المغرب لا يعيش أزمة لغة واحدة، بل يواجه «أزمة لغات». فهو يتخبط في أزمة العربية الفصحى، وأزمة الأمازيغية (أو الأمازيغيات)، وأزمة الدارجة (العربية المغربية)، وأزمة اللغة الأجنبية (أو اللغات الأجنبية). إنه يعيش أزمة مركبة و/أو معقدة. والبحث عن معالجة سليمة لهذه الأزمة المركبة و/أو المعقدة لا يمكن أن يتم دون أن يؤخذ بعين الاعتبار هذا «المركب» اللغوي.
وهذه الأزمة ليست نتيجة للتعدد والتنوع اللغويين في المغرب، وإنما هي نتيجة لنوع من التدبير اللغوي السلبي. فالتعدد أو التنوع معطى لغوي يوجد في المغرب مثلما يوجد في بلدان أخرى عديدة. إذ قلما نجد بلدا أحادي اللغة أو بدون لهجة أو لهجات. ففي جل المجموعات البشرية، تتعدد اللغات. وداخل اللغة الواحدة، تتنوع اللغات و/أو اللهجات، مثل العربية الفصحى (أو الفصيحة) ولهجاتها في الأقطار العربية، والدارجة المغربية وتنويعاتها في مناطق المغرب.
إن الوضع اللغوي في المغرب هو نتيجة سياسة لغوية لم تدبر تعددنا وتنوعنا اللغويين بشكل إيجابي. والتدبير الإيجابي هو ذلك الذي يستوعب التعدد والتنوع، ويوظفهما لتحقيق التنمية والتقدم، وليس التدبير الذي يستهدف إحدى اللغات بتبخيسها أو الحطّ من قيمتها أو تقليص وظائفها، أو على العكس من ذلك تخويلها وظائف قد لا تكون مؤهلة لتأديتها .
العربية والدارجة معا:
سأتحدث، هنا، عن العربية الفصحى والدارجة المغربية (العربية المغربية)، انطلاقا من العلاقة بين اللغتين، والوظائف التي يمكن أن تؤديها كل لغة. ولعل السؤال الرائج هذه الأيام في المغرب هو الذي يُطرح على الشكل التالي: العربية أم الدارجة؟ ومنذ البداية، أقول إنه سؤال خاطئ. ومع ذلك، سأجيب، منذ البداية أيضا، كما يلي: العربية والدارجة معا.
منذ البداية، إذن، أعلن هذا الموقف. وهو موقف لا يتعلق بحل توافقي أو بمخرج توفيقي أو جمع ما لا يجتمع، بل بنظرة تستند إلى ما يجري في الواقع، حيث تتعايش اللغتان: العربية الفصحى والعربية المغربية. فأنا لا أشعر بأي مشكل وأنا أتكلم الدارجة في البيت وفي الشارع وفي العمل، وأكتب بالعربية الفصحى وأقرأ بها وأحاور بها. ويحدث ذلك في نفس اليوم وفي نفس اللحظة…
إن إقامة تقابل أو تعارض أو تضاد أو خصومة بين العربية الفصحى والدارجة (العربية المغربية) فيه اعتداء على اللغتين معا وعلى المغاربة. فالعربية الفصحى لغتنا. والعربية المغربية (الدارجة) لغتنا. إنهما لغتان وطنيتان، بالإضافة إلى الأمازيغية (أو الأمازيغيات). هذه كلها لغاتنا الوطنية، ولا مفاضلة بينها من حيث الوطنية… لكن اعتماد لغة رسمية أو اختيار لغة للتعليم شيء آخر، لا يعتمد فقط معيار الوطنية. إنه، بطبيعة الحال، يشترط الوطنية، ولكنه يشترط مقومات أخرى.
الدارجة أو العربية المغربية:
دارجة أو لهجة أو لغة؟… هذه تسميات لا تطرح مشكلا في سياق الأزمة التي نتحدث عنها هنا. والأمر، في كل الأحوال، يتعلق بلغة ككل اللغات البشرية الحية؛ أي اللغات الحية في الألسن وليس المخزنة في المتاحف أو المرسومة على النقوش. إنها لغة يتكلمها الناس ويتواصلون بها ويحيون بها. وهي لغة لها قواعد تركيبية ودلالية ومعجمية وصوتية وصرفية… (أي لها بنيتها و/أو نسقها). تشترك مع لغات أخرى، مكتوبة وغير مكتوبة، في مبادئ كلية. ولها خصائص تتميز بها عن اللغات الأخرى. وهذه من البديهيات العلمية اللسانية، التي لا نحتاج إلى التوقف عندها.
الدارجة هي لغة مغربية. لغة يتكلم بها المغاربة (ليس، بطبيعة الحال، كل المغاربة، إذ هناك بعض المناطق لا تتكلم إلا الأمازيغية ولا يفتح فيها الطفل لسانه على الدارجة، بل على الأمازيغية التي تعد لغته الأم، ولا يتكلم بالدارجة إلا في فترة لاحقة، حين يدخل المدرسة أو حين يبدأ في التنقل خارج منطقته…).
والدارجة لغة عربية. فهي لهجة عربية. ومن ثَم، كانت لها صلة وطيدة بالعربية الفصحى، في التركيب والدلالة والمعجم والصوت والصرف… إنها امتداد للعربية الفصحى، فهي استعمال شفوي مغربي للعربية الفصحى، مثلما أن المصرية استعمال شفوي مصري للعربية الفصحى، والأمر نفسه بالنسبة إلى السورية واللبنانية… وغيرها من الدوارج العربية. فالأقطار العربية تشترك في اللغة العربية الفصحى، وتختلف في الاستعمالات الشفوية لهذه الفصحى. وهو اختلاف لساني محدود، لا يمكن أن تترتب عنه لغات محلية خاصة بكل قطر، كما حدث بالنسبة للغات الأوروبية.
الدارجة المغربية، إذن، هي لغة عربية مغربية. وأنا أفضل اعتماد هذا الترتيب، وليس ترتيب «لغة مغربية عربية»، لأنها لهجة من لهجات العربية الفصحى. فهذه اللهجات المنتشرة في الأقطار العربية كلها متصلة بالعربية وتشترك في العربية، وتستمد القرابة في ما بينها من العربية الفصحى. إن هذه اللهجات تمثل النوع (أو التنوع) الدارج للعربية الفصحى في كل بلد عربي على حدة.
العربية الفصحى وليس «العربية الكلاسيكية»:
يصر البعض على وصف اللغة العربية الفصحى بـ «الكلاسيكية». وهو وصف غير سليم وبعيد عن الدقة العلمية. ويبدو أن الإمعان في استعمال هذا الوصف، حتى من قبل بعض الباحثين المختصين في اللغة واللسانيات، يستبطن، فضلا عن حمولته غير العلمية، موقفا سلبيا من اللغة العربية.
إن العربية التي نكتب بها، اليوم، ونتكلم بها ونتعلمها في المدرسة ونقرأ بها ونبحث بها في الجامعة… ليست كلاسيكية. إنها عربية تطورت وتتطور وتحاول أن تواكب التطور في مختلف المجالات، بحسب إمكانات ووسائل وتقدم وتطور أهلها، بطبيعة الحال. إننا لا نتحدث عن عربية قريش، بل عن «عربية اليوم»، وهي عربية عصرية. وهي، كما نقول لسانيا، «العربية المعيار».
بين الفصحى والدارجة:
العربية الفصحى هي عربية مكتوبة، هي لغة المدرسة، نتعلمها ونتعلم بها. والعربية المغربية هي عربية شفوية، هي لغة التواصل اليومي، لا نتعلمها، ولا نحتاج إلى أن نتعلمها، لأنها لغة الأم، نزداد ونحن نمارسها بين أحضان الأم وفي الأسرة والمجتمع. وحتى بالنسبة إلى من يولد في مناطق مغربية لا تتكلم الدارجة، فإن تعلمه هذه الأخيرة لا يحتاج إلى أن يتم بشكل كتابي، إذ يمكن أن يكتسبها عن طريق التداول الشفوي، وهذا التداول سيجعلها تترسخ لديه أكثر مع تعلمه للعربية الفصحى، بالنظر إلى الصلة التي تربط الدارجة بالعربية الفصحى.
(مجرد ملاحظة: هناك أطفال ولدوا ونشأوا وعاشوا في المغرب، لكنهم لا يتكلمون الدارجة المغربية بتلقائية، لأنهم عاشوا في ظل وسط «غير مغربي» داخل المغرب. وإذا تكلم بعضهم الدارجة، فإنك تحس بأنها ليست لغته الأم).
سؤال الوظيفة:
السؤال الذي يمكن نطرحه ونحن نقابل بين العربية الفصحى والعربية المغربية هو سؤال الوظيفة: أية وظيفة للغتين؟ ما طبيعة الوظائف التي تؤديها كل واحدة منهما؟ وحتى تلك التي يمكن أن تؤديها في المستقبل؟ وهنا، ينتصب موقف جديد/قديم يدعو إلى تخويل الدارجة وظائف الفصحى، ويزعم أن لها المؤهلات للقيام بذلك: الكتابة والقراءة والتعليم… إلخ. إن هذا الموقف مستلهم من التجربة الأوروبية، ويحلم بأن يقوم بإسقاطها على المنطقة العربية، في أفق أن تصبح لكل قطر عربي لغته الوطنية الرسمية (مغربية، مصرية، سورية، لبنانية، موريتانية …) كما حدث في أوربا (فرنسية، ألمانية، إسبانية، إيطالية، إنجليزية…). لكن هذا الموقف الداعي إلى إسقاط التجربة الأوروبية على المنطقة العربية يسقط في خطأ لغوي وتاريخي. فهو موقف تعوزه الحجة العلمية اللغوية ويفتقد إلى القراءة السليمة للتاريخ. فلا اللغة (خصائص العلاقة بين العربية الفصحى والدوارج) تسعف ولا التاريخ (تاريخ اللاتينية وعلاقته بتاريخ أوربا) يسمح.
الدارجة والكتابة:
لن أنشغل، هنا، بالخلفيات الإيديولوجية والسياسية وحتى الاقتصادية لمثل هذا الموقف الذي يدعو إلى «التدريج» أو «التلهيج». وهي خلفيات لا يمكن لأي رصد موضوعي أن ينفيها. وحتى بعض الذين يدعون إلى هذا الموقف لا يخفون بعض هذه الخلفيات. وسأكتفي بطرح سؤال محايد: هل يمكن أن نعتمد الدارجة لغة للكتابة والتعليم؟ والسؤال عن الكتابة والتعليم تتبعه أسئلة عن البحث العلمي، والاقتصاد، والتكنولوجيا، والتواصل الدولي…
عندما يدعو البعض إلى تخويل الدارجة وظائف جديدة، فإنه يجب أن يستحضر، منذ البداية، هل هي قادرة على أداء تلك الوظائف؟ وهل نحن قادرون على تمكينها من كل الوسائل لتأدية تلك الوظائف؟ وهل اعتمادها لغة الكتابة والتعليم سيمكننا من تحقيق التقدم المرغوب فيه وتدارك التأخر الذي نعاني منه؟ وهل سيبوئها موقعا بين اللغات العالمية المهيمنة والمصنفة؟ وهل سيعالج أزمة اللغة و/أو اللغات التي نقر بها جميعا؟…
الدارجة هي لغة التواصل اليومي والحديث الشفوي في الإذاعة والتلفزيون وفي الأعمال الفنية؛ السينما والتمثيل والغناء وحتى الكتابة المختصرة الإلكترونية (التي لا تخرج عن التواصل اليومي). لكن أن تتحول إلى لغة مكتوبة، وإلى لغة التعليم والتعلم ولغة البحث العلمي ولغة المعرفة ولغة الصحافة المكتوبة (قد تكون لغة الإعلام السمعي البصري)، فهذا يفرض عليها أن تؤدي وظائف لا تتوفر على مقومات أدائها ويُثقِل كاهلها بمهام لا تقدر عليها. إننا، بذلك، نحملها ما لا طاقة لها به، ونتعسف عليها، ونعتدي عليها وعلى المغاربة.
إن الدارجة تؤدي وظيفتها المجتمعية، التواصلية وغير التواصلية، بدون حاجة إلى أن تكون مكتوبة. ووجودها ومصيرها لا يتوقفان على تحويلها إلى لغة مكتوبة. بينما العربية الفصحى لغة مكتوبة، نكتسبها بالتعلم ونمارسها بالقراءة والكتابة. الدارجة لغة الكلام والعربية الفصحى لغة الكتابة (والكلام أيضا)، فضلا عن كونها لغة البحث العلمي والتنمية المعرفية، باعتبارها لغة ناقلة للمعرفة، ولغة التواصل الكوني (التواصل مع المحيط الخارجي، العربي والعالمي، باعتبارها لغة رسمية عالميا ومصنفة تصنيفا جيدا). وهذا الاختلاف في وظائف اللغتين (العربية الفصحى والعربية المغربية) لا يعكس بالضرورة صراعا بينهما، بقدر ما يعبر عن تكامل وظيفي بين لغتين وطنيتين.
فرضية خاطئة:
هناك فرضية ينطلق منها بعض دعاة «التدريج»، لتبرير الدعوة إلى الكتابة بالدارجة وتحويلها إلى لغة مكتوبة، ومفادها أن التدريج سيساهم في تعميم المعرفة ومدها إلى غير المتعلمين (أي الأميين الذين مازالت نسبتهم في بلدنا، للأسف، كبيرة جدا). غير أن الواقع يُخَطئ هذه الفرضية. لنتأمل المثال التالي: إن المغربي الذي لم يُكتب له دخول المدرسة في المغرب يستطيع أن يتكلم الدارجة المغربية ويتواصل بها، بشكل جيد، باعتبارها لغته الأم (أو بتعبير اللسانيين، باعتباره متكلما مستمعا مثاليا للدارجة)، لكنه يعجز عن قراءتها، مثلما يعجز عن قراءة العربية الفصحى.
وإذا نظرنا إلى الوجه الآخر من المثال: إن المغربي الذي دخل المدرسة واستفاد من التعليم وأصبح يقرأ العربية الفصحى ويتواصل بها ويكتب بها يجد صعوبة في قراءة الدارجة، بالمقارنة مع قراءته للعربية الفصحى، مع أنه يتكلم الدارجة ويتواصل بها بشكل جيد. فمثلا، عندما أقرأ مقالات من مجلة «نيشان» (وهي بالمناسبة مجلة تصدر باللغة العربية الفصحى وليس بـ«المغربية» كما هي معرفة في برنامج الندوة، حيث لا تتجاوز الدارجة في مقالاتها بعض التعابير، وغالبا ما تكون «تعابير مسكوكة»، وبعض الجمل المحدودة والعناوين) وأصل إلى تعابير الدارجة، التي تستعملها بشكل محدود، أشعر بأنني أدخل في أجواء مضطربة، حيث الاهتزازات والتعثرات ، وأحتاج إلى مزيد من الجهد والوقت لأصل إلى المعنى، وقد لا أصل إليه بوضوح ودقة. بينما تنعدم هذه الاضطرابات وما ينتج عنها في العبارات المكتوبة بالعربية الفصحى.
وأظن أن هذا المثال يفند أيضا الادعاء بصعوبة العربية الفصحى و«تعقدها». فالقارئ يُجهد نفسه أكثر عندما يكون بصدد قراءة الدارجة، خلافا للعربية الفصحى. بينما لا يشعر بأي عناء عند الاستماع والتكلم بها.
لنعد إلى الفرضية الخاطئة. فالأمي (غير المتمدرس) الذي يتكلم الدارجة جيدا، باعتبارها لغته الأم، لا يستطيع أن يقرأها أو يكتبها. والمتمدرس (غير الأمي) الذي يقرأ العربية الفصحى ويكتبها ويتكلم بها لا يستطيع أن يقرأ الدارجة بسهولة.
المشكل، إذن، في الأمية وفي الجهل بالقراءة والكتابة، وليس في اللغة، سواء أكانت عربية فصحى أو عربية مغربية (دارجة). وإذا تمظهرت هذه المشاكل في اللغة، فلا ينبغي أن نتوقف فقط عند المظاهر.
حلّ يكرس الاختلال:
اللغة ليست فقط موضوع هوية، ولكنها أيضا موضوع له علاقة بما هو تنموي واقتصادي ومعرفي وعلمي… ولهذا السبب، ينبغي أن نختار، من بين لغاتنا الوطنية، اللغة التي تتوفر على المؤهلات لكي تقوم بوظائفها كاملة في ما يخص هذه المجالات، وبمردودية وإنتاجية، وبدون كلفة زائدة أو جهد أكثر من طاقاتنا وإمكاناتنا. فأية لغة، من بين لغاتنا الوطنية، قادرة على القيام بهذه الوظائف؟ إن الذين يدعون إلى اعتماد الدارجة لتحقيق التنمية والتقدم العلمي والمعرفي والاقتصادي ينطلقون، من ضمن ما ينطلقون منه، من أن العربية الفصحى أخفقت في النهوض بهذه الوظائف، فيرتبون نتيجة غير منطقية، وهي عجزها عن القيام بهذه الوظائف، وينتهون إلى حل غير منطقي، مرة أخرى، وهو تكليف الدارجة بهذه الوظائف. غير أن السؤال الذي يواجه هذا «الحل» هو: هل بالفعل سنحقق بالدارجة ما أخفقنا في تحقيقه بالعربية الفصحى؟
إن التدبير الإيجابي للغاتنا الوطنية هو أن نعرف كيف نوظفها بالشكل الذي يخدمنا ويخدم تنميتنا. علينا أن نختار، لهذه الوظائف، اللغة التي تخدمنا، لا اللغة التي نخدمها، دون أن يكون لدينا يقين تام بأنها ستقوم بهذه المهمة على الوجه الأكمل. والعربية الفصحى تملك المقومات التي تجعلها لغة التعليم والبحث العلمي ونقل المعرفة والتواصل الكوني… وهي بإمكانها أن تؤدي هذه الوظائف بكلفة أقل وبمردودية أكبر، بالنسبة إلى الدارجة.
إن للدارجة وظائف وللعربية الفصحى وظائف. والحل لا يكمن في نقل وظائف الفصحى إلى الدارجة، وإنما في تأهيل اللغتين لأداء وظائفهما على أحسن وجه. إن «تهجير» وظائف العربية الفصحى إلى الدارجة، سيُعَقد أزمة اللغة عندنا أكثر. فلا نحن سنتعلم العربية التي بإمكانها -بحسب مقوماتها وعناصر قوتها- أن تؤهلنا. ولا نحن
سنتأهل بالدارجة، إذا اعتمدناها في التعليم والتعلم والاقتصاد والصحافة المكتوبة… إنه «حل» سيكرس واقعا لغويا يتسم باختلال لغوي.
التعليم و«اللغة المساعدة»:
لا يختلف اثنان في أن التعليم في المغرب، مثله مثل اللغة، يعاني من الأزمة. وإذا كانت أزمة اللغة في المغرب تعد أحد مظاهر (و/أو إحدى نتائج) أزمة التعليم، فإن أزمة التعليم تعد أيضا أحد مظاهر (و/أو إحدى نتائج) أزمة اللغة. غير أن حل أزمة أحد طرفي هذه العلاقة «المأزومة» لا يوجد بالضرورة أو فقط في الطرف الآخر. ولذلك، فإن اختزال حل أزمة اللغة في التعليم وحده أمر خاطئ، مثلما أن اختزال حل أزمة التعليم في اللغة وحدها أمر خاطئ هو الآخر.
وتبعا لذلك، فإن الانتقال بـ «لغة التعليم» من العربية الفصحى إلى الدارجة ليس في الحقيقة إلا هروبا من مواجهة واقع الأزمتين. فلا هو سيعالج أزمة اللغة (المركبة)، ولا هو سيحل أزمة/ أو أزمات التعليم.
ولا بد أن أشير، هنا، إلى أن العربية المغربية ليست لغة منعدمة بالمطلق في قطاع التعليم ببلادنا. فهي تُستعمَل في المؤسسات التعليمية، من التعليم الأساسي إلى الثانوي إلى الجامعي. تُستعمَل «خارج الدرس» بين التلاميذ والطلبة، وتُستعمَل حتى «داخل الدرس» بالأقسام والمدرجات. إن هذا الواقع يفرض علينا أن نطرح السؤال عن طبيعة الوظيفة التي تقوم بها الدارجة في التعليم؟ هل ينبغي أن نستند إلى هذا الواقع لكي ندعو إلى اعتماد الدارجة لغة للتعليم؟ وبالتالي إفراغ الفصحى من موقعها لفائدة الدارجة؟… إن الدارجة تُستعمَل في التعليم كـ«لغة مساعدة». وهذا الاستعمال محدود ولا يتجاوز المستوى الشفوي. وهو استعمال لا يضعها في صراع مع العربية الفصحى، بل يعكس العلاقة التكاملية التي تجمع بينهما. ويمكن لاعتماد الدارجة كـ«لغة مساعدة»، خاصة في التعليم الأولي والأساسي، أن تعالج بعض المشاكل التي تواجه المعلم والطفل خلال السنوات الأولى من التعليم، مثلما يمكن أن تُساعد المغربي الذي ازداد في مناطق لا تتكلم إلا الأمازيغية على أن يتعلم الدارجة، عن طريق التواصل الشفوي.
لا صراع بين اللغات:
أخلص، هنا، إلى أنه ليس هناك صراع بين العربية الفصحى والعربية المغربية. قد يكون هناك صراع بين المواقف من لغة ما. وقد يكون هناك صراع إيديولوجي أو سياسي أو اقتصادي أو ثقافي… ينعكس على اللغات. لكن لا يوجد صراع بين اللغات، لأن اللغات لا تتصارع في ما بينها، وإنما يستعملها البعض لإذكاء الصراع.
وحتى بين العربية والفرنسية، فليس هناك صراع. فالصراع الحقيقي الذي له صلة بهاتين اللغتين، يوجد، كما يظهر في الواقع، بين فئة من المغاربة تدافع عن الحفاظ للفرنسية على وضعها الحالي بالمغرب، كلغة مال وأعمال وإدارة، ولغة للترقية الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية (وهي فئة محدودة من حيث العدد، ولكنها مسيطرة ماليا واقتصاديا وسياسيا…) وبين باقي المغاربة الذين يشعرون بأن هناك موقفا سلبيا من لغتهم العربية، سواء أكانت عربية فصحى أو عربية مغربية (دارجة)، ويُواجَهون في الواقع المعيش بأن حظوظهم في الشغل والرقي مرتبطة بهذا الصراع.
إن الواقع يؤكد أن الدارجة تعيش في ظل سلام مع الفصحى. وهذا لا يعني أن علينا أن نُهملهما وألا نعمل على الارتقاء بهما وتأهيلهما. بل بالعكس، إننا مطالبون بذلك. فمستوى اللغة يعكس مستوى متكلميها. ولكن هذا الارتقاء والتأهيل يتطلب الاستناد إلى المقاربة العلمية والمعالجة العلمية التي تستفيد مما راكمته الدراسات اللغوية واللسانية في مختلف مستوياتها النحوية والاجتماعية والنفسية والمعرفية والتقنية والاقتصادية… وليس اعتماد الاختيارات الارتجالية التي لا أساس علمي لها.
اللغات الأجنبية:
إن معالجة القضية اللغوية في المغرب لن تكتمل بدون فتح ورش اللغات الأجنبية. وهو ورش يحتاج إلى جرأة وواقعية وبراغماتية. اللغة الأجنبية في المغرب هي الفرنسية، التي تحولت، في الواقع، إلى لغة رسمية، حيث تحل محل اللغة الرسمية (العربية) في عدد من القطاعات والواجهات. ولا أحتاج إلى التذكير بأن المغرب لم يختر الفرنسية بشكل إرادي. فلم تكن أمامه خيارات لغوية عديدة ومتنوعة، فاختار الفرنسية، بناء على قرار سيادي، وبالنظر إلى المنافع التي ستجلبها إليه، وإنما اختارها -أو بالأحرى فُرضت عليه- في وضع كان فيه مسلوب الإرادة السياسية، أي في وضع «تبعي». وإذا كان لا يمكن لأحد أن يستهين بالفترة الزمنية التي قضتها اللغة الفرنسية بين ظهرانينا، حيث استطاعت خلال قرن من الزمان، أن «تحتل» موقعا داخل المجتمع المغربي وأن تتعايش مع الدارجة المغربية (يتضح ذلك بالخصوص على المستوى المعجمي)، فإنه لا يمكن أيضا لأي أحد أن يزعم بأنها قادرة، اليوم، على أن تؤدي كل الوظائف المنتظرة من اللجوء إلى لغة أجنبية. فليس خافيا اليوم أن الاعتماد على الفرنسية كلغة أجنبية أولى أو وحيدة لن يؤهلنا إلى ما نطمح إليه. ومع ذلك، لا أظن أنه يمكن لأحد أن يدعي أن الحل هو «التخلص» من الفرنسية. لكن اختيار المستقبل يقتضي أن نتجه نحو اللغات القوية التي لا مفر منها إذا نحن فعلا أردنا أن نتقدم. ومن حقوق أبنائنا علينا اليوم أن نضمن لهم جميعا، وفي ظل المساواة، تعلم اللغة الإنجليزية (واللغات التي تعادلها)، حتى لا يتحولوا مستقبلا إلى «ضحايا اللغة».
خلاصة:
إنه بقدر ما يتعين علينا أن نتشبث بلغاتنا الوطنية (العربية الفصحى ولهجتها العربية المغربية والأمازيغية ولهجاتها)، علينا أن نمتلك الجرأة في اختيار اللغة أو اللغات الأجنبية التي بإمكانها أن تؤهلنا لمواكبة التقدم العلمي والمعرفي وتحقيق التواصل الكوني.
إن أزمة اللغة في المغرب لن تُعالَج باختزالها في علاقة العربية الفصحى بالدارجة، بل يجب أن تعالج في إطار ينصب على قضايا اللغات الوطنية واللغات الأجنبية. والمطروح علينا، اليوم، بالنسبة إلى لغاتنا الوطنية، هو التعامل معها انطلاقا من تكامل وظائفها، وليس انطلاقا من تأجيج الصراع بينها. فليس في صالح المغرب والمغاربة أن ندخل نزاعا لغويا جديدا بين العربية الفصحى والدارجة، بعد أن كان البعض سعى إلى خلق نزاع بين العربية والأمازيغية. وبالنسبة إلى اللغات الأجنبية، علينا أن نتجه نحو المستقبل ونختار لغة أو لغات التقدم والتنمية والعلم والمعرفة والتواصل الكوني.
نص المداخلة التي تقدم بها الباحث محمد حفيظ في الندوة الدولية حول «اللغة واللغات» التي نظمتها مؤسسة زكورة للتربية بكلية الطب بالدارالبيضاء يومي 11 و12 يونيو 2010
محمد حفيظ، باحث في اللسانيات
---------------------
المصدر : موقع : من فتى :
http://www.manfata.com