ظاهرة لزوم الدور في النحو العربي : مشكلاتها وطرائق دفعها

ملخص البحث:

يتناول هذا البحث ظاهرة نقدية شاعت في العلوم العربية كافة بعد تسربها من الدراسات الفلسفية والمنطقية، ألا وهي ظاهرة (لزوم الدور)، فقد تكفل البحث بتعريف هذه الظاهرة وتحديدها وكيفية حصولها ومكانه، فعالج المبحث الأول مفهوم الدور وأنواعه في حين ناقش المبحث الثاني المكان الذي تحدث فيه هذه الظاهرة وخصها بمقامي التعريف والتعليل، وكان المبحث الثالث الذي اختص ببيان الأشكال التي يلزم منها الدور والطرائق التي يتسرب إليها من خلال أقلام المؤلفين والكتاب النحويين، واختتم البحث بذكر طرائق دفع الدور والأساليب التي اعتمدها النحويون لرد هذه الظاهرة المتوهمة في بعض العبارات النحوية.

ويمكن تصنيف هذا البحث في سيل الدراسات النحوية النقدية التي تعالج ظاهرة مؤدية إلى فساد التعريف والعلة، وليتعرف دارس النحو العربي على هذه الإشكالية وكيفية لزومها ودفعها بأسلوب علمي دقيق. 

المبحث الأول: الدور وأنواعه

إن الدور في اللغة من:" دار الشيء يدور دورا ودورانا... إذا عاد إلى الموضع الذي ابتدأ منه...، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض"([1])، ومعناه الاصطلاحي عند الحكماء والمتكلمين:" توقف كل من الشيئين على الآخر"([2])، واشترط وقوعه بين الطرفين؛ لأن التوقف يستدعي وجود متوقِّّف ومتوقَّف عليه، وهو نوعان:

1-      دور محال: ويسمى(السبقي)لاستلزامه توقف الشيء على نفسه وتقدم الشيء على نفسه، والمستلزم لكون الشيء الواحد موجودا ومعدوما في وقت واحد، وكون الشيء الواحد معلوما ومجهولا في آن واحد؛ إذ من المعروف أن العلَّة أقدم وجودا من المعلول؛ فلو توقف وجود العلة على وجود المعلول؛ لزم كون العلة الموجودة معدومة في آن افتراضها موجودة؛ ومن المعروف أيضا أن العلم بالتعريف أقدم من العلم بالمعرَّف؛ وأنه علة لمعرفة المعرَّف، فلو توقف التعريف على المعرَّف لزم كون الشيء الواحد معلوما ومجهولا في آن واحد؛ وهذا الدور المحال نعبّر عنه بأنه :"توقف كل واحد من الشيئين على الآخر قبله"؛ فالمعرَّف متوقف على التعريف فإذا توقف التعريف عليه لزم الدور المحال([3])، وهو ينقسم إلى نوعين أيضا:

أ‌-           (الدور المصرح والصريح والظاهر): وذلك إن كان التوقف بمرتبة واحدة كتوقف (أ) على (ب) وتوقف (ب) على (أ)، وكقولنا: الشمس: كوكب نهاري، والنهار: زمان كون الشمس طالعة، وكقولنا: خالد أوجد بكرًا، وبكر أوجد خالدا، فبكر متوقف في وجوده على خالد ثم خالد توقف في وجوده على بكر والواسطة واحدة وهي بكر، وهذا الدور باطل لما يلزمه من التناقض، إذ يلزمه أن يكون الشيء سابقًا لا سابقًا مؤثرًا لا مؤثرًا، بل يلزم أن يكون الشيء نقيض نفسه ضرورة المغايرة بين المتقدم والمتأخر والأثر والمؤثر، ويلزم منه أن يكون الشيء الواحد موجودا ومعدوما معا وهو محال، وذلك لأنه إذا توقف (أ) على (ب) كان (أ) متوقفا على (ب) وعلى جميع ما يتوقف عليه (ب)، ومن جملة ما يتوقف عليه (ب) هو (أ) نفسه فيلزم توقفه على نفسه، والموقوف عليه متقدم على الموقوف، فيلزم تقدمه على نفسه، والمتقدم من حيث إنه متقدم يكون موجودا قبل المتأخر، فيكون(أ) حينئذ موجودا قبل نفسه، فيكون موجودا ومعدوما معا وهو محال([4]).

ب‌-   (الدور المضمر والخفي): وذلك إن كان التوقف بمراتب كتوقف (أ) على (ب) وتوقف (ب) على (ج) وتوقف (ج) على (أ)، وكقولنا: الحركة: خروج الشيء من القوة إلى الفعل بالتدريج، والتدريج: وقوع الشيء في زمان، والزمان: مقدار الحركة، وسمي خفيا لغموض التوقف فيه بسبب تعدد المراتب وتكثرها بين الموقوف والموقوف عليه([5])، وهو محال أيضا للوازم الفاسدة المتقدمة.

2-       دور جائز ويسمى(المعي): فإنه لا يستلزم كل تلك المحالات بسبب أن توقف كل واحد من الشيئين على الآخر معه لا قبله؛ فلا يلزم كون الشيء موجودا ومعدوما في آن واحد، ولا كون الشيء معلوما ومجهولا كذلك، وهذا النوع من الدور يجوز ارتكابه في التعاريف لعدم استلزامه المحال، كتوقف كون هذا ابنا لذاك على كون ذلك أبا له وبالعكس، ومن أمثلة هذا الدور قول المعرِّف الصرفي لـ (أبى يأبى): إنه فعل ثلاثي مفتوح العين في الماضي والمضارع غير شاذ، فيتوجه إليه اعتراض بأن هذا التعريف مستلزم للدور، وكل تعريف هذا شأنه باطل، والنتيجة: إن هذا التعريف باطل، وهنا يسلِّم صاحب التعريف بأن في تعريفه دورا، ولكنه لا يسلم أنه الدور المحال قائلا: لمَ لا يجوز أن يكون دورا معيّا؟ وتوضيح الاعتراض أولا: إن المعترض رأى في التعريف دورا ؛ لأن قول صاحب التعريف (غير شاذ) يدل على أن (أبى يأبى) من الباب الثالث؛ الذي فتحت عينه لأجل حرف الحلق؛ ومن المعلوم أن حرف الحلق (الألف) على قول بعض الصرفيين([6])؛ أصلها ياء وقلبت ألفا لأجل تحركها وانفتاح ما قبلها، وهكذا لزم توقف كل واحد من الشيئين على الآخر وهو الدور؛ ولكن صاحب التعريف قبل بلزوم الدور؛ ولكنه منع أن يكون من الدور المحال، وإنما كان هذا الدور معيا لأن توقف الألف على الفتحة هو مع توقف الفتحة على الألف، ولبيان ذلك نقول: إن الحرف الصامت يحتاج عند وجود نطقه إلى مصوِّت قصير (كالفتحة والضمة والكسرة)، مع أن هذه المصوتات محتاجة إلى الحرف الصامت وجودا، وذلك يؤدي إلى الدور ولكن هذا الدور غير محال؛ لأن توقف كل واحد منهما على الآخر معه لا قبله؛ فلا تلزم المحالات المتقدمة([7]).

ولقد أوضحنا في رسالتنا للماجستير(مباحث المصطلح النحوي في حواشي شرح القطر- 1996م، بإشراف الاستاذ الدكتور عبد الوهاب محمد علي العدواني) العبارات التي يشوبها الغموض وتقارب الدلالة مما يؤدي إلى الاضطراب في تحديد المراد منها، ولا بأس من التطرق لها استكمالا للفائدة، وهذه العبارات هي:

تقدّم الشيء على نفسه.

توقّف الشيء على نفسه.

تعريف الشيء بنفسه.

والعبارة الثالثة تستلزم العبارتين الأوليتين ولذا ابتدأنا بها؛ إذ تعريف الشيء بنفسه أعم من التعريف بما يساويه كتعريف الملكات باعدامها، مثل قولهم: الحركة ما ليس بسكون والبصر عدم العمى([8])، وأعم من أخذ المعرّف في أجزاء التعريف، كتعريف المرفوعات بـ: ما اشتمل على علَم الفاعلية([9])، وكلاهما ممنوع عند أهل النظر؛ لما قرّروه من أن معرفة التعريف أقدم من معرفة المعرّف، لأن معرفة المعرِّف علة لمعرفة المعرَّف، والعلة مقدمة على المعلول([10])، وفي الأول: وهو تعريف الشيء بما يساويه يحصل العلم بهما معا، وفي الثاني: وهو أخذ المعرَّف في أجزاء التعريف يلزم كون المجهول معروفا، فتعريف الشيء بنفسه مستلزم للعبارة الثانية وهي(توقّف الشيء على نفسه) وهذا هو الدور، فالدور هنا أمر لزومي وإذا تحقق الدور لزم تحقق العبارة الأولى وهي(تقدّم الشيء على نفسه)؛ لانا لو أخذنا(يتعدى) مثلا في تعريف (الفعل المتعدي) لزم تعريف الشيء بنفسه، ومن ثم سيتوقف فهمه على المعرَّف وهو(الدور) ونتيجة لهذا يلزم العلم بالشيء قبل نفسه لأن التعاريف معلومة قبل المعرَّفات، ولقاعدة اللازم للازم الشيء لازم له، يعني تعريف الشيء بنفسه مستلزم توقفه على نفسه وتوقفه في نفسه مستلزم تقدمه عليها، ونتيجة هذا أن تعريف الشيء بنفسه مستلزم تقدمه على نفسه، وبهذا كانت العبارة الثالثة مستلزمة للأولى، ويكون التعبير بـ(لزوم الدور) حقيقة؛ لأن الاستلزام فيها ظاهر إطلاقه، وأما العبارة الثانية فدالها المطابقي هو الدور، وهو أن يؤخذ في التعريف لفظ يتوقف في تعريفه الخاص به على المعرَّف الأول، ومثال ذلك: أخذ العامل في تعريف الإعراب، واخذ الإعراب في تعريف العامل على سبيل المعاوضة، فيصدق حينئذ (توقف كل من الشيئين على الآخر)([11]).

وحين يكون الاعتراض على صريح التعريف ممنوعا فلزوم الدور راجع إلى قضيتين ضمنيتين متلازمتين هما: إن التعريف ليس أخفى من المعرّف، والعلم بالتعريف قبل العلم بالمعرّف([12])، وتبين مما ذكرناه قبلا أن للدور نوعين آخرين يمكن تقسيم الدور إليهما باعتبار وقوعه في عبارات الدارسين، هما:

أ- الدور باعتبار المطابقة: وهو توقف كل من الشيئين على الآخر، ومنه اعتراض أبي الثناء الآلوسي على تعريف ابن هشام لمصطلح (الإعراب المعنوي) وهو: تغيير أواخر الكلم لاختلاف العوامل الداخلة عليه، فقد أخذ (العامل) في تعريفه، ولما عرّف النحاة (العامل) أخذوا (الإعراب) في تعريفه أيضا في قولهم: العامل: ما به يحدث المعنى المحوج للإعراب([13])، وإنما كان هذا ممنوعا لأنه يؤول إلى تعريف الشيء بنفسه، فكأننا لما أخذنا العامل في تعريف الإعراب المعنوي عرّفنا الإعراب بالإعراب؛ لأن العامل قد عرِّف به، ولذا يتجوّز بعضهم بإطلاق تعريف الشيء بنفسه على الدور مراعين حالة ما يؤول إليه، وتعريف الشيء بنفسه لا يغني السامع شيئا؛ إذ هو محتاج إلى تعريف واضح الدلالة لا يشوبه الغموض والإحالة لتنقية ما في حسه اللغوي من دلالات وتصورات عند سماع المصطلح مجرّدا، وهذا الفهم كثيرا ما يكون غير مراد، فلو أفاد التعريف ما أفاده المصطلح من البيان لم تحصل للسامع فائدة جديدة، فيكون هذا كتحصيل الحاصل، فانتفت قيمة التعريف وذهب غرضه، ولذا حرص المحشون تبعا لغيرهم على الاهتمام بهذا الجانب الحيوي في التعاريف ليزول الغموض وتنتفي الشكوك، وللهرب من لزوم الدور هذا قدّم الصبان(ت 1205هـ) تعريفا آخر للعامل بقوله:" الطالب لأثر مخصوص"([14])، علما بأن دفع الدور بهذا غير متعين، فالأوجه أن يقال: المراد بالعوامل في تعريف الإعراب الأفراد والأمثلة الخارجية دون المفهوم، والمعرَّف هو المفهوم، فلا توقف بين التعريفين لاختلاف الجهة وينتفي تبعا لذلك تعريف الشيء بنفسه، ويرشح هذا التوجيه قول ابن هشام نفسه: العوامل الداخلة؛ لأن المفاهيم لا توصف بالدخول، فالموصوف به حينئذ إنما هو الفرد الذي يدخل على الأسماء والأفعال فيحدث فيها الأثر المخصوص، وهي متوقفة على العلم بالوضع دون المعرَّف.

ب- الدور باعتبار اللزوم: ولما كان تعريف الشيء بقسميه (التعريف بالمساوي والتعريف بأخذ المعرَّف في أجزاء التعريف مستلزما لتوقف الشيء على نفسه وهو توقف كل من الشيئين على الآخر كان الدور المتحصل في هذا القسم لزوميا، ومنه اعتراض أبي الثناء الآلوسي على تعريف مصطلح(الطلب) بـ: الأمر بالصيغة([15])، إذ الطلب في الاصطلاح هو: استدعاء مطلوب غير حاصل وقت الطلب([16])، وهو بمعنى الأمر فيلزم عليه أخذ المعرَّف في أجزاء التعريف، وهذا من تعريف الشيء بقسمه الثاني، ومنه يعلم أن الأخذ المذكور قد لا يكون باللفظ نفسه بل بمفهومه ومعناه، وإذا أخذ المعرَّف في أجزاء التعريف فسيتوقف فهم التعريف على المعرَّف والمفترض هو العكس،وهذا الاعتراض متجه إلى قضية ضمنية مفادها: إن التعريف ليس أخفى من المعرَّف، فكأنه قال: إنه أخفى؛ لتوقف فهمه على فهم المعرَّف، فأجاب لدفع هذا الخفاء في التعريف بتحرير المراد(باصطلاح أهل المناظرة) بأن (الأمر) الوارد في التعريف متحقق بالمعنى اللغوي الصادق بالطلب وغيره، كنحو: لا تضرب ولتضرب وضربا، فكانت هذه الصيغ من حيث العموم اللغوي أوامر بيد أنها ليست في الاصطلاح طلَبا؛ لأن المراد بالطلب هنا بمعونة المقام(:علم النحو): الصيغة المعينة من قبل الواضع وهي: اضرب وأشباهها؛ لأن الطلب في غير علم النحو شامل للاستفهام والنهي والتمني...الخ، وبعد هذا الجواب اندفع التوقف من جهة الأمر(التعريف) على الطلب(المعرَّف) للعموم والخصوص المتحقق بينهما، ولا بأس في التوقف الآخر لأنه الأصل، إذ فهم المعرَّف متوقف على فهم التعريف.

ويمكن لنا أن نقسم الدور باعتبار تحققه وعدم تحققه إلى نوعين أيضا، هما:

1-    الدور الحقيقي: وهو المتحقق في عبارات النحويين عند الاستدلال أو التعريف للمصطلحات، حيث يقع المعلول علة والمعرَّف تعريفا، كما سيتضح ذلك في هذا البحث.

2-    الدور المتوهم: وهو الناشئ عن عدم ملاحظة الفرق بين التوقف بين الشيئين والافتقار في كل واحد منهما للآخر، فقد بين أبو حيان العلاقة الوطيدة القائمة بين الاشتقاق والتصريف التي قد يتوهم منها (لزوم الدور)، في حين لا يوجد توقف في الحقيقة وإنما مجرَّد افتقار بينهما، بقوله:"جعلتم معرفة الاشتقاق متوقفة على معرفة التصريف، وأهل التصريف يجعلون معرفته متوقفة على معرفة الاشتقاق لتعريف الزائد فيحكم بزيادته، فإنا لا نعلم أن (كوثرا) مشتق من الكثرة حتى يعلم أن الواو زائدة، ولا نعرف أنها زائدة حتى نعلم أنه مشتق من الكثرة، وذلك دور فيمتنع، قلنا: إذا عرفنا الأصلي من الزائد حكمنا باشتقاقه من الأصلية، فكل من التصريف والاشتقاق يفتقر إلى الآخر ولا يتوقف عليه"([17]).

ولم تكن الانتباهة على هذا العيب الاستدلالي مقصورة على الدرس الفلسفي فحسب، بل انتبه قدامى النحويين وهم يتحدثون عن العلة وشروطها على هذا الخطأ الاستدلالي الذي يرتكبه بعض مصنفي النحو، فقد عقد ابن جني بابا تحدّث فيه عن (دور الاعتلال) وقصد به مصطلح الدور الذي عرّفناه سابقا موردا لزوم الدور في كلام أبي العباس المبرِّد عندما علَّل: "وجوب إسكان اللام في نحو ضربْنَ وضربْتُ إلى انه لحركة ما بعده من الضمير يعني مع الحركتين قبل، وذهب أيضا في حركة الضمير من نحو هذا إنما وجبت لسكون ما قبله، فتارة اعتلّ لهذا بهذا ثم دار تارة أخرى فاعتلَّ لهذا بهذا، وفي ظاهر ذلك اعتراف بأن كل واحد منهما ليست له حال مستحقة تخصه في نفسه، وإنما استقر عليه لأمر راجع إلى صاحبه"([18])، ولم يكن ارتكاب الدور مقتصرا على المبرِّد بل وقع فيه سيبويه أيضا عندما أجاز (الجر) في: هذا الحسنُ الوجهِ، تشبيها بـ: الضارب الرجلِ، علما بأن الجر إنما جاز في الضارب الرجل لتشبيهه بالحسن الوجهِ، فقد:" صار كل واحد من الموضعين علة لصاحبه في الحكم الواحد الجاري عليهما جميعا"، ولكنه يجيب عن هذا الدور الأخير بما يقوّيه ويثبته معللا ذلك بالكثرة:" فالعذر أن الجرَّ لما فشا واتسع في نحو: الضاربُ الرجلِ والشاتمُ الغلامِ والقاتلُ البطلِ، صار لتمكنه فيه وشياعه في استعماله كأنه أصل في بابه، وان كان إنما سرى إليه لتشبيهه بالحسن الوجهِ، فلما كان كذلك قوي في بابه حتى صار لقوته قياسا وسماعا كأنه أصل للجر في: هذا الحسنُ الوجهِ"([19])، ولكنه سماه عذرا ضعيفا والأضعف منه الاعتذار عن المبرد؛ لأن علة سيبويه قائمة على التشبيه بين شيئين فيمكن القول: إن الفرع قوي قوة الأصل فصار علة بعد أن كان معلولا ، في حين خلا تعليل المبرد من التشبيه فلا يمكن الاعتذار عنه بمثل ذلك، وان كنت اعتقد بأن الأولى في التعليل هو تشبيه الضارب الرجلِ بالحسن الوجهِ؛ لأن الضارب عامل في المفعول به فلما خرج إلى الجر علل بالحمل على الصفة المشبهة، ويكون التعليل للجر في الحسن الوجهِ على الأصل في قانون الإضافة، لأن عمل الصفة المشبهة ضعيف؛ لأنها تعمل لشبهها باسم الفاعل([20]).

وقد يطلق الدور بمعناه اللغوي وهو ما يعبر عنه أحيانا بـ(الكرّ إلى ما منه الفرّ)، فقد عقد ابن جني بابا بعنوان (باب في الدور والوقوف منه على أول رتبة)، ومثاله أنا لو نسبنا إلى (العصا) نقلب الألف واوا فنقول(عصَوِيّ) فتدخل الواو حينئذ في باب الواو المتحركة المفتوح ما قبلها وهذا يقتضي قلبها ألفا، ولكن تجنب هذا فرارا من الدور؛ لأنه لو قلبت الواو ألفا نعود فنقلبها واوا لوقوعها قبل ياء النسب فترجع إلى الواو([21])، وليس هذا من الدور الاصطلاحي في شيء لانه لا توقف بين الطرفين على علة واحدة.

المبحث الثاني: أين يقع الدور

إن الكلام اللغوي إما مشتمل على (نسبة وحكم) وهو المسمى عند المنطقيين بالقضايا التصديقية مثل(زيد قائم)، وإما خال منهما وهو ما يسمى عندهم بالتصورات كتصور(زيد) مثلا، والعلم إما معلومات تصديقية أو تصورية توصل إلى مجهولات تصديقية أو تصورية، فالموصل إلى النتائج التصديقية هي القضايا التصديقية المحتوية على نسبة وحكم؛ لاشتمالها على المحكوم به وعليه والنسبة الرابطة بينهما([22])، ولكن قد يحدث عند الاستدلال للتوصل إلى النتيجة الوقوع في الدور، حيث تكون النتيجة متوقفة على الدليل فلو توقف الدليل على النتيجة لزم الدور([23])، وهو ممنوع لأنه يخالف فكرة الاستدلال على الشيء لغرض إثباته، في حين يكون الموصل إلى المجهولات التصورية هي المعلومات التصورية بعد تركيبها بنسق معين قد قرر في علم المنطق وهو المسمى بـ(التعريف)، فإننا إذا أردنا أن نصل إلى مجهول تصوري كالإنسان مثلا عمدنا إلى ألفاظ مفردة ونسقناها في ضوء معطيات منصوص عليها، توصلنا من خلالها إلى فهم حقيقة (الإنسان) فنقول: إنه حيوان ناطق، ولكن التعريف لا يشتمل على نسبة وحكم، بل هو تصوير وشرح وبيان للماهيات المجهولة([24])، وقد أشار التفتازاني إلى وظيفة التعريف في تحصيل تصور الشيء المراد تعريفه عندما قال :" معرِّف الشيء ما يقال عليه لإفادة تصوره"([25])، أي ما يحمل على المعرَّف حتى يفيد تصوره إما بالكنه أو بوجه يمتاز عما عداه([26])، وقد يقع المعرِّف في الدور عندما يورد لفظا في تعريفه متوقفا فهمه على المعرَّف، والمفترض توقف المعرَّف عليه دون العكس، وهو ممنوع للزوم التعريف بالاخفى والمجهول، ويقتضي هذا الكلام المختصر ضرورة التعرف على أنواع التعريف، لكي نعرف مواطن وقوع الدور من عدمها، وهي :

1. التعريف اللفظي: وهو بيان معنى لفظ مبهم بلفظ أوضح منه في الدلالة، كقول بعضهم :" الغضنفر: الأسد" أي ما وضع له الأول هو ما وضع له الثاني، فهذا النوع من التعريف لا يعطي معنى الغضنفر، وإنما يفسر اللفظ بلفظ آخر مشهور ومعروف([27])، أي أن هناك وضعين لمسمى الأسد هو الغضنفر والأسد، وقصد من خلال التفسير بيان أن ما وضع له الغضنفر من معنى هو بعينه ما وضع له الأسد، فهو بيان لفظي فقط، وهذا كثير الوقوع في كلام الناس، حيث يعمدون إلى تفسير ألفاظ غير مشهورة بألفاظ أخرى مشهورة، سواء كانت مترادفات أم متقاربات بأن يكون أحدهما اسما والآخر صفة، إذ نقول :"القاطع : السيف" فإن لفظة السيف موضوعة لتلك الماهية، بخلاف لفظ القاطع ، فإنه مجرد صفة له في حالة معينة، ومع ذلك فقد يقع أحدهما تفسيرا للآخر عند الجهالة، ولو تأملنا هذا النوع من التعريفات لوجدنا أنه الدور بعينه لتوقف كل منهما على الآخر، وهو غير مضرّ؛ لأننا لم نقصد من التعريف بيان حقيقة الشيء وكنهه حتى تلزم الجهالة المرفوضة عند التحديد، وإنما القصد تفسير اللفظ وبيان معناه الوضعي في اللغة بلفظ أوضح منه عند المخاطب ليس إلا، فكما أن الدور المعي غير مضر فلزوم الدور في التعريف اللفظي الواقع في صناعة المعاجم كذلك.

2. التعريف المعنوي : وهو ما يقصد به تحصيل صورة جديدة في ذهن من له التعريف مخاطبا أو غيره([28])، وهذا النوع يفسر معنى اللفظ المجهول، وهو المراد عند إطلاق كلمة (التعريف) في علم المنطق، لأن الغاية من بحثه في علم المنطق الوصول إلى المجهولات التصورية من خلال المعلومات التصورية بعد ترتيبها بنسق منطقي مقبول([29])، وليست مهمته الكشف عن لفظ مبهم بلفظ آخر أوضح منه. 

 والتعريف المعنوي ينقسم باعتبار تركبه إلى :

1-    التعريف بالحد: وهو التعريف المتكون من الذاتيات كالجنس والفصل، وهو إما تام أو ناقص، ويفيد العلم بكنه المعرف .

2-      التعريف بالرسم: وهو التعريف المتكون من العرضيات كالخاصة والعرض العام وهو أيضا أما تام أو ناقص، ويفيد العلم بالمعرف على وجه الامتياز عما عداه، بحيث لا يغدو مختلطا بغيره من الحقائق والمفاهيم([30]).

ومن المناسب بيان موقف الدراسات اللغوية من هذه التقسيمات؛ لأهميتها في الاستعمال الاصطلاحي الواقع في المؤلفات العلمية، ولبيان تفرد هذه الدراسات عن التأصيل المنطقي المتعمق لاختلاف جهة البحث ودائرة الاهتمام، فالحد عند أهل العربية مرادف للمعرِّف، والأصوليون وأهل العربية لم يفرقوا بين التعريف والحد، فقد أطلقوا كلتا التسميتين على الأخرى لترادفهما عندهم، وبقي مصطلح الرسم دخيلا على دراساتهم ومذكورا على سبيل المماشاة للمناطقة، وتوضيح ذلك يقودنا إلى الغرض من مصطلح(التعريف) في الحقول العلمية، فللمناطقة اهتماماتهم الخاصة وللنحاة والأصوليين اهتمامات أخرى، فكل علم له موضوع وغاية خاصّتان به، من أجلهما تتمايز العلوم وتفترق الدراسات، فغرض المناطقة الكشف إما عن ماهيّات الشيء أو عوارضه ليحصل الإطلاع على كنه المعرّف أو امتيازه من جميع ما عداه أو بعضه، ولنميّز بين ما هو ذاتي داخل في حقيقة المعرّف، وما هو عرضي خارج عن حقيقته لازم له، لأنهم يبحثون عن عناصر التركيب وخصائص المكوّنات.

 أما الأصوليون وأهل العربية فهم في صوب آخر، لأن غرضهم تحديد المفهوم النحوي أو الأصولي بشكل يدفع اشتباه المصطلح بغيره ويفسّر المراد منه ويحدّد العناصر المكونة للمفهوم، والخصائص والشروط اللاحقة به، سواء كان المعرِّف ذاتيا أم عرضيا، فالتعريف عندهم سواء سمّي حدّا أو رسما هو(الجامع المانع)([31])، بأية طريقة سلكت في تعريفه: ضابطة أو شرطا أو حكما أو تمثيلا أو تقسيما أو بيان وظيفة أو تحديد شكل، فبؤرة التعريف هي تحقيق عنصر التمييز وعدم الاختلاط المفهومي، هكذا فهم ابن هشام(ت761هـ) مصطلح(التعريف) فيما نقله عنه أبو الثناء الآلوسي(ت1270هـ) وسنورده كاملا، لأنه وثيقة تاريخية لم نجدها فيما بين أيدينا من كتب ابن هشام، وهي تدلّ على مدى التعمّق في أغراض العلوم، وما ينبغي أن يؤخذ منها ويطرح، قال ناقلا عنه:" إن المصنف نفسه صرّح في بعض تعليقاته: بأن حدود النحاة وغيرهم من علماء الشرع ليست حقيقيّة يراد بها الكشف التامّ عن حقيقة المحدود، وإنما الغرض منها تمييز الشيء ليعرف أنه صاحب هذا الاسم، ولهذا لا تراهم يحترزون عما يحترز عنه أهل العقليات من استعمال الجنس البعيد ونحوه، وإنما وقع الاعتراض عليهم بذلك وأمثاله في كتب النحو من جهة متأخري المشارقة الذين نظروا في تلك العلوم ولم يراعوا مقاصد أرباب الفنون"([32])،  ونجد صدى ذلك عند عبد الغفور(ت912هـ)([33]) وعبد الحكيم(ت1067هـ)([34]) في حاشيتهما على الفوائد الضيائية في شرح عبارة ابن الحاجب(ت646هـ)([35]): "وقد علم بذلك حد كل واحد منها" ما حاصله: "انه ليس غرض الأدباء من الحد إلا التميّز التام، وأما التمييز بين الذاتيات والعرضيات فوظيفة الفلاسفة الباحثين عن أحوال الموجودات على ما هي عليه، فالحد عند الأدباء هو المعرِّف الجامع المانع وهكذا ذكره عصام الدين(ت1037هـ)"([36]) حيث قال: "معنى الحد عند الأدباء المعرِّف الجامع المانع كما صرَّح به ابن الحاجب في الأصول"([37]).

ولقد بيَّن علماء البحث والمناظرة - لطبيعة اهتماماتهم بالدليل والاستدلال والتوضيح للحقائق التي يتم فيها التنازع والاختلاف العلمي - وقوع (الدور) عند التعليل والتعريف، وذكروا شروطا يلتزم بها مورد الدليل والتعريف؛ حتى لا يؤدي عمله إلى نقض لدليله أو تعريفه نتيجة الوقوع في الدور، وبحثوا ذلك كله في (النقض) عند بيان وظائف المعترض والمجيب له ذاكرين الأصول والقواعد التي يعترض بها المعترض، ويدافع بها المستدل عن دليله أو المعرِّف عن تعريفه، فقد ذكروا أن التعريف باعتبار نفسه لا يتعلق به منع ولا نقض ولا معارضة عند مناقشته، وإنما تتحقق هذه الوظائف الثلاثة باعتبار شرائطه، حيث تتولد من هذه الشرائط قضايا ضمنية يدعيها صاحب التعريف، منها:

أ‌-        المساواة للمعرَّف: أي أن جميع ما يصدق عليه المعرَّف يصدق عليه التعريف ، فلا يجوز أن يكون التعريف أعم من المعرَّف أو أخص منه مطلقا أو من وجه أو مباينا له، وللتمثيل على أنواع التعريفات نمثل لها بالآتي :

1-    المساوي: كقولنا: الإنسان: حيوان ناطق.

2-    الأعم: كقولنا: الإنسان:حيوان.

3-    الأخص: كقولنا: الحيوان: ناطق.

4-    من وجه: كقولنا: الإنسان: أبيض.

5-    المباين : كقولنا :الإنسان : حجر.

وصاحب التعريف فيها جميعا يدعى أن تعريفه مستكمل للشرائط([38]) .

ب‌- الجلاء والوضوح منه : فيشترط أن يكون التعريف أجلى من المعرَّف وأوضح منه، لأن التعريف وضع لبيان المعرف وشرحه، فلا بد أن يكون أوضح منه في الفهم، لأن التعريف علة لمعرفة المعرَّف، فلو كان خفيا غير أجلى من المعرَّف لزم كون معرفة المعرَّف سببا للمعرفة بالتعريف وذلك عكس الافتراض([39])، ويتحقق الخفاء وعدم الوضوح في الآتي:

1-   التعريف المستلزم للدور:

 فقد تأتي بعض التعريفات متوقفة على المعرَّف كالتعريف بالمساوي في المعرفة والجهالة([40])، أو أخذ المحدود في أجزاء الحد فيؤدي إلى توقف فهم التعريف على المعرف، والأصل أن يتوقف فهم المعرف على التعريف دون العكس، فإذا حصل ذلك لزم توقف كل من الشيئين على الآخر وهو الدور، وسبب ذلك كون التعريف أخفى من المعرف، إذ لو كان أوضح منه لما لزم ذلك، ومثال ذلك قول الفلاسفة: الحركة ما ليس بسكون، والعلم عدم الجهل والبصر عدم العمى حيث عرِّفت الملكة بالعدم([41])، وهو التعريف بالمساوي للمعرَّف في المعرفة والجهالة، فالحركة متوقفة على التعريف؛ لأن معرفة المعرَّف متوقفة على التعريف، والتعريف هنا قد توقف على المعرَّف، لأن الأعدام إنما تعرف بملكاتها، فلزم توقف كل من الشيئين على الآخر، والتعريف على هذا أخفى من المعرَّف، وإنما قيدوا المساواة بالمعرفة والجهالة؛ لأن المساواة بين المعرف والتعريف تكون مطلوبة في الصدق دون غيرها، ومعنى المساواة في الصدق أن يكون التعريف جامعا مانعا، فكل ما صدق عليه التعريف أو المعرف صدق عليه الآخر، دون المساواة في المعرفة والجهالة لأنها تؤدي إلى التعريف بالأخفى، فإذا قيل: ويشترط في التعريف مساواة للمعرف، علم أن المراد المساواة في الصدق، وإذا قيل: لا تجوز المساواة بين التعريف والمعرف علم أن المراد التساوي في المعرفة والجهالة([42]أو كأخذ المحدود في أجزاء الحد، كتعريف المرفوعات بما اشتمل على علم الفاعلية، حيث يلزم منه توقف الشيء على نفسه، وإذا تحقق (الدور) لزم منه شيء آخر وهو (تقدم الشيء على نفسه) وكله محال؛ لأنه يلزم منه كون المجهول معلوما، مع أن المقرر في التعاريف أن معرفة الحد أقدم من معرفة المحدود، لأن معرفة التعريف علة لمعرفة المعرَّف والعلة متقدمة على المعلول، وفي التعريف بالمساوي في المعرفة والجهالة يحصل العلم بهما معا، وفي أخذ المحدود في أجزاء الحد يلزم كون المجهول معروفا، ومثل ذلك اعتراض أبي الثناء الآلوسي(ت 1270هـ) على تعريف ابن هشام لـ (الإعراب المعنوي): وهو تغيير أواخر الكلم لاختلاف العوامل الداخلة عليه، فقد أخذ (العامل) في تعريفه ولما عرف النحاة (العامل) أخذوا (الإعراب) في تعريفه أيضا، وذلك في قولهم: العامل ما به يحدث المعنى المحوج للإعراب، ومثال آخر للدور كأخذ المحدود في أجزاء الحد بشكل صريح، كقول الصرفيين في تعريف مصطلح (المتعدي) بأنه (الذي يتعدى إلى  مفعول به)، ومن أمثلة التعريف المساوي في المعرفة والجهالة تعريف النحوي لمصطلح (المفرد) بأنه : ما ليس بمركب، حيث يدعي أحد بأنه مجهول كجهالة المعرف.

وهنا قد يقول قائل، هل كل مساو للمعرف في المعرفة والجهالة دور ؟ والجواب عن ذلك بأن المساوي للمعرف في المعرفة والجهالة قد يكون دورا وقد لا يكون، لأنه يلزم من بعضه توقف كل من الشيئين على الآخر، إلا أنهم قد فصلوا بينهما، لأن أهل المنطق قد اشترطوا كون التعريف معلوما قبل المعرف، فلو علم بهما معا كما في التعريف بالمساوي (العلم: عدم الجهل)- ووجه الدور فيه أن الجهل لكونه أمرا سلبيا للعلم محتاج في تصوره الى الملكة(العلم)، فلزم توقف الجهل على العلم، وتوقف العلم على الجهل، وذلك هو الدور، أو تأخر العلم بالتعريف عن العلم بالمعرَّف كما في أخذ المحدود في أجزاء الحد - لزم الدور، ومن أمثلة التعريف المساوي للمعرَّف في المعرفة والجهالة من دون لزوم الدور تعريف النحوي لمصطلح المفرد بأنه المعرب بإعراب واحد ، حيث يدعي أحد بأنه مجهول كجهالة المعرف.

2-  التعريف المستلزم للتسلسل:

حيث تأتي بعض التعريفات المتوقفة في الفهم على شيء آخر غير المعرف، وهو بدوره متوقف على آخر إلى ما لا نهاية، فيؤدي هذا إلى توقف فهم التعريف على أمور لا نهاية لها، والمفترض أن يكون التعريف واضحا غير متوقف على شيء آخر متسلسل([43]).

3-      التعريف المشتمل على لفظ مشترك:

 حيث تأتي بعض التعريفات مشتملة على لفظ مشترك، وهو الدال على أكثر من معنى واحد، ومن ثم يؤدي هذا التكثير في المعنى إلى إيهام واضطراب في تحديد الدلالة المرادة من المعرَّف، وقد نبه العلماء على ضرورة الاحتراز عن اللفظ المشترك في التعريف حتى لا يكون التعريف أخفى من المعرَّف، وقد بينوا جواز وقوع المشترك في التعريف، إذا كانت هناك قرينة دالة على إرادة أحد معانيه، أو صلاحية كل من معانيه اعتمادا في التعريف([44]).

4-      التعريف المشتمل على المجاز:

 حيث تأتي بعض التعريفات مشتملة على معنى مجازي، ويظهر ذلك عند الاعتراض على التعريف ودلالاته، فيتكئ صاحب التعريف على إرادة المجاز متخلصا من الاعتراض، ولكنه يقع في عيب أشار إليه أصحاب التعريف وهو عدم جواز استعمال المجاز في التعريف، لأن الغالب مبادرة المعاني الحقيقية إلى الفهم([45])، فيضيع الغرض المنشود من التعريف وهو الجلاء والوضوح، لكنهم بينوا جواز وقوع المجاز في التعريف إذا كانت هناك قرينة دالة على إرادته وتعيينه، أو أريد كل من المعنى الحقيقي والمجازي في تعريف واحد.

5-      التعريف المستلزم اجتماع النقيضين ومصادمة البديهة وغيرها من أنواع الفسادات الطارئة على التعاريف، وكل تعريف هذا شأنه فهو باطل.

ومما يجب التنبه له أن الدور كما يقع في التعريفات بشكل بارز يقع عند الاستدلال على الأحكام والمسائل العلمية أيضا([46])، وهو موضوع عنايتنا في هذا البحث أيضا، ومثال ذلك قولنا: درست لأنجح، فإن الدرس علة والنجاح معلول له، ولو تصورنا جعل النجاح علة والدرس معلولا، لزم توقف كل من الشيئين على الآخر وهذا باطل بداهة، ومن ذلك ما نجده من النقض ببيان استلزام الدعوى الدور: ومثال ذلك من علم الصرف أن(الباب الثالث) من أبواب الفعل الثلاثي المجرد يكون مفتوح العين في الماضي والمضارع بشرط أن يكون عين فعله أو لامه حرفا من حروف الحلق ما عدا (أبى يأبى) حيث جاء بفتح العين في المضارع والماضي مع عدم كون عينه ولامه حرف حلق، فقال الصرفيون: إنه شاذ أي مخالف للقياس، ولكن بعض العلماء ادعى أن (الألف) حرف حلق وفتحت العين لأجلها([47])، فكأنه قال بدعوى مفادها: أبى يأبى فيه حرف حلق وفتحت عينه لأجلها، فعندئذ يقول (السائل)أي المعترض: هذه الدعوى منقوضة لاستلزامها الدور، وبيان الدور فيها: أن وجود الألف موقوف على الفتح؛ لأنه في الأصل (ياء) قلبت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فلو كان الفتح بسبب الألف لزم الدور؛ لتوقف الفتح عليها وتوقفها عليه، وكل ما يستلزم الدور فاسد، فهذه الدعوى فاسدة ومنقوضة، ومثل ذلك ما جرى الخلاف فيه بين العلماء في إمكانية تعريف (العِلم)، فذهب بعضهم إلى قضية مفادها: العلم يمكن تحديده وتعريفه، فتوجه إلى هذه الدعوى نقض ببيان استلزامها الدور، وكل ما يستلزم الفساد فاسد، ووجه الدور فيه: أن غير العِلم إنما يعلم ويعرف بالعلم، فلو علم (العلم) بالعلم لزم الدور([48])، ولكن الدليل إذا استلزم الدور الفاسد فإن الدعوى المبنية على شيء فاسد فاسدة أيضا، ولكن لا يلزم من انتفاء الدليل انتفاء المدلول، إذ يحق لصاحب الدعوى أن يأتي بدليل آخر غير مستلزم للفساد المذكور ويثبت به المطلوب، وذلك لأن فساد الدليل غير مستلزم لفساد الدعوى لكونها لازما أعم([49])، بخلاف العكس؛ لأن انتفاء الأعم مستلزم لانتفاء الأخص.

المبحث الثالث: أشكال لزوم الدور

بعد التتبع والبحث في كلام النحويين وجدنا ظاهرة لزوم الدور تقع في كلامهم بأشكال متعددة، قاموا بتوضيحها وعرضها تفصيليا حتى يجتنبها الباحث والمؤلف عندما يعرّف المصطلحات أو يستدل على الأحكام، وتلك الأشكال يمكن إيجازها والتمثيل لها بما يأتي:

1-     التعريف بالمساوي: وذلك كتعريف الملكات باعدامها مثل قول الفلاسفة: الحركة ما ليس بسكون والبصر عدم العمى([50])، وهو ممنوع لما قرروه من أن معرفة التعريف أقدم من معرفة المعرف؛ لأنه علة لمعرفته والعلة مقدمة على المعلول، وفي التعريف بالمساوي يحصل العلم بهما معا، ولم يقع هذا الشكل في كلام النحويين، وإنما ذكرته تنبيها لما يقع عند التدريس أحيانا حيث نقول: الموضوع ما ليس بمهمل، والرفع هو التجرد من العوامل.... وهذا من تعريف الملكات بأعدامها؛ لأن وضع الكلمات في اللغة لمعان أمر وجودي مقارنة بالمهملات التي هي أعدام وظاهرة الرفع وجودية بالنسبة للتجرد العدمي، وهذا لا يفيد المخاطب شيئا؛ لأنه إحالة على تعريف غامض متوقف في حد ذاته على فهم الملكة والوجود؛ لأن الأعدام إنما تعرف بملكاتها، وقد ذكر ابن سينا(ت428هـ) أن:" المتقابلات بحسب السلب والعدم فلا بد من أن نأخذ الموجب والملكة في حديهما من غير عكس"([51]).

2-  أخذ المعرف في التعريف: وذلك ظاهر في تعريفهم (اسم الإشارة) اذ عرفوه بأنه:" ما دلّ على مسمّى وإشارة إليه"([52]) حيث أخذ المعرِّف لفظ (الإشارة) وهو موجود في المعرَّف أيضا، وذلك يؤدي إلى لزوم الدور؛ لأن المعرَّف متوقف معرفته على معرفة التعريف بأجزائه، وذلك يستدعي أن يكون العلم بالتعريف حاصلا قبل العلم بالمعرَّف، وقد اشتمل التعريف على لفظ مجهول واقع في المعرف، فيلزم توقفه على معرفة المعرف، والقضية معكوسة لأنها الغاية من عملية التعريف، فلزم الدور نتيجة لذلك.

3-   إيراد لفظ في التعريف متوقف تعريفه على المعرف: والخلاف بين هذا الشكل والشكل السابق عليه أن ما هنا قد أورد لفظا اصطلاحيا في تعريف المصطلح يتوقف تعريفه على تعريف المعرف، في حين كان الشكل السابق قد أورد لفظ المصطلح نفسه أعني لفظ المعرّف في التعريف، كما يتوضح ذلك من مقارنة الأمثلة، وقد وقع ذلك في تعريفهم مصطلح (الفعل) من خلال ذكر علاماته، فقد يعرف النحويون المصطلحات النحوية بذكر علاماتها دون بيان حقائقها الذاتية، كما نجد ذلك كثير الوقوع عند ابن مالك في ألفيته، فقد عرّف ابن مالك أيضا الفعل بقوله([53]):

بتا فعلت وأتت ويا افعلي               ونون أقبلن فعل ينجلي

ففسر (الفعل) من خلال قبوله العلامات المذكورة، والذي يهمنا من هذا التعريف قوله (بتا فعلت) أي بتاء الفاعل، فقد عرف الفعل الماضي بأنه: ما يقبل دخول تاء الفاعل عليه، فقد اشتمل التعريف على لفظ اصطلاحي آخر وهو (الفاعل)، وهذا اللفظ غير موجود في المعرف، ولكن لو أردنا تعريف الفاعل كما عرفه النحويون القائلون بأنه: الاسم المسند إليه فعل.. لزم الدور، حيث أخذ الفاعل في تعريف الفعل وأخذ الفعل في تعريف الفاعل، وذلك مستلزم للدور أيضا([54])، وهذا من تعريف الشيء بالمتأخر عنه في المعرفة كما ذكره ابن سينا ومثل له بقوله:" الشمس كوكب يطلع نهارا ثم النهار لا يمكن أن يحد إلا بالشمس لأنه زمان طلوع الشمس"([55]).

4-  التوقف العلمي: وفي هذا الشكل من أشكال لزوم الدور لا يورد لفظ في التعريف يتوقف هو أو تعريفه على المعرف، وإنما يتوقف العلم به على العلم بالمعرف، وقد وقع ذلك كثيرا في كلام النحويين عندما يعرفون المصطلحات بالعلامات أو بظاهرة تركيبية يتميزن بها مما عداهن، ومن ذلك تعريفهم مصطلح(الصفة المشبهة) في قول ابن مالك([56]):

صفة استحسن جر فاعل                 معنى بها المشبهة اسم الفاعل

فقد عرف ابن مالك الصفة المشبهة بظاهرة تركيبية تتميز بها من اسم الفاعل، حيث يستحسن إضافتها إلى فاعلها بخلاف اسم الفاعل، فيقال فيها: زيد حسن وجهه، ثم تضاف إلى فاعلها فيقال: زيد حسن الوجه، وجعل هذه الظاهرة التركيبية المميزة للصفة المشبهة تعريفا لها يميزها مما عداها، ولكن هذا التعريف مؤد في ظاهره إلى ظاهرة لزوم الدور؛ لأن العلم باستحسان إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها متوقف على العلم بكونها صفة مشبهة أصلا، والحال أن الصفة المشبهة متوقفة على الاستحسان المذكور فيلزم توقف العلم بأحدهما على العلم بالآخر، وذلك عين الدور الحقيقي([57]).

5-  الدور القواعدي: ونقصد به الدور الناشئ عن القواعد النحوية ، وقد تمثل ذلك في أحد الأوجه الإعرابية لقوله تعالى:(ثُمَّ ذَرْهُمْ في خَوْضِهِمْ يَلْعَبُوْنَ)([58]) اذ أعرب(يلعبون) في موضع الحال من (هم) في (خوضهم) وهو في المعنى فاعل المصدر المضاف إليه، وكأن المعنى: ثم ذرهم يخوضون لاعبين، فإذا تقرر هذا الإعراب وهو تعلق (يلعبون) بـ(خوضهم) تعلق الحالية لا يجوز أن نعرب (في خوضهم) حالا من ضمير (الواو) في (يلعبون) ويكون التقدير حينئذ: ثم ذرهم يلعبون خائضين، للزوم الدور حينئذ، ووجه الدور أن جعل (في خوضهم) حالا من ضمير (يلعبون) يقتضي كون الحال معمولا له متأخرا عنه رتبة ومعنى؛ لأن رتبة العامل قبل رتبة المعمول، ومعنى الحال يحصل بعد حصول معنى العامل فيه، فلو جعلنا (يلعبون) حالا من ضمير (خوضهم) لزم تقدم (في خوضهم) عليه رتبة ولفظا، أما لفظا فظاهر وأما رتبة فلأن العامل في الحال عامل في صاحب الحال أيضا فيلزم الدور؛ على أنه يلزم أيضا الفساد في المعنى([59])، لأن التقدير حينئذ على التوجيهين الإعرابيين يكون بالصورة الآتية: يخوضون لاعبين ويلعبون خائضين في الوقت ذاته.

6-  الدور العلّي: والمقصود به الدور الناشئ عن العلة النحوية، ونمثل له بالخلاف النحوي المشهور في علة رفع المبتدأ والخبر، فقد ذهب الكوفيون إلى أن المبتدأ يرفع الخبر والخبر يرفع المبتدأ فهما يترافعان([60])، ورأى النحويون في هذا التعليل فسادا للزومه الدور، وذلك أن العامل حقه أن يتقدم على المعمول، وإذا قلنا إنهما يترافعان وجب أن يكون كل واحد منهما قبل الآخر وذلك محال؛ لأنه يلزم أن يكون الاسم الواحد أولا وآخرا في حال واحدة، فيجب تقدم كل واحد من المبتدأ والخبر على الآخر؛ لأنه يجب تقديم العامل على المعمول؛ فيلزم تقدم الشيء على نفسه؛ لأن المتقدم على المتقدم على الشيء متقدم على ذلك الشيء([61]).

7-  الدور الحكمي: والمقصود به الدور الناشئ عن تعريف المصطلحات بأحكامها، كما تقول: المبتدأ هو الاسم المرفوع والمفعول هو الاسم المنصوب، وقد وقع ذلك في كلام ابن مالك عند تعريفه (الحال) بقوله([62]):

الحال وصف فضلة منتصب         مفهم حال كفردا اذهب

فقد عرف الحال بأنه المنصوب، والنصب حكم من أحكام الحال متوقف على معرفة حقيقة الحال حتى يثبت له حكم النصب، وكما قالوا: الحكم على الشئ فرع تصوره، فنحن لا نستطيع الحكم على زيد بأنه طويل لو لم نتصور زيدا أصلا وكونه قابلا للاتصاف المذكور، وإلا لجاز أن نقول: الحيوان جماد، والحكم باطل لأن القائل لهذا الكلام لم يتصور معنى الحيوانية أصلا، المؤدي الى الحكم على الشيء قبل تصوره، والمعنى أن النصب حكم متوقف ثبوته للحال على تصور الحال وفهم حقيقته الاصطلاحية، وأخذ المنصوب في تعريفه يستلزم توقف معنى الحال على المنصوب؛ لأن المعرَّف متوقف على التعريف وذلك عين الدور([63]).

هذه هي الأشكال التي يتسرب منها الدور ويتمظهر بها في أقلام المؤلفين، وقد حاول النحويون والمحققون منهم تأشيرها وتاطيرها لكي يجتنبها الدارسون وصولا إلى العبارة العلمية السليمة والتعريف المفيد والعلة المحكمة.

المبحث الرابع: طرائق دفع الدور

بعد أن عرفنا أشكال لزوم الدور ووقوعه في عبارات النحويين وتعاريفهم واعراباتهم وعللهم نورد هنا كيفية دفع الدور وطرائقه، ومن الجدير بالتنبيه أن نشير إلى أن الدور الذي يمكن دفعه هو الدور المتوهم المظنون حصول الدور فيه، أما الدور الحقيقي فلا سبيل لرده أو دفعه بل يكون التخلص منه بالعدول عن التعريف المخطوء إلى تعريف آخر صحيح، ومن العلة المنقوضة بذلك إلى علة بديلة خالية من تلك الشائبة... .

وقبل الولوج في سرد طرائق دفع الدور نحب أن نبين أن ذلك الصنيع عمل واقع تحت عناية علماء آداب البحث والمناظرة الذين سردوا كيفية مواجهة الدليل والتعريف المستلزمين الدور وطرائق الإجابة عن الدور المتوهم، فوجب لذلك أن نبين الأمور الآتية:

1-     لما كان الدور هو توقف الشيء على ما يتوقف عليه وهو نوعان: دور محال لاستلزامه توقف الشيء على نفسه، المستلزم لكون الشيء الواحد موجودا ومعدوما في آن واحد ؛ وكون الشيء الواحد معلوما ومجهولا في آن واحد؛ إذ من المعروف أن العلة أقدم وجودا من المعلول؛ فلو توقف وجود العلة على وجود المعلول؛ لزم كون العلة الموجودة معدومة في آن افتراضها موجودة؛ ومن المعروف أيضا أن العلم بالتعريف أقدم من العلم بالمعرف؛ وأنه علة لمعرفة المعرف، فلو توقف التعريف على المعرف لزم كون الشيء الواحد معلوما ومجهولا في آن واحد؛ وهذا الدور المحال نعبر عنه بأنه :"توقف كل واحد من الشيئين على الآخر قبله"؛ فالمعرف متوقف على التعريف قبل توقف التعريف على المعرف؛ فإذا توقف التعريف عليه لزم الدور المحال، وأما النوع الثاني للدور وهو الجائز؛ فإنه لا يستلزم كل تلك المحالات؛ بسبب أن توقف كل واحد من الشيئين على الآخر معه لا قبله؛ فلا يلزم كون الشيء موجودا ومعدوما في آن واحد ولا كون الشيء معلوما ومجهولا كذلك، وهذا النوع من الدور يجوز ارتكابه في التعاريف لعدم استلزامه المحال([64]).

2-     إن المعترض على التعريف أو الحكم باستلزام الدور يدعي أن في التعريف أو الاستدلال فسادا بلزوم الدور، ولتوضيح ذلك نمثل بالآتي: فقد عرف النحويون الفعل المتعدي بأنه الذي يتعدى إلى مفعول به([65])، فيتوجه إليه اعتراض من قبل (المستدل) بأسلوب النقض الشبيهي على دعوى ضمنية مفادها: أن تعريفي أجلى من المعرف ، أو أن التعريف معلوم قبل العلم بالمعرف قائلا: أن هذا التعريف مستلزم للدور؛ لأن المعرف (المتعدي) متوقف معرفته على معرفة التعريف، والتعريف باشتماله على (يتعدى) صار متوقفا معرفته على معرفة (المعرف)، وكل تعريف هذا شأنه باطل.

3-      وهنا تأتي طريقة دفع الاعتراض إما برد المقدمة الصغرى أو بدفع الكبرى، ولا تخلو طرائق دفع الدور من هاتين الحالتين، فان كان الدور حقيقيا فلا مجال لرد الصغرى والكبرى ، وإن كان الدور متوهما فترد الصغرى فقط، وإن كان الدور جائزا أو معيا فلا مجال لرد الصغرى، وإنما تمنع كبرى النقض بأن كل تعريف مستلزم للدور ليس بباطل؛ لأن هذا الدور معي وهو جائز([66]).

وتوضيح ذلك بالنسبة للمثال المتقدم بعد ادعاء المعترض استلزام التعريف الدور، بأن يمنع المقدمة الصغرى مجردا أو مستندا قائلا: لا نسلم أنه مستلزم للدور ، إنما يلزم ذلك لو كان الفعل (يتعدى) بمعناه الاصطلاحي وهو ممنوع، وهكذا فرَّق موجه التعريف بين المعرف والتعريف، بأن (المتعدي) الوارد في المعرف بالمعنى الاصطلاحي، والفعل (يتعدى) الوارد في التعريف بالمعنى اللغوي وبذلك اختلف جهتا التوقف، وعندما تختلف يندفع الدور إذ لا مانع من التوقف بين الشيئين باعتبار جهتين مختلفتين([67]).

وهذه معالجة دقيقة وفهم رصين للفرق الجوهري بين أجزاء الحد والمحدود، لأن (التعدية) الواردة في المعرف تجردت إلى معنى أكبر بكثير من (التعدية) الواردة في التعريف.

4-     لقد كانت المعالجة السابقة متوجهة إلى المقدمة الصغرى لدليل المستدل؛ أعني: (هذا التعريف مستلزم للدور أو التسلسل أو فساد آخر) في حين يكون هذا المنع المذكور آنفا متوجها إلى المقدمة الكبرى لدليل المستدل، أعني : (وكل تعريف هذا شأنه باطل)؛ حيث إن الدور والتسلسل منه ما يكون محالا وهذا مما لا مجال لمنعه، ومنه ما يكون جائزا؛ وهذا يمنع إذ لا خلاف في جواز ارتكابه من قبل المعرف(صاحب التعريف)، فيسوغ له الدفاع عن تعريفه إزاء المعترض بأن يمنع الكبرى؛ إذ المجال مفتوح أمامه لذلك؛ ومن أمثلة هذا الدور قول المعرف الصرفي لـ (أبى يأبى): إنه فعل ثلاثي مفتوح العين في الماضي والمضارع غير شاذ فيتوجه إليه اعتراض من قبل المستدل بأسلوب النقض الشبيهي على دعوى ضمنية مفادها: إن هذا التعريف ليس بأخفى من المعرف أو إن هذا التعريف معلوم قبل المعرف، قائلا : إن هذا التعريف مستلزم للدور، وكل تعريف هذا شأنه باطل، والنتيجة: إن هذا التعريف باطل وهنا يسلم صاحب التعريف بأن في تعريفه دورا، ولكنه لا يسلم أنه الدور المحال؛ ولذا يوجه منعه إلى المقدمة الكبرى قائلا: لا نسلم المقدمة الكبرى؛ لم لا يجوز أن يكون دورا معيّا، وتوضيح الاعتراض أولا: إن (المستدل) رأى في التعريف دورا؛ لأن قول صاحب التعريف (غير شاذ) يدل على أن (أبى يأبى) من الباب الثالث؛ الذي فتحت عينه لأجل حرف الحلق؛ ومن المعلوم أن حرف الحلق (الألف) على قول بعض الصرفيين؛ أصلها ياء وقلبت ألفا لأجل تحركها وانفتاح ما قبلها، وهكذا لزم توقف كل واحد من الشيئين على الآخر وهو الدور؛ ولكن صاحب التعريف قبل بلزوم الدور؛ ولكنه منع أن يكون من الدور المحال؛ ولذا وجه منعه إلى الكلية الموجودة في (المقدمة الكبرى)؛ بأنه لا يسلم أن التعريف فيه دور باطل، إذ بعض الدور ليس بباطل وهو الدور المعي؛ فأشار إلى المنع أولا؛ ثم أتى بالسند المشهور، وهو المساوي لنقيض المقدمة الممنوعة، فالمقدمة الممنوعة هي: كل تعريف هذا شأنه باطل، ونقيضه هو: بعض التعريف الذي فيه دور ليس بباطل؛ والمساوي له هو: الدور المعي ليس بباطل، وإنما كان هذا الدور معيا؛ لأن توقف الألف على الفتحة هو مع توقف الفتحة على الألف، ولبيان ذلك نقول: أن الحرف الصامت يحتاج عند وجود نطقه إلى مصوت قصير (كالفتحة والضمة والكسرة)، مع أن هذه المصوتات محتاجة إلى الحرف الصامت وجودا وذلك يؤدي إلى الدور، ولكن هذا الدور غير محال؛ لأن توقف كل واحد منهما على الآخر معه لا قبله؛ فلا تلزم المحالات المتقدمة.

نعود بعد هذه الجولة التأصيلية الضرورية لتوضيح طرائق دفع الاعتراض بذكر أشكاله الواردة في كلام النحويين، وهي فيما أحصيناه تنحصر بالصور الآتية:

1-    البداهة والاكتساب: قد يشتمل التعريف على معنى تتوقف معرفته على معرفة المعرّف فيقع الدور المؤدي عدم الوصول إلى معرفة المعنى المراد من التفسير، ولكن النحويين انتبهوا على طريقة تدفع ذلك الإعياء الناتج عن عدم الوصول إلى المراد من التعريف، وهذه الطريقة عرفت بالمعلومات البديهية التي لا تحتاج إلى تفسير وشرح، فهي غير متوقفة على المعرّف أو شيء آخر؛ لبداهتها وظهور المراد منها فينقطع الدور الممنوع، وهذا ما أجاب به المعالجون للدور الواقع في تعريف (اسم الإشارة) التي عرِّفت بأنها: ما دل على مسمى وإشارة إليه([68])، حيث اشتمل التعريف على لفظ (الإشارة) وذلك مؤد إلى الدور لتوقف فهم معناها على المعرّف وقد توقف فهمه على التعريف كما هو الأصل، فأجاب الدماميني(ت827 هـ)([69]) عن ذلك:" بأن أخذ جزء المعرف في التعريف لا يوجب الدور لجواز معرفة ذلك الجزء بالضرورة"([70])، ونفهم من كلامه أن المعرِّف لاسم الإشارة لم يأخذ المعرَّف كله في التعريف  أعني (اسم الإشارة) وإنما أخذ جزء التعريف وهي لفظة (إشارة) وهذا أمر بالغ الأهمية؛ لأن المصطلح المحتاج إلى تفسير هو (اسم الإشارة) دون (الإشارة) وحدها، إذ الإشارة وحدها لا تحتاج لتفسير وتوضيح لكونها معلومة بالبداهة والضرورة؛ إذ كل من تكلم العربية يدرك معنى الإشارة ومشتقاتها لعدم انسباكها في هيئة مصطلح علمي خاص، ومن ثم يكون ورودها في التعريف مفيدا جدا لكونها معلومة بديهية، وتفسير النظري بالبديهي هو غاية المعرِّف المبتغي التوضيح والتحديد الدالين.

2-    اللغوي والاصطلاحي: انتبه النحويون إلى أن اشتمال التعريف على المعرَّف لا يقتضي بالضرورة أن تكون دلالته الاصطلاحية هي المرادة، بل جوّزوا إرادة المعنى اللغوي ، والفرق بين المعنيين اللغوي والاصطلاحي كالفرق بين(زيد) علَما على شخص ومصدرا، فعند إرادة العلَمية يكون المعنى المعجمي الذي هو الزيادة والنمو مذهولا عنه بخلاف إرادة المعنى المصدري الدال على ذلك بحكم وضعه، فالمعنى اللغوي هو ما وضعه له واضع لغة العرب وحدده بمفهوم شاع استعماله على الصعيد الاجتماعي للغة، بخلاف المعنى الاصطلاحي الذي هو: اتفاق طائفة مخصوصة على نقل لفظ ذي دلالة لغوية من محيطه الاجتماعي ليكون دالا على معنى جديد في حقل معرفي خاص([71])، والمحتاج للتفسير والتحديد والكشف عن ماهيته  ومراد تلك الطائفة من وضعه هو المعنى الاصطلاحي بخلاف المعنى اللغوي المحتاج في أعلى درجات غموضه نتيجة الجهل بالوضع اللغوي إلى تفسير لفظي دون بيان مكوناته ومسائله العلمية الخاصة، ومن هذا الفرق بين المعنيين أفاد النحويون في معالجة المصطلحات التي يظن لأول وهلة وقوعها في شائبة الدور، كما مثلنا له فيما تقدم بمصطلح (الفعل المتعدي) الذي عرِّف بأنه: الذي يتعدى إلى المفعول به بنفسه، فيعتقد لاشتماله على لفظ (التعدية) أنه دور، ولذا أجابوا عن ذلك ببيان المغايرة بين التعديتين الواردة في التعريف والمعرف، فالتعدية في التعريف لغوية بمعنى المجاوزة، بخلاف التعدية الواردة في المعرَّف التي هي معنى اصطلاحي لا يدركه إلا الدارسون للنحو العربي ومسائله وقضاياه وتراكيب الجملة وأنواعها فيه.

ولكن ليس كل لفظ ورد بذاته في المعرف والتعريف يحمل على هذا التوجيه للتخلص من الدور الممنوع، وإنما يذكر هذا عند قبول الموضوع له وعدم تناقضه مع الأفكار الأخرى، ومن ثم لم يجد النحويون قبولا لتوجيه الدور الواقع في تعريف(الفعل) بأنه: القابل لتاء الفاعل، ولما عرّفوا (الفاعل) قالوا بأنه: الاسم الذي اسند إليه فعل، فيكون هذا الكلام بظاهره مستلزما للدور، فلم يقولوا في تعريف (الفعل) بأنه الذي يقبل تاء الفاعل، أن المراد بـ(الفاعل) الوارد في التعريف المعنى اللغوي للفاعل الذي هو: من أوجد الفعل؛ لأن تفسير الفاعل حينئذ بهذا المعنى اللغوي يؤدي إلى خروج تاء الفاعل في مثل: متّ؛ لأن الفاعل لم يوجد الموت وإنما وقع عليه، وخروج تاء الفاعل في مثل: ما ضربت([72])؛ لأن الفعل منفي وقوعه من قبل الفاعل، ومن ثم لجأوا إلى تفسير آخر  للفاعل الوارد في التعريف للتخلص من الدور، بدلا من اللجوء إلى التفرقة الواقعة بين المعنيين اللغوي والاصطلاحي.

3-    المعنوي والاصطلاحي: كما انتبه النحويون إلى فرق آخر بين الدلالة المعنوية للفظ والدلالة الاصطلاحية له، وهكذا فرّقوا بين الدلالة اللغوية والدلالة المعنوية والدلالة الاصطلاحية، فالأولى ما وضعه واضع لغة العرب وخصه بمعناه الذي يفهم منه عند العلم بالوضع، في حين أن الدلالة المعنوية هي دلالة اصطلاحية عامة لا تخوض بالتفاصيل الجزئية، وهذا سر اختلافها عن الدلالة الاصطلاحية التي هي دلالة تفصيلية أكثر تحديدا وتخصيصا، ولفهم هذا التنويع نورد المعاني الثلاثة للفظ (الفاعل) فدلالته اللغوية هي: من أوجد الفعل، وبهذه الدلالة يكون شاملا لنحو: ما أحبَّ زيدا لعمرو، فعمرو هنا فاعل فعل التعجب ولكنه غير شامل لنحو: مت؛ لأن الشخص لم يوجد الموت لذاته، أما الدلالة المعنوية  للفظ الفاعل فقد عرفوه بأنه: الاسم الذي أسند إليه فعل على جهة القيام به أو الوقوع منه ثبوتا أو نفيا، وهي دلالة اصطلاحية أيضا لكنها عامة، لأنها وان لم تشتمل على نحو: ما أحبَّ زيدا لعمرو، إلا أنها لن يخرج عنها نحو: متّ أو: ما ضربت من الأفعال المنفية، ولكنها عامة لشمولها نحو: تاء (كنت) عند الاستدلال على فعلية (كان) فهذه التاء ينطبق عليها التعريف المذكور، فتأتي الدلالة الاصطلاحية الدقيقة لإخراج (تاء كنت) عن الفاعلية وإلحاقها بالمنسوخات عن الابتداء، ومن هذا يظهر أنه عند الاستدلال على فعلية (كان) نقول: إنها قبلت تاء الفاعل ولكن بالدلالة الاصطلاحية العامة للفاعل، وعند الاستدلال على عدم كون التاء المذكور فاعلا اصطلاحيا نورد الدلالة الاصطلاحية الخاصة للفاعل([73]).

ونتيجة لهذه التفرقة بين الدلالة المعنوية والاصطلاحية أجاب النحويون عن الدور المتوهم في تعريف (الفعل) بأنه القابل لتاء الفاعل، حيث ذكروا أن المراد بـ(الفاعل) هنا الدلالة المعنوية له وليست الاصطلاحية؛ حتى لا يلزم الدور عند أخذ(الفعل)  في تعريف الفاعل الاصطلاحي([74]).

4-    الجزء والكل: انتبه النحويون في طرائق دفع الدور على الفرق الكبير بين دلالة اللفظ الاصطلاحية باعتبار تركبه ودلالة اللفظ اللغوية باعتبار أجزائه، فاللفظ باعتبار تركبه له معنى كلي، حاصل الدلالة الاصطلاحية (أصول الفقه) باعتبار تركبها العلَمي تدل على العِلم المعني باستنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية، وحاصل الدلالة اللغوية للفظ باعتبار أجزائه تدل على أسس الفهم؛ لان الأصول بمعنى الأسس والفقه لغة بمعنى الفهم، ونتيجة لهذا الفرق بين الدلالتين أجابوا عن الدور المتوهم في تعريف (اسم الإشارة) المعرَّف بانه: ما دل على مسمى وإشارة إليه، فبينوا أن الإشارة الواردة في المصطلح لو نظرنا إليها باعتبار أنها جزء لغوي لاسم الإشارة لزم الدور، أما لو نظرنا إلى (اسم الإشارة) ككل مترابط بدلالته الجديدة لم يلزم الدور؛ لأن الوارد في التعريف هو جزء المصطلح وليس المصطلح نفسه، وبعبارة أخرى: إن (الإشارة) الواردة في المعرف غير مراد دلالتها الافرادية الجزئية وإنما المراد الدلالة التركيبية الكلية لاسم الإشارة، أي المعنى العلَمي للمصطلح وليس المعنى الإضافي اللغوي، فلا دور حينئذ([75]).

5-    اختلاف جهة التوقف: فقد أشار النحويون إلى أسلوب آخر من أساليب دفع الدور، حيث ينفون وقوعه في التعريف ببيان أن أحدهما متوقف على الآخر، أما الطرف الآخر فغير متوقف عليه؛ إذ مشكلة الدور تتوضح من خلال الافتراضية الآتية: نتصور أن (أ) مجهول تتوقف معرفته على معرفة(ب) فإذا كانت (ب) بأجزائها تتوقف على (أ) لزم الدور؛ لأنه يؤدي إلى تفسير الشيء بالمجهول المطلوب معرفته، ولذا حاول النحويون في حل بعض الإشكاليات المستلزمة الدور ببيان أن جهة التوقف مختلفة، بمعنى أن (أ) تتوقف معرفته من حيثية ما على (ب) و(ب) تتوقف معرفته على (أ) لكن من حيثية أخرى، وذلك ليس دورا؛ لأن جهة التوقف قد اختلفت، ولنمثل لذلك بالصراع الذي دار بين الكوفيين والبصريين في أصل المشتقات: أهو المصدر أم الفعل؟ اذ قال البصريون: إن المصدر أصل للمشتقات في الوجود والفعل أصل للمشتقات في الإعلال، ومن ثم لا تنافي في الحكم بالأصلية لكل منهما لاختلاف جهة الأصالة([76]).

نعود بعد هذا البيان التوضيحي للتوقف على الدور المتوهم حصوله في تحديد الصفة المشبهة في قول ابن مالك([77]):

صفة استحسن جر فاعل                معنى بها المشبهة اسم الفاعل

إذ عاب بعضهم هذا التعريف بأن استحسان الإضافة إلى الفاعل لا يصلح تعريفا ولا تمييزا عما عداها؛ لأن العلم بالاستحسان المذكور موقوف على العلم بكونها صفة مشبهة([78])، بمعنى أن استحسان الإضافة للفاعل حكم من أحكام الصفة المشبهة، والحكم على الشيء فرع تصوره، فلو جعل الحكم تعريفا لزم العلم بالصفة المشبهة قبل الحكم، والحال أنها متوقفة عليه لجعله تعريفا وتحديدا لها؛ إذ الطالب لا يعرف أن هذه المفردة تجوز إضافتها إلى الفاعل إلا بعد معرفة كونها من الصفات المشبهة حتى يجعلها مضافة لفاعلها، فتوقف كل من الطرفين على الآخر وذلك الدور، ولكن حصول هذا الدور ممنوع؛ لأن العلم باستحسان إضافة الصفة المشبهة لفاعلها ليس موقوفا على العلم بكون المفردة من الصفات المشبهة، وإنما موقوف على المعنى الذي تدل عليه المفردة، فإذا أدرك الطالب معنى المفردة الثابت لفاعلها بحيث لو حول الإسناد عنه لم يقبح ولم يلبس، فيستحسن حينئذ الجر وان لم يعلم بأنها تسمى بذلك حكم بقبولها جواز الإضافة لفاعلها، هذا ما أجاب به الصبان وتابعه عليه الخضري عند تعليقهما على عبارتي الاشموني وابن عقيل على الترتيب([79])، وهذا الجواب فيما أعتقد ضعيف؛ لأن توقف الاستحسان على الصفة المشبهة واقع بسبب أن الحكم على الشيء فرع تصوره، بل العلم بكونها تسمى بذلك أو لا تسمى به ليس نقطة الخلاف كما أجابوا، وإنما العلم بحقيقة الصفة المشبهة دون النظر في تسميتها، والاستحسان المذكور متوقف على معرفة حقيقتها دون تسميتها، ولذا أرجح أن تعاريف النحويين بالأحكام النحوية والعلامات والشروط... الخ كلها مشتملة على الدور لأنها فرع تصور الشيء، والجواب عن كل تلك الإشكاليات بالقول: إن الحكم يكفي فيه التصور بوجه ما ولو بالاسم، فقول المنطقيين: الحكم على الشيء فرع تصوره أي ليس التصور التام الكامل بل يكفي أن نتصوره تصورا بسيطا فعندما نقول: الصفة المشبهة هي التي يستحسن إضافتها إلى الفاعل يكون توقف الاستحسان على الصفة حاصلا لو أريد التصور التام الكامل، أما التصور الجزئي لها فذلك كاف في الحكم عليها؛ إذ الطالب عندما يقرأ هذا التعريف للصفة المشبهة في كتب النحويين يكون قد اطلع على الصفة المشبهة من حيث اشتقاقها الصرفي ودلالتها الصرفية قبل ذلك، فمتى يقرأ حكمها الاستحساني المذكور يدرك ذلك ولا يتوقف على فهم الصفة المشبهة أصلا؛ لأن النحويين لا يقصدون بعنونة (اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة والمصدر) ما يتعلق بالصيغة ومعناها، وإنما المقصود تراكيبها وأحكامها عندما تؤلف في نسق الجمل، وما تعرضهم لسرد معنى الصيغة إلا استطرادا واستكمالا للحكم، فعندما يقولون باب المصدر وباب اسم الفاعل... يكون القصد: تراكيب المصدر واسم الفاعل... والاستحسان المذكور غير متوقف على معرفة تراكيب الصفة المشبهة لأنه تركيب منها، وإنما يتوقف على معنى الصيغة الاشتقاقية ودلالتها فلا دور حينئذ.

وعلى وفق الطريقة نفسها أعني(اختلاف جهة التوقف) حاول الرضي دفع ذلك الدور المتوهم وقوعه في كلام الكوفيين القائلين بأن المبتدأ والخبر مترافعان؛ إذ ظن بعضهم أن في ذلك التعليل دورا؛ لأن العامل حقه أن يتقدم على المعمول فيلزم تقدم الشيء على نفسه؛ :" لأن المتقدم على المتقدم على الشيء متقدم على ذلك الشيء"([80])، وحاول الرضي دفع ذلك الدور بأن توقف كل منهما على الآخر تختلف جهته بما نصه:" إن كل واحد من المبتدأ والخبر متقدم على صاحبه من وجه متأخر عنه من وجه آخر، فإذا اختلفت الجهتان فلا دور، أما تقدم المبتدأ فلأن حق المنسوب أن يكون تابعا للمنسوب إليه وفرعا له، وأما تقدم الخبر فلأنه محط الفائدة وهو المقصود من الجملة"([81])، ولا يخفى أن هذا الجواب مقتض أن العامل في المبتدأ ذهني لأن الخبر قبل نطقه لفظا هو محط الفائدة، وجعله عاملا يقتضي أن العامل في المبتدأ هو الخبر الذهني المتقدم على اللفظي، وذلك بعد واضح عن مراد التعليل الكوفي، ولذا أرى أن تعليل الكوفيين لا يستلزم الدور أصلا ، فلم يقولوا بأن وجود المبتدأ متوقف على الخبر، ووجود الخبر متوقف على المبتدأ حتى يلزم الدور المحذور، وإنما اتصاف المبتدأ والخبر بالرفع بعد وجودهما التركيبي متوقف كل منهما على الآخر، وذلك لا دور فيه، إذ المبتدأ لا يرفع إلا بعد نسقه في تركيب مع الخبر، والخبر لا يرتفع إلا بعد وجود المبتدأ، فتوقف الاتصاف غير توقف الوجود، غاية ما في الأمر أن الاتصاف لكليهما لا يتحقق إلا بعد وجود كليهما، وكون الخبر عاملا للرفع في المبتدأ لا يقتضي تقدمه الوجودي؛ لأنه عامل في استحداث وجود المبتدأ أصلا، فذلك الذي يقتضي التقدم الوجودي، فإذا تقرر هذا علم أن لا حاجة إلى الجواب عن تنظير الكوفيين بقوله تعالى: (أيَّا مّا تَدْعُوْ فَلَهُ الأسْمَاءُ الحُسْنَى) حيث نصبت (أيا) بالفعل (تدعو) وجزم الفعل (تدعو) بـ(أيا)، فكان كل واحد منهما عاملا ومعمولا في حال واحدة، بأن اختلاف العمل (النصب والجزم) في المقيس عليه ليس مثل اتحاده (الرفع) في المقيس([82])؛ لأنه جواب ضعيف جدا وتمحل لا داعي له؛ لأن عمل (أيا وتدعو) كل واحد منهما في الآخر لا يقتضي تقدمه الوجودي، وإنما يقتضي استحداث صفة في كل منهما، وذلك لا يستلزم الدور المحذور.

6-    التوجيه الإعرابي: أشر النحويون وجها آخر من وجوه دفع الدور، اذ يحملون النص على توجيه إعرابي يؤثر في معنى النص، فينقل الكلام من لزوم الدور إلى نص خال من ذلك، فقد توقف النحويون على تعريف (الحال) في قول ابن مالك([83]):

الحال وصف فضلة منتصب                  مفهم حال كفردا اذهب

اذ عرَّف الحال بالمنتصب، وهو حكم له متوقف معرفته على معرفة الحال أولا، ففيه دور ظاهر، وهنا انتبه النحويون على أثر التوجيه الإعرابي في دفع هذا الدور حيث أعربوا (منتصب) خبرا لمبتدأ محذوف، والجملة اعتراضية بين قوله (وصف فضلة) وقوله (مفهم حال)([84]) تخلصا من كونه جزء من التعريف، ولكنه خلاف ظاهر العبارة، والأولى الجواب عنه بما تقدم من أن الحكم على الشيء فرع تصوره، ويكفي في الحكم التصور ولو بوجه ما.

ومن هذه الصورة تخريج بعضهم للدور الحاصل في قول ابن مالك عند تحديده (الصفة المشبهة) بقوله:

صفة استحسن جر فاعل                معنى بها المشبهة اسم الفاعل

حيث أعربوا (المشبهة) مبتدأ وجمالة (استحسن ..الخ) خبرا له، حتى يخرج الكلام بظاهره من حيز التعريف إلى الحكم والإخبار([85])، وهو جواب ضعيف جدا؛ لأن من أنواع التعريفات النحوية التعريف بالحكم([86])، وأمثلته كثيرة جدا.

7- الانتقال من تعريف أو تعليل لآخر: وهذا آخر طرائق دفع الدور الواقع في كلام النحويين؛ اذ ينتقلون عند العجز عن دفع الدور لكونه دورا حقيقيا، أو كون الجواب عنه بالدفع متمحلا واهيا إلى تعريف آخر أسلم منه وأصح، وهذا ما وجدناه في عدول ابن الناظم عن تعريف الصفة المشبهة بما عرفها به والده أعلاه إلى تعريف آخر خاليا من الدور، بقوله:" ما صيغ لغير تفضيل من فعل لازم لقصد نسبة الحدث إلى الموصوف به دون إفادة معنى الحدوث"([87]أو كعدول البصريين عن تعليل الكوفيين رفع المبتدأ والخبر كلا منهما بصاحبه إلى التعليل: بأن رفع المبتدأ بالابتداء والخبر بالمبتدأ تخلصا من شائبة التعليل المستلزم الدور([88])، وان لم يكن الدور حقيقيا هنا. 

 

[1]) صحيح مسلم- أبو الحسين مسلم بن الحجاج( ت 261هـ)، السعودية- الرياض، دار السلام، ط2، 2000م: 743، المسند- أحمد بن حنبل(ت241هـ) شرحه أحمد محمد شاكر، القاهرة، 1956م: 3/ 385، 4/ 437، وينظر: تاج العروس من جواهر القاموس- الزبيدي، محمد بن محمد(ت 1205هـ)،الكويت: 11/ 331- 332، ك، المعجم الوسيط: إب مصطفى واحمد الزيات وحامد عبد القادر ومحمد النجار، دار الدعوة، مجمع اللغة العربية بالقاهرة: 1/ 302.

[2]) كشاف اصطلاحات الفنون- التهانوي، محمد علي الفاروقي(ت بعد 1158هـ)، تصحيح: محمد وجيه  وعبد الحق  وغلام قادر، كلكتا، 1362هـ: 1/ 476، كتاب المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين- الآمدي، علي بن أبي علي (ت631هـ)، ضمن المصطلح الفلسفي عند العرب، تحقيق عبد الأمير الأعسم، بغداد 1984م: 332.

[3]) ينظر مقدمة في علم المنطق- ياسين خليل، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، مطبعة جامعة بغداد، 1979م: 94.

[4]) كشاف اصطلاحات الفنون- التهانوي: 1/ 477.

[5]) ينظر المنطق- الشيخ محمد رضا المظفر، النجف الأشرف، مطبعة النعمان، دت.: 121- 122.

[6] ) شرح التصريف العزي- التفتازاني، مسعود بن عمر(ت 793هـ)، القاهرة،: 5.

[7] ) ينظر: سر صناعة الاعراب - ابن جني، أبو الفتح عثمان (ت 392هـ)، دراسة وتحقيق: د. حسن هنداوي، دمشق، ط1، 1985م: 1/ 28، شرح التصريف العزي- التفتازاني: 5.

[8]) ينظر حاشية السيد الشريف على شرح الرسالة الشمسية، علي بن محمد الجرجاني(ت 816هـ)، القاهرة، ط1، 1905م: 1/ 341- 342.

[9]) الفوائد الضيائية – الجامي، عبد الرحمن بن محمد(ت 898هـ)، استانبول، 1314هـ: 57، حاشية عبد الغفور على الفوائد الضيائية- اللاري(ت 912هـ)، استانبول، 1309هـ: 81.

[10]) ينظر حاشية السيد الشريف على شرح الرسالة الشمسية: 1/ 342.

[11] ) كشاف اصطلاحات الفنون- التهانوي: 1/ 476.

[12] ) حاشية البينجويني على آداب البحث- عبد الرحمن بن محمد (ت1319هـ)، تصحيح محمود المنصوري، القاهرة، ط1، 1355هـ: 100- 101، و حاشية ابن القرداغي- عمر بن محمد أمين(ت1355هـ) تصحيح محمود المنصوري، القاهرة، ط1، 1355: 101.

[13] ) حاشية أبي الثناء الآلوسي على شرح القطر- محمود بن عبد الله(ت1270هـ)، القدس، 1320هـ: 77- 78.

[14] ) حاشية الصبان على شرح الأشموني: 1/ 53.

[15] ) حاشية ابي الثناء الآلوسي على شرح القطر: 38.

[16] ) مختصر المعاني- التفتازاني، مسعود بن عمر(ت 793هـ)، بيروت: 195.

[17]) البحر المحيط – ابو حيان، أبو عبد الله محمد بن يوسف (ت 745هـ)، بيروت: 2 / 252.

[18] ) الخصائص – ابن جني، أبو الفتح عثمان(ت 392هـ)، تحـ : محمد علي النجار، بغداد، ط4، 1990: 1/ 184.

[19] ) م. ن: 184، وينظر الكتاب- سيبويه، أبو بشر عمرو بن عثمان(ت 180هـ)، تحـ: عبد السلام هارون، القاهرة، ط3، 1988: 1/ 182، 1/ 200.

[20] ) حاشية الصبان على شرح الاشموني: 3/ 7- 8.

[21] ) الخصائص: 1/ 205. مع هامش رقم (4).

[22] ) أسس المنطق الصوري ومشكلاته – محمد علي أبو ريان، ود. علي عبد المعطي محمد، دار الجامعات المصرية، 1975م: 65- 66.

[23] ) كتاب المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين: 332.

[24]) المنطق عند الغزالي- بكري محمد خليل، العراق، بغداد، بيت الحكمة ، 2001م: 265.

[25]) تهذيب المنطق- التفتازاني، مسعود بن عمر(ت 793هـ)، طهران، ط2، 1363 : 89.

[26]) حاشية عبدالله اليزدي على تهذيب المنطق- نجم بن شهاب(ت1015هـ) طهران، ط2، 1363: 89.

[27]) كتاب المبين في شرح الفاظ الحكماء والمتكلمين: 321، تجديد علم المنطق في شرح الخبيصي على التهذيب- عبد المتعال الصعيدي، القاهرة، مطبعة النموذجية، ط5،: 54.

[28]) شرح الفناري على الرسالة الاثيرية، شمس الدين حمزة بن محمد(ت834هـ)، استانبول: 28.

[29]) المنطق عند الغزالي- بكري محمد خليل: 287.

[30]) حاشية عبد الله اليزدي على تهذيب المنطق: 91، ولينظر أسس المنطق الصوري ومشكلاته: 138- 139.

[31]) كشاف اصطلاحات الفنون: 1/286، شرح مختصر المنتهى- الإيجي، عضد الدين عبد الرحمن بن احمد(ت 756هـ)، مراجعة وتصحيح: شعبان محمد إسماعيل، القاهرة، 1973م: 1/68 – 69، الإيضاح في علل النحو - الفارسي، الحسن بن احمد(ت 377هـ)، ضمن كتاب( المقتصد في شرح الإيضاح) لعبد القاهر الجرجاني، تح: د. كاظم بحر المرجان، سلسلة كتب التراث، بغداد، 1982م: 19.

[32]) حاشيته على شرح القطر:68 – 69.

[33]) ينظر الاعلام- الزركلي، خير الدين، بيروت، ط 3، 1969م: 4/ 32.

[34]) م. ن: 3/ 283.

[35]) م. ن: 4/ 211.

[36]) م. ن: 4/ 157.

[37]) كشاف اصطلاحات الفنون: 2/ 23، حاشية عبد الحكيم على حاشية عبد الغفور على الفوائد الضيائية - السيالكوتي، شمس الدين بن محمد (ت 1067هـ)، استانبول، ؟؟13هـ: 25، حاشية عبد الغفور اللاري على الفوائد الضيائية: 15، الفوائد الضيائية- الجامي: 6.

[38]) آداب البحث والمناظرة - الكلنبوي: 100.

[39] ) حاشية البينجويني على آداب البحث: 98- 99، وينظر أسس المنطق الصوري ومشكلاته- محمد علي ابو ريان: 148 وما بعدها.

[40] ) تجديد علم المنطق في شرح الخبيصي على التهذيب- الصعيدي: 51

[41] ) الحدود- ابن سينا، أبو علي الحسين(ت 428هـ)، ضمن (المصطلح الفلسفي عند العرب)، دراسة وتحقيق: د. عبد الأمير الاعسم، بغداد، 1983- 1984م: 238، وينظر المنطق عند الغزالي- بكري محمد خليل: 222.

[42] ) شرح رسالة الآداب- باشا زادة، محمد حسن، القاهرة :65.

[43] ) حاشية البينجويني على آداب البحث: 100.

[44]) ينظر مباحث المصطلح النحوي في حواشي شرح القطر- محمد ذنون(رسالة ماجستير)، بإشراف الاستاذ الدكتور عبد الوهاب محمد علي العدواني، العراق، جامعة الموصل، 1996م: 53.

[45]) شرح الرازي على الرسالة الشمسية، قطب الدين محمود بن محمد(ت766هـ) القاهرة، ط1، 1322 :1/343.

[46]) أسس المنطق الصوري ومشكلاته- محمد علي أبو ريان: 364 وما بعدها.

[47]) شرح التصريف العزي - التفتازاني : 5 . 

[48]) شرح رسالة الآداب – باشا زاده : 26 . 

[49]) حاشية ابن القرداغي على رسالة المقولات للقزلجي- عمر بن محمد أمين(ت1355هـ)، القاهرة، 1355هـ  :15.

[50]) الحدود- ابن سينا: 238.

[51]) م. ن:237.

[52]) شرح شذور الذهب- ابن هشام، أبو محمد عبد الله بن يوسف (ت 761هـ)، تحـ وشرح: محمد محيي الدين عبد الحميد، دمشق، دار ابن كثير، ط1، 2005م: 132.

[53]) الألفية (:الخلاصة)- ابن مالك، محمد بن عبد الله (ت 762هـ)، بغداد: 4.

[54]) حاشية الخضري على إبن عقيل: 1/ 25، التصريح بمضمون التوضيح- الأزهري، خالد بن عبد الله (ت 905هـ)، القاهرة، 1954: 1/ 38.

[55]) الحدود- ابن سينا: 238.

[56]) الألفية (:الخلاصة)- ابن مالك: 32.

[57]) شرح الأشموني على الفية ابن مالك، علي بن محمد(ت 905هـ)، تصحيح: مصطفى أحمد حسين، القاهرة، ط1، 1366هـ: 3/ 3.

[58]) سورة الأنعام - من الآية: 91.

[59]) هذا التوجيه الاعرابي رد ضمني من أبي الثناء الالوسي على أبي حيان الذي أجاز في تفسيره كلا التوجيهين متناسيا لزوم الدور والفساد المعنوي أيضا، ينظر البحر المحيط- ابو حيان: 4/ 182، روح المعاني – ابو الثناء الآلوسي، محمود بن عبد الله (ت 1270هـ)، القاهرة، ط1، 1303هـ: 5/ 428.

[60]) شرح المفصل- ابن يعيش، يعيش بن علي (ت 643هـ)، بيروت: 1/ 84.

[61]) شرح الكافية - الرضي الاسترابادي، محمد بن الحسن(ت 686هـ)، بيروت، 1985: 1/ 66.

[62]) الألفية (:الخلاصة)- ابن مالك: 24.

[63]) حاشية الخضري على ابن عقيل: 1/ 221.

[64]) كشاف اصطلاحات الفنون- التهانوي: 1/ 477.

[65]) شرح التصريف العزي- التفتازاني: 7.

[66]) حاشية البينجويني على آداب البحث: 99- 100.

[67]) ينظر شرح التصريف العزي للتفتازاني :7 ، مباحث المصطلح النحوي في حواشي شرح القطر- محمد ذنون(رسالة ماجستير)، بإشراف الاستاذ الدكتور عبد الوهاب محمد علي العدواني، العراق، جامعة الموصل، 1996م: 112.

[68]) شرح شذور الذهب- ابن هشام: 132.

[69]) ينظر الاعلام: 6/ 57.

[70]) التصريح بمضمون التوضيح- الأزهري: 1/ 138.

[71]) ينظر تجديد علم المنطق في شرح الخبيصي على التهذيب- الصعيدي: 29، المزهر في علوم اللغة وانواعها- السيوطي، عبد الرحمن بن ابي بكر(ت911هـ)، شرح وضبط وتصحيح: محمد احمد جاد المولى وعلي محمد البجاوي ومحمد ابو الفضل ابراهيم، القاهرة:1/ 295- 296.

[72]) حاشية الخضري على شرح ابن عقيل: 1/ 25.

[73]) التصريح بمضمون التوضيح- الأزهري:1/ 37.

[74]) م. ن: 1/ 38.

[75]) حاشية الخضري على شرح ابن عقيل: 1/ 72، حاشية أبي الثناء الآلوسي على شرح القطر: 180.

[76]) الانصاف في مسائل الخلاف- ابن الأنباري، عبد الرحمن بن محمد (ت 577هـ)، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة: 1/ 235.

[77]) الألفية- ابن مالك: 32.

[78]) شرح الأشموني على الفية ابن مالك: 3/ 3.

[79]) حاشية الصبان على شرح الأشموني: 3/ 3، حاشية الخضري على شرح ابن عقيل: 2/ 38.

[80]) شرح الكافية - الرضي: 1/ 66.

[81]) م. ن: 1/ 66.

[82]) حاشية الصبان على شرح الأشموني: 1/ 194.

[83]) الألفية (:الخلاصة)- ابن مالك: 24.

[84]) حاشية الخضري على إبن عقيل: 1/ 221.

[85]) حاشية الصبان على شرح الأشموني: 3/ 3.

[86] ) مباحث المصطلح النحوي في حواشي شرح القطر(رسالة ماجستير): 36- 37.

[87]) شرح ابن الناظم على الفية ابن مالك، ابو عبد الله بدر الدين محمد بن محمد بن مالك(ت 686هـ)، تحقيق: محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية، لبنان، بيروت، ط 1، 2000م: 318.

[88]) الانصاف في مسائل الخلاف- ابن الانباري: 1/ 48.

------------------------

د. محمد ذنون يونس فتحي

جامعة الموصل/ كلية التربية للبنات

قسم اللغة العربية/ مدرس

『アディダス』に分類された記事一覧

التصنيف الرئيسي: 
التصنيف الفرعي: 
شارك: