جاء فى مقدمة ابن خلدون فى حديثه عن علم النحو قوله : (( اعلم أن اللغة فى المتعارفِ هي عبارة المتكلم عن مقصوده ، وتلك العبارة فعل لساني ، فلابد أن تصير ملكةً متقررة فى العضو الفاعل لها وهو اللسان))([1]) ، ثمّ يصف هذه الملكة بقوله : ((وكانت الملكة الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات ، وأوضحها إبانةً عن المقاصد ، لدلالة غير الكلمات فيها ، على كثير من المعاني))([2]) .
ويؤكد أنها تنتقل إلى ابنائهم من غير مشقة بقوله : ((إنما هي ملكة فى ألسنتهم ، يأخذها الآخر عن الأول ، كما تأخذُ صبياننا لهذا العهد لغاتنا[3]) (() ، كما يحدد كذلك بداية فساد هذه الملكة بسبب مخالطتهم الأعاجم الذين دخلوا في الدين الإسلامي من جميع الأجناس فيقول : ((فلما جاء الإسلام ، وفارقوا الحجاز لطلب الملك الذى كان فى أيدى الأمم والدول ، وخالطوا العجم ، تغيرت تلك الملكة ، بما ألقى إليها السمع من المخالفات التى للمستعمرين ، والسمع أبوالملكات اللسانية ، ففسدت بما أُلقى إليها ممّا يغايرها ؛ لجنوحها إليه باعتياد السمع)))[4](.
يشير ابن خلدون إلى خشية العرب من فساد ملكتهم ، نسبة لاختلاطهم بالأعاجم ، ممّا يؤدي إلى فساد الفهم لمعاني القرآن الكريم ، والحديث النبوي الشريف ، ممّا يؤكد أنَّ نشوءَ اللَّحن كان بسبب اختلاط العرب بالأعاجم .
ويقود هذا الحديث الذى ذكره ابن خلدون إلى بداية اللّحْنِ والذي اتفق العلماء على أنه ظهر مع بعثة النبي (صلى الله عليه وسلم) بالرسالة المحمدية ، وهذا ما يؤكده قوله (صلى الله عليه وسلم ) عندما سمع رجلاً يلحن فى آيةٍ من كتابِ الله الكريم : ((أرشدوا أخاكم فقد ضل )))[5]( ، ولم يكن النبى - صلى الله عليه وسلم - ليصف رجلاً بالضلال ؛ إن لم يكن قد أخطأ في قراءة آيةٍ من كتاب الله الكريم)[6](.
أما اللحن الذى هو الخطأ فى الإعراب فقد كان مبغوضاً جداً عند العرب لحداثة أمره بينهم، وقد أنف منه النبى (صلى الله علية وسلم) بقوله : (( أنا النبيُّ لاكذب أنا ابن عبد المطلب ، أنا أعربكم ولدتني قريش ونشأتُ فى بنى سعد فأنىّ يأتيني اللّحْنُ )))[7]( ، وتبعه أصحابه في ذلك ، قال أبوبكر : ((لأن اقرأ فأسقط أحب إليّ من أن اقرأ فألحن )))[8](، ورُوى أن عمر بن الخطاب مرّ على قومٍ يُسيئون الرّمي ، فقرّعهم. فقالوا : إنا قومٌ متعلين. فأعرض مغضباً وقال : (( والله لخطؤكم فى لسانكم أشدُّ عليَّ من خطئكم فى رميكم )))[9]( .
وكان عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - يضرب أولاده على اللحن ولا يضربهم على الخطأ)[10](، ووجد فى كتاب عامله لحناً فأحضره وضربه (درة) أي سوطاً صغيراً)[11](، وكتب الحُصين بن أبي الحُر)[12]( إلى عمرَ كتاباً ، فلحن فى حرف منه ، فكتب إليه عمر : أن قنّع كاتبك سوطاً. أى : أضربه )[13](.
وكل هذه الروايات التى وردت عن النبى صلى الله عليه وسلم وخليفتيه ، أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب - رضى الله عنهما- تدل على بغضهم للحن ، ومحاولتهم تصحيح وتقويم اللسان .
والخليفة على بن أبى طالب ، كان معروفاً عنه الفصاحة والبيان فى حديثه ، وتروي كتب الأدب عنه ، أنه هو من وضع النحو لتقويم اللسان العربى بأمره لأبى الأسود الدؤلى بذلك .
وقالوا أول لحن سمع بالبادية : هذه عَصَاتِى , وأول لحن سُمع بالعراق حيِّ على الفلاح)[14]( - بكسر ياء حي . وروى أن أعرابياً سمع قارئاً يقرأ :
(أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) )[15]( بجراللام في (رسوله) ، فتوهم عطفه على (المشركين) فقال : أو بريءَ اللهُ منْ رسولِهِ ؟ فبلغ ذلك عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- فأمر أن لا يَقرأ القرآن إلاّ مَنْ يُحسن العربية([16](.
وازداد اللحنُ تفشياً فى عصر بنى أمية ، حتى وصل قصور الخلفاء ، ومن الروايات فى ذلك ، أنه دخل رجل على سليمان بن عبد الملك ، وقيل على زياد بن أبيه ، فقال : ياأميرالمؤمنين ، إن أبينا هلك وترك مالٌ كثيرٌ ، فوثب أخانا على مال أبانا فأخذه . فقال سليمان : فلا رحم الله أباك ولا نيَّح – أي جمّل – عظام أخيك ، ولا بارك الله لك فيما ورثت ، أخرجوا هذا اللّحان عنِّي)[17]( .
فالرواية تدل على انتشار اللحن واستقباح الخلفاء له ، فلحن هذا الرجل أخّر عليه القضاء له فى حاجته وانصافه من أخيه .
ومن الروايات التى روتها كتب الأدب عن لحن الخلفاء ، أنه تكلم أبو جعفر المنصور فى مجلس فيه أعرابى ، فلحن ، فصرّ الأعرابي أُذنيه ، فلحن مرةً أُخرى أعظم من الأولى, فقال الأعرابي : أفٌ لهذا ، ماهذا ؟ . ثم تكلم فلحن الثالثة ، فقال الأعرابى : أشهدُ ، لقد ولِّيتَ هذا الأمر بقضاءٍ وقدرٍ)[18]( .
وكان الحجاج مع فصاحته يتهيّب وقوع اللّحن ، ويستانسُ بآراء العلماء وملاحظاتهم، قال الحجاج لابن يعمر : أتسمعني ألحنُ ؟ قال : الأميرُ أفصحُ الناسِ . وقال يونس : حرفاً . قال : أين ؟ قال : فى القرآنِ الكريمِ . قال : ذلك أشنعُ له ، فما هو ؟ قال تقول :(قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ))[19]) ، قرأ (أحبُّ) بالرفع، كأنه طال عليه الكلام فنسي ما ابتدأ به ، والصواب أن يقرأ ((أحبَّ إليكم)) بالنصب على خبر كان , فألحقه بخراسان وعليها يزيد بن المهلب)[20](.
وظل اللحن متفشياً في الخاصة والعامة تفشياً مذموماً ، ومن الأقوال التى قالها الخلفاء فى ذمه قول عبد الملك بن مروان : اللحنُ هجنةُ الشريفِ . وكان يُقالُ : اللحنُ فى المنطقِ أقبحُ من آثارِ الجدري فى الوجهِ.)[21](
وانتشر اللحنُ حتى أعدى الخاصة ، فأصبح من لا يلحنون يُعدَون على الأصابع ، قال الأصمعى : (أربعةٌ لم يلحنوا فى جدٍ ولا هزلٍ : الشعبى , عبد الملك بن مروان ، والحجاج بن يوسف ، وابن القرية([22]) ، والحجاج أفصحهم) )[23](.
وذكر صاحب (صبح الأعشى) ، إن اللحن قد فشا في الناس ، والألسنة وانتشر انتشاراً جعل من التكلم بالفصيح عيباً )[24]( ، كما في زماننا الحاضر ، حيث يقول : ((وأعلم أن اللحن قد فشا في الناس ، والألسنة قد تغيرت ، حتى صار التكلم بالإعراب عيباً ، والنطق بالكلام الفصيح عِيّاً( )[25] (.
-----------------
([1]) كتاب العبر ، وديوان المبدأ والخبر ، في أيام العرب والعجم والبربر ، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر/ للعلامة عبد الرحمن بن محمد بن خلدون / دار الجيل / بيروت / ص603.
([5]) المزهر فى علوم اللغة وأنواعها / للعلامة عبد الرحمن جلال الدين السيوطى / شرح وضبط وتعليق محمد أحمد جاد المولى وآخرون / دار الفكر العربي للطباعة والنشر والتوزيع / ج2 / ص396 ، وكنز العمال / ج1 ( حديث رفم 2809).
([12]) أبو الحُر: كنية والده مالك ، وهو أبو القلوص الحُصين بن أبي الحُر مالك بن الخشاش التميمي العنبري البصري ، كان عاملا لعمر على ميسان .
([16]) صبح الأعشى في صناعة الإنشا أحمد بن علي القلقشندي / شرح وتعليق محمد حسين شمس الدين / دار الفكر / بيروت لبنان / ط1 / ج1 / 1987م / ص506.
[22])) أبو سليمان أيوب بن زيد بن قيس بن زرارة ، المعروف بابن القرية الهلالي ، والقرية جدته ، كان أعرابياً أُمياً ، وهو معدود من جملة خطباء العرب المشهورين بالفصاحة والبلاغة ، قتله الحجاج سنة (84هـ) وندم على ذلك ، ( وفيات الأعيلن 1 / 254).