حين تتشعب المصطلحات وتتعدد فإنه يتعين ان يصاحبها ما يمكن إدراجه تحت قبة ذات بعد محدود يمكن أن نشير إليها ب "سوء الفهم"، إلا ان هذه القبة المحدودة لا يمكن أن يقوم بناؤها ما لم تستظل بأخرى غير محدودة وهي "إطلاق سوء الفهم". وبين سوء الفهم وإطلاق سوء الفهم والمحدود وغير المحدود فروق كثيرة، وعلى سبيل المثال فإن بعض الفروق قد يشير إلى ان اطلاق سوء الفهم لا يتجلى في جوانب إيجابية، قدر تركيزه على جوانب سلبية لا تكشف الملامح المرجوة، ولذلك كان لابد من وضع الفروق المناسبة بين إساءة الفهم بوصفها دعوة إلى تفعيل المصطلحات والالتفات إليها وإساءة الفهم بوصفها مانعاً من ذلك، ويرجع ذلك إلى عوامل عدة لا يمكن حصرها بسوى رصد شامل لتكوين المصطلح وبيئاته التي نما فيها، وفضاءاته التي نقل إليها.أثمرت المحاولات العربية الجادة في النقد العربي لتكريس مصطلح "التناصية" نقدات سعت إلى ان تتلمس الشبيه اجرائيا أو المماثل اصطلاحيا لتلك الرؤى النقدية من مصادرها المختلفة، وهي مصادر لم تكن كتب الأدب العربي القديم سوى جانب يسير منها. ذلك ما يتجلى بوضوح لدى سبر أغوار التراث العربي، إذ يكشف البحث عنه مدى اشتمال هذا الموروث على ملامح كان منها - على سبيل المثال - المنجز التاريخي والفقهي وغير ذلك من العلوم، وهي التي تلمح إلى ان العرب كانوا على وعي بشظايا هذه الظاهرة التي عنوا بها في الدرس القديم.وقد كان هذا المصطلح أبرز المصطلحات التي حظيت بدعوات تركز على كونه مصطلحا قد أسيء فهمه، ولعلنا قبل الخوض في إدعاءات سوء الفهم التي وصم بها هذا المصطلح في الثقافتين العربية والغربية نبحث في تجربة ظهور المصطلح، ولو أن ذلك قد يبدو نوعا من إساءة الفهم في الاختصار المخل الذي سيرسمه عرض كهذا يميل إلى ان يركز على بدايات هذه التجربة في كلتا الثقافتين.مع بداية الثمانينيات بدأت بواكير الالتفات النقدي العربي إلى مصطلح التناصية بعد الانتشار السريع لمفهوم الحوارية الباختيني مع ارهاصات تكونه مع الباحث الروسي "ميخائيل باختين" الذي وسع مفهوم الحوار في الرواية في سعيه إلى البحث عن مكونات الرواية النصية في بعض النصوص النثرية الإغريقية والرومانية القديمة، وقد رأى ان الرواية تسمح بأن تدخل إلى كيانها جميع الأجناس التعبيرية الأدبية كالقصص والأشعار والقصائد والمقاطع الكوميدية، وأجناس غير أدبية إذ أشار إلى الدراسات العلمية أو الدينية وغيرها،
ولذلك فهو ينتهي إلى القول: إن الرواية تعد نوعاً أدبياً ما يزال قيد التشكل.وبعد ذلك تبنت البلغارية "جوليا كريستيفا" هذه الأطروحة لتكون أول من ابتدع هذا المصطلح في دراستها النقدية بين سنتي 1966و1967م، إذ اطلقت المصطلح أولاً مع أنها اشارت إلى استعارتها له من باختين، واعترفت بفضل الأخير في التنظير النقدي للمصطلح المجترح في إطار الشكلانية الروسية، بينما كان بارت وكريستيفا يستعملان هذا المصطلح في سياق نظري عام متصل بالكتابة النصية.ثم توالت الجهود التي فعلت هذا الحقل عند الناقد الفرنسي "رولان بارت" الذي أثرى هذا المصطلح في دراسات كانت إرهاصات بتبلوره في الثقافة الغربية في عام 1973م، وكانت ابلغ اشاراته في كتابه الذي بعنوان "لذة النص"، وتعد دراساته احدى أبرز علامات تبلور هذا المصطلح في الثقافة الغربية رغم اتخاذه جوانب أخرى في التناول.وأخيراً حاول الفرنسي "جيرار جينيت" ان يحول هذا المصطلح إلى منهج بعد ان جمع اطرافه وفصل القول فيه، وذلك باعتماده على جهود سابقيه في كتابه "أطراس"، وهو الكتاب الذي نقل فيه موضوع الشعرية، وقام فيه بمحاولة لجمع شظاياه ونثاره.وكان لازدهار الحركة النقدية في النقد الغربي وتنامي الجهود حول التناصية أثرها الإيجابي في النقد العربي، فقد تضاعفت الجهود العربية إثراء هذا المصطلح عبر النقل والترجمة من اللغات التي نما فيها. وفي ظل هذه المتابعة الحثيثة انتجت دراسات نظرية كثيرة، وأنجزت دراسات تطبيقية على نصوص أدبية مختلفة، وخصصت دوريات نقدية أعدادا خاصة لمعالجته، فقد خصصت دورية "ألف" القاهرية للتناصية عددها الرابع في 1984م، كما أسهمت مجلة "الفكر العربي المعاصر" بعدد خاص عن التناصية في عددها الصادر في كانون الثاني 1989م، وكان ممن كتب في هذا العدد "عبدالوهاب ترو" عن مصطلح "الانتاجية" عند كريستيفا مستعرضا بعض الجهود الأخرى لباختين وجينيت.ومع التعدد والانتشار لهذه الجهود النقدية إلا ان هذه الجهود قد انحصرت - فيما يتصل بالعلاقة بين موقعها الآني والموروث النقدي في مسارين اثنين: يتمثل الأول منهما في الاقتصار على معالجة المصطلح وتطبيقاته في صورته الحديثة دون العود إلى النقد القديم، ويسعى الثاني إلى استلهام ملامح من النقد العربي في ضوء هذا الإنجاز الجديد.لم تظهر الخطوات الأولى في هذا التناول النقدي الحديث على استحياء ولكنها بدت على جانب كبير من الأهمية، إذ تم إنجاز التكريس لهذا المصطلح من زاوية أو زوايا معينة كان لها تأثيرها على الدراسات اللاحقة، ما جعل بعض الباحثين يشيرون كثيرا إلى سوء الفهم له وطريقة تلقيه في ثقافتنا العربية، واختلاف صورته لدينا عن صورته في منابعه الأولى، وعد ذلك الأمر ابتعادا به عن فضاء النقد، وأغفل بعض هؤلاء ضرورة إيجاد البيئة الملائمة للمصطلح أولاً، وشمولية سوء الفهم الذي وصم به المصطلح.في المستوى الأول وهو محاولة إيجاد البيئة المناسبة إذ سعى عدد من الرواد في النقد الحديث إلى الربط بين هذا المصطلح وعدد من المفاهيم النقدية في الموروث العربي، وهو سعي له ما يبرره أحياناً من واقع النظريات نفسها التي تناولت هذا المصطلح فكانت مفاهيم السرقات والتداخل وتوارد الخواطر ووقع الحافر على الحافر منظومة تركز البحث حولها.اما المستوى الثاني فله ما يمكن الارتكان إليه، وهو يتصل بشمولية سوء الفهم للتناصية الذي لم يكن مؤطرا في حدود الأرض العربية، بل تجاوزه إلى الأرض الأولى التي تنامى فيها هذا المصطلح. فالنقاد الغرب الذين تداولوه تنوعت وجهات نظرهم. فقد لقي هذا المصطلح عددا من الاختلافات المنهجية وكثرة التعاريف منذ لحظة انطلاقه مع رؤية كريستيفا، وذلك لكثرة الأقلام التي تلقفته في النقد الغربي فأشاعت فيه التعدد غير النهائي.يمكن ان يقرأ هذا الاختلاف والتعدد في جانبه الإيجابي الحسن إذ يتوضع في جانب من "الثراء غير النهائي" الذي صاحب المصطلح، ويبدو ذلك أمراً طبيعياً إذا عرفنا أن من أبرز ملامح هذا المصطلح في ذاته اللانهائية وعدم البراءة.وربما تتفق هذه الإشارة هنا مع ما ألمح إليه "مارك أنجينو" أحد المنظرين لمصطلح التناصية من ان المسألة ليست في معرفة ماذا نعني بالتناصية لكن: فيم تستخدم؟ لأي شيء يصلح التناص أو يستعمل، وهل جدواها مرتبطة باللحظة التاريخية. إنه أداة نقدية تسمح لنا بإثارة إشكالية نقدية وفكرية أكثر منه مفهوما محددا بدقة.أما حين نلج إلى الجانب الآخر للتجربة وهو ما وسمناه ب "إطلاق سوء الفهم" فسنعود إلى إشارة أخرى مرتبطة باتهامات كثيرة للمصطلح، فهاهو أحدهم يؤكد على وصف التناصية بأنها "مصطلح أسيء فهمه منذ ذلك الحين إذ كان مستعملا ومنتهكا كثيرا على جانبي المحيط الأطلسي، إذ ليس له علاقة ما بأمور التأثير لكاتب على آخر، ولكنه إبدال موضع أو أكثر من أنظمة الإشارات إلى موضع آخر" وسيكون ذلك غريبا حين نعلم ان ذلك هو رأي أحد المتابعين في الغرب لهذا المصطلح، وهو (ليون رودييه) مترجم كتاب (الرغبة في اللغة) لجوليا كريستيفا إلى اللغة الإنجليزية (ص 15).وفي المسار نفسه يمكن أن نتطرق إلى رأي آخر قد يتوافق مع سابقه في أن مصطلح التناصية الذي دعت إليه كريستيفا كان في تصور "جون ليشت" مصطلحا أسيء فهمه، فهو لا يحيل إلى إسناد مرجعية الكتاب إلى الكتب الأخرى، ولكنه يشير إلى تداخل الاختراقات في الممارسات الدلالية، ورد ذلك في الذي ورد في كتاب لليشت بعنوان "جوليا كريستيفا" ص 104.وإذا أعدنا النظر إلى الجانب الآخر مرة أخرى سنعود إلى ما أشار إليه "مارك أنجينو" الذي عد ترجمة ما كتب عن التناص عن مدرسة "تارتو" إلى الفرنسية سبباً في التعدد غير المجدي لهذا المصطلح.وإذا كان النقد العربي قد حمل في رأي بعض النقاد هذا العبء فقد أضيفت إليه أعباء أخر، وتتمثل هذه الأعباء في صورة المصطلح في التراث النقدي. ما أسهم في انتاج ذلك التعدد بوصفه وجهاً إيجابيا في الدرس النقدي، إذا سلمنا أن البحث النقدي لا تعنيه ولا تعوقه على الإطلاق التعريفات الكثيرة والمتعددة وغير المتجانسة لمصطلح التناص، بقدر ما تعنيه المناهج التي أولت وجود التناص في النص.
===================
نشر في صحيفة الرياض - الخميس 28 محرم 1423 العدد 12344 السنة 38
http://www.alriyadh.com.sa/Contents/2002/04/11-04-2002/page5.html