غبش اللغة غبش الفكر

للغة وظيفتان بحسب فيجوتسكي Vygotsky إحداهما داخلية والأخرى خارجية، بالنسبة إلى الوظيفة الخارجية فهي المهمة التواصلية والبراغماتية للغة·، أما المهمة الداخلية فهي " التفكير " وهو الحديث إلى الذات بشكل غير مسموع غالباً، ويمكنني القول إن للغة وظيفتين إحداهما المساهمة في تمرير الأفكار والأخرى المساهمة في صنع الأفكار ! فاللغة عندما تستخدم لنقل الأفكار إلى الآخرين فهي مجرد وسيلة لتمرير الفكرة قد تنجح في ذلك وقد تخفق لأن نجاحها مرهون بمجموعة من الشروط "التقنية " والأخلاقية وفي هذه السبيل اشتغل الباحثون فيما يعرف بمسألة " نظرية الأفعال الكلامية " (speech act theory) كأوستن (Austen) و سيرل····( Searle) ومن تلاهما من المعنيين بالبحوث التداولية ( البراغماتية ) .

أما حين تستخدم اللغة للمساهمة في صنع الأفكار فهي تقوم بمهمة تمرير معقدة حيث تحيل عملية الإرسال والاستقبال على ذات واحدة !، ومن ثم ربما لن ينجح مبدأ التعاون (cooperative prenciple ) الذي سنه غرايس grice)) لنجاح عملية التخاطب لأنه كان يتحدث عن مرسل ومستقبل منفصلين وليس كما هو الحال هنا·، ومهما يكن الأمر فإن عملية التمرير في الصورة الأولى تبدو أقرب إلى قبول "الغربلة " من الثانية لأنه يمكن في الصورة الأولى أن يقوم المستقبل بتوجيه بعض الأسئلة والاستفسارات للمرسل حتى يصل الطرفان إلى صيغة مشتركة للفكرة المطروحة·، لكن هذا لا يحدث في الصورة الثانية ومن ثم تؤخذ الألفاظ على عواهنها ! وفي هذا الصدد يحذر وليم شانر (William Shanner ) من ثلاثة استخدامات للغة من شأنها أن تشوش التفكير وهي :

الألفاظ المشتركة، والألفاظ العامة، والألفاظ الانفعالية، ونوجز في الفقرات التالية ·القول على هذه الاستخدامات الثلاث التي تشوش / تهوش الفكر لأنها مشوشة / مهوشة في اللغة مضيفين إليها استخداماً رابعاً هو العبارات المقولبة :

- الألفاظ المشتركة [ العامة ]
ويقصد بها تلك الألفاظ التي تؤدي أكثر من معنى، ويتغير معناها من سياق إلى آخر، و يضرب لها مثلاً بنحو ( التساوي، والتعاون، والنجاح، والحرية، والتنافس ) فإذا قيل إن زيداً وعمراً متساويان . فهذا يحتمل أنهما متساويان في الطول أو الوزن أو في مستوى الدخل أو الرتبة ... إلخ، و إذا قيل فلان شخص ناجح، فقد يحتمل أنه ناجح في دراسته أو في علاقاته الاجتماعية أو في تجارته ... إلخ .

·ويدخل ضمن هذا " المشترك " تسمية الأمور بغير أسمائها كمن يسمي " الغش " في الامتحان " تعاوناً " ، والمشكلة هي انتقال الفكر من حقل من هذه الحقول إلى الآخر دون شعور من يشتغل بالتفكير أنه وإن كان يستخدم لفظة واحدة لكنه خلط بين حقلين مختلفين لاستخدامها لايكون معناها في الحقلين هو هو .

·ويتصل بهذا أيضاً – فيما نرى – ترك اللفظة تتجول بين المعنى الاصطلاحي والمعنى اللغوي العام بل أحياناً المصطلح الواحد يتجول بين علوم مختلفة وله في كل منها دلالتة الخاصة التي لا يمكن تصديرها إلى العلم الآخر !

ومما يتصل بهذا الشأن ما ذكره روبرت ثاولس (Robert H. Thouless)حول ما سماه ( كل وبعض ) وصاغه وفق قاعدة· أن من الغش أن نقول إن (أ) هو (ب) على حين أن الصواب أن بعض (أ) هو (ب)·، ويقول كان آباؤنا يرفضون السماح للنساء بالتصويت في الانتخابات البرلمانية بحجة أن " النساء غير مؤهلات " من الناحية السياسية " وكان ينغي أن يقولوا ( بعض النساء ) كما هو الحال مع بعض الرجال غير المؤهلين من الناحية السياسية .

و أتصور أننا قد ننجح في تجاوز هذا الإشكال إذا حاولنا أن نجرد من أنفسنا ناقداً يسأل باستمرار " هل أقصد فعلاً هذه الكلمة ؟ وهل هذا السياق هو المناسب لهذه اللفظة ؟ وعلى الجملة فبقدر استطاعتنا لإحداث نظام ذاتي مسؤول عن ملاحقة هذه الألفاظ العامة في تفكيرنا يكون نجاحنا في تجاوز هذه العقبة .

- الألفاظ المبهمة [النسبية ] :
وتندرج تحت هذه الفئة من الألفاظ الطول والقصر والثقل والسرعة ... إلخ , ويتمثل الإشكال في عدم الانتباه إلى قانون النسبية الذي يحكم مثل هذه المعايير فـ(أ) قد يكون طويلاً بالنسبة إلى ·( ب ) لكنه ليس كذلك بالنسبة إلى ( ج ) !

- الألفاظ الانفعالية [ المشاعرية ]:
تنعكس مشاعرنا على الألفاظ عندما يكون أمامنا أكثر من اختيار للدلالة على شيء ما , ثم نؤثر اختيار أحدها لأنه يحرك مشاعر معينة بالنسبة للمتحدث أو مرتبط بتجربة محددة لديه ·... وبهذه " الورقة " الانفعالية يلعب الساسة (من خلال البيانات والتصريحات )والتجار ( من خلال الدعاية والإعلان ) و كل من يريد تجييش الناس أو تعبئتهم ضد شيء ما , أو على الجملة ما يسمى "الخطاب الإشهاري " والأمر فيما يتعلق بالخطاب الإشهاري يتناول وظيفة التواصل واستعنا به لتوضيح الفكرة لكن تلك المسميات قد تترسخ فتُسْتخْدم أيضاً في وظيفة التفكير ... يقول وليم شانر في هذا الصدد " هل تنظر إلى رجل الشرطة باستمرار على أنه مخبر ؟ وهل تنظر إلى المحافظين على أنهم رجعيون ؟ وهل تنظر إلى التقدميين على أنهم منحلون ؟ إذا كنت تنظر إلى هؤلاء الناس على هذا النحو فإنك قلما تتجاوز حدود المشاعر التي تثيرها هذه الألفاظ إلى التفكير المنطقي الجاد [...] فإنك قلما تهتم بآراء أولئك أو هؤلاء , وسوف تنكرها دون تفكير . "

- العبارات المقولبة :
الإشكال في هذه العبارات أنها ذات إيحاءات نافذة و يقوم العقل الظاهر بتمريرها إلى العقل الباطن لأنها أصبحت مسلمات يتقبلها ويستجيب لها دون تمحيص ، بالإضافة إلى موسيقية· الجرس , فتفعل فعل السحر فتصرف وتعطف ! ولنضرب بعض الأمثلة للتوضيح :
" ومن لايظلم الناس يظلم ! " هذا جزء من شطر بيت يتخذ ذريعة لإيقاع الظلم وتسويغه وتخدير الضمير وصرفه عن المساءلة ! , ومثل ذلك من لم يكن ذئباً أكلته الذئاب !

··· " سبق السيف العذَل "· العجيب أن مثل هذه القوالب تفرض سيطرتها حتى على القواعد النحوية التي يمجدها النحاة ويتهمون قراءات متواترة باللحن لأنها تخالف قواعدهم إلا أنهم أمام قوالب الأمثال يستسلمون ويقولون المثل يروى كما هو دون تغيير _ كما في المثل السابق حيث فتحت الذال - !، المهم أن هذا القالب يتخذ ذريعة لتبرير العجلة والتسرع في الأمور دون تدقيق , وصار بمثابة " المسكّن " لضمير الخاطئين بدافع ···العجلة .

··· " إن ألقمته عسلاً عض أصبعي " ، وهذا القالب يسوغ الامتناع عن عمل الخير خوفاً من نكران مرتقب , أو خوفاً من طلب المزيد كما قالوا " لا تعط الصبي واحدة فيطلب ثانية "
لا يعني ما قدمناه أن العبارت المقولبة دائماً ذات إيحاءات سلبية بل إن قدْراً منها كذلك وهو بحاجة إلى مساءلة وتمحيص حتى لا تُمرر إيحاءاته على عواهنها ونستجيب لها دون وعي .

Nike WMNS Air Force 1 Shadow White/Hydrogen Blue-Purple

التصنيف الرئيسي: 
التصنيف الفرعي: 
شارك: