لحْن القول بين اللغة والسياسة - د . عبد السلام حامد (*)
المشهور في مجال الدرس اللغوي قديماً وحديثاً عن "اللحن" أنه يتصل بقضية الصواب والخطأ في اللغة و"قل لا تقل" ، وإن كان مصطلح "الخطأ" صار هو السائد بدلاً منه . وهذا معناه أن "اللحن" يطلق على الخطأ في الإعراب وبنية الكلمات واستعمال معاني الكلمات المفردة ، أي الصرف والنحو واللغة بصفة عامة .
ومن الأمثلة القديمة المأثورة في هذا " أن عمر ـ رضي الله عنه ـ مرّ على قوم يسيئون الرمي فقرّعهم ، فقالوا : إنّا قومٌ متعلمين (هكذا بالياء وحقه الرفع بالواو) فأعرض عنهم وقال : واللهِ لخطؤكم في لسانكم أشدّ عليّ من خطئكم في رميكم ، سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : رحم الله امرأً أصلح من لسانه " . وكذلك ما رُوِيَ من أن أحد ولاة عمر أيضاً ـ رضي الله عنه ـ كتب إليه كتاباً (أي رسالة) لحن فيه، فكتب إليه عمر : أنْ قنِّعْ (أي اضربْ) كاتبك سوطاً. ورُوِيَ من حديث علي ـ رضي الله عنه ـ مع الأعرابي الذي أقرأه المقرئ قوله تعالى : " أن الله بريءٌ من المشركين ورسولِه " [ التوبة : 3] بجر "رسوله" حتى قال الأعرابيّ : أوَ قد برئ الله من رسوله ! فإن يكن الله برئ من رسوله فأنا أبرأ منه ! فأنكر عليّ عليه السلام ذلك، وأوعز إلى أبي الأسود فكرة وضع النحو ورسم له حدوده الأولى كما يقال ([1]).
- ومما يذكره القدماء لهذا أيضاً هذه الأمثلة :
أ ـ (غلْق) لحن صوابه (إغلاق) .
ب ـ (اختفيتُ من فلان) لحن صوابه (استخفيتُ منه) على حد ما ورد في القرآن الكريم؛ لأن الاختفاء : الاستخراج.
ج ـ (ذو نفع وضُرّ) بضم الضاد، ذكر الزبيدي أن الصواب : (ضَرّ) بالفتح، أما (الضُّر) بالضم فهو السُّقم، قال تعالى : " وإن يمسسك اللهُ بضُر فلا كاشف له إلا هو " [ الأنعام : 17] وقال أيضاً : " يدعو لَمن ضَره أقرب من نفعه " [ الحج : 13] .
د ـ قول المتكلمين (هذه المحسوسات) خطأ صوابه (المُحَسّات) ؛ بناءً على أن الفعل المناسب لهذا هو : أحسستُ الشيء بمعنى أدركته، فأما المحسوس فهو المقتول، من (حسّه) بمعنى قتله.
هـ ـ يقال : هذه مروحة ومخدة ومغرفة ومطرقة ومبرد ومنديل، بفتح الميم ، والصواب كسرها([2]).
- ومن الأمثلة الحديثة للحن والخطأ ـ وهنا حدث ولا حرج ـ هذه الأمثلة :
يقال : آذان العصر، والصواب (أذان) ؛ لأن (الآذان) جمع (أذُن) .
ويقال : سوف لن يحضر، والصواب (لن يحضر).
ويقال : لا يميز بين الغث والثمين، والصواب (السمين)؛ لأن المقصود هنا المقابلة بين "الغث" ـ وهو الهزيل النحيل ـ و"السمين" ، لا بين الرخيص و"الثمين" بمعنى الغالي الثمن .
ويقال : كادت نقوده تنفذ ، بالذال المعجمة، والصواب (تنفَد) بالدال المهملة؛ لأن المراد هنا معنى (الانتهاء) لا(الاختراق) .
ويقال: لم يبق إلا النذر اليسير، والصواب (النزر) بالزاي المعجمة بمعنى القليل التافه. وأما "النذر" فهو ما يقدم في العبادة مصداقاً لقوله تعالى : "يوفون بالنذر" [الإنسان : 7] .
ويقال : ساهم في الندوة، والصواب (أسهم) . والمصدر المناسب لذلك هو (الإسهام) .
ويقال : الإسم، والصواب (الاسم)؛ لأن الهمزة هنا همزة وصل .
وسمعت قريباً إحدى المذيعات تسأل محاورها فتقول : كيف استدلّيْتُم على هذا؟ (وكأنها جعلت الرجل يتدلّى بدلاً من أن يستدلّ !) والصواب : (استدْلَلْتُم).
ومن هذا القبيل أيضاً قول رئيس دولة في خطابه ذات مرة : إن هذه "المَقْوَلَة" (بسكون القاف وفتح الواو) غير صحيحة ! والصواب : مقُولة (بضم القاف وجعل الواو مدّاً) .
ويتعلق بهذا المفهوم العام للحن معناه عند القرّاء وفي علم القراءة ؛ إذ إنه عندهم نوعان : جليّ وخفيّ ، والجليّ هو الخطأ الذي يغير اللفظ ويخل بالمعنى والإعراب كرفع المجرور أو نصبه ، والخفيّ منه خطأ يعرض للفظ ولا يخل بالإعراب والمعنى كترك الإخفاء والإقلاب والغُنّة ([3]).
- إننا يمكن أن نلخص النظرة العامة للحن بالمعنى السابق في عدة أمور :
أ ـ أن اللحن في الاستعمال العام للغة بمعنى الخطأ في حروف الكلمة أو بنيتها أو الخطأ في الإعراب والنحو أمر مرفوض قطعاً؛ لأنه خروج عن أصول اللغة وقواعدها وشذوذ في التعامل معها. وقد عبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنه بالضلال في قوله عندما سمع رجلاً يلحن في كلامه : " أرشدوا أخاكم فإنه قد ضل " ([4]). وكان مما قيل : " اللحن في المنطق كالجدري في الوجه" . ولأجل هذا روي عن عبد الملك بن مروان قوله : " شيبني ارتقاء المنبر وخشية اللحن "، ولأجل هذا أيضاً كان خلو التعبير منه موضع افتخار واعتزاز؛ رُويَ عن الأصمعي قوله : " أربعة لم يلحنوا في جد ولا هزل : الشعبيّ وعبد الملك بن مروان والحجاج بن يوسف وابن القرية، والحجاج أفصحهم " .
ب ـ ما سوى الضابط السابق مما يصنف أحياناً على أنه لحن، ينبغي التعامل معه بتمهل والنظر إليه على أنه درجات ومستويات؛ فقد يكون راجعاً إلى تطور معاني الكلمات المفردة أو تطور مقبول في الأساليب. وبناءً على هذا يجب أن يكون الحكم بالخطأ أو الصواب مقصوراً على أهل العلم والاختصاص ، وألا يكون صادراً عن عجلة وتسرع وعدم ثبت؛ حتى لا نقع في مثل ما وقع فيه اللغوي الكبير أبو عمرو بن العلاء عندما أنشده رجل من أهل المدينة قول ابن قيس الرُّقيّات في رثاء من مات من أهله في وقعة الحرة بالمدينة :
إنّ الحوادثَ بالمديـنة قد أوجعنني وقرعنَ مَرْوَتِيَهْ
" فانتهره أبو عمرو قائلاً : ما لنا ولهذا الشعر الرخو ! إن هذه الهاء لم توجد في شيء من الكلام إلا أرخته. فقال المديني : قاتلك الله ! ما أجهلك بكلام العرب! قال الله ـ عز وجل في كتابه ـ " ما أغنى عني ماليهْ . هلك عني سلطانيهْ " وقال : " يا ليتني لم أُوتَ كتابيهْ . ولم أدرِ ما حسابيهْ " فانكسر أبو عمر انكساراً شديداً " ([5]).
ج ـ الشعر له لغته الخاصة يجوز فيه ما لا يجوز في النثر ، فبعض ما يكون خطأً في النثر والاستعمال العادي يكون مقبولاً في الشعر كقصر الممدود (مثل تحويل "سماء" إلى "سما") ومد المقصور (مثل تحويل "رضا" إلى "رضاء") وصرف الممنوع من الصرف وقطع همزة الوصل كما في قول الشاعر :
إذا جاوز الإثنيـنِ سرٌّ فإنّهُ بنشرٍِّ وإفشاءِ الوشاةِ قمينُ
وكذلك لا يدخل في باب اللحن ما رُويَ عن العرب من التخطئة في مجال معاني الشعر والمفاضلة بينها وغمز بعضهم لبعض في هذا.
- · وإذ قد اتضح المعنى الاصطلاحي المشهور للحن، يجب الإشارة إلى أن هناك معاني واستعمالات أخرى له ، منها :
1 ـ الغناء وترجيع الصوت والتطريب ، وشاهده قول يزيد بن النعمان :
لقد تركتْ فؤادَكَ مُستجَنّاً مطوقةٌ على فننٍ تَغنّى
يَميل بها وتَركبه بلحنٍ إذا ما عنّ للمحزون أنّا
فلا يَحزُنْك أيامٌ تولّى تَذَكُرُّها ولا طيرٌ أَرَنّـا
وهذا المعنى يذكّرنا بكتاب الأغاني لأبي الفرج وموضوعه ومصطلحاته وشعره الذي غُنّيََ ولُحّن.
2 ـ الفطنة والقدرة على الاحتجاج وتصريف الكلام ، وشاهد هذا المعنى الحديث الذي رواه البخاري في كتاب الحِيَل عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وأقضي له على نحو ما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذ ، فإنما أقطع له قطعة من نار " ([6]) .
3 ـ التظرف في الحديث بخلطه بالكلام الأجنبي أو تعمد الخطأ فيه ، ومن هذا المعنى قول مالك الفزاري :
منطقٌ صائبٌ وتَلحنُ أحياناً وخيرُ الحديثِ ما كان لحنا
4 ـ التورية والتعريض والإيماء ، وهو ما فهمه عنك صاحبك وخفي على غيرك ، ومن هذا قول القائل :
ولقد لحنتُ لكمْ لكيْلا تفهموا ولَحنتُ لحناً ليس بالمرتابِ
وأمثلة هذا المعنى وشواهده جمعها اللغويون القدماء في باب خاص به سموه "الملاحن"وهو وثيق الصلة بالألغاز وما يشبهها ([7]).
5 ـ معنى الكلام وفحواه ومقصده كما في قوله تعالى : " ولو نشاء لأريناكهم فلَعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم " [سورة محمد : 30] .
إن هذا المعنى الأخير غير المشهور للحن يجب أن نتوقف عنده لأهميته . والمثال المذكور له يعد الموضع الوحيد في القرآن للفظ "اللحن" بل لمادته كلها ، وهو موضع جاء في سياق الحديث عن المنافقين ، وفيه إخبار بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيعرفهم بفحوى كلامهم ومعناه وقرائنه ، فهذه كلها تدل على أنهم يقولون غير الصواب وغير الحقيقة ، وما غيرهما إلا الكذب والزيف والبهتان والزور ، قال عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ : "ما أسرّ أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه" وفي الحديث : "ما أسر أحد سريرة إلا كساه الله جلبابها ، إن خيراً فخير وإن شراً فشر" ([8]).
إن من مفارقات هذا المعنى للحن ومن طريف أمره مع غيره من المعاني الأخرى أن شواهدها (باستثناء اللحن بمعنى الخطأ وبمعنى التورية) قليلة وتكاد تكون محفوظة ، وأن "لحن القول" ـ وهو لم يرد في القرآن إلا مرة واحدة ـ إذا هممتَ أن تلتمس له مثالاً عملياً مجسداً من القرآن نفسه ، وجدتَ له الأمثلة والشواهد تتسابق وتتزاحم واحداً بعد الآخر فرادى وجماعات . وهذه بعض منها تصور لحن القول وتجسده بجلاء ووضوح ، وهي كلها عن المنافقين من هذه الجهة فقط ، أي جهة قولهم كما يبدو من تتبع فعل القول وما يشبهه فيها :
- § من أمثلة "لحن القول" في العقيدة :
أ ـ "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ... وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ . وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ . وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ . "[البقرة : 8 ـ 14] .
ب ـ "إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون" [المنافقون:1].
- § من أمثلة "لحن القول" في مواقف الجهاد والحرب :
أ ـ "إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غرّ هؤلاء دينُهم ..." [الأنفال : 49] .
ب ـ "لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون ... إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ... لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سمّاعون لهم والله عليم بالظالمين ... وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [التوبة : 42 ـ 49 ] "وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ " [التوبة : 56 ]" َفرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ " [التوبة : 81 ] " وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ . " [التوبة : 86 ] .
ج ـ "وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا . وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا "[الأحزاب : 12 ـ13] .
هذه كلها شواهد للحن القول ، وهو معنى اهتم القرآن كثيراً بكشفه وبيانه . وربما يكون المقصود من "اللحن" بهذا المعنى الكذب المتأصل لدى المنافقين ، وتكون كلمة "الكذب" أقرب الكلمات من هذا المعنى بدليل كثرة وصف المنافقين بأنهم كاذبون ، لكن لماذا آثر القرآن استعمال "لحن القول" في الآية التي ورد ذكرها فيه ؟ أظن أن هذا سر من أسرار التعبير فيه ، كأنه للفت الأنظار لمعنى الانحراف والميل والخروج عن الجادة الذي يكون في كل لحن .
والخلاصة أن "لحن القول" هنا تعبير قرآني لغويُّ الإثارة، يدور تلقينا له في ثقافة اللحن وانحراف الشيء عن مقصده ، وهو أيضاً موحٍ وكثير الظلال ، إذا كان الأمر كذلك ، فهل يجوز لنا أن نأخذه من مجاله اللغوي والنصي هذا فنُسقطه على السياسة والواقع ونربطه بهما ؟
أرى هذا ممكناً بل واجباً يمليه علينا الوعي الثقافي والضمير الاجتماعي وفقه ربط الواقع باللغة ونصها المقدس . وليس من شك في أن الحديث عن اللغة وقضاياها مهم ، ولكن الأهم أن يكون ذلك عن وعي بخطورتها وسلطانها وجبروتها وعظم دورها في بناء الإنسان والمجتمع ، جليل أن نسير في طريق الكتابة ويحاور بعضنا بعضاً ، ولكن الأجلّ أن نحمل ونحن في طريقنا رسالة نبلغها للناس .
وبناءً على هذا، إذا كان لنا أن نلاحظ أن استعمالنا للغة مشوه أو محطم بصور كثيرة من تجاوز المحظور والممنوع والوقوع في وِهاد اللحن والخطأ ، أليس من الجليّ كذلك أن حياتنا السياسية المعاصرة ملأى بصور مختلفة من التكاذيب التي يروجها وينفثها فينا أصحاب لحن القول المحدثون ؟ ألم يكشف زلزال حرب غزة المدمر مثلاً زيف كثير من الأقنعة ؟
عندما تُسمى الشجاعة تهوراً وحمقاً ، وتُسمَّى العزة مهانة، ويسمى الاستشهاد دون الوطن موتاً رخيصاً ـ أليست هذه لغة مريضة ولحناً من القول يرسم صورة قبيحة لنفاق العصر ؟ لقد قال الله ـ عز وجل ـ "كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم ... "[البقرة :216] وقال المتنبي :
وإذا لم يكن من الموت بدٌ فمن العجز أن تكون جبانا
فأيَّ القولين نصدق ؟ برهان اللغة الساطع وسلطتها العادلة في قول الله عز وجل وحكمة الشاعر أم لغة السياسة الكاذبة الخانعة الذليلة، التي لسان حالها يقول "ائذَنْ لي ولا تفتني" و"لا تنفروا في الحر" و"ذرنا نكن مع القاعدين" و"إن بيوتنا عورة " ؟
إننا إذا كنا نرفض "لحن الإعراب والنحو" ـ وهو ظاهر ومعروف ـ لأنه يسيء إلى اللغة ويريد أن يحطمها ، فإننا نرفض رفضاً أشد "لحن القول" الذي هو الكذب والنفاق المتواريان وراء أقنعة السياسة وخبثها ؛ لأنه يحطم المجتمع كله بالفعل !
------------------------------------
(*) أستاذ مشارك بقسم اللغة العربية بكلية الآداب والعلوم ـ جامعة قطر .
[1]) ) ـ انظر : الخصائص لابن جني 2/10.
[2]) ) ـ انظر : المظاهر الطارئة على الفصحى، للدكتور محمد عيد 16 ـ 19 .
[3]) ) ـ انظر : كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي 4/94.
[4]) ) ـ الخصائص 2/10 .
[5]) ) ـ السابق 3/296 .
[6]) ) ـ تفسير ابن عطية المحرر الوجيز :7/657.
[7]) ) ـ انظر : المزهر للسيوطي 1/567.
[8]) ) ـ تفسير القرآن العظيم لابن كثير :4/2145 ،وانظر : تفسير ابن عطية7/657.