كلمة العدد لمجلة "مصطلحيات" المجلد الأول - العدد الأول: شوال 1432/ سبتمبر 2011 (1)
بات من البديهي اليوم الجزم بأن ضبط المعارف في شتى الاختصاصات لن يتأتى إلا بضبط مصطلحاتها، وبات أكثر وضوحاً أن المصطلح هو لبّ اللغات الخاصة وعصبها الرئيسي.
ولقد جرت العادة أن يصطلح أهل الاختصاص على مصطلح ما لتسمية مفهوم علمي أو أدبي أو تقني، ولما كانت المصطلحات الموضوعـة تتطلب شروطاً مخصوصة وتمر بمسارات ومحطات متنوعة، ولا تكاد تحظـى بالإجماع إلا بعد أن يمر عليها غير قليل من الزمن، ظهرت الحاجة إلى وضع علـم يختصّ في النظر في المصطلحات سمي حديثاً باسم "المصطلحية"(2) (TERMINOLOGY /TERMINOLOGIE).
وقد عرفتْ السنوات الأخيرة تطورا مشهودا في الدراسات المصطلحية التي أصبحتْ قطب الرحى في العلوم الإنسانية والمادية، ولعلّ أهم أسباب هذه الطفرة تطور مفاهيم العلوم وتفرّع ميادينها واتجاهاتها واختلاف مناهجها ومقارباتها، إضافة إلى اضطراد الأبحاث في مجالات تقنيات المعلومات والتواصل وتقدمها.
وجليّ أنه مما أسهم في تطور المصطلحية التلاقحُ المستمرّ بين مفردات اللغات الخاصة واللغة العامة، إذ تنتقل العديد من الكلمات من اللغة العادية إلى اللغات القطاعية، كما تـُنتزع في نفس الوقت اصطلاحية العديد من المصطلحات العلمية والتقنية لتستعمل من قبل فئات عريضة من الجمهور فتغزُو متون المعاجم العامة..
وقد أفضتْ هذه التطوّرات إلى تحوّل المصطلحية من المقاربة المعيارية التي تستند إلى "مسكوكية" الصلة بين المصطلح والمفهوم إلى المقاربات الوصفية التي ترصد الأبعاد النصية والسياقية والاجتماعية والتواصلية للمصطلح.. وبالتالي ازدادتْ الوشائج توثـّقا بين المصطلحية واللسانيات من جهة، وبينها والروافد المعرفية المتنوعة والوقائع الاجتماعية المؤثرة من جهة ثانية..
ولمّا تبينت أهمية المتون المصطلحية في تقنين المصطلح العلمي، وتحديد أركانه؛ عمدت المصطلحاتية(3) (TERMINOGRAPHY/TERMINOGRAPHIE)
– المتفرّعة عن المصطلحية - إلى وضع الأسس العامة لتصنيف المسارد والمعاجم والقواميس الخاصة إضافة إلى قواعد بيانات المعارف المصطلحية التي تسهم في بناء البنوك المصطلحية والموسوعات الكبرى.
وأمام التطور المتسارع للتقنيات الحاسوبية، كان من اللازم أن تستعين المصطلحية والمصطلحاتية بهذه التقنيات، فظهر ما سُمّي ب "المصطلحية الحاسوبية"(4) (TERMINOTIC/TERMINOTIQUE).
ولا أحد يُماري في استثمار المصطلحية لأدوات التحليل اللساني على غرار استفادتها من المنطق وعلم الوجود والسيميائيات وغيرها من العلوم؛ لذلك تفرعت عن المصطلحية أنساق علمية وبحثية عديدة تنظر في المصطلح من مناح مختلفة، من قبيل:
المصطلحية التواصلية
(COMMUNICATIVE TERMINOLOGY /TERMINOLOGIE COMMUNICATIVE)
المصطلحية الثقافية
(CULTURAL TERMINOLOGY/TERMINOLOGIE CULTURELLE)
المصطلحية السياقية
(CONTEXTUAL TERMINOGY/TERMINOLOGIE CONTEXTUELLE)
والمصطلحية النصية
(TEXTUAL TERMINOLOGY / TERMINOLOGIE TEXTUELLE)
والمصطلحية الاجتماعية
(SOCIOTERMINOLOGY/SOCIOTERMINOLOGIE)
ومن منطلق الإحساس بالتحديات المعرفية التي صار المصطلح العلمي يفرضها باستمرار، ومن دافع الإيمان بضرورة خلق وعي مصطلحي للتغلب على معضلات الاصطلاح، جاءت فكرة إنشاء هذه المجلة العلمية للعناية بالمصطلح العربي تنظيراً ومدارسة وتقييساً وتصنيفاً، وتتوخى "مصطلحيات" تناول قضايا المصطلحية الملحّة بمختلف توجهاتها النظرية والتطبيقية والمعلوماتية (الحاسوبية).
وقد وضعنا ضمن أهداف هذا المنبر العلمي:
- إشاعة الوعي المصطلحي بالاستناد إلى منهجية علمية دقيقة.
- العناية بالمصطلحات التراثية تحقيقا ودراسة، وتحديد قيود إعمال وإهمال مصطلحيات الأسلاف.
- دراسة قضايا المصطلحية في مختلف العلوم والمعارف والفنون.
- ترجمة أهم الأعمال المصطلحية الغربية.
- وضع أوليات تنميط مبادئ المصطلحية العربية، وتقييس منظوماتها المصطلحية.
- متابعة أخبار الندوات والملتقيات العلمية المهتمة بالشأن المصطلحي في العالم، والتعريف بآخر الإصدارات في هذا الاختصاص.
ولعل أهم الأسئلة التي تتوخى مجلة "مصطلحيات" التداول في شأنها:
- قضية المناهج المصطلحية، والتوجهات الدراسية في قضايا المصطلح، ومبادئ تقييس المنظومات المصطلحية وتصنيفها.
- الاتفاق على التسمية الأكثر تداولا لنعت العمل المصطلحي القائم على منهج دقيق. (من بين تسميات عديدة، (من قبيل: "مصطلحية"، "مصطلحاتية"، "دراسة مصطلحية"، "علم مصطلح" ، "علم اصطلاح"، "معجمية خاصة"، "معجماتية متخصصة").
- التداخل المصطلحي بين المصطلحية وباقي العلوم والتقنيات المحايثة لها، ونوع الصلة بين المصطلحية واللسانيات، هل هي صلة تبعية؟ أم صلة تأثير وتأثر وأخذ وعطاء؟ هل تستمدّ المصطلحية أسسها المنهجية من الدرس اللساني الحديث (كعلم الدلالة، والمعجمية، والصناعة المعجمية) أم تغرف من مَعين علوم أخرى مجاورة كعلم المنطق والوجود والفلسفة والمعلوماتية؟
- ملامح التجديد الذي لحق بالمصطلحية الحديثة نهاية العقدين الأخيرين، ومدى مصداقية نعت التجارب المصطلحية المؤسسة ب"المصطلحية التقليدية".
- التضادّ المطلق بين المصطلحات والكلمات. والبحث في نجاعة رصد تجليات التقابل بين هاتين الوحدتين أم اقتراح مجالات أخرى يحسن الاهتمام بها في أفق ضبط ركائز هذا العلم وامتداداته التطبيقية.
- مدى اعتبار التطابق الأحادي بين المصطلح والمفهوم مسلمة معرفية لا يُمكن التراجع عنها، أم الاستعمال داخل السياقات المعرفية المتعددة هو الكلمة الفصل في محددات هذا التطابق.
- تحديد المراحل التي تقطعها الكلمة لتتحول إلى مصطلح، ورصد المسارات التي يجتازها المصطلح العلمي في رحلته إلى عالم الكلمات المجردة من الاصطلاحية.
- تدارُس تضمّن الكلمة للأبعاد المفهومية وخلوّ المصطلح من العناصر الدلالية في سياق التقابل الذي أقامه الدارسون بين السمات الدلالية للكلمة والسمات المفهومية للمصطلح. بمعنى آخر هل هناك تقاطع بين المفهوم والمدلول؟ أم أن التداخل جليّ بين الوحدتين؟
- إمكانية الاستغناء في المصطلحية عن أحد طرفيْ الثنائية: فكرة (NOTION)/ مفهوم (CONCEPT) كصنيع المنظمة العالمية للتقييس "إيزو"(ISO). أم تأكيد محورية طرفيْ الثنائية في الدرس المصطلحي.
- البحث في "المجال" (le domaine) الذي يشكّل عنصرا رئيسيا في المصطلحية، هل تخوّل له هذه المكانة الجديدة أن نعتبره جزءا لا يتجزّأ من المفهوم؟ أم نعدّه مجرد مكوّن من مكوّنات التعريف؟
وفيما يتصل بواقع المصطلحية العربية ورهاناتها المستقبلية نتساءل:
- عن مدى حرص المؤسسات التربوية بالدول العربية على بناء سياسات لغوية تعطي الأولوية لبناء معاهد مصطلحية تتدارك الأزمة المصطلحية المتفاقمة على المستويين النظري والتطبيقي.
- وعن شروع الجامعات العربية في تدريس مقررات المصطلحية كعلم قائم بذاته كما هو الحال في تخصصات أخرى من قبيل "التوثيق" و"الترجمة" و"علوم المكتبات"، أو تواري هذا العلم وراء مسميات محايثة ك: "التنمية اللغوية" و"التعريب" وما حاقل ذلك.
- وعن مدى توفرنا على "مصطلحية عربية" مستقلة بإشكالياتها عن نظيراتها بالغرب، أم أنّ الدراسات العربية في هذا المجال لا تعدو أن تكون عملا مصطلحيا لم يرق إلى تأسيس نظرية اصطلاحية متكاملة الأركان.
- التحقق من تأسّس تخصّص "مصطلحي" (TERMINOLOGUE) بالأوساط الأكاديمية العربية كما هو الحال بالدول الغربية، أم أنّ المترجم العربي لا زال يضطلع بمهامّ المصطلحي، فيضع مكافئات المصطلحات الوافدة ويقوم بتعميمها في النشرات الترجمية والمتون المصطلحية المتعددة الأشكال، ولمن تخوّل سلطة القرار في المصطلحية؟ وما هي الهيئات التي تمتلك صلاحية التقييس المصطلحي؟
- متابعة منجزات البنوك المصطلحية العربية، والبحث في نسب توثيقها الشامل للمصطلحات العلمية العربية في شتى التخصصات والسهر على تحيينها (من حين لآخر) وتدوينها وتعميم نشرها على صفحات الشابكة (INTERNET) ليستفيد منها الجمهور دون أدنى قيود.
- الكشف عن العوائق المانعة للمجامع اللغوية العربية (ومعها مكتب تنسيق التعريب) إلى يومنا هذا عن إيجاد حلول ناجعة لقضية التشتت المصطلحي، وإيجاد السبيل لاستعمال المصطلحات الموحدة التي ظلت حبيسة الرفوف في أغلبها.
هذه جملة من الإشكاليات نأمل أن يخوض في شأنها الباحثون، والمجال مفتوح لوضع أسئلة أخرى يرى أهل الاختصاص محوريتها في أفق رسم ثقافة مصطلحية جادة تستمد أصولها من التراث العربي وتحاور الاتجاهات المصطلحية الحديثة.
إن مجلة "مصطلحيات" منتدى علمي حواري بالأساس يرحب بالتعاون مع جميع الدارسين للشأن المصطلحي العام والخاص والمهتمين بقضايا مصطلحات العلوم والفنون والآداب.
---------
التعليقات:
1- أتقدم بالشكر الجزيل للأستاذ الدكتور عبد العزيز احميد رئيس شعبة اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب ظهر المهراز بفاس ومنسق ماستر "التنمية اللغوية وقضايا المصطلح اللساني والأدبي" الذي قام بمراجعة هذه الكلمة.
2- عرّف المرحوم حسني سماعنة (1999) مفهوم "المصطلحية" تعريفاً شاملاً، فالمصطلحية عند الباحث "العلم الذي يعنى بمنهجيات جمع وتصنيف المصطلحات، ووضع الألفاظ الحديثة وتوليدها، وتقييس المصطلحات ونشرها".
المصطلحية العربية بين القديم والحديث " مشروع قراءة"، أطروحة تقدم بها لنيل دكتوراه الدولة سنة 1998-1999، مرقونة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس، الرباط ـ المغرب.
وإن كان للعرب والمسلمين إرهاصات أولية هامة في النظر في طبيعة المصطلح، ودراسة ظواهر متصلة بالاصطلاح كالترادف والاشتراك اللفظي والتجانس الصوتي.. وبرعوا في تصنيف معاجم اصطلاحية عديدة في مختلف الحقول المعرفية؛ فقد نشأت المصطلحية (كعلم قائم بذاته) بداية القرن العشرين مع رواد المدرسة النمساوية.
3- "المصطلحاتية ": "نشاط علمي يقوم بجرد المصطلحات، وبناء المعطيات المصطلحية، وتدبيرها، ونشرها".
Daniel Guadec (1990) ; Terminologie, constitution des données- Afnor gestion- Paris .P : 4.
ونقبل باستعمال اصطلاح "الصناعة المصطلحية" الأكثر تداولا في هذا المقام وإن أخلّ بشرط الاختزال.
4- تهتمّ المصطلحية الحاسوبية بالمعالجة الآلية للمصطلح، ويقوم "المصطلحي- الحاسوبي" بتدوين المصطلحات، واستثمار المعطيات المصطلحية بالاستناد إلى برامج حاسوبية .
----------
د. خالد اليعبودي - المدير المسؤول