إن اللغة العربية التي نتحدث بها بيسر وسهولة يزيد عمرها الآن عن ستة عشر قرنا من الزمان يمثلها ما وصل إلينا من شعر ونثر جاهليين وهي اللغة التي نزل بها القرآن الكريم ورويت بها السنة المطهرة وكتب بها التراث الإسلامي ، ولا شك أن هذه الحقبة تكفي وحدها دليلا على أن اللغة العربية أقدم لغة حية مستعملة اليوم كما كانت قبل ستة عشر قرنا دون تبدل يذكر . قال الجاحظ : فإذا استظهرنا الشعر وجدنا له – إلى أن جاء الإسلام – خمسين ومئة عام وإذا استظهرناه بغاية الاستظهار فمئتي عام . واللغات الأوربية خير شاهد على ذلك ، فالانجليزية الحديثة مثلا تختلف اختلافا بينا عن الانجليزية الوسيطة والتي لم يمض عليها سوى بضعة قرون وكلاهما تختلف اختلافا بينا عن الانجليزية القديمة والمتحدث بالانجليزية التي يعيش في مرحلة من مراحلها لا يستطيع فهم المرحلة السابقة إلا بصعوبة شديدة .
وهذه الفترة الزمنية - الستة عشر قرنا - لا خلاف فيها بين اللغويين ، فهل كانت هناك عربية قبل ألف وستمئة عام؟ الجواب نعم بلا شك فقد جاء في صحيح البخاري (3364) قال ابن عباس رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم شب الغلام وتعلم العربية منهم " فهذا الحديث يدل على أن إسماعيل عليه السلام تعلم العربية من جرهم ، وفيه دليل على أن عمر اللغة العربية الآن أربعة آلاف عام لأن إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام قد عاشا قبل نبي الله عيسى عليه السلام بألفي عام وقد مضى الآن على ميلاد المسيح عليه السلام ألفا عام . وقد أخذ بهذا الرأي العقاد وعدد من اللغويين مع اختلاف في تحديد التاريخ ، منهم الكرملي . وفي هذه المرحلة يبرز سؤال آخر هو : هل كانت بداية العربية في عهد إسماعيل عليه السلام أم أنها كانت قبل ذلك ؟ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله (6/403) قوله : "وتعلم العربية منهم" فيه إشعار بأن لسان أمه وأبيه لم يكن عربيا وفيه تضعيف لقول من روى أنه - إسماعيل - أول من تكلم بالعربية وقد وقع ذلك من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند الحاكم في المستدرك بلفظ : " أول من نطق بالعربية إسماعيل " وروى الزبير بن بكار في النسب من حديث علي بإسناد حسن قال : " أول من فتق الله لسانه بالعربية المبينة إسماعيل" وبهذا القيد يجمع بين الخبرين فتكون أوليته في ذلك بحسب الزيادة في البيان لا الأولوية المطلقة ، فيكون بعد تعلمه العربية من جرهم ألهمه الله العربية المبينة فنطق بها .
وهناك توجيه آخر للأولية المذكورة في الخبرين السابقين ذكره العيني في عمدة القارئ (15/258) حيث قال في معرض تعليقه على كلام ابن حجر : " ليس فيه تضعيف لأن المعنى أول من تكلم بالعربية من أولاد إبراهيم عليه الصلاة والسلام إسماعيل ، لأن إبراهيم وأهله كلهم لم يكونوا يتكلمون بالعربية فالأولوية أمر نسبي ، فبالنسبة إليهم هو أول من تكلم بالعربية لا بالنسبة لجرهم " وأخذ بهذا القول عدد من العلماء يرون أنها أقد من هذا التاريخ بكثير مستدلين على ذلك بما ورد من روايات وآثار تشير إلى أن اللغة العربية كانت قبل بدء الخليقة ، ويصعب الإتيان بدليل على ذلك إلا ما كان من استنباطات لا تخلوا من تكلف في كثير من الأحيان . وبهذا يتبين لنا جليا أن عمر اللغة العربية حتى الآن يزيد على أربعة آلاف عام بمدة الله أعلم بقدرها إلا إنها مدة ليست بالقليلة ، حيث يجب أن تكون هذه المدة كافيه لنشأة اللغة وتكوينها واكتمال جوانبها وهي مدة لن تكون قصيرة قطعا ، وتحديدها بدقة يحتاج إلى بحث مطول لا يناسبه هذا التلخيص المختصر .