في الرياضيات علم كامل أساسي اسمه Algebra وهو فرنجة للكلمة العربية ’الجبر‘، وهناك باب الخوارزميات Algorisms باسم العالم المسلم، الخوارزمي، الذي رغم فارسيته شاء أن يكتب كل أعماله بالعربية لأنها كانت لغة العلم (الحية) في العالم آنذاك، وقد أبقى الغرب اليوم على كل إسهاماتنا في المجالات العلمية ولم ينكرها، كما أنه يعود للاتينية منبع لغاته (التي لا يعرفها الآن سوى الكهنة والأكاديميون المتخصصون) لإطلاق المصطلحات الحديثة جدا مثل cybernetics وquantum وغيرها، دون أن يتهمه أحد بالسلفية والرجعية.
لم يستح مثقف فذ مثل سلامة موسى أن يعرب أسماء المذاهب السياسية التي ظهرت في العالم في زمنه وآمن بها، مثل socialism ’الاشتراكية‘ وcommunism ’الشيوعية‘، ولنا أن نتساءل لماذا فعل موسى ذلك، وكيف كانت هذه الأفكار ستنتشر بين الطبقات الكادحة غير المتعلمة، فالترجمة والتعريب إذا مقاربة وعجن لواردات الخارج في ثقافة الداخل كوسط جديد، تماما مثلما يفعله مهندسو الوراثة مع النباتات الغريبة فلا يدعي أحد أنهم مجانين أو مخربين لتربتنا الزراعية.
لا أنكر أن في اللغة العربية عيوبا كثر، ولا أنكر أيضا وجاهة الآراء القائلة بأن ما نتحدثه ليس ’العربية‘ ولكنه ’المصرية‘ بالنسبة للمصريين و’الفينيقية‘ بالنسبة للشوام و’الأمازيغية‘ للمغرب العربي وهكذا، ولست الآن بصدد أن أعلق على هذه النظرية (وهي موضع جدل قائم وقد دحضها لغويون غير عروبيين)، ولكن يبقى أن ’ما نتكلمه‘ – في مصر مثلا – أيا كان اسمه – لغة حية صالحة للتطور ومواكبة علوم ومعارف وثقافة ما بعد الحداثة، التي تنطلق في بعض أركانها بالمناسبة من إعادة معالجة التراث!
وكان الشيخ أمين الخولي يقول أننا لنصل إلى الجديد لابد أن نقتل القديم بحثا، كما أن طه حسين الذي دعا في مستقبل الثقافة في مصر إلى الأخذ بكل ما يأتي به الغرب حسنه ورديئه، هو نفس الناقد الذي تحفظ على الياء الزائدة في عنوان مجموعة يوسف إدريس الأولى أرخص ليالي فلابد أنه لم يعن الإلقاء بالتراث في جب النسيان.
إن مناهج العربية في مصر تخلو إلى اليوم من قصيدة واحدة للعظيم الأسطوري فؤاد حداد وتعج بنصوص سقيمة للبارودي وشوقي ومصطفى صادق الرافعي لأنها فصيحة!
أهم مشاكلنا اللغوية اليوم هو الجمود الذي يركب رؤوس القائمين على مجمع اللغة (الذين سموا التليفزيون ’مرنأة‘!)، والهجمة الغبية من قطاعات المثقفين والإعلاميين (حراس الحروف المقدسة) على لغة شباب اليوم ومفرداتها العجيبة، فيرمونها بالضحالة والقذارة والإجرام، وذلك في مقابل اعتماد لغويي الولايات المتحدة لكل ما يستحدثه طلبة مدارسهم الثانوية من تعبيرات وألفاظ هي في الغالب تابوهات متأثرة بثقافة الشارع وغير محكومة بأطر قواعد الإنجليزية في الصرف والنحت..إلخ.
إن أكثر ما تفتقده اللغة في نظري هو طاقة العامية، التي لم تفصل هذا الفصل الحاد عن الفصحى في الغرب، فالعامية هي في الواقع لغتنا الحقيقية التي استوعبت كل الروافد وأكسبتها دلالات أصيلة في الاستخدام اليومي النشط المرن الذي لا يعبأ بتحريم المجمع للّحون، ولنذكر هنا المثال الشائع على تعريب الكلمة الكثيرة الاستخدام في حياتنا الحديثة: ساندوتش، والمثال تصحبه نكتة (لا أعرف مدى صحتها) تقول أن المجمع اقترح جملة "شاطر ومشطور وبينهما طازج" كمقابل، وهو حل شيطاني لعين إذا صحت الرواية، وحتى اللفظة المختصرة ’شطيرة‘ لا تستخدم خارج الكتب إن استخدمت، فما رأيكم في المقابل الذي قدمته العامية ولم يجد طريقه إلى قواميسنا حتى الآن، عندما يقول ابن البلد الصعيدي أو الدلتاوي أو القاهري مثلا "إديني شقة فول يا عم"؟؟
اللغة (أو اللغات) العربية ليست مقدسة (أو لغة أهل الجنة!)، ولكنها ليست فقيرة كذلك، بالعكس، وعلينا كناس يتحدثون هذه اللغة أن نعمل على تطويرها وحل مشاكلها، فاستعارة لسان أجنبي ليست حلا، حيث أن اللغة وعاء للثقافة، ولا يمكننا (حتى إذا شئنا ورضينا) أن نستعير ثقافة الغير.
الاثنين, يناير 03, 2005
موقع الخرز الملون http://hamuksha.blogspot.com/2005_01_01_hamuksha_archive.html