فالإسراف باستخدام العامية لا يقصد به التهميش والتجهيل فحسب، إنما هو لتكريس حالات التشرذم والقطرية، بالإضافة إلى تصورات خاطئة عن خصائص اللغة العربية باعتبارها الأساس للحضارة العربية والإسلامية، وهذا ما يزعج المتعصبين للعامية، فيدفع بهم إلى نبذ الفصحى وتشجيع العامية، تمشيا مع تعصبهم لإقليميتهم تارة، ولموروثاتهم الخاطئة تارة أخرى، متناسين أن اللهجة العامية التي يعملون جاهدين على شيوعها وانتشارها، ما هي إلا احد روافد اللغة العربية أفسدتها عصور الانحطاط، فأفردت هذا النمط المحكي من الكلام، الذي لا يمكن أن يكون بديلا عن الفصحى بأي حال من الأحوال.
وقد أدرك السينمائيون العرب في الثلاثينات والأربعينات أهمية التواصل بين مشاهديهم عن طريق اللغة، فانتهجوا أسلوبا مبسطا بحيث تدور الحوارات فيه بلغة لا إسراف في فصاحتها، كما أنها ليست موغلة في عاميتها.
فالذين يسعون إلى تكريس العامية، لديهم حساسية تصل إلى درجة الكراهة للفصحى، مما جعلهم يستعينون بقوافل من الجهال بها، ومعظمهم للأسف من عديمي الموهبة، إلا أنهم يملكون عناصر إغراء أخرى استخدمت لاجتذاب اللاهثين وراء الرخيص من المتع.. بيد أن الثقافة ومشتقاتها، وأهمها اللغة قد جُعلت في فضائياتهم وكأنها نخب ثان، بيد أن العكس كان يجب أن يحدث لولا تعصبهم.
إن قضية اللغة العربية عبر الفضائيات لم تعد خاصة بهذا البلد أو ذاك أو بهذه الفضائية أو تلك... فاللغة العربية والحرص عليها إنما هما مسؤولية أمة بأسرها.
وعلى جامعة الدول العربية، ممثلة بمؤسساتها الثقافية، وعلى الجامعات الأكاديمية في الوطن العربي، وعلى النقابات والاتحادات الثقافية والأدبية أن تتحرك لوضع ميثاق شرف لغة يلزم وسائل الإعلام أن تأخذ به.. فمن غير المنطقي أن نداء تحطيم اللغة العربية على حساب الفصحى، الذي نادى به سعيد عقل، يلقى صدى عند منفذيه، بيد أن الفصحى، التي دافع عنها البستاني واليازجي وغيرهما من العرب الشرفاء غير المتعصبين، لا تلقى من يدافع عنها أمام هجمة العامية التي يتبناها البعض.
-------------------
صحيفة الشرق الأوسط / السبـت 21 شعبـان 1421 هـ 18 نوفمبر 2000 العدد 8026
منتدى إعلامي ــ وافصحتاه! - د. نجم عبد الكريم
التصنيف الرئيسي:
التصنيف الفرعي: