ولقد واجه الوطن العربي اليوم مشكلة استبعاد لغته العربية عن مجال تدريس العلوم في معظم أقطاره. وقد استطاع حل معظم هذه المشكلة وبقيت بعض مجالات العلوم والتقنية في كليات الهندسة والطب والصيدلة تدرس بغير العربية، وليس حل المشكلة على قدر كبير من الصعوبة، لو توافر العزم الصحيح على حلها. ولن يكون العرب بدعا بين الأمم إن أرادوا اتخاذ لغتهم العربية لتكون لغة تعليم جامعي. فالأمم المتقدمة وغير المتقدمة سلكت هذا السبيل بعد أن أيقنت أن الطالب الذي يتلقى العلوم بلغة غير لغته الأم، يطبع فكراً وثقافة بطابع هذه اللغة الأجنبية.
إن الثقافة العربية كانت وما زالت أحد روافد ومناهل الحضارة العالمية التي تضم المعارف والمعتقدات والأخلاق والعادات المكتسبة. ويوم نتنازل عن ثقافتنا وهويتنا العربية فسوف تصاب الأمة العربية بفصام فكري كهذا الذي نلاحظه في بعض الفئات من خريجي الجامعات. إن تعريب العلوم هو اعتزاز منا بلغتنا وتأكيد لهويتنا الثقافية؛ بل يتعداهما إلى تدارك خطر مؤكد يتهدد التعليم الجامعي نفسه بالسطحية وحرمان الطالب من الفهم الصحيح، وقصوره عن تمثل ما يتعلمه بلغة أجنبية، ودفعه أحياناً إلى الاستظهار دون إدراك المعنى الدقيق. ولا ينكر أحد ظاهرة الضعف في تعلم اللغات الأجنبية وهذه الظاهرة أصبحت أمراً ملموساً، حتى أن العديد من الطلاب يصلون إلى المرحلة الجامعية ولا يعرفون من اللغة الأجنبية التي تعلموها إلا النزر اليسير.
وقد أوصت منظمة اليونسكو باستخدام اللغة الوطنية في التعليم إلى أقصى مرحلة ممكنة إذا كانت اللغة تسمح بذلك (واللغة العربية من أغنى لغات العالم وتسمح بذلك بشكل فعال)، وذلك بسبب الدراسات التعليمية التي تبنتها هذه المنظمة الدولية والتي أثبتت أن التعليم باللغة الأم أكثر تأثيراً ويعطي نتائجه بشكل مباشر. ولا بد أيضاً من التفكير بأن التعليم بلغة أجنبية يتطلب وجود أساتذة يتقنون اللغة التي يتم التعليم بها فهماً وإلقاءا كما يتطلب وجود الطالب الذي يتقنها فهماً ومعرفة. ولكن لسوء الحظ كثيراً ما سمعنا محاضرات ألقيت في قاعات جامعات عربية مرموقة بلغة هجينة اختلطت فيها العامية المحلية بالمصطلحات الأجنبية اختلاطاً عجيباً.
وقد بدأت حركة تعريب التعليم الجامعي تنطلق منذ أوائل الستينات حيث اجتمع ممثلو الدول العربية في بنغازي في مايو 1961 في حلقة لدراسة مشكلات التعليم الجامعي وصدر عن هذا الاجتماع توجيهات وتوصيات لعل أهمها أن تدريس العلوم باللغة العربية ضرورة علمية علاوة على أنها ضرورة قومية، باعتبار أن الفكر الأصيل لا يخلق في الأمة إلا إذا كانت تتعلم بلغتها وتكتب بها أيضاً، وأكد المجتمعون بالإجماع على ضرورة تعريب التعليم الجامعي والعالي وطالبت الحلقة الجامعات العربية بالإسراع في تعريب التعليم في كلياتها المختلفة.. وجاء في التوصية الخامسة لهذه الحلقة ما يلي: " العمل على توفير أمهات المراجع باللغة العربية وكذلك الدوريات العلمية وإصدار المجلات الخاصة لنشر مختصرات عربية لكل البحوث الأجنبية"..
ومنذ ذلك التاريخ تسارعت حركة تعريب التعليم الجامعي وواكب ذلك تأسيس العديد من الجامعات في الوطن العربي وظهر ذلك جلياً في الحلقة الثانية التي عقدت في بيروت عام 1964 وشاركت فيها سبع عشرة جامعة عربية. وهكذا أخذ التعليم الجامعي يمثل مكانة حية في البناء الثقافي والاقتصادي في الوطن العربي، فقد بلغ عدد الجامعات عام 1976 أربعين جامعة و يضم الآن اتحاد الجامعات العربية ستا وثمانين جامعة عربية. وتشتمل هذه الجامعات على أكثر من ثمانين كلية طب بشري وطب أسنان.
كما أن هناك قضية حضارية أساسية وهي أن تكون اللغة العربية هي الأساس في مراحل التعليم المختلفة سواء أكانت هذه المراحل مدرسية أم جامعية، ولا يعني هذا إهمال اللغات الأجنبية، بل يجب الحرص على التفوق فيها أيضا.
تعريب العلوم الطبية
إن قدرة اللغة العربية على استيعاب العلوم الطبية أمر مسلم به بالنسبة إلينا، والكلام عن قدرتها على الاشتقاق والوضع والقياس والنحت تكرار نحن في غنى عن ذكره الآن. ونرى أن العائق الحقيقي الذي يقف في سبيلها هو ما يفتعله من لا يؤمنون بالتعريب لأسباب ليست لها صلة بعملية تعريب العلوم الطبية أو التدريس باللغة الأم.
ونحن لدينا الآن أطباء لا يجيدون العربية ولا يجيدون أيضاً اللغات الأجنبية وذلك بسبب هذا الافتئات على لغتنا العربية، ولعدم الإيمان بقدرتها على توفير المصطلح الطبي، والجملة العلمية، والمقالة عالية التخصص إضافة إلى الكتاب الطبي المتخصص. وإن تجربة المركز العربي للوثائق والمطبوعات الصحية تثبت عكس ذلك تماماً، فلغتنا العربية المكنزية أثبتت أنها وعاء فكري بلا حدود، يتضمن قدرة على الاشتقاق لا مثيل لها، وفيضاً لغوياً يعتمد على النحت والقياس لا مراء في قوته وعظمته.
والمركز العربي للوثائق والمطبوعات الصحية، منظمة عربية رائدة في مجال تشجيع الأطباء العرب على التأليف والترجمة والتعريب بلغتهم العربية، وكذلك جمع وتنظيم وبث خدمات المعلومات الطبية إلى المؤسسات الصحية في الوطن العربي.
ولقد نجح المركز حتى الآن في إصدار 53 كتاباً باللغة العربية كلها في مجالات الطب المتخصصة ويخطط للوصول إلى ثلاثمائة كتاب في خطة خمسية طموحة، إلى تبنيه لمشروع ترجمة أمهات الكتب الطبية بتمويل مشترك مع مؤسسة الكويت للتقدم العلمي.
كما وضع المركز خطة خمسية طموحة في مجال المطبوعات والنشر والمعلومات والتوثيق والندوات والتثقيف الصحي، وتهدف هذه الخطة الطموحة إلى توفير الأدلة الأساسية والأدوات المرجعية والقواميس الطبية والأطالس الطبية العربية وسلسلة الموجزات الإرشادية وسلسلة الثقافة الصحية والكتب الطبية وتوفير البرامج والأدلة الطبية والأقراص الضوئية المضغوطة للمعلومات الطبية التي يوفرها المركز، وجمع الإنتاج الفكري الطبي العربي وتقديم خدمات التدريب والتطوير الطبي وأخيراً الإعداد والتنفيذ للمؤتمر السنوي للتعريب الطبي.
يجري -حتى الآن- تدريس العلوم الطبية في جل كليات الطب في الوطن العربي بغير اللغة العربية، باستثناء الجمهورية العربية السورية التي تدرس باللغة العربية، ولقد بدأ السودان يدرس الطب منذ أكثر من سنتين باللغة العربية. وهناك كليتان تدرسان الطب باللغة العربية في الجماهيرية الليبية. ومن البشائر الرائعة في هذا الصدد أن كلية الطب بجامعة الأزهر قررت تدريس الطب الشرعي والصحة النفسية باللغة العربية. غير أن معظم الدول العربية تدرس العلوم الطبية باللغة الإنجليزية أو الفرنسية وبعضها بالإيطالية.
لقد نشأت ظاهرة تدريس الطب بغير اللغة العربية في ظل ظروف قاسية مرت بها الأمة العربية حيث لم تملك فيها إرادتها المستقلة وكان ذلك جزءاً من سياسة استعمارية ترمي إلى تجريد الأمة العربية من أصالتها وإلحاقها ثقافيا بمن كان يتحكم بأمرها بهدف الحد من استردادها لشخصيتها.
والآن ونحن على أبواب القرن الواحد والعشرين يجب أن نعترف أن حجم المؤسسات التعليمية والبحثية الصحية في الدول العربية قد فاق ما كان متوقعاً، حيث زادت هذه المؤسسات بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، وقد اتضح ذلك من قاعدة المعلومات الآلية التي يبنيها المركز تحت اسم:
" دليل المؤسسات التعليمية والبحثية الصحية في الوطن العربي".
حيث يتضح عدد هذه المؤسسات التعليمية ونوعها وعدد أعضاء الهيئة التعليمية بها ومسميات الأقسام ونظام التسجيل والابتعاث بهذه المؤسسات التعليمية، ويوضح الجدول التالي موقف هذه المؤسسات.
جدول يوضح عدد ونوع المؤسسات التعليمية والبحثية الصحية في الوطن العربي
الدولة
|
عدد الهيئات المرسل إليها
|
كليات الطب
|
كليات طب الأسنان
|
كليات الصيدلة
|
كليات تمريض ومعاهد علوم صحية
|
* الأردن
* الإمارات
* البحرين
* الجزائر
* السعودية
* السودان
* الصومال
* العراق
* الكويت
* المغرب
* اليمن
* تونس
* جيبوتي
* سوريا
* سلطنة عمان
* قطر
* لبنان
* ليبيا
* مصر
|
22
5
2
16
57
10
1
40
5
36
9
21
1
40
3
2
5
12
36
|
3
3
1
6
9
6
1
8
2
2
2
4
3
1
2
5
13
|
2
1
1
1
3
1
1
|
1
3
1
1
2
1
7
|
18
2
1
10
43
3
30
3
34
7
15
1
32
2
2
1
6
11
|
إجمالي
|
323
|
71
|
15
|
16
|
221
|
ويحاول المركز استقطاب هذه المؤسسات، سواء عن طريق الاستعانة بعناصرها البشرية الكفؤة، للمشاركة في أعمال التأليف والترجمة لمطبوعاته، أو من حيث عرض إمكانيات المركز لنشر احتياجات هذه الكليات من كتب دراسية أو تخصصية تغطي مجال التدريس باللغة العربية، وما يجب أن يواكبه من مراجع ومصادر معلومات معربة تساعد الطالب والباحث والأستاذ الجامعي أثناء منهج الدراسة.
ولقد حدد المؤتمر الإقليمي لتعريب الطب في البلدان العربية متطلبات عملية التعريب في ست نقاط هي:
تهيئة المدرس للتدريس بالعربية.
توفير الكتب العربية الطبية المنهجية منها والمرجعية.
إعداد الوسائل التعليمية الطبية.
توفير الدوريات العلمية الطبية الجارية.
وضع مناهج خاصة لتعليم اللغات الأجنبية في كليات الطب.
ومن يحقق في أهداف المركز العربي للوثائق والمطبوعات الصحية يجد أنها تغطي معظم هذه النقاط، وأن المركز يعمل جاهداً لتحقيق طفرة نوعية في هذه المجالات والتي سوف تؤتي ثمارها في نهاية خطته الخمسية القادمة.
دور تقنية المعلومات في تعريب العلوم الطبية.
تلعب تقنية المعلومات دوراً أساسياً في عمليات التأليف والترجمة وتعريب العملية التعليمية في المجالات الطبية الحديثة والبرامج الآلية المساعدة في العملية التعليمية، كما أن عمليات النشر المكتبي والنشر الإلكتروني تلعب دوراً أساسياً في هذه المجالات.
وقد استنبط المركز العربي للوثائق والمطبوعات الصحية لنفسه أهدافاً أساسية، فأنشأ وحدة كاملة من أجهزة النشر المكتبي الحديث بحيث يمكن إجراء الصف الإلكتروني الآلي ونقل الصور آلياً وإخراج الصفحات بشكل كامل بواسطة الحاسب الإلكتروني، وقد استثمر المركز في هذه العمليات خبرات مالية وبشرية كبيرة لإيمانه الكامل بأن هذا هو المستقبل ولأن تقنية المعلومات هي المحرك الأساسي للمعرفة البشرية في الوقت الحالي.
كما يقوم المركز حالياً بإحدى عمليات النشر الإلكتروني الضخمة المعتمدة على اختزان واسترجاع المعلومات الصحية التي يجمعها من الدول العربية، وهو مشروع فريد من نوعه رائد في مجاله، وسوف يعتبر من الأنماط الأولى الرائدة في المنطقة العربية استكشافاً لإمكانية التوسع مستقبلاً في هذه الميادين.
كما قام المركز ببناء خمس قواعد آلية حتى الآن في مجال تناول المعلومات الصحية، وهي من القواعد الهامة والتي تعتبر نموذجاً رائعاً للعمل العربي المشترك، وتوضح مدى قوة هذه الأمة العربية عندما نحصر مواردها ومصادرها ونتعرف على إمكانياتها المتوفرة، مما يجعل من يعمل في مجال هذه المسوحات الشاملة على مستوى الوطن العربي يعرف ويتيقن أن هذا المارد العربي إن انطلق فلن يوقفه أي كان. ويستكمل المركز بناء القواعد الآلية الجديدة الأخرى وخاصة في مجال توفير أدوات المعلومات الرئيسية التي لاغنى عنها لأي مركز معلومات طبي.
ويقوم المركز أيضاً بنقلة نوعية حضارية أخرى وهي إعداد البرامج الآلية المعربة في مجالات طبية مختلفة للمساعدة في العملية التعليمية باللغة العربية. ويدرس المركز حالياً إمكانية إصدار برنامج آلي في مجال التشريح يكون أداة مساعدة للطالب والباحث والدارس إذا استخدمه على حاسب شخصي أو حاسب كبير.
وهناك مجالات أخرى عديدة توضح دور تقنية المعلومات في مجال عملية تعريب العلوم الطبية، وتتمثل درجة شمولية هذا الهدف في إعداد دراسة الجدوى لمشروع الشبكة العربية للمعلومات الطبية (أمين) وهو مشروع لو قدر له أن ينفذ سوف يكون مفتاحاً للحضارة العربية في مجال العلوم الطبية ونموذجاً لجمع الإنتاج الفكري الطبي المتخصص وتنظيمه وبث خدمات المعلومات المتصلة به على مستوى الوطن العربي ويتعداه إلى المستوى الدولي. ونأمل أن نلقى التمويل المناسب لتنفيذ هذه المشروع في المستقبل القريب.
إن المعلومات هي القوة، وهي المحرك الأساسي للمعرفة البشرية، وهي الوسيط الذي يحظى بالأهمية القصوى في مجال العلوم، وتقنية المعلومات التي بدأت نذرها منذ الستينات من هذا القرن، حتى وصلت الآن إلى مرحلة خيالية (نسمع كل لحظة بكل جديد في هذا المجال) يجب عدم إهمال أهميتها في تعريب العلوم الطبية، لما لذلك من أثر على توفير القواعد والمناهج المساعدة في عملية التعريب، إضافة إلى مواكبة التطور الحديث في هذا المجال.
إن الأهداف المنوطة بالمركز هي أهداف حضارية تعبر عن هوية الجسم العربي قبل أن تكون أهداف إجرائية، ولذا يتوجب دعم مثل هذه المراكز بشكل فعال نظراً لأنها تعبر عن روح هذه الأمة العربية الخالدة.
مجلة اللسان العربي - عدد 43 :
http://www.arabization.org.ma/downloads/majalla/43/docs/68.doc