في التعريب وَ"المعَّرب" وَهَو المعَروف بـ "حَاشية ابن بَرّي عَلى كِتَاب "المعرَّب" لابن الجوَاليقي بتحقيق الدكتور إبراهيم السامرائي1 ـــ صلاح الدين الزعبَلاوي
ـ 2 ـ
عرضت في مقالي السابق للتعريف بالكتاب ومحققه إبراهيم السامرائي، وتناولت بالحديث قصة الكتاب، وقد دارت حول إنفاذ السامرائي مخطوطة الكتاب وتحقيقه عليها، إلى مجمع اللغة العربية بدمشق، وقيام المجمع بإحالة المخطوطة والتحقيق، علي، لمراجعتهما، ثم أدائي لهذه المهمة العانية وذلك باستدراكي على المحقق ما فاته في المخطوطة، من تفقد لمواضع التحريف وما يستتبع ذلك من شرح وتنقيح وكشف وتبيين، وانثناء السامرائي عن قبول مراجعتي قبل إطلاعه عليها، واستعادته مخطوطته وتحقيقه، ومضيه في طبع الكتاب، وعمده إلى التعريض بي.
وقد أجبت عن ذلك بما يجلي الأمر ولا يخرج عن حسن المناظرة وأدب البحث، وبما يذكي عين القارئ على الحقيقة فيكون منها على يقين جازم، لعلي آنس عند صاحبنا السامرائي عدلاً يقضي به على نفسه. ولو أقمت البحث على أركان غير وثيقة، أو دعائم غير محكمة لأوشك أن يتداعى بنيانه أو يتصدع. وقد استشف الأديب البارع الدكتور حاتم صالح الضامن الأستاذ في كلية الآداب ببغداد سطور هذا الكتاب، وتتبع تحقيق السامرائي، وعمد إلى نقده، ودل على بعض مواضع الخطأ فيه. ونشر ذلك في مجلة المجمع العلمي العراقي، وأهدى إلي مشكوراً، فرزة من هذه المجلة ليطلعني على ما قام به من تعقيب على الكتاب، ومما جاء في نقده قوله: (لم يذكر المحقق السامرائي أصل المخطوطة لأنه لا يعرف ذلك، وهي نسخة الأسكوريال المرقمة بـ 272ـ وسبب ذلك أنه استعارها من أحد طلبته، وهو الدكتور عبد المنعم التكريتي للإطلاع عليها فقط، وليس لنشرها. ولكنه أثر نشرها ولم يشر إلى صاحب المخطوطة) ولا أدري من هذا الأمر شيئاً، وأردف (وأمر آخر لابد أن نشير إليه وهو وجود نسختين خطيتين من هذا الكتاب، لم يطلع عليهما وهما:
1- نسخة اسلامبول ومنها صورة في دار الكتب المصرية، وتاريخ نسخها 716 هـ.
2 ـ نسخة من المعرب بحواشيها تعليقات ابن بري في مكتبة ولي الدين جار الله، في اسلامبول رقمها ـ 2405 ـ وتقع في 75 ورقة، ومنها صورة في معهد المخطوطات).
قال الدكتور الضامن: (ولو وقف الأستاذ السامرائي على هاتين النسختين لكانت نشرته أقرب إلى الكمال، ولتخلص مما وقع فيها من تحريفات وتصحيفات).
وقال في مقاله: (بدأ الكتاب بمقدمة حكى لنا فيها الأستاذ السامرائي ـ قصة الكتاب في مجمع اللغة العربية بدمشق ـ إذ اعتذر المجمع من عدم نشره له، لأن الخبير قدم ملاحظات كثيرة على الكتاب بلغت ضعفي الكتاب، كما اعترف به الأستاذ نفسه).
وقال في نقده (وثمة أمر لابد أن يشار إليه، وهو أن الأستاذ سلخ أكثر حواشي الأستاذ أحمد شاكر، رحمه الله، على كتاب المعرّب، ونسبها إلى نفسه، ولم يشر إلى ذلك إلا في سبعة مواضع.. وسألحق.. ثبتاً بهذه الحواشي وما يقابلها من حواشي المعرّب..) وقد بلغ عدد هذه الحواشي التي استمدها السامرائي من حواشي المعرّب، وأضافها إلى نفسه، على ما أحصاها الأستاذ الضامن: مائة واثنتين وأربعين حاشية!
أقول قد وقفت على شيء من هذا عرضت لتقويم هذه الحواشي. ولم أشأ أن أعمد في ذلك إلى لوم أو تنديد، أو أخص الأمر بشيء من اهتمامي، بل فرّغت قلبي لما هو أحق بإيثاري: نص الكتاب وتحقيقه. وقد اخترت بذلك أولى الأمرين بشغلي لأستقصي الغرض الذي إليه قصدت بمراجعتي.
وها أنذا أذكر ما استدركته على المحقق في كل صفحة من الكتاب. وسأشير حين الحاجة إلى ما جاء به الدكتور الضامن في مقالة، وما علي أن أهنئه بما سبق إليه. أفرده به، وإلا فقد استقبلت الأنس بالوحشة، والإقبال بالإغفال.
وأن لا ألتمس في تحقيقي غلبة أو ظفر أستطيل به، ولا أبغي ثلمة أتقحم منها على أحد، فإذا بدا صواب ما قدمت فلن أتعجل لأمنّ به فأذهب ببهجته وروائه، فليس ذلك من أدب البحث والمناظرة. ولن أخدع نفسي بالتعريض أو التوقيع بأحد في تتبع خطئه فأكفر بنعمة الاهتداء إلى الصواب، وأضن باستنماء ما قد غرست. ولن ألوم فيما يمكن أن يكون العذر في مثله. فأنت أحسنت وبينت فلم أزد على أن أكون قد وفقت في ابتغاء النهج وهيأت للغاية سبلها. وإن جرت لي كلمة سهوت بها. أو رأي أخطأت به، فليس غريباً أن يوكل بباحث غفلة أو نسيان فلا يكون عليه في ذلك، سبيل لائمة. ولو التمس ذلك ملتمس عندي لكان له علي يد لا أكفرها.
قال المحقق الدكتور إبراهيم السامرائي في ترجمة المصنف (ص / 11):
(هو عبد الله بن برّي بن عبد الجبار أبو محمد المقدسي المصري النحوي اللغوي. شاع ذكره واشتهر في الديار المصرية.
قرأ كتاب سيبويه على محمد بن عبد الملك الشنتريني، وتصدر للإقراء بجامع عمرو، وكان مع علمه وغزارة فهمه ذا غفلة. يحكى عنه حكايات عجيبة في هذا الباب.
كان قيماً بالنحو واللغة والشواهد، وكان ثقة في جميع ذلك.
ولد ونشأ وتوفي بمصر. وقد ولي رياسة ديوان الإنشاء، وتوفي سنة تسع وتسعين وأربع مائة).
أقول: أشار المحقق إلى كتب التراجم التي أتت على ترجمة المصنف، وذكر منها معجم الأدباء ووفيات الأعيان وخزانة الأدب للبغدادي وبغية الوعاة للسيوطي والأعلام للزركلي. وقد أتت ترجمة ابن بري في كتب للتراجم كثيرة كشذرات الذهب (4 / 273) وطبقات ابن قاضي شهبة (2 / 24) وكشف الظنون (741، 1072) وإنباه الرواة على أنباء النحاة (2 / 110). كما أتت في كتب التاريخ. وقد سرد هذا المراجع وسواها محقق إنباه الرواة. على أني رأيت أن أجمع هذه التراجم وأوجزها ما جاء في وفيات الأعيان لابن خلكان. إذ ذكر أن ابن بري قد أخذ علم العربية عن أبي بكر محمد بن عبد الملك الشنتيريني النحوي، وأبي طالب عبد الجبار بن محمد بن علي المعافري القرطبي وغيرهما.
وجاء في كتب التراجم أن الشنتريني هذا هو محمد بن عبد الملك بن محمد النحوي، ويعرف بابن السراج، ونسب إلى شنترين، وهي مدينة حصينة غربي قرطبة، على نهر تاجه، قرب مصبه. وقد توفي (550 هـ) أو قبل ذلك بقليل. وله تصانيف في النحو والعروض. وكتاب في اختصار العمدة للحسن بن رشيق القيرواني. وفي نقده. وكتاب تنبيه الألباب على فضائل الأعراب. (بغية الوعاة ـ 1 / 165، ونفح الطيب ـ 7 / 310، والبلغة للفيروز بادي ـ 232، والأعلام ـ 7 / 10).
أما المعافري فقد جاء في كتب التراجم أنه أبو طالب بن محمد بن علي بن محمد المعافري. وقد كان إماماً في اللغة والأدب. رحل من المغرب إلى بغداد، كما رحل إلى الديار المصرية سنة (551 هـ)، فقرأ عليه ابن بري، وتوفي سنة (566 هـ)، وهو عائد إلى المغرب، والمعافري بفتح الميم وكسر الفاء نسبة إلى المعافر بن يعفر، وهي قبائل كبيرة، عامتهم بمصر. وللمعافري شرح مشكلات المقامات للحريري. (وفيات الأعيان لابن خلكان ـ 2 / 384، هدية العارفين ـ 1 / 499، تكملة الصلة ـ 367، تاج العروس ـ مادة عفر).
وقد سها المحقق فجعل وفاة ابن بري سنة (499 هـ). والصحيح أن ولادته بمصر (499هـ)، ووفاته فيها (592 هـ) كما جاء في وفيات الأعيان وسواه من المظان.
وجاء في الكتاب ص (12) :
قال المحقق فيما صنفه ابن بري: وله من المصنفات وأبدأ بالمطبوع منها:
1 ـ اللباب في الرد على ابن الخشاب. انتصر فيه للحريري في كتابه (درة الغواص).
أقول الذي في كشف الظنون وبغية الوعاة أن (اللباب) هو رد ابن بري على ابن الخشاب فيما خطأ به الحريري في كتابه (درّة الغواص)، كما جاء به المحقق، ولعل الصحيح هو ما جاء في ابن خلكان من أن اللباب هو رد ابن بري على ابن الخشاب في تخطئة الحريري في (المقامات) لا في درة الغواص. وقد طبع اللباب ذيلاً لمقامات الحريري في المطبعة الحسينية بمصر عام (1348 ـ 1929 م) فجاء يتخلل ما استدركه ابن الخشاب على الحريري في مقاماته ورد ابن بري عليه. وجاء في فاتحة رسالة ابن الخشاب المطبوعة (وبعد فهذه حروف وقعت في المقامات التي أنشأها أبو محمد القاسم بن علي الحريري البصري.. نبه عليها الشيخ الإمام أبو محمد.. المعروف بابن الخشاب البغدادي، رحمه الله عليه، حين قرأت عليه المقامات).
وجاء في خاتمة اللباب المطبوع: (وهذا آخر كلام الشيخ الإمام العلامة جمال العلماء أبي محمد عبد الله بن بري بن عبد الجبار المقدسي النحوي رحمه الله، على ما وجد بخط الشيخ الإمام العالم الأوحد أبي محمد عبد الله بن أحمد بن أحمد البغدادي المعروف بابن الخشاب، وتنكيتاته، على أبي القاسم الحريري في مقاماته رحمهم الله جميعاً..)
قال المحقق: والمصنف الثاني: غلط الضعفاء من الفقهاء.
أقول في ابن خلكان أن لابن بري جزءاً لطيفاً في أغاليط الفقهاء، والمقصود هو (غلط الضعفاء من الفقهاء). على أني رأيت الأستاذ عز الدين التنوخي محقق كتاب (تكملة إصلاح ما تغلط فيه العامة) للجواليقي، قد نسبه إلى الجواليقي نفسه، ولم أر ذلك في كتب التراجم. ولعل الذي أوقع اللبس في النسبة هو اقتران اسم ابن بري باسم الجواليقي في أكثر ما ألفاه. فالكتاب كما جاء في التراجم هو لابن بري لا للجواليقي.
قال المحقق: والصنف الثالث: حواش على صحاح الجوهري (من مطبوعات مجمع اللغة العربية في القاهرة، وهو: التنبيه والإيضاح عما وقع في الصحاح).
أقول قد جاء في مقدمة الصحاح لنصر أبي الوفا الهوريني: أن أول من كتب الحواشي على الصحاح هو أبو القاسم فضل بن محمد البصري المتوفى (444 هـ) ثم علي بن جعفر بن القطاع الصقلي المتوفى (515 هـ). ويقال إنه لم يكملها فبنى عليها تلميذه ابن بري حاشيته التي أسميت (التنبيه والإيضاح عما وقع من الوهم في كتاب الصحاح). وهي أجود تآليفه. وقد وصل بها إلى (و ب ش)، ومات قبل إتمامها، فأتمها الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن البسطي، نسبة إلى بسطة بالفتح من كورة حيان الأندلسي، وتلاه أبو العباس أحمد بن محمد الإشبيلي المتوفى (651 هـ) ثم رضي الدين محمد بن علي الشاطبي المتوفى (684 هـ). وكلام الهوريني هذا خلاصة جاء في مقدمة التاج للزبيدي والمزهر وكشف الظنون.
قال المحقق: والمصنف الرابع شرح الإيضاح، وهو مخطوط.
أقول هذا الكتاب هو جزء من حواشي ابن بري على الصحاح، وقد أسميت هذه الحواشي، كما تقدم: التنبيه والإيضاح وهو ما يفهم من مقدمة الصحاح للهوريني.
قال المحقق: والمصنف الخامس: حواش على درة الغواص، وهو مخطوط.
أقول جاء في كشف الظنون (742) أن لدرة الغواص شروحاً وحواشي منها حاشية أبي محمد عبد الله بن بري.. وحاشية أبي عبد الله.. المعروف بحجة الدين الصقلي (ت 555 هـ) وحاشية محمد بن محمد المعروف بابن خضر المكي (568 هـ) وحاشية ابن الخشاب (567 هـ)، فهل لابن بري (لباب) آخر رد به على ابن الخشاب فيما استدركه على الحريري في (درة الغواص) كما ثبت أن له لباباً في الرد على ابن الخشاب فيما أخذه على الحريري في (مقاماته) كما ألمح إليه صاحب كشف الظنون؟ أقول لم يثبت لي ذلك.
قال المحقق: والمصنف السادس: حواش على المعرب لابن الجواليقي. وهو هذا الكتاب الذي ننشره. ولم يذكر هذا الكتاب في مصادر ترجمة المصنف.
أقول: أقول ثمة كتابان آخران نفيسان:
الأول: ما علق به ابن بري على كتاب التكملة (تكلمة إصلاح ما تغلط فيه العامة) لأبي منصور الجواليقي صاحب المعرّب.. وكتاب التكملة هذا مطبوع بإشراف المجمع العلمي العربي بدمشق (1939 م)، مجمع اللغة العربية، بتحقيق الأستاذ عز الدين التنوخي، رحمه. وقد أثبت في حواشي ابن بري هذه.
وجاء في ابن خلكان (4 / 323) في ترجمة الجواليقي (صنف التصانيف المفيدة.. مثل شرح أدب الكاتب، والمعرّب ولم يُعمل في جنسه أكبر منه، وتتمة درة الغواص تأليف الحريري صاحب المقامات سماها التكلمة فيما تلحن فيه العامة). قال الأستاذ التنوخي (إذا سمعت هذا القول، وأنت تشهد له تثبته فيما يكتب في الأدب، أيقنت بذلك أن تكملة الإمام الجواليقي هي تتمة درة الغواص). قلت أيد هذا صاحب كشف الظنون (742) فيما ذكره عما كتب من الشروح والحواشي على درة الغواص إذ قال: (ومنها تتمة أبي منصور موهوب بن أحمد الجواليقي البغدادي المتوفى 465 هـ، وسماها التكلمة فيما يلحن في العامة). ويبدو أن هذا هو الراجح، وقد أثبته ياقوت في معجمه، خلافاً لما جاء في بغية الوعاة (378) حول ما ألفه الجواليقي. فقد جعل (تتمة درة الغواص) غير (ما تلحن فيه العامة). إذ ذكر من ذلك: شرح أدب الكاتب، وما تلحن فيه العامة، وما عرّب من كلام العجم، وتتمة درة الغواص).
والثاني: رسائل ابن بري حول جواب المسائل العشر التي سأل عنها أبو نزار ملك النحاة كما جاء في إنباه الرواة (2 / 110) وهي المسائل التي ألتبس وجهها على الحسن ابن صافي بن عبد الله أبي نزار المعروف بملك النحاة وسماها المسائل العشر المتعبات إلى الحشر، وأوردها السيوطي في الأشباه والنظائر (3 / 171 ـ 198).
وجاء في مقال الدكتور الضامن:
(ذكر المحقق الأستاذ السامرائي ستة كتب فقط من مؤلفات ابن بري، وفاتته الكتب والرسائل الآتية:
1 ـ حاشية على تكملة إصلاح ما تغلط فيه العامة: طبع مع كتاب التكملة بدمشق
2 ـ رسالة في لو الامتناع: مخطوط.
3 ـ فصل في شروط الحال وأحكامها وأقسامها: مخطوط.
4 ـ مسائل سئل عنها: مخطوط.
5 ـ مسائل منثورة في التفسير والعربية والمعاني: مخطوط.
6 ـ مسائل في جمع حاجة، أثبتها السيوطي في الأشباه والنظائر.
أما كتب ابن بري التي لم تصل إلينا فهي:
7 ـ الاختيار في اختلاف أئمة الأمصار.
8 ـ جواب المسائل العشر، نقل عنه البغدادي في خزانة الأدب.
9 ـ حاشية على المؤتلف والمختلف: نقل عنه البغدادي في خزانة الأدب.
10 ـ شرح أدب الكاتب.
11 ـ الفروق: نقل عنه الزبيدي في تاج العروس).
أقول فصَّلت الكلام فيما تقدم حول حواشي ابن بري على كتاب التكملة. ورسائله في جواب المسائل العشر التي سأل عنها أبو نزار المعروف بملك النحاة.
في (ص / 13) من الكتاب
قال المحقق حول (قيمة الكتاب) (لعل قيمة هذه الحواشي تتجلى في أنها تتصل بكتاب المعرب لابن الجواليقي وهو أشهر كتاب في هذا الباب في العربية، ومن أوائل ما صنف في المعربات. وكان ابن بري أدرك قيمة (المعرّب) والحظوة التي حظي بها لدى الدارسين فأراد أن يتناوله ناقداً ومصححاً ومستدركاً).
