صدر للأستاذ الدكتور عبد العلي الودغيري كتاب جديد انطلق فيه من تجربته الطويلة وعمله فيما يتصل باللغة العربية وتعليمها في أقريقيا، وفيما يلي أعرض مقدمته للكتاب وصورة غلافه راجياً التوفيق للأستاذ الكريم :
تقديم :
حين شاءت العنايةُ الإلاهيةُ أن تختارني منظمةُ المؤتمر الإسلامي لرئاسة الجامعة التابعة لها في غرب أفريقيا، وهي الجامعةُ الإسلامية بالنيجر التي يقصدُها للدراسة طُلابٌ من كافة الدول الإفريقية، من جُزُر القَمَر في أقصى الشرق إلى السِّنغال وساحل العاج في أقصى الغرب، وحين أراد الله أن تمتدَّ إقامتي هناك إلى ما يقرُبُ من أحدَ عشَرَ عاماً، أُتيحَت لي فُرصةٌ ثمينةٌ لتعميق معرفتي بالتُّراث العِلمي والثقافي الإفريقي، وملءِ كلِّ أوقاتِ فراغي بقراءاتٍ واسعة في تاريخ المنطقة وما خلَّفُه أبناؤُها من مُصَنَّفاتٍ ما يزالُ الكثيرُ منها مخطوطاً ومطبوعاً طَبَعاتٍ مَحَلِّية محدودة الانتشار، وما كتَبَه العربُ والمُستَعرِبون والإفريقانيّون من كلِّ جِنسٍ، من بحوثٍ ودراسات حول هذا التُّراث الزاخِر وأهمِّ الأحداث والشخصيات التي كان لها دورٌ في التاريخ الديني أو الثقافي أو السياسي في الفَترات السابقة للمرحلة الاستعمارية التي شَكَّلَت حَداً فاصلاً بين عُصورٍ عاشَت فيها مُعظمُ الدول الإفريقية تحت نُظُمٍ إسلامية، وعهدٍ جديد خَضَعت فيها كلُّ دول إفريقيا ـ بلا استثناء ـ لحكم الاستعمار الغربي. كما كانت حداً فاصلاً بين سيادة اللغة العربية في الإدارة والتعليم والقضاء فضلاً عن المجالات الدينية، وسيادة اللغات الأوروبية التي احتلَّت مركزَ القُوة وأصبحت لغاتٍ رسميةً أولى لكل الدول الواقعة جنوب الصحراء الكبرى.
ولقد خرجتُ من تجربتي الإفريقية واحتكاكي خلال تلك المدة بمختلف طبقات المجتمع، ولاسيما طبقة المُتعلِّمين وطُلاب العلِم في هذه المنطقة التي كانت تسمى في المصادر التاريخية بـ ( السُّودان الغربي)، بمُستخلَصاتٍ وفوائد جمَّة. لكنِّي لن أقف هنا إلا عند ثلاثة أُمور منها لَمَستُها لَمسَ اليد، ورأيتُها رأيَ العين، وأحسَستُها إحساسَ المُعايَشة والمُعاشَرة اليومية :
أولُها: شدةُ تَعلُّق الأفارقة بالإسلام ديناً وثقافةً ونِظامَ حياةٍ، ومدى حِرصِهم وإقبالِهم على تَعلُّم القُرآن وحِفظه والمحافظة عليه والرَّغبة الصادقة في الخُضوع لأحكامه.
ولقد تعرَّفتُ إلى أشخاص ـ ومنهم مَن كان يشغلُ مناصِبَ سياسية رفيعة في الدولة ـ يحفظون القرآن عن ظهر قَلبٍ دون أن تكون لهم معرفةٌ ولو بسيطةٌ باللغة العربية. وإلى جانب تعلُّم القرآن وإتقان حفظه، فإن الأفارقة ـ كما عرَفتُهم ـ يجتهدون اجتهاداً خاصّاً في سُلوكِ طريقِ التَّفقُّه في الدين، ومنهم من يشُدُّ الرِّحالَ إلى أنحاء مختلفة من بلاد العالَم، ويُعاني المَشَقات من أجل تحصيل هذه الثقافة الإسلامية والتبَحُّر فيها، ولمن يحتلُّون بعضَ المناصب الدينية الكبرى عندهم تأثيرٌ عميقٌ في المجتمع.هذا مع حِرصِ الجميع على إقامة الشعائر المفروضة ولاسيما الصلوات التي يؤدُّونها في أوقاتها على أطرافِ الشوارع لعدم كفاية المساجد، والازدحام على مواسِم الحجِّ والعُمرة، والاعتزاز باللباس الإسلامي ذُكوراً وإناثاً. ومما عرَفناهُ ولَمَسناه بحُكم المعايشة أيضاً، حرصُ عُمُوم الأُسَر الإفريقية على تعليم أبنائها في مدارس إسلامية. وقد كنا نجدُ صعوباتٍ في بداية كلِّ عامٍ لإرضاء كافَّةِ الطلَبات التي تنهالُ على الجامعة يَحملُها إلينا أصحابُها وهم قادمون من أكثر من عشرين دولة، وفيهم من كان يَقطعُ آلافَ الكيلومترات بوسائل اتصال بَرِّية صعبة، منتقِلاً من بَلدٍ إلى آخر في رحلةٍ قد تستغرقُ مدةً طويلةً. ثم يأتي فيقضي الأيامَ والأسابيع بلا مَلجإٍ ولا مأوى، سوى المساجد وساحات الشوارع، في انتظار الحصول على مقعد دراسي بعد امتحانات القَبُول.
وثانيها: حرصُ الأفارقة الشديد على تعلُّم اللغة العربية وإتقانها نُطقاً وكتابةً، والتعمُّق في آدابها وثقافتها. وقد تأكَّدَ لي من خلال تجاربَ عدةٍ، أنه يَسهُلُ عليهم تعلُّمُها واستعمالُها والانسجامُ معها أكثر من أيةٍ لغةٍ أخرى. وربما يعودُ ذلك لعوامل وأسبابٍ نفسية ودينية واجتماعية بحُكم انتمائهم التاريخي إلى مجتمع إسلامي مُتاأَصِّلٍ، والحنين إلى استرجاعِ ماضيهم الثقافي والحضاري الذي يعتزّون به أيَّما اعتزازٍ، وإحساسهم بأنهم غُرباءُ عن الحضارة الغربية المُسيطِرة بقِيَمها المادية والإلحادية البعيدة كلَّ البُعد عن تقاليدهم الموروثة. ولقد قرأتُ وسَمعتُ كثيراً من الشهادات التي تتحدَّث عن عُزُوف كثيرٍ من الأُسَر والمناطق الإفريقية المحافظة في بداية الاستعمار، عن إدخال أبنائها إلى المدارس الأجنبية التي كانت تُحاربُ العربيةَ والثقافة الإسلامية وتمتَنع عن تدريسهما. وهذا ما أدى بأبناء تلك الأُسَر والمناطق إلى التهميش والإبعاد عن تولّي المناصِب والوظائف الإدارية والسياسية التي كاد يحتكرُها المتعلِّمون باللغات الغربية، وكان ذلك من الأسباب القوية لإثارة كثيرٍ من الفِتَن والصراعات السياسية ما تزالُ آثارُها وعواقِبُها قائمةً.
ولما كان المُنتَسِبُون إلى الجامعة الإسلامية بالنيجر من طُلابٍ وأساتذة، ينحدرون من دولٍ إفريقية كثيرة تزيدُ عن عشرين دولة ـ كما قلتُ ـ وفي كلِّ دولة منها عشراتٌ من اللُّغات المَحلِّية لا يعرفُها إلا أصحابُها، وكانت اللغاتُ الرَّسمية لهذه الدول تختلف بين الفرنسية والإنجليزية وغيرهما، لم يكُن من سبيلٍ لإيجادِ لغةٍ أُخرى مُشترَكةٍ للتفاهُم بين سائر المُنتَسِبين للجامعة سوى استعمالِ العربية الفُصحى في كلِّ المُعاملات. فكان الطالبُ وهو يقضي بالمؤسَّسة ما لا يقلُّ عن أربع سنواتٍ، يعيشُ تجربةً فريدةً من نوعها، وهي استعمالُ العربية الفُصحى في كلِّ مُعاملاته مع الآخرين، ولا يَشعرُ بأيٍّ عَناءٍ أو أَيِّ مُشكِلٍ لغويٍّ في تَواصُله اليومي وكأنه في مجتمع
عربيٍّ صِرف. وقد عِشتُ هذه التجربةَ طيلةَ سنواتٍ، فتأكَّدَ لي بما لا يقبلُ الشَّكَّ أن الذين يقولون إن الفُصحى لغةٌ لا تصلُح إلا للكتابة فقط ولا تَصلُح للاستعمال والتخاطُب اليومي في كلِّ شُؤون الحياة، إنما يتحدّثُون عن شيءٍ لم يعيشُوه في تجربة حقيقية.
ولكنِّي كُنتُ دائماً أُحِسُّ بأن هذا التعلُّق الشديد الذي لَمسناهُ عند الأفارقة بالثقافة الإسلامية واللغة العربية، لم تكن المؤسَّساتُ الرسميةُ في العالَم العربي والإسلامي للأسف الشديد تُحسِنُ استثمارَه على الوجه الذي كُنتُ أتصَوَّرُه، ولم تكن المساعداتُ التي تُقدِّمُها هيئاتٌ ومُنظَّماتٌ إسلاميةٌ رسميةٌ وأهليةٌ، كافيةً ولا مُتناسِبةً مع حَجم الطلَب المُتزايِد على فتح المدارس العربية والمؤسسات الجامعية التي تعملُ على المحافظة على الهوية الإسلامية وغَرس قِيَمها، وتقديم كلِّ ما تحتاجُ إليه من دعمٍ وتشجيع ورعاية، والرَّفع من مستوى المناهج التعليمية وطُرُق التدريس وتكوين الأساتذة والمُعلِّمين. هذا مع اعترافنا بما بَذَلته بعضُ الدول والهيئات والجمعيات ـ وقد ذكرنا عدداً منها في ثنايا الكتاب ـ وكذلك بعضُ الشخصيات المَسكونة بهمِّ اللغة العربية والثقافة الإسلامية.
على أَنَ الاهتمام بإفريقيا لا ينبغي أن يكون محصوراً في بناء المساجد والمدارس وحَفر الآبار وتقديم المساعدات الغذائية وبعض الأدوية عند الطوارئ والفَواجِع والمناسبات الدينية، بل إن التعاون العربي الإسلامي مع إفريقيا يجب أن يكون أساساً من الأُسُس الاستراتيجية للسياسات الخارجية لكل دولة عربية وإسلامية، تتجاوزُ مستوى تقديم المساعدات البسيطة خلال المُناسَبات، إلى انفتاح رؤوس الأموال العربية على الاستثمار في مشاريع ذاتِ مَردودية اجتماعية واقتصادية نافعة للدول الإفريقية على المدى البعيد والمتوسِّط.
وثالثُها: ما لَمَستُه من تعاطُفٍ تِلقائيٍّ لشُعوب الغرب الإفريقي مع المغرب ثقافياً واجتماعياً ودينياً. وهذا التعاطُفُ الموروثُ عبرَ حِقَب التاريخ الماضية، هو الرصيدُ الحقيقي الذي ينبغي للمغاربة أن يستثمروه خيرَ استثمار في تنمية علاقاتهم مع كافة دول المنطقة وشعوبها. فأنتَ حين تكون في أفريقيا الغربية ويَعلَمُ الناسُ أنكَ من المغرب الأقصى، سُرعانَ ما تَكسِبُ تعاطُفَ المُتعاملين معك والمُخاطِبين لكَ من أيِّ فئةٍ كانوا. ولقد كان لذلك أسبابٌ تاريخية قديمةٌ تعودُ إلى دور المغرب في نشر الإسلام وثقافته وحضارته، وما اقتضاه ذلك من ضرورة نشر اللغة العربية التي ثَبَتَ تاريخياً أنها كانت تحلُّ مع الإسلام حيثما حلّ واستقَرَّ.
لقد كان التأثيرُ المغربي في غرب إفريقيا عَميقاً جداً، امتدَّ عُمقُه ومَساراتُه من المجالات السياسية والتِّجارية إلى المجالات الدينية والمَذهبية والثقافية والعِلمية والاجتماعية واللغوية أيضاً. وكان للعلماء والدُّعاة والفقهاء المغاربة ولكُتُبهم ومؤلَّفاتهم، دورٌ وأيُّ دورٍ في إرساخِ جذور هذه العلاقة بين شمال إفريقيا وجنوبها. وهذا هو الرصيدُ الحقيقي الذي ينبغي استثمارُه وتنميتُه على الدَّوام كما قلتُ .
وقد حاولتُ، من خلال مباحث هذا الكتاب الذي خصّصته للحديث عن مكانة اللغة العربية والثقافة الإسلامية في الغرب الإفريقي عبر مراحل مختلفة من التاريخ، أن أتوقَّف عند جوانبَ مُضيئةٍ من العلاقات الثقافية والعلمية والدينية واللغوية التي كانت قائمةً وظلت مستمرةً بين المغرب الأقصى والمغرب العربي عامة من جهة، ومنطقة الغرب الإفريقي من جهة أخرى. وكلُّ أَملنا هو أن تتعزَّز هذه العلاقات وتتقوَّى أَواصرُها بين شُعوب الشمال والجنوب، وأن يكون رصيدُنا المتينُ من الماضي المشترَك هو القاعدة الصُّلبة التي تنبني عليها علاقاتُنا المستقبلية.
واللهُ الموَفِّقُ للصواب
وكتبَه: عبد العلي الودغيري
بالرباط فاتح صفر 1432هـ / 6 يناير 2011م