة بحيث يتعذر على القارئ باللغة العربية أن يكون ملما بآخر التطورات في الميدان العلمي دون أن يلجأ إلى المؤلفات والمنتوج العلمي المتوفر في الخارج.
4. الصعوبة الرابعة التي تحد من قدرتنا على تنمية اللغة الوطنية ببلدنا هي استنزاف الموارد البشرية المؤهلة ونهبها مثلما تنهب الثروات الطبيعية من دولنا النامية، حيث نلاحظ أن المفكرين والباحثين الأكفاء الذين يتمتعون بقدرات قوية على الابتكار والإبداع يتوجهون إلى الخارج أين يجدون البيئة المحفزة على الإنتاج ويحصلون على التقدير والاحترام الذي يليق بهم. إنه لمن الواضح في وقتنا الحالي أن سياسة غض الطرف عن الموارد البشرية المحلية وقلة الاهتمام بها وسوء توظيفها أو عدم الاعتماد عليها بصفة أساسية وتمكينها من الحصول على المحفزات التي تستحقها،، قد خلق ضعفا عاما في مجال تحمل الأعباء العلمية والإنتاجية، وبالتالي، أصبح التوجه الآن إلى سد العجز عن طريق الاستعانة بالباحثين واللاعبين الماهرين الموجودين بالخارج لأن بيئة العمل المحفزة هناك هي الأساس لنجاح وبروز مواهب تلك الفئات الجزائرية في التعليم أو البحث العلمي أو الرياضة. ونستخلص من هذه الفكرة حقيقة أساسية وهي أن عدم قدرة مؤسساتنا التعليمية على استقطاب وبقاء الكفاءات الوطنية الجيدة في داخل الوطن والاستفادة من طاقات العلماء والباحثين وجني ثمار أعمالهم، هي العملية المخيبة للآمال في بناء مجتمع المعرفة.
5. الصعوبة الخامسة التي تعرقل تنمية اللغة الوطنية هي السعي البطيء لتوطين المعرفة باللغة الوطنية في أرض الجزائر. يبدو أن هناك من نسي أو تناسى أن المحتل الأجنبي قد حاول أن يقضي على الشخصية الجزائرية من خلال إصدار التعليمات وإبلاغ المسؤولين في إدارة الاحتلال "أن أيالة الجزائر لن تصبح حقيقة، أي ممتلكة فرنسية، إلا عندما تصبح لغتنا(أي اللغة الفرنسية) هناك قومية، والعمل الجبار الذي يترتب علينا إنجازه هو السعي وراء نشر اللغة الفرنسية بين الأهالي إلى أن تحل محل اللغة العربية"(1). ومعنى هذا أن تحرير وطننا واستعادة سيادته وكرامته، يرجع في الأساس إلى تمسكنا بلغتنا العربية وبوطنيتنا الجزائرية وإرادتنا القوية لمجابهة المحتلين الأجانب الذين حاولوا مسخ ومحو الشخصية الجزائرية من الوجود. وإذا أردنا اليوم أن نثبت حقنا بهذه الأرض التي تأوينا وتغذينا من ثوراتها الباطنية وخيراتها المتواجدة بكل ولاية من ولاياتها، فعلينا أن نعمل على توطيد لغتنا العربية بهذه الأرض الجزائرية وتوظيفها بكفاءة عالية لتطوير المعرفة في مجتمعنا، والانفتاح على منابع المعرفة العالمية، والاهتمام بالتدريب والتأهيل لأن هذه الخطوات أساسية لتوطيد المعرفة وبناء مجتمع المعرفة. علينا أن ندرك بأن تقوية لغتنا، يعني دخولنا في عملية الابتكار وإعادة إنتاج المعرفة والوسائل القادرة على تحويل المجتمع والاقتصاد والمعرفة، وبذلك يمكننا مواجهة احتياجات الإنسان الجزائري وإشباع حاجاته المتزايدة في عالم تزداد فيه المنافسة للبقاء على قيد الحياة في عالم تتسابق فيه المؤسسات الدولية على اكتساب العقول والاعتماد على ثرواتها البشرية لكسب معارك التنمية اللغوية والاقتصادية والثقافية. ولكي نفهم أبعاد قضية توطيد المعرفة والتكنولوجيا، يتعين علينا أن نتذكر تحطيم ألمانيا واليابان في الحرب العالمية الثانية وتركيعهما من طرف أعدائهما، ثم ننظر إليهما اليوم لنراهما في مقدمة الدول المتقدمة وذلك بفضل توطيد التكنولوجيا بهذين البلدين ونجاحهما في بناء مجتمع المعرفة الذي لم تتمكن أية قوة أجنبية من تفتيته أو هزيمته.
6. الصعوبة السادسة التي تواجهها عملية تنمية اللغة العربية هي ضعف الترجمة وانحصار الرصيد المعرفي في العلوم الدينية والتراث، أي أنها لغة القيام بالواجبات الروحية بينما الواقع المعيشي يفرض على الأفراد أن يعرفوا لغات كسب الخبرة والتمتع بالمعرفة العلمية في جميع المجالات. وعليه، فلكي لا تبقى اللغة العربية بمعزل عن التطور الذي تعرفه العلوم الحديثة، ينبغي القيام بمجهودات جبارة في مجال الترجمة لأن اللغة تنموا بالترجمة وتتطور بالممارسة ولا تنمو في فراغ. إن وصولنا إلى عالم المعرفة يمر عبر الترجمة وبناء الرصيد المعرفي لكي تنهل منه الأجيال الصاعدة. والشيء العجيب والغريب في مجال تنمية اللغة العربية واستعمالاتها بغزارة في ترجمة النصوص من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية، هو أن هذه الوظيفة تقوم بها على أحسن وجه الشركات والمؤسسات الرسمية لأسباب أمنية واستخباراتية، بالإضافة إلى استعمالها لأسباب تجارية. إنه لمن الواضح أن محركات البحث الأمريكية، مثل مايكروسوفت وغوغل قد استثمرت أموالا كبيرة واستعانت بالموارد البشرية لإنتاج نظم وبرامج تشغيل ومحركات بحث باللغة العربية، والغرض تجاري بحت، أي تسويق منتجاتها إلى اللغة العربية. كما أن محطات التلفيزيون والإذاعات الأجنبية التي تبث برامجها عبر الأقمار الصناعية، تساهم في تنمية اللغة العربية الفصحى في حين أن إذاعات الدول العربية وفضائياتها تبث برامجها باللهجات العامية!.
7. المعضلة السابعة هي أن هناك خلط بين أهداف التنمية والقوانين المنظمة لها. العجيب في الأمر أن نسبة كبيرة من المسؤولين يحرصون على احترام القوانين والتمسك الحرفي بنصوصها أكثر من ما يحترمون التنمية وبلوغ أهدافها. إنهم ينسون أن القانون ماهو إلا وسيلة للعمل لا غير، وأن المطلوب هو الحرص على تحقيق أهداف التنمية وليس التشبث بالقوانين البالية. مثلا، إذا دخلت إلى المكتب في الثامنة صباحا، وهذا مطلب قانوني، فإنه يحق لك أخذ راتبك بالكامل ما دمت قد احترمت القانون، حتى لو صرفت وقتك في قراءة الصحف الرياضية والفن والتسلية، في حين أن العبرة في العمل هي الإنتاج وتلبية احتياجات الزبائن وتحقيق الأهداف المنشودة. وعليه، فالسؤال المطروح هنا: متى نفهم أن هدف التنمية هو الإنتاج والابتكار والإبداع وليس تقديس القوانين التي يصعب تغييرها أو تعديلها.
8. المعضلة الثامنة في تنمية اللغة هي بناء العمارات وإهمال التدريب وتنمية المهارات. ولعل الشيء المثير في بلدنا أن مؤسسات التعليم والتكوين تكتفي بتنظيم الدروس النظرية ومنح الشهادات العلمية للتباهي بها. كما أن هذه المؤسسات تحصل على بنايات جديدة والدولة تصرف أموالا باهظة على بناء الهياكل القاعدية، لكن لا تخصص ميزانيات لتدريب وتأهيل العناصر البشرية، سواء خلال عطلة الصيف أو تنظيم الدورات التدريبية المنتظمة. إن ما ينقصنا نحن في بلدنا هو خلق برامج تأهيلية وتدريب الموارد البشرية وتحسين مستوى التدريس وإعطاء فرص للمعلمين لكي يجددوا معلوماتهم لأن تجديد المعلومات والحصول على شهادات تدريب جامعية تعتبر ضرورية للترقية في المهنة. فإذا كانت الدول المتقدمة تفتح جامعاتها بانتظام خلال الصيف لتدريب المعلمين وتحسين مستواهم وتجديد معلوماتهم، فإن الجامعات في بلدنا تغلق أبوابها، وكل الناس يلهثون وراء العطل، بما فيهم العاطلون عن العمل. وعليه فنحن في حاجة ماسة إلى الاهتمام بالتنمية في عطل الصيف، وليس اللهث وراء اللهو والتسابق على حضور حفلات الرقص والغناء في الملاهي الليلية والنهارية.
9. المعاناة التاسعة في مجال بناء مجتمع المعرفة في بلدنا تتمثل في غياب الكتاب الجامعي، فإذا كان الجندي يحتاج إلى بندقية ليحمي الوطن، فالطالب في حاجة ماسة إلى الكتاب الجامعي لاكتساب المعرفة والتحصيل العلمي. وعليه، إن الكتاب المقرر في كل مادة علمية يدرسها الطالب هو الوسيلة الأساسية لكي يكتشف التلميذ أو الطالب من خلاله، البيئة من حوله ويعزز قدراته الإبداعية الذاتية. وبكل بساطة إن الكتاب العلمي يعتبر خير استثمار في الإنسان لأنه هو الذي يساهم في تطوير شخصيته.
10. الصعوبة العاشرة التي تواجه التنمية في مجال اللغة العربية تكمن في عدم تخصيص ميزانيات خاصة بنشر المجلات العلمية في مختلف الجامعات الجزائرية. إنه لمن الواضح أن وجود مجلات متخصصة في الكليات يفسح المجال أمام الباحثين لإظهار قدراتهم الإبداعية، بالإضافة إلى التدرب على إعداد البحوث والاستفادة من خبرة الأساتذة المتخصصين في كل مجال. وإذا توفرت مراكز الأبحاث وتخصصت في الإشراف على إصدار المجلات العلمية ونشر الإنتاج العلمي للباحثين بتلك المجلات فإن ذلك سيكون قفزة علمية لا مثيل لها. إننا نتعجب من الخطب المثيرة حول إعداد قانون الباحث وتخصيص الملايير للبحث العلمي، في حين لا توجد ميكانيزمات او مجلات علمية تصدر بانتظام لنشر إنتاج الباحثين! وباختصار، إن ما أريد أن أقوله في موضوع تنمية البحث العلمي في اللغة العربية أو في مجال التنمية الوطنية بصفة عامة، أن نجاح عمليات التنمية والبناء والتشييد لا تكمن في وجود ثروة طبيعية أو وجود جيوش قوية أو مساحة شاسعة للدولة، وإنما النجاح يكمن في وجود قيادات ذات نوعية وإرادة قوية وعزيمة صلبة لقيادة عمليات التغيير بكفاءة عالية. إن سر نجاح العديد من الدول في التنمية يرجع إلى سيادة لغتها على أرضها، والتحدي الكبير الذي نواجهه في يومنا هذا، هو وجود مسؤولين أو قياديين مقتنعين بان الإنسان هو صانع التنمية وهدفها، وأن التنمية تعني تحسين ماهو موجود، وأن اللغة العربية هي أهم عناصر الهوية، والتفريط في اللغة هو تفريط في هويتنا التاريخية وقيمنا الثقافية والأخلاقية وسيادتنا الوطنية.
---------------------
الحواشي:
(*) محاضرة ألقيت بالمجلس الأعلى للغة العربية ضمن منبر حوار الأفكار في يوم 13/04/2010
(1) ساطع الحصري، "أبحاث مختارة في القومية العربية". القاهرة: دار المعارف، 1964، ص 40-43.
-------------------
المصدر : موقع المجلس الأعلى للغة العربية :
http://www.csla.dz/mjls/index.php?option=com_remository&;;Itemid=55&func=startdown&id=69