أقول إذا كان كتاب (المعرّب) وقد جعله ابن بري محور حواشيه، فريداً في بابه من حيث أنه (لم يعمل في جنسه أكبر منه) كما قال أبو البركات الأنباري في كتابه (نزهة الألباء في طبقات الأدباء / 474)، وهو تلميذ الجواليقي، وحكاه ابن خلكان (4 / 424)، وكان أجمع ما عرف من الكتب ضبطاً للألفاظ المعربة، كما قال الدكتور عبد الوهاب عزام في مقدمة المعرب المطبوع بتحقيق الأستاذ أحمد محمد شاكر، أقول إذا عرفنا ذلك، وهو حق بلا ريب، وضممنا إليه ما شهد به للجواليقي من رسوخ القدم وبسطة العلم في العربية، ولابن بري من ثقوب الرأي وأصالة الحكم، وبعد الغور فيما يقلب فيه النظر من مشكلاتها ويُعمل فيه الروية من مسائلها، تجلى لنا واستبان ما يمكن أن يتسنى في تحقيق هذه الحواشي من الفوائد والطرائف، ويتهيأ بتحريرها من إيضاح لكثير مما يلتبس على المحصل وجهته. قال ابن خلكان في كلامه على الجواليقي (كان إماماً في فنون الأدب، وهو من مفاخر بغداد) وقال صاحب البغية (لا يقول الشيء إلا بعد التحقيق، يكثر من قوله لا أدري). وقال ابن خلكان في كلامه على ابن بري (وله على كتاب الصحاح للجوهري حواش فائقة أتى فيها بالغرائب واستدرك عليه فيها مواضع كثيرة. وهي دالة على سعة علمه وغزارة مادته وسعة إطلاعه..).
أما قضايا (التعريب) فقد غدت أوثق علوقاً وأشد لصوقاً بما أسموه (علم الاشتقاق التاريخي). وباتت موضع اهتمام الباحثين، ومحل عناية المحققين المعنيين بهذا الباب، بعد أن اختلفت سمات البحث وتشعبت وجوه القول بتبين الصلات بين العربية وأخواتها الساميات، ووضوحها بين أفراد هذه الفصيلة، وكشف العلاقة بين اللغات السنسكريتية واللغات الأوربية، وتقسيم اللغات الإنسانية إلى أسر وفصائل ولهجات، فزاد ذلك كله في بيان شأن الكتاب، ولا ننس أن (المعرّب) كان موضع تعليق غير واحد من الأئمة وقد أشرت، من هؤلاء، إلى جمال الدين بن عبد الله بن محمد بن أحمد العذري البشبيشي المتوفى (820 هـ)، وقد استدرك على المعرب ما فاته؛ ونبه على كثير مما اعتقد فيه الوهم متتبعاً مستقصياً. وقد أثبت على مخطوط المعرّب (المخطوط ـ 1290 ـ في المكتبة الوطنية الظاهرية بدمشق) حواش مختلفة في شرح المعرّب حيناً والتعليق عليه حيناً آخر، ولم يشر إلى صاحبها، على أنها لم تكن في وضوح كتابة النص، كما ذكرت في الكلام على المخطوطات المعتمدة.
وجاء في أول الكتاب (ص / 19):
(بسم الله الرحمن الرحيم)
هذا ما أخذه واستدركه الشيخ الإمام العالم أبو محمد عبد الله بن بري المقدسي النحوي على كتاب شيخنا، الشيخ الإمام حجة الإسلام أبي منصور موهوب بن محمد الخضر الجواليقي الموسوم بكتاب ما عربته العرب من الكلام الأعجمي وغيره.)
قال المحقق: (هو كتاب المعرّب طبع أول مرة في مدينة ليبزج سنة 1867 بتصحيح المستشرق أدورد سخو، وهو في 158 صفحة، ثم أعاد نشره أحمد محمد شاكر في القاهرة سنة 1360 هـ ثم أعيد نشره بالأوفست في طهران سنة 1966).
أقول: أما النسخة المطبوعة في لبيزغ سنة 1867، فقد جاء فيها شيء من الخطأ والاضطراب، وسقط منها شيء من الأصل. على أن بها فهارس وملحقات مفيدة. وقد اعتمد في تحقيقها على أصل قديم مخطوط واحد، نسخ 594 هـ، كتبه محمد بن علي بن عبد العزيز بن علي الشافعي الحموