ولقد بينت في دراسة سابقة الحجج التي يعتمد عليها كل طرف والتي يمكن تلخيصها على النحو التالي:
أ المؤيدون لاستمرار تدريس اللغة العربية لغير المختصين
:إن الهدف الذي توخاه مرسوم تعميم اللغة العربية في جميع الاختصاصات الجامعية والمعاهد المتوسطة مازال قائماً من حيث المبدأ والأسباب والنتائج.
قد يكون هناك نواقص وصعوبات وملاحظات مختلفة في مجال تطبيق هذه التجربة، والمطلوب معالجة هذه الصعوبات والملاحظات التي نتجت عنها بسبب عدم كفاية الجهاز التدريسي والكتب المقررة.
إن اللغة العربية ليست مقرراً تدريسياً محدداً بقدر ما هي أفق فكري وثقافي وإبداعي من جهة ووطني وقومي من جهة ثانية.
ب المعارضون لاستمرار تدريسها:
يشكل هذا المقرر عبئاً على الطلبة خارج اختصاصاتهم الجامعية الأساسية ويؤثر على معدلات نجاحهم سلباً أو إيجاباً.
جامعات العالم المختلفة لا تدرس لغاتها الوطنية إلا في مجال الاختصاص.
إن التجربة السابقة لم تكن ناجحة ولم تعط النتائج المطلوبة لا بل أوجدت حالة سلبية في بعض الأحيان تجاه اللغة العربية بين أوساط الطلبة.
أمام هذه الحجج وأضدادها لا بد من أن نعترف، أن إشكالية أصبحت قائمة في هذا المجال تحتم الدعوة لمعالجتها أو مناقشتها بفتح حوار عبر ندوات يحضر لها بأسلوب علمي بعيد عن الارتجالية أو الفوقية التي تعني اتخاذ القرار المسبق.
وقد يكون الوقت مناسباً في هذه المرحلة مع انتهاء العام الجامعي والاستعداد لاستقبال موسم جامعي جديد تتحقق فيه بعض الطموحات التي تستطيع أن تواكب مسيرة التطور والتجديد والازدهار التي أعلن عنها ويقودها بجدارة وكفاءة الرئيس الدكتور بشار الأسد.
وعودة هادئة إلى مناقشة هذه الإشكالية وتحليل حجج المؤيدين والمعارضين توصلنا إلى أهمية طرح هذه الإشكالية للمناقشة وتحليل بنودها ليس بقصد الإلغاء وإنما بقصد التطوير.. لا بل، وأستطيع القول، الارتقاء إلى أحسن الأشكال والأساليب؛ لأنني من البداية أوضح أنني مع أنصار الإبقاء على تدريس اللغة العربية وآدابها في جميع الكليات والمعاهد، إنما بشكل يتلاءم وطبيعة التطور في النظريات التعليمية من جهة وعلى ضوء الملاحظات المستمدة من التجربة الماضية؛ فتتم الاستفادة من هذه الخبرات جميعها.
ومن أول هذه الخبرات المستمدة من التجربة الماضية هي اختلاف مستويات الطلبة بين متقن للعربية بعلومها النحوية وفنونها البلاغية والأدبية، وبين طالب لم يستطع التمكن من العربية فبقي على سواحلها متخوفاً غير راغب في اختراق مجالاتها، وبين طالب ضعيف لا يعرف من العربية إلا النزر اليسير.
والمشكلة هنا تكمن في أمرين كما أرى:
أولاهما: ضعف المستوى العام الذي يتخرج فيه الطالب من المرحلة الثانوية بالنسبة للغة العربية؛ إذ من المفترض في طالب أنهى مرحلة الدراسة الثانوية أن يكون قد ملك القدرة على التعبير الصحيح والكتابة السليمة نتيجة حصيلته الدراسية في اللغة العربية؛ لأنه نهل عبر دراسته الابتدائية والإعدادية والثانوية وتمكن من قضايا اللغة والنحو والصرف وما يتصل بها، وأصبح قادراً على الإعراب عن أفكاره وما يجول في نفسه وذهنه تعبيراً واضحاً ومترابطاً.
فتلك هي المهمة الأساسية للمراحل التعليمية الثلاث الأولى فيما يتعلق بأساسيات التعليم الوطني والتي يأتي في مقدمتها تعليم اللغة الوطنية للطالب.. فكما أن هذه المرحلة تزود الطالب بالمعارف الأساسية في العلوم والاجتماعيات واللغات، وكذلك الرياضيات والفلسفة وتمنح الطالب ملكة التفكير المنطقي، فإنها تفتح للطالب المجال رحباً للتعلق العفوي بلغته الأم حيث تكون قد تحولت لغته الوطنية من عملية تعليمية إلى سليقة عفوية لا يشعر بأي معاناة في قراءتها أو صعوبة في الخوض بعلومها المختلفة.
وليس بعيداً ذلك الوقت الذي كان فيه خريجو الشهادة الثانوية أو المتوسطة أيضاً يمارسون عملية التعليم بكفاءة علمية كبيرة. إلا أن ضعف مستوى التعليم في المراحل التعليمية الثلاث الأولى نتيجة عوامل مختلفة منها التغيرات السريعة التي طرأت على المناهج، والأعداد الكبيرة في الطلبة، والتوسع الكبير في إنشاء المدارس والاضطرار إلى التسريع في إعداد المعلمين والمدرسين والتكليف بالتعليم من غير المؤهلين، ولو بطريقة مؤقتة.. ذلك كله شكل عوامل في ضعف مستوى التعليم والتأهيل في هذه المراحل وأدى إلى اختلاف في مستوى الطلبة وكفاءاتهم.
ولذلك فقد جاء القرار التاريخي بتعميم تدريس اللغة العربية منذ عام 1983 في مختلف فروع التخصص في التعليم العالي وعلى امتداد سنوات الدراسة، ترميماً لضعف التعليم الثانوي ومساعدةً لأبنائنا الطلبة، ونتيجة شعور قومي ووطني عال ومسؤول تجاه أمتنا ولغتها العريقة ذات الأبعاد الثقافية والحضارية الكبيرة للعرب والإنسانية جمعاء.
وثانيهما: المنهج المقرر وإعداد الطلبة وتأهيل المدرسين واستعدادهم في مرحلة التعليم العالي.. فالطالب المتمكن يرى في المقرر مضيعة للوقت الذي يجب أن يخصصه لتخصصه الأساسي، لا بل إن طبيعة المقرر المعد مسبقاً ضمن سياسة الكتاب الجامعي وتوفيره وفق مقرر معتمد لا يجوز تجاوزه، لأن الامتحان وطريقته هي العائق ا لأخير، وقد يؤدي بالطالب هذا إلى حجب إمكانات التطور والإبداع الأدبي بدلاً من مساعدته والارتقاء بذوقه الأدبي وقدراته الثقافية.. وهذا ما يجعلنا نفكر في التوجه إلى اقتراح بتقسيم الطلبة منذ بداية العام الجامعي عبر لجان متخصصة، وفق مستوياتهم وقدراتهم اللغوية والأدبية، وتوزيعهم بما يتلاءم وهذه المستويات وبالتالي تكون الكتب مؤلفة على ضوء المستويات المعروفة بالإنكليزية بـ Level والمطبقة في تعليم اللغات الأجنبية. وليس على مستوى الصفوف. وعندها يقوم مؤلفو كتب المستويات بلحظ حالات الارتقاء بالطلبة المتفوقين، وقد يكون ذلك بطرق مختلفة تدخل فيها النصوص الفكرية والثقافية الراقية وتحليلها الأدبي والثقافي.
وأنا هنا لا أخرج عن الموضوع بعيداً.. فكثير من أصحاب الاختصاص الدقيق اشتهروا بنتاج أدبي وثقافي راق أيضاً والأمثلة كثيرة في هذا المجال؛ فالروائي الكبير عبد الرحمن منيف مثلاً هو دكتور في الهندسة البترولية، والأديب الكبير الدكتور عبد السلام العجيلي هو طبيب مشهور أيضاً ،والأديب المصري المعروف الدكتور يوسف إدريس هو طبيب أيضاً، والشاعر الكبير علي محمود طه هو مهندس، والشاعر صالح جودت درس التجارة في الجامعة.. وكثير من الشعراء والأدباء جاؤوا من اختصاصات أخرى.. وعلى هذا فإن تعليم العربية وثقافتها وأدبها هي ليست مهمة تعليمية قومية فقط إنما هي مهمة ثقافية إبداعية من جانب آخر.
وعليه فإن ما يتعلق بالنقطتين السابقتين يتطلب خطة وجهوداً كبيرة في تطوير تعليم العربية في المراحل التعليمية الأولى كمناهج وطرق تدريسية وتأهيل في إعداد المعلمين والمدرسين.وريثما نصل إلى هذه المرحلة، والتي أراها مقبلة بفضل الأسلوب العلمي والتربوي الذي تضعه وزارة التربية حالياً، بإشراف وحماس وزير التربية الدكتور محمود السيد، فإن البحث عن أنجع الأساليب في تدريس اللغة العربية لغير المختصين في التعليم العالي سواء عن طريق تحديد المستويات أو في دمج الثقافة القومية واللغة العربية بمقرر واحد يعتمد النصوص الراقية ذات البعد الفكري والقومي والإبداعي العام الملائم لكل مستوى وتخصص مع تأهيل مناسب للمدرسين وحوافز ملائمة.
فبالإضافة إلى ما ذكرته في مقالي السابق «المنشور في جريدة الثورة بتاريخ 2001/5/15» فإني أؤكد على ما خلصت إليه من أن الأمل لا يزال معقوداً على سورية وبوصلتها المرشدة للسرب العربي، لا كما وصفه الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل في مقاله الأخير بأنه: «قريب الشبه بسرب طيور ضاع نظامه وتبعثرت أجنحته، كل منها مع ريح»، لأنني أرى أن الأمل ما زال معقوداً باجتماع السرب في اتجاه البوصلة التي تتمسك بها سورية.. فلا يستسلم للريح وإنما يبقى متوافقاً ومنسجماً ومتعاوناً وفق ما أعلنه الرئيس الدكتور بشار الأسد في المؤتمرات العربية والإسلامية والمقابلات والمحافل الدولية.
فذلك هو الأمل في سورية وعليه معقود العمل، والعربية هي العماد والأفق الحضاري والثقافي الكبير الذي تتمسك به افتخاراً بمنجزاتها وإيماناً بقدراتها وبالهوية التي تجمع الأمة العربية ماضياً وحاضراً ومستقبلاً واعداً.
(عن صحيفة تشرين، 19 حزيران 2001)