"انفجار، سونامي، غرق، مديونية، بطالة، جثة، قصف، قنبلة، اصطدام، حطام". بمثل هذه المفردات، لكن باللغة الأجنبية، استهلّت إحدى تلميذاتي عرضا متميزا ورشيقا اختارت أن تنجزه كجزء من درس اللغة. ومن حُسن حظي أن وافقتْ فكرتُها المعضلةَ اللغوية التي تساور ذهني وتُهرسلُ كياني منذ سنة أو ما يزيد: إنّ ألفاظا مماثلة، تُبثّ بكل اللغات، مسيطرة على لغة الأخبار في التلفزيونات وفي الإذاعات، أعتبرها تجَنٍّ في حق اللغة قد يخفي انخراما في توازن الكثير من الأنظمة في بحر ما وراء اللغات.
والطريف في الأمر أنّ الفتاة أدرجت موضوعها ضمن محور الدرس، وهو "تلوث البيئة"، مع أنها لم تسَمّ الأشياء بأسمائها: "التلوث اللغوي". لقد استشرفتْ إسما موجودا وطبقتهُ على مسمًّى غير مألوف عند الناس؛ فحسبتُ ذلك في الإبان على ملامح الثورة لمّا تطالُ قاع البنيان في عقول صغار الأنام. والأطرف من ذلك أن حتى نظيف المسمع من شباب الفصل، وهو فتى موسيقارٌ، لم يتنبه إلى ثبوت اندراج الموضوع في المحور، فنظر إلى الفتاة ساخرا ثم قاطعها سائلا:" وما العلاقة بين هذا المعجم الغريب والتلوث البيئي؟". سألتُه التريّث في الحين عساه يفيدنا بموسيقاه في تذليل المشهد الموصوف والامتناع عن لعب دور الفتى المكسيكي الوسيم الناطق بعربيةٍ من سجّيل.
وما أفاض كأسَ التلوث اللغوي، في المدرسة و في كل فضاء، في الكتب كما في الأفلام، أنْ ألزمَ الهمّ اللغوي مرضَى اللسان باللف والدوران في بَالُوعَة لا أحد يدري ما عسى أن يكون المَخرجُ منها. وحتى "الثورة" لم تُنجِ العائمين في أحواضها مِن لسْع أهوائها: "قناصة" فـ"رصاصة" فـ"دويّ" فـ"إصابة" فـ"جثة" فـ"دفن" فـ"اعتصام" فـ"صراخ" فـ"سلب" ف،"نهب" فـ"اغتصاب" فـ"ترهيب" فـ"غاز" فـ"اختناق" فـ"إرهاب" فـ"اختطاف " فـ"ركوب" على الثورة.
وفي مضمار العلاج جاء على لسان تلميذتي اقتراحُ قائمةٍ من مفردات لمقاومة ما فسد من الدلالات، فكانت سلسلة "غناء، رقص، حب، روحانيات، ورد، عطر" وما إلى ذلك من الانفعالات ذات المغزى، على أية حال. لكن يبقى همّ أهل الاختصاص، وهُم المدعوون للتعلم من صغار الثوار، ما عسانا نقترح لتذويب العلة. نقلب المشهد رأسا على عقب مثلما يفعل جهاز التثقيف الرخيص لمّا يبتاع السعادة المزيفة بأموال الشعب فيرشّ عيوننا ويعصف بعقولنا بواسطة تلكم المسلسلات المحبوكة في بلاد المكسيك، والممزوجة فيها معاجمُ الكوارث بمظاهر الأناقة والجمال والشهامة والنضارة، مغلفة في ورق من رحيق الضاد لا يغني من جوع؟ أم ماذا يا ترى نحن مازجون؟
إذا صحّ القول عن لغة الكوارث عموما كما أراها، وهي ظاهرة اكتسحت أيضا الكتاب المدرسي بكل وقاحة، أنها تسطو على عقول الناطقين بلغة الضاد أكثر من سطوها على الناطقين بما هو متطورٌ من لسان الإفرنج والروم والسكسون ، فحريٌّ بنا أن نأخذ العبرة من أسباب استقامة تلك اللغات، وهي لعَمري قدرتها الفائقة على التعبير بكل بلاغة عن ثنائي أضواء العصر: الحداثة والدماثة. لماذا انشطر العرب إمّا إلى أهل الدماثة بلا حداثة وإمّا إلى أهل الحداثة بلا دماثة؟ وهل من سبيل لمزج الحداثة بالدماثة؟
إذا كان هذا مَكمَنُ الإعاقة قد يفيد الغطسُ أكثر في محيطات الدلالة لنتعلم المزيد من فنّ السباحة في يمّ الحداثة. عندئذ سنرى كيف أنّ القنابل الدلالية، ذات الأشكال المختلفة وذات الكفاءة العالية في التأقلم مع الألسنة المختلفة، لئن تهطل على عقول الناس أجمعين لكنّ وقعها عنيف سوى على عقول الشعب العربي، فلأننا على غرار أسطول الشعوب الإسلامية التي نتصدرها (بعنوان القصور اللغوي) ذوو مشكلة هي أم المشكلات: ما يزيدنا غمّا على همّ ويؤجل التمكن من مهارات السباحة، و ما يعتري الحداثة والدماثة من سوء علاقة، إنما هو سوء الجوار وندرة الحوار بن الدين والسياسة.
ولئن أزعمُ أني أحيانا أجدُ الملاذ المناسب لي دون سواي من الناطقين بالكلِم العربي، فكم بوِدي أن أمتطي، مع الجماعة، بعضَ مَركبٍ يأخذنا إلى برّ الأمان. في الواقع، بعد كذا مقالة بالفصحى، تستميلني اللهجة العامية على حين غِرّة فأقع في عشقها تائها وَلهانًا. لكنّ الفرصة لا تتركني أمُرّ في حال سبيلي دون أن يُعاودني الحنين إلى الفصيح من التكليم فأوجه الدعوة إلى القارئ الوطني والقومي والأُمَمي للعَوم في ما قصُرَ أو طال مِن البحور وفي ما عمُق أو جفّ من البحار.
وها أنا ذا مختمرٌ يُخامرُه شاغلٌ ذو عِدّة من الأروقة: لِم يكتب المرء بالعامية؟ هل نكتب بها لنتهرب من زف الدين إلى السياسة؟ هل العامية في تونس وفي سائر البلدان العربية "لغة"، وهل هي متطورة إلى درجة فرض نفسها (مثلما هي فاعلة معي أحيانا) كمُسَهلٍ للإبحار، وكشراعٍ لمُواكبة الرغبة في الانتقال من حالٍ إلى حالٍ؟ أم أنّ حالُ الملاذ تفرضه العامية بينما حال العلاج لا يكمن إلا في الفصحى؟ وإن كان ذلك كذلك هل يعني هذا أن لم يعُد للفصحى مكانة في الوجود العربي؟ وهل ما كان يُعبَّرُ عنه باللغة الثالثة (بين الفصحى والعامية) كانت مرحلة و انتهت لأنها استوفت شروطها، وذلك في انتظار ما هو أفضل؟ وما الأفضل؟
تلك أسئلة تعوزها الإجابات لا محالة. مع ذلك فالذي أعشقه في اللغة أنها عادة ما تسمح بادّخار التفسير أثناء التكليم. ومَثلها في هذا الباب مَثلُ الدين، تيسيرٌ لا تعسيرٌ. لذا من المفترض أن لا نُعقّد رحلة العربي أكثر ممّا هي مُعقدة في بابٍ لا يتحمّل التعقيد. إذن يحبذا لو تؤول الإجابات كلها، إن وُجدت، إلى إجابة وحيدة وطبيعية: نرنو إلى توحيد اللغة؛ نريد لغة واحدة مثلما هو الشأن عند أممٍ سائدة.
اللغة الواحدة هي الدين الواحد. وأتساءل ما عسى أن يفعل العرب بدين الإسلام إن لم يُرضوا الله، باعث عقيدة التوحيد، بفضل توحيد اللغة، زيادة على إرضائه بالامتثال لسائر أوامره ونواهيه. إنّ كل محاولة لإغاثة سفينة اللغة انطلاقا من أرضية اللغة فحسب تبوء بالفشل. وما تلاطمُ أمواج التعريب في العقود ما بعد حقبة الاستقلال في أكثر من بلد عربي إلا دليل على ذلك. في المقابل، للعربية سمة لا تكسبها لا الانكليزية ولا الاسبانية ولا أية لغة راقية أخرى: تناظرها مع الدين الإسلامي. فتقريبا كل العناصر الموحِّدة التي تنطوي عليها لغة الضاد متصلة اتصال الحياة بدين الإسلام وبعقيدة التوحيد.
متى سنكفُّ عن مشاهدة الركب يطفو بلا خارطة: سونامي سياسي على حِدة أسميناه "الثورة" مع أنه انتقال من حال انحطاط إلى حال تفكيك الانحطاط ومع أننا لا ندري إلى أين سيُرسي سونامي السياسة بالعقل؟ ومتى سنكفُّ عن مشاهدة الركب يطفو بلا خارطة: فوضى دينية على حِدة أسميناها "الصحوة" مع أنه لا عِلمَ لنا إن كانت الصحوة صحوةَ فجرٍ أم مجرّد حُلم نخاله اليقظة، أم ربما أضغاث أحلام معبرة عن الرغبة في حصول اليقظة والصحوة؟
في هذا الخضمّ، حريّ بكل ملاّح من أهل العرب الخائضين في مجال السياسة أن يجربوا الغطس في بحبوحة الدين، فيرتوُونَ بكميات من الحكمة والحنكة والتروّي. إذ ليس الإسلام فقط عقيدةً وأداءا للشعائر وإنما هو أيضا معاملات وأخلاق وتدبّر. والسياسة بمعناها الأصلي والنبيل هي التدبّر. أمّا الخزان الذي لا يفرغ، بل البحر الذي لا ينضب، من خليط الدين والسياسة فهو الملاّح صاحب اللسان؛ وهو أيضا بيئة الملاح. والخليط منهما على صفةٍ من التعقيد لكنه مَكسُوٌّ بالجمال؛ قد يهزّ صاحبَه الزلزالُ تارة وقد تهبط به النسائمُ سليمًا مُعافى طَورا. وهل يبقى البحرُ بحرًا لو تمت تحلية المياه فيه؟
كل متكلم عربي مُروّضٌ افتراضيٌّ لزوبعة الوجود. فمتى يا ترى سيتحَول صاحب اللسان من بهلواني، إلى متنافس على الألقاب، ماهرٍ في اختيار الرواق، حاذقٍ للانطلاق، ضامنٍ للفوز بالسباق؟ ومتى سينتقلُ من طورِ ملاّحٍ تائه إلى طورِ فلاّحٍ غانمٍ للمزروعِ قبل تهافته على زرع البذور؟ ومتى سيسيحُ الكلمُ من لسانه، سيحانَ طاعةٍ، لعَقلٍ مُتمكنٍ من الدّربة على الغطس كما على اللقاح، لا مسلسلا من المكسيك، بل شريطا للحياة؟
-------------------
محمد الحمّار
الاجتهاد الثالث/اللغوي