المقدمة:
الحمد لله الذي شرفني بدراسة لغة القرآن ، وأنعم عليّ بتدبر كلامه العظيم. والصلاة والسلام على سيد الأنام محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه الأبرار المنتجبين وسلّم تسليماً كثيراً وبعدُ..
ففي نظام اللغة العربية مرونة كبيرة لكونه يتفرع الى أنظمة عدّه كلها تؤسس على المشايهة[1] ، ويمكن أن يحصل أكثر من حمل في التركيب الواحد او يمكن تفسير ظاهرة العدول عن الظاهر والأصل أكثر من تفسير كاختلافهم في اجتماع ظاهرتي تناوب حروف الجر والتضمين في التركيب اللغوي ، ونسب الخلاف الى البصريين والكوفيين في هذه المسألة على الرغم من أنهما ظاهرة واحدة لكنهم اختلفوا في تفسيرها بين التناوب والتضمين.
وكلا الظاهرتين باب واسع في العربية تشمل ظواهر لغوية عديدة وتدلان على سعة اللغة العربية ومرونة نظامها القائم على الترابط والمشابهة وتعلق الكلم بعضه برقاب بعض، ويفسّران كثيراً من ظواهر العدول والأساليب ، وبعضه خفي يشترط أعمال الفكر والتأمل يحوي أسرارا بيانية ومعاني ثانية دقيقة. وقد اختلف تفسيرهما بين البلاغيين والنحاة.
ظاهرة الحمــل في العربية :
أوسع ظاهرة للعدول عن معايير النحو في النص القرآني وأوضحها ظاهرة حمل اللغة العربية بعضها على بعض: بنيةً وتركيباً ودلالةً وإعرابا ووظيفةً نحوية. وإلحاق بعضها ببعض وإعطاؤه حكم بعضها لبعض ودلالته او بنيته أو إعرابه وغير ذلك. وهي ظاهرة تدل على نظام اللغة العربية الذي يؤسس على المشابهة وتعلق بعضها برقاب بعض ورجوعها الى اصول واحدة ، يُفسّر في ضوئه جلّ أنواع العدول في النصّ القرآني.
والحمل باب واسع ، تندرج تحته فروع كثيرة: كالحمل على المعنى والحمل على اللفظ والحمل على الموضع وعلى الإعراب ، والعطف على المعنى والعطف على التوهم والحمل على النظير وعلى النقيض. ويضم كذلك باب النقل والمطابقة بأنواعه ، ووما عرف ب:خطابات القرآن ، وما سمّوه بالتناسب والمشاكلة في اللفظ والمعنى ، والتضمين والتناوب وغيرها من أنواع العدول الكثيرة في اللغة العربية.
قال ابن جني: "اعلم انّ هذا الشرْج غور من العربية بعيد ، ومذهب- فسيح قد ورد به القرآن (الكريم) وفصيح الكلام منثوراً ومنظوماً كتأنيث المذكر وتذكير المؤنث وتصوير معنى الواحد في الجماعة ، والجماعة في معنى الواحد"([2]).
وقال: "وقد رأيت من هذا النحو في هذه اللغة أكثر من ألف موضع ، نعم ، ولعلّ الاستقراء وسَّعهُ أضعاف ذلك"([3]). وقال: "وجدت في اللغة من هذا الفن شيئاً كثيراً ، لايكاد يُحاط به ، ولعله لو جُمع أكثرهُ لا جميعه لجاءَ كتاباً ضخماً"([4]).
والى مثل هذا أشار كثير من النحاة ، بأنه "أكثر من ان يُحصى"([5]).
وعلى هذا ليس من اليسير إدراك جميع أشكاله وفرزه عن الخلط في دراسته والانحراف بدراسته عن نظام اللغة العربية، وكثرة الاصطلاحات التي تدل عليه ، وتناوله في أبواب نحوية عديدة ومستويات لغوية مختلفة: الشواذ ، القراءات ، الضرورات ، اللحن ، المجاز. وفي ضوء الأصل المفترض الذي بنوا عليه مناهجهم في الدراسات اللغوية والنحوية والبلاغية ، فقالوا: الأصل: أن يحمل على اللفظ ، وهو الأقوى والأكثر والأفصح ، ولجأوا الى التأويل فيه حفاظاً على اصل المعنى ومخالفة ظاهر اللفظ معناه وخروج الكلام على مقتضى الظاهر([6]).
الأصل في الكلام أن يكون محمولاً على اللفظ وهو الكثير الجاري في لغة العرب وفيه تحصل المطابقة من حيث الإعراب والإفراد والتثنية والجمع والتأنيث والتذكير وغير ذلك. والحمل على اللفظ أولى لتطابق اللفظين وتساوى معنييهما لأن العرب تختار مطابقة الألفاظ وتحرص عليها كما إنّ اللفظ أقوى لظهوره في الكلام"([7]).
الأصل في الكلام أن يكون محمولاً على اللفظ وهو الكثير الجاري في لغة العرب وفيه تحصل المطابقة من حيث الإعراب والإفراد والتثنية والجمع والتأنيث والتذكير وغير ذلك. والحمل على اللفظ أولى لتطابق اللفظين وتساوى معنييهما لأن العرب تختار مطابقة الألفاظ وتحرص عليها كما إنّ اللفظ أقوى لظهوره في الكلام"([8]).
وفي ضوء نظام اللغة العربية يختلف تناول هذه الظاهرة اللغوية ولا حاجة للقول بالأصل والمطابقة العقلية ، ذلك ان نظام العربية مبني على حمل الكلام بعضه على بعض في مستوياتها المختلفة النحوية والصرفية والبلاغية ، لذلك صنفه الدكتور على العنبكي على صنفين ما يتصل منه بالقياس النحوي ، وما يتصل بالأساليب وهو ما نعني به في هذا البحث.
إنّ النظرة الكلية لظواهر اللغة في ضوء نظامها ، منهج علمي رصين ينبغي الالتزام به. فالحمل إما أن يكون على دلالة البنية او شكلها ، او على المعنى الوظيفي النحوي او العمل النحوي ، او الإعراب وغير ذلك مما أطلقوا عليه تسميات مختلفة. وكلها مشروطة بسعة المعنى، أو إضافة معنىً ثاني ، او تقوية المعنى الأول وتأكيده او جعله معنىً مؤثراً.
تناوب حروف الجر:
يرى النحاة ان لكل حرف معنى اصلياً كالباء للإلصاق وعلى للاستعلاء و (من) للابتداء ، و (الى) للانتهاء و (عن) للمجاوزة والكاف للتشبيه.
وهي معانٍ لا تفارقها وقد تصحبها معانٍ آخر او تنوب عنها وتؤول اليها عن المعاني الأصلية([9]) وتقع موقعها كالباء تقع موقع (في) كقوله تعالى:
) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( (آل عمران:123) .
وموقع (عن) كقوله تعالى: ) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً ( (الفرقان:59) ، أو (على) أو (من) أو (الى) وهكذا([10]) كما في قوله تعالى: ) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى ( (طـه:71) ، يرى الكوفيون أنها بمعنى على وفيه خلاف([11]).
و ) سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ( (المعارج:1) ، قالوا الباء بمعنى عن وفيه خلافات في التفسير والتأويل وتوجيه الإعراب وأراء مضطربة في كون هذه المعاني أصلية وفرعية او الأصل والعدول عنه وتناوب معاني الحروف بعضها عن بعض وأكثرها تأويلات وخلافات في التفسير والتقدير.
وباب النيابة النحوية واسع ذكره النحاة في أبواب نحوية كثيرة ، ومنه تناوب حروف الجر بعضها عن بعض. نتناوله في ضوء النظام الاسلوبي البياني أو الدلالي أو العدول الذي يدل على معنى دقيق ثان ، والفارق كبير بين تناول النحاة المعياري المنطقي للتناوب وبين التناول البلاغي الاسلوبي الذي يرى أن حرف الجر لا معنى له أصلا بذاته إنما يتحدد من السياق الذي يرد فيه.
لذلك قالوا في تناوب حروف الجر بعضها عن بعض: "يُمسك النحاة منه بطرف ، وأهل البيان بطرف ، لأنه باب يسلط فيه النظر على المبنى والمعنى وللعلماء فيه مذاهب شتّى وتأويلات مختلفة"([12]).
التضمين:
هو "إشراب لفظ معنى لفظ آخر"([13]) ، فالعرب "من شأنهم أنهم يضمنون الفعل معنى فعل آخر فيجرونه مجراه ويستعملونه استعماله مع إرادة معنى التضمين"([14]) وعرّفه الدكتور محمد حسن عواد بأنه توسّع "في استعمال لفظ توسعاً يجعله مؤدياً معنى لفظ آخر مناسب له فيعطي الأول حكم الثاني في التعدي واللزوم"([15]).
وله صلة بتعدي الفعل ولزومه والحقيقة والمجاز ، وتأويل الشواهد بحسب قواعد التعدي واللزوم نحو قولهم في قوله تعالى: ) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ( (الصافات:8) ، قالوا عداه بـ (إلى) لتضمن (يسّمعون) معنى الإصغاء([16]). وفي قوله تعالى: ) ) سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ( (المعارج:1) أي دعا بعذاب([17]).
وذكر الزركشي تحته أوضاعاً مختلفة متوسعاً فيه كوضع النداء موضع التعجب أو تضمين معناه. وجمع القلة موضع الكثرة ، والتذكير موضع التأنيث ووضع الفعل الماضي موضع الفعل المستقبل وعكسه وظواهر أخرى بيانية وبديعية وصوتيه وغيرها([18]).
وذكر السيوطي له أقساماً كتضمين الفعل الاسم والاسم الحرف وغير ذلك وفسّر في ضوئه ظواهر نحوية نحو بناء (أمس) على الكسر لتضمنه معنى لام التعريف([19]).
الحمل المزدوج من التناوب والتضمين:
تناول النحاة المتأخرون هذا الموضوع ضمن المسائل النحوية الخلافية بين البصريين والكوفيين، إذ نسب الى البصريين وتبعهم كثير من المعاصرين القول بتضمين الفعل معنى فعل آخر، خلافاً للكوفيين الذين يرون تعدد معاني الحروف لذا اقروا بالتناوب بينها ، ومنع ذلك البصريون ذلك ان للحرف معنى واحداً ومذهبهم "إبقاء الحرف على موضعه الأول أما بتأويل او تضمين يقبله اللفظ ، او تضمين الفعل معنى فعل آخر يتعدى بذلك الحرف ، وما لا يمكن فيه ذلك فهو من وضع احد الحرفين موضع الآخر على سبيل الشذوذ. فكلاهما حمل على المعنى ، لان التجوز في الفعل أسهل لديهم منه في الحرف([20]).
فالبصريون لا يجيزون وقوع بعض حروف الجر موقع بعضها الآخر ، والكوفيون يجيزون ذلك تأدية حقيقة لا مجازية. وهذا من باب الاشتراك اللفظي – لديهم - وقد أيدهم الاستاذ عباس حسن لنأي هذا الرأي عن الالتجاء الى التأويل والمجاز في منهجه النحوي ([21]). وأكثر المعاصرين وافقوا البصريين لعدم استكمال أدلة التناوب "انما هي مسألة معجمية تندرج في بحث دلالات الألفاظ على وجه مباين للوجه او الوجوه التي رسمها السلف" ونسبوا البحث عن دلالات معاني الحروف لعمل اللغوي وهو قول غير دقيق([22]).
وعلى هذا فالموضوعان ظاهرة اسلوبية واحدة إلا أنهم اختلفوا في تفسيرها وتوجيهها وفي اصطلاحها. وعلى الرغم من ذلك فان كتب النحو والبلاغة أقرّت بهما وعقدت لهما بابين مختلفين.
وليس الأمر مجرد مشابهة كما في منهج النحاة وفهم بعض المعاصرين لها فقد قام الدكتور محمد حسن عواد بتجربة فوضع حرفاً مكان آخر فتوصل الى كسر ذلك وإن سلم فباختلاف المعنى: قال:
"إن الحرف لا يقع موقع غيره من الحروف إلا إذا أردنا معنى ذلك الحرف الأخير ، و إلا صار الأمر ضرباً من العجمة وعدم البيان وفوضى التعبير([23]). وهذه التجربة تجري على التضمين أيضاً إذ يتناوب فعلان المواقع او يشربان بعضهما معنى الآخر ، ناهيك عن ان البلاغيين أجازوا ذلك من باب استعارة حرف معنى حرف آخر([24]).
فالمسالة بيانية فنية إبداعية خاصة بالنص والسياق ، لها صلة بالمعنى والمقام او الحال وليست شكلية لذلك قالوا ان السياق يحدد معنى اللفظ ، ذلك انه يحمل الى معانٍ عديدة بسبب نظام العربية ومرونته.
قال ابن جني في "باب في استعمال الحروف بعضها مكان بعض": "هذا باب يتلقاه الناس مغسولاً ساذجاً من الصنعة وما أبعد الصواب عنه وأوقفه دونه"([25])، أي انه باب عارٍ من الدقة لتفاهته يستحق الغسل ، ذلك أنهم يقولون إن (الى) تكون بمعنى (مع) و (في) بمعنى (على) ويحتجون بقوله تعالى: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ( (الصف: 14) و ) فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى ( (طـه: الآية71) قال ابن جني: "ولسنا ندفع ان يكون ذلك كما قالوا لكنا نقول انه يكون بمعناه في موضع دون موضع ، على حسب الأحوال الداعية إليه والمسوغة له" وقال "واعلم إن الفعل إذا كان بمعنى فعل آخر وكان احدهما يتعدى بحرف ، والآخر بآخر فان العرب قد تتسع فتوقع أحد الحرفين موقع صاحبه إيذاناً بأن هذا النحل في معنى ذلك (الفعل).. كقوله تعالى: ) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ)(البقرة: 187) ، والأصل رفث بها أو منها لأن الرفث بمعنى الإفضاء الذي يتعدى بالى..."([26]).
ويرى د. محمد حسن عواد "إن مسألة التضمين لا أساس لها ، لأنه لا دليل عليها ، ولا حجة لأصحابها ، واحسب إن ما اندرج تحتها من شواهد يؤول الى جهة من جهتين: أما أن تكون هذه الشواهد مقحمة في باب التضمين إقحاماً ، وأما أن تندرج تحت مبحث دلالات الألفاظ..."([27])
وتناول شواهدها ثم خلص الى أن النيابة ترجع الى التركيب لا الحروف ، والتضمين يرجع الى مبحث دلالات الألفاظ ، سببه قولهم بالاصالة والفرعية للألفاظ وهذا يشترط معرفة الأقدم في نشأة الألفاظ([28])، وردّ الشواهد معتمداً على التأويل كالقدامى ، كما في قوله تعالى: ) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً((الانسان:6) ، و ) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ( (المطففين:28) ، قال: وهم إنما عمدوا الى هذا فراراً من وقوع الباء موقع (من). وان (شرب الماء) معناه: (جرع الماء. وان شرب من الأضداد ، فإذا كان بمعنى جرع فهو متعدٍ وإذا كان بمعنى (روي) فهو لازم.([29]).
فهو يرد قولهم بالتضمين وبالتناوب كلاهما ، لأنهم يقولون بالاصالة والفرعية وأصل الفعل اللزوم ، والتعدي فرع عليه ، وأصل التعدي بحرف وهذا ما يعبرون عنه بالحمل على النقيض وعلى النظير([30]). ويرى شواهدهم من الترادف والاشتراك اللفظي ، وردّ القول بالتضمين لأننا لا نعرف الأقدم والأصل في الألفاظ ودعا الى وضع معجم تاريخي بحسب أزمنة الألفاظ وعلاقة ذلك بالمجاز او وروده في عصر الاحتجاج ، وحمل على النحاة ومنهجهم المنطقي في ذلك([31]).
كزعمهم في قوله تعالى: ) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) (النمل:72) ، إن ردفاً متعد في الأصل ولكنه تضمن معنى اللزوم ، ويجوز أراد ردفكم فزاد اللام ويجوز أن ردفاً مما يتعدى بحرف جر وبغير حرف جر او يكون قرب لكم ، وقال الفراء: دنا لكم([32]).
وعدّ الدكتور ابراهيم السامرائي التضمين من نتائج تأثر النحو بالمنطق السلبي إذ أظهر قواعد وأحكاماً لم تكن وليدة الاستقراء ، لذلك صادفوا ما يخالفها فلجأوا الى التأويل والتقدير([33]). قال في قوله تعالى: ) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً ( (الانسان:6) ، "المعنى يشرب منها ، لا عبرة لما قيل بـ (التضمين) أي: إن الباء تضمنت معنى (من) وذلك لان كلام الله جرى على لغة العرب ، والعرب قد تصرّفت بلغتها تصرفاً واسعاً. ولله حكمة بالغة في وضع كلامه على هيئة لم يدركها البشر"([34]).
والحق أن نظام اللغة العربية يفسر لنا هذه الظاهرة تفسيراً واضحاً من غير افتراضات وتمحل وتأويل ، كما مرّ بنا ، فالتضمين اتساع في المعنى ، وهو اسلوب مرتبط بالذوق يلجأ إليه لغرض بلاغي مع تحقق المناسبة بين الفعلين ووجود قرينة يؤمن عليها اللبس كما ذهب مجمع اللغة المصري ([35]) ، فقد اختلف النحاة في الباء في ( يشرب بها ) بين الاصالة والزيادة. أما الأصالة فعلى خلافٍ أيضاً ، إما على معنى الإلصاق او تضمين معنى ( يروي بها وينقع ويلتذ ) او بمعنى (من)، او متعلقة ومجرورها بحال تقديره: يشرب ممزوجة بها ، وأما ان الضمير للكأس والمعنى: يشربون بتلك الكأس وغير ذلك من الخلافات والآراء الكثيرة([36]).
وقد أثبت (تعالى) الياء بعد إجماله ما أعدّه للكافرين من سلاسل وأغلال وسعير. وفي ذلك ملمح اسلوبي يمكن استنباط دلالة ثانية دقيقة (متحركة) بحسب أذواق المفسرين والبلاغيين من خلال العدول عن اقيسة النحاة في مجيء الباء.
---------------------------
الهوامش والمصادر:
[2](1) الخصائص 2/311 ، 138 ، 372، 413 وسر صناعة الاعراب 1/13 والتنبيه 1/340 والمحتسب 1/145.
(29) معاني الفراء 3/ 215 وتأويل مشكل القرآن 48 والكشاف 1164، والمفردات للراغب 77 والتفسير الكبير 30/ 241،وشرح الرضي 4/281 ، والبحر المحيط 8/ 515 وحاشية الشهاب 8/ 288 ، وتفسير ابي السعود 9/ 381 ، والتحرير والتنوير 29/ 381.
------------------
أ . د. حسن منديل العكيلي - كلية التربية للبنات – جامعة بغداد