هل جنى سيبويه الفارسي على اللغة العربية؟ مهندس لبناني من خارج الحزب اللغوي يرمي حجراً في مياه النحو العربي الساكنة - رشيد الخيُّون

يعزو أوزون تراجع اللغة العربية، أمام اللغات الأكثر حيوية في العالم، إلى تعقيد ولا منطقية قواعدها، ويسند مشكلات النحو العربي كافة إلى سيبويه الفارسي، الذي تتلمذ على يد اللغوي العربي الخليل بن أحمد الفراهيدي، على حد عبارته أن الذنب ليس ذنب سيبويه في ما وضع من أُصول وقواعد اعتمد فيها على حركة أواخر الكلمات دليلاً، جمعت في كتاب عرف بكتاب سيبويه، ذلك لحاجة أبناء قومه من الفرس وسواهم، وإنما الذنب يتحمله مَنْ جعل هذه القواعد نهجاً في تقويم اللسان العربي. والحقيقة التي يضعها أمامنا مؤرخو النحو العربي أن سيبويه لم يكن مخترعاً لتلك الأُصول، وإنما أخذها من أساتذته العرب، وأخذها هؤلاء من أفواه أهل البادية. ومن المرجح أنه كان واحداً من جماعة ساهمت في تأليف كتاب النحو، الذي عرف باسمه، قال أبو فرج النديم في «الفهرست»: «قرأت بخط أبي العباس ثعلب، اجتمع على صنعة كتاب سيبويه اثنان وأربعون إنساناً منهم سيبويه».
يذكر باحث الاجتماع العراقي علي الوردي، وهو أحد الثائرين على أُصول النحو العربي وصاحب معارك حامية الوطيس مع اللغويين والمصححين اللغويين، روايات تأسيس علم النحو العربي وتعقيداته بعيداً عن سيبويه، نوجزها بالآتي: إن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع لحناً في ترتيل القرآن الكريم يؤدي إلى الكفر، فأمر أبا الأسود الدؤلي بوضع قواعد النحو. وفي رواية أن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه سمع كثرة اللحن فأمر أبا الأسود بوضع قواعد النحو، بعد أن علمه إياها، وقيل كانت بداية النحو: أن طلب أمير البصرة زياد ابن أبيه من أبي الأسود وضع قواعد تقوّم لفظ أولاده، وقيل أن أبا الأسود اهتدى لقواعد النحو بعد أن سمع كثرة لحن الموالي (المسلمين من غير العرب)، أو بعد انزعاجه من لحن ابنته.
تؤكد الروايات المذكورة، والتي تحققنا منها في كتب «طبقات النحويين» للزبيدي، و«المنتظم» لابن الجوزي، و«المحكم في نقط المصاحف» للداني، دور أبي الأسود (ت69هـ) في وضع النحو العربي قبل زمن سيبويه (179هـ أو نحو ذلك) بحوالي قرن من الزمن. وبالتأكيد أن ما وضعه الدؤلي أو معاصروه من قواعد في النحو لا تصل إلى تعقيدات ومبهمات عصر سيبويه، إلا أن القلق لم يساور سيبويه فحسب وإنما ساور أستاذه الفراهيدي فاستنبط «من علل النحو ما لم يستنبطه أحد»، وان سيبويه صنف كتابه من علم الفراهيدي، واثنى على ذلك اللغوي يونس بن حبيب(طبقات النحويين). وأرى شهرة سيبويه في النحو ونسبته له مثل شهرة قيس بن الملوح وآل عذرة بالغزل وأبي نواس باللهو والمجون.
إن الدعوة إلى تيسير النحو العربي، والتي يدعو إليها صاحب كتاب «جناية سيبويه» ليست جديدة، ولعل أقدمها دعوة ابن مضاء القرطبي (القرن السادس الهجري) في كتابه «الرد على النحاة»، وهو لم يأت في مراجع ومصادر زكريا أوزون. أما في العصر الحاضر فظهر العديد من الداعين إلى تيسير النحو، واتهموا جميعاً بالقصور في هذا العلم، فالقارئ العربي، على حد رأي أوزون، ينظر إلى اللفظ قبل المعنى، فتذهب جزالة المعاني في أخطاء شكلها أي حركات إعرابها ورسمها. من هؤلاء كان إبراهيم مصطفى في كتابه «إحياء النحو»، وأمين الخولي وعبد الستار الجواري، وكما أسلفنا علي الوردي، الذي اضطر أن ينشر مقالات ضد متهميه في تشويه اللغة العربية وقصوره في الإعراب، وبالتالي الطعن في براعته العلمية، وتواطئه مع الغرب وغيرها من التهم. ومما كتبه أحد المتعصبين للنحو العربي باعتباره سمة من سمات الوحدة العربية، وركناً من أركان القومية العربية: «هذه اللغة هي العالم الأمثل بالنسبة لنا نحن العرب.. إذ أن لها أثراً عظيماً في تكوين وصياغة نفسياتنا.. فإن الذين يحاربون لغتنا بسوء إنما يضمرون لنا الأسوأ.. فهم يريدون تبسيط اللغة العربية، ويريدون حذف الكثير منها، ألم يعلم أي من هؤلاء أن لغتنا مقدسة كالصلوات الخمس، فهل يستطيع إنسان أن يترك واحدة منها للسهولة، أو البساطة» (عن الوردي، من بعد الثمانين). لكن ألم يسأل كاتب هذه السطور نفسه في جدوى قواعد وأُصول لا يفقهها العربي؟ وكأن التعقيد النحوي غاية لمن يحرص على التفرد، فلو أصبح في متناول كل ناطق بالعربية لغابت طبقة عرفت قديماً بطبقة اللغويين أو النحويين، وأفلس المعتاشون على تصيد أخطاء الصرف والإعراب.
ومثلما جوبه علي الوردي بالمثالب جوبه الباحث هادي العلوي إثر دعوته وممارسته في الكتابة بأسلوب اليسر النحوي، رأياً منه أن صعوبة النحو تمنع سيولة الأفكار والتعبير عنها، لذا اضطر محررو الدوريات التي استكتبته، أن يعلنوا البراءة من أسلوبه خشية من مثلب القصور في النحو العربي، فهمشت مجلة «مواقف» (العدد 63) مقالته بالآتي: «للأستاذ هادي العلوي وجهة نظر في النحو والصرف والإعراب، وتبعاً لذلك في تهجئة الكلمات وكتابتها، واحتراماً لوجهة نظره هذه، دون أن يعني ذلك تبنياً بالضرورة نحرص على نشر كتاباته بنصها دون تعديل إعرابي، ونرجو قراءنا أن يروا في ما يبدو ظاهرياً أنه خلل إعرابي، على أنه ليس خطأً، وإنما تطبيق عملي لوجهة النظر هذه».
وسيبويه، الذي يحمله زكريا أوزون وزر تعقيد بل تبليد النحو العربي، هو مولى فارسي لبني الحارث، وشاع عن معنى اسمه «رائحة التفاح»، لكن الصحيح (سي بويه) تعني «ثلاثون رائحة»، فهو ذو الثلاثين رائحة، وربما أتت كناية عن جمال مُحيّاه. أشاد المبرد في كتاب سيبويه بالقول: «إذا أراد إنسان أن يُقرأ عليه كتاب سيبويه يقول له: هل ركبت البحر، تعظيماً له واستصعاباً لما فيه»، وقال المازني: «مَنْ أراد أن يعمل كتاباً كبيراً في النحو بعد كتاب سيبويه فليستح» (الفهرست). والكتاب الذي أشاد فيه أساطين العربية واعتبره زكريا أوزون جناية ليس خاصاً بالأعاجم، وإنما تعقيده حال تعقيد علوم الكلام والفلسفة والفقه وغيرها من العلوم الدقيقة، تمحور حولها أساتذة وطلاب، يجدون في تبسيطها ضياعاً لخصوصيتها وبالتالي لسطوتهم وتفردهم، فكان همهم التعالي عن العامة بالعلم الخاص، غير أنها ملأت في وقتها فراغاً، وشغلت أُناساً.
الكتاب بفصوله السبعة: زبدة الكتاب، الكلمات والجمل، الاسم، الأدوات، إعراب الجمل، شواهد وتخريجات نحوية، بين الماضي والحاضر، كان نقداً لا يخلو من السخرية فما ذهب إليه النحاة واللغويين من تعقيد غير معقول. لقد اعتمدوا حركات أواخر الكلمات في خلقهم لهذا العلم، فانشقوا حوله إلى بصريين وكوفيين، يتبع كل منهم الحالة الفكرية السائدة بمصره، فكان البصريون أقرب إلى التفكير العقلي حيث الفكر المعتزلي، بينما تأثر الكوفيون بالنصوص.
دعا مؤلف الكتاب إلى التناسب بين الدلالات والمدلولات في النحو، مثلما ورد تحت عنوان المعارف والنكرات، والجامد والمشتق، فحسب رأيه أن هذا التصنيف «لا يضيف إلا التعقيد والإغراب لقواعد لغتنا، فلا يوجد اسم مشتق، والأسماء هي الأسماء بجميع أنواعها» (ص62)، ونجده يسأل: هل الحنان اسم جامد، وهو العاطفة المتحركة؟ ودعا إلى إلغاء ما عرف بالمصروف والممنوع من الصرف، فهو لا يجد فرقاً بين أن نقول: دعد أو دعداً، هند.. أو هنداً إلخ. ونراه يستغرب تسمية أن وعن ولكن وغيرها من الكلمات بالحروف، مع أنها تتألف من عدة حروف، وكيف تسمى الجملة اسمية من دون التمييز بين ثباتها أو تغيرها، فما الفرق بين الجملتين الآتيتين: «الطفل سعيد»، و «الأرض كروية»، أين تأثير الزمن فيهما، مع أن الجملة الاسمية هي الجملة التي تشير إلى الثبات، وهنا يطالب بإعادة النظر في مفهوم هذه الجملة، من دون أن يأتي بمقترح.
نوافق أوزون على عدم منطقية مسائل عديدة في النحو العربي، إن نظرنا إليها من باب المعنى لا التكوين اللغوي، وصياغة القانون والقياس، منها هل يصح نسبة فعل لفاعل لم يفعله، مثل الغرق والموت وكل ما يفعله القدر في الإنسان، مع أن عبارة «مات حتف أنفه» تفيد مقصداً إعرابياً آخر!، فكأنها تقول: كيف يكون الميت فاعلاً لموته؟ أو الغريق فاعلاً لغرقه؟ وهلم جرا. كذلك الحال، حسب ما ذهب إليه أوزون، في نيابة الفاعل، نحو كُتب الدرسُ، فكيف يحل المفعول به نائباً للفاعل ويأخذ حركة إعرابه بدلالة الفعل المبني للمجهول! وما يلتفت له مؤلف الكتاب القول بالزوائد والمحذوفات، مثل إذا ما، فالنحو وضع قانوناً ملخصه: «ألا أدلك على شيء فيه فائدة: (ما) بعد إذا زائدة»، وهنا يحاول المؤلف إحراج القائمين على النحو العربي عند إعراب الآية «ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا»، فيقول لهم: «حاشا لله أن يكون في كلامه زيادة أو حشو فهو الحق وكلماته الحق» (ص23).
ومن جملة ما جعله أوزون نقصاً أو تعقيداً في النحو العربي ما ذهب إليه اللغويون في القول بالمبتدأ الثاني، مع عدم الابتداء فيه، والأخبار المحذوفة المتعلقة بالجار والمجرور، على شاكلة: الطفل في المنزل، فالخبر محذوف تقديره كائن، وما يتعلق بالأفعال الناقصة، فما الفرق بين نام زيد وأمسى زيد، ولماذا يصبح الفعل نام فعلاً تاماً بينما يصبح الفعل أمسى فعلاً ناقصاً؟ وكيف تكون كلمة خلا حرفاً وأداة جر، وفعلاً ماضياً في آن واحد؟
عموماً يأتي كتاب المهندس زكريا أوزون دعوة ملحة من خارج الحزب اللغوي أو الأصولية اللغوية التي تحرص على حماية مملكتها من رياح التغيير، إلى تبسيط النحو، بما يتناسب مع روح العصر ومدارك المعاصرين وتوسع العلوم وسرعة التعلم، مع أن لكل لغة أُصولها وجمالها في التقيد بحدود المعقول والمفهوم منها، وأراه قافزاً على العصور في رده على سؤال، وضعه في الفصل الأول من الكتاب من بين تسعة أسئلة، وهو: هل مفردات أجدادنا العرب القدامى كافية؟ وهل استطاع نتاجهم الأدبي ـ الشعر والنثر ـ أن يعطي صوراً في الوصف تفوق صور اليوم، وهل يمكن لتلك المفردات أن تستوعب جميع المسميات في أيامنا المعاصرة؟ فبطبيعة الحال لا أحد يدعي هذا الكمال في التراث الأدبي وأي تراث، فكل فن أدبي يعبر عن عصره وبأدواته، لكنه لا يفقد الجمالية في العصور التالية، ولا يفقد ذووه العبقرية، ومع ذلك ليس لنا محاكاة معلقة امرئ القيس، بقصائد بدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور، والبيت الذي لم يعجب مؤلف الكتاب «مكر مفر مقبل مدبر معاً/ كجلمود صخر حطه السيل من عل» جماله في مخالفته للواقع، وليس بالضرورة أن يجعل الشاعر الفرس وجلمود الصخر شبه الغراب بالغراب.
كتاب «جناية سيبويه» الذي استغرق (173) صفحة من الحجم الصغير كان بمثابة حجرة في بحيرة النحو العربي الساكنة، كشف عن تعقيدات لا مبرر لها وأوهام من المحذوفات والثواني والنواقص وأشباه الحروف، لكني أجدها مبالغة أن يذهب مؤلفه إلى جعل تعقيد النحو العربي سبباً من سببين رئيسين في عدم انتشار اللغة العربية عالميا.، والسؤال هل انتشرت الانجليزية لسهولة قواعدها، وفيها ما فيها من تعقيد أزمنة الأفعال، والتباين بين المحكي والمكتوب من حروفها؟ وهل حجب تعقيد قواعد اللغة البلغارية، على سبيل المثال، انتشارها، وأن سهولة قواعد الفرنسية ساعدتها على الانتشار؟ وكيف انتشرت العربية أوان الفتوحات الإسلامية، حتى أصبحت لغة امبراطورية لوسعها شاع عن هارون الرشيد أنه قال للسحابة: أينما تمطرين يأتيني خراجك. فبسط اللغات وانتشارها له علاقة بالتفوق العلمي والمدني والاقتصادي والهيمنة السياسية الحضارية لا بالنحو وقواعد اللغة.
* الكتاب: جناية سيبويه
* المؤلف: زكريا أوزون
* الناشر: رياض الريس للكتب والنشر 2002
---------------
جريدة الشرق الأوسط : الأربعاء 06 ربيـع الأول 1424 هـ 7 مايو 2003 العدد 8926

Air Jordan 1 Retro High OG 'Chicago' White and Black-Varsity Red For Sale

التصنيف الرئيسي: 
التصنيف الفرعي: 
شارك: