تدهور اللغة العربية.. انحطاط لنا جميعًا - جلال أمين

عندما وجدت صفحة كاملة فى الجريدة اليومية شبه الرسمية، مخصصة لإعلان شركة من شركات التليفونات والاتصالات وفيها الإعلان التالى: «اتكلم زى ما انت عايز»، شعرت بغضب شديد، وكأن أحدا وجه إلىَّ إهانة شخصية كما شعرت بمرارة إذ ذكرنى الإعلان بما أصبحت أراه يوميا من استهتار باللغة العربية.

ما أكثر ما أصبحت أصادفه من أمثلة لإدخال حرف الباء على الأفعال، إذ يكتب الفعل (بنشرب) بدلا من (نشرب)، واستخدام الهاء أو الحاء بدلا من حرف السين للتعبير عن المستقبل، أى (حانشرب) أو (هانشرب) بدلا من (سنشرب) أو (سوف نشرب).. وهكذا.
المدهش أن صحفاً أحبها وأحترمها (فيما عدا هذا السلوك منها) تنشر مثل هذا الكلام، وأشخاصا أحبهم وأحترمهم يكتبونه أيضاً ــ بل وأحيانا يكتبون عموداً كاملاً وثابتاً فى صحيفتهم ويستخدمون فيه العامية على هذا النحو. ناهيك عن ازدياد عدد الكتب التى تكتب كلها بالعامية، وكذلك العناوين التى توضع على الغلاف.
كنت ولا أزال كلما صادفت هذه الأمثلة المتزايدة لاستخدام التعبيرات العامية فى الكتابة بدلاً من الفصحى، أحاول أن أعرف سر غضبى وسبب هذا الشعور بالمرارة. وسأحاول هنا مرة أخرى الوصول إلى إجابة.
أعرف التفسير الشائع الذى يقوم على عدم قدرة العرب، من غير المصريين، على فهم لغتنا العامية بسهولة، وعلى الأخص فى القراءة، ومن ثم القول بأن الكتابة بالعامية تضيق من جمهور القراء وقد تساهم فى تفريق العرب بدلاً من تجميعهم. ولكنى أعترف بأن هذا التفسير لم يشفِ غليلى قط، إذ أحسّ دائماً بأن هناك أسباباً أهمّ من هذا بكثير لكراهية استخدام العامية فى الكتابة.
فهذا التفسير يقوم على مجرد «الكم»، أى عدد القراء، بينما أشعر أن الخطيئة هنا تتعلق بشيء أعمق من هذا، وأنه يمسّ المصريين مثلما يمسّ سائر العرب راجعاً إلى دافع سياسى (الرغبة فى توحيد العرب) وهو دافع قد يهمّ بعض الناس ولا يهمّ غيرهم، بينما أعتقد أن الإساءة إلى اللغة العربية، على هذا النحو ترجع إلى أسباب يجب أن تهمّ الجميع.
تذكرت، وأنا أحاول البحث عن تفسير، الحادثة التالية التى وقعت منذ نحو ستين عاما، فعندما قامت ثورة يوليو 1952، كنت وبعض إخوتى لم نبلغ العشرين بعد، وكان أبي قد تجاوز الخامسة والستين. كان من الطبيعى أن يكون حماسنا للثورة، نحن الشبان الصغار، أكبر بكثير من حماس أبي، الذى لا بدّ أن صادف فى حياته أمثلة عديدة لأحداث علق عليها آمالاً كبيرة ثم خاب أمله فيها، فتعلم ألا يتحمس أكثر من اللازم لحادث سعيد مثل قيام الثورة. ثم رأيناه بعد أيام قليلة من قيام الثورة يعبر عن غضبه وسخطه عندما سمع أحد قواد الثورة يلقي خطبة فيرتكب أخطاء شنيعة فى النحو: كنصب الفاعل ورفع المفعول به.. إلخ. تذكرت هذا لأن غضب أبي لا بد أن كان لنفس أسباب غضبي من الاعتداءات المتكررة اليوم على اللغة العربية. فما سرّ غضب أبي إلى هذه الدرجة؟
وصلت إلى النتيجة الآتية: أن ما يحدث للغة العربية الآن له علاقة وثيقة بالانحطاط الحضارى. إنه فى حدّ ذاته مظهر واضح تمام الوضوع لتدهورنا فى مسار التحضر أو الانحطاط. إذ ما الذى يعنيه التحضر بالضبط؟ قد يعني أشياء كثيرة ولكن أليس من سمات التحضر، المراعاة الصارمة لبعض القواعد الجمالية أو الأخلاقية التى اتفق عليها الناس، (أو على الأقلّ اتفق عليها الأشخاص الأكثر رقيا وتهذيباً من الآخرين)؟ قد تكون هذه القواعد شكلية بحتة (أو قد تبدو كذلك)، ومع ذلك يصرّ هؤلاء عليها، ويعلقون أهمية بالغة على مراعاتها. إذ ما الفرق بالضبط بين التناول «المتحضر» للطعام، والتناول «المبتذل» له؟ الاثنان يؤديان نفس الغرض (أو هكذا يبدو الأمر)، وهو ملء المعدة وإشباع حاجة ضرورية، ولكن لماذا نعتبر بعض طرق تناول الطعام أكثر «تحضرا» من غيرها، فنتطلب عدم الاستعجال فى الأكل، ومراعاة عدم سقوط بعضه على الثياب، ومراعاة الآخرين الذين يتناولون الطعام معك، وقد يصرّ البعض على استخدام الشوكة والمعلقة والسكين بدلاً من استخدام اليد المجردة، بينما قد يعتبر آخرون هذا من قبيل «الشكليات» غير المهمة؟
إن التمسك «بالشكل» كثيراً ما يكون أمراً جوهرياً، فهو قد يضفي جمالاً على بعض أنواع السلوك، نفتقده إذا خلا السلوك منه، وقد ينطوي على ضبط للنفس فلا يبدو الإنسان كالحيوان المتوحش الذى لا همّ له إلا إشباع حاجاته بأسرع وأسهل طريقة ممكنة. كما أن هذا التمسك بالشكل قد يمنع الناس من الإفراط فى «التحرر»، حيث يتصرف كل منهم على هواه إلى حدّ أن ينفرط العقد، وتضعف الروابط بين الناس، إذ يصبح كل شيء ممكناً، وكل طريقة في التعبير جائزة، فيصبح من المباح أن تعبر عن المستقبل بالسين أو بالحاء أو بالهاء، وأن تعبر عن الرغبة فأن تقول إنك «تريد» أو «عاوز» أو «عايز».. الخ.
إن التحضر قد لا يزيد على مراعاة بعض «الأشكال« و«المراسم» و«الطقوس» و«القواعد»، والانحطاط لا بد أن يصحبه رفض التقيد بأي قاعدة، بما في ذلك قواعد التعبير عن النفس بالكلام أو الكتابة.
قلت لنفسي «لا بد أن هذا هو جزء من تفسير ما قرأته مرة من أن هارون الرشيد، فى قمة ازدهار الحضارة العربية والإسلامية، كان يجعل ولديه، الأمين والمأمون، ينحنيان أمام المدرس الذى جاء لتعليمهما النحو، فيساعدانه على وضع قدميه في نعليه».
--------------
الشروق الجديد :
http://www.shorouknews.com/Columns/column.aspx?id=203720

สินค้าออกกำลังกายผู้หญิง คุณภาพ ราคาพิเศษ

التصنيف الرئيسي: 
التصنيف الفرعي: 
شارك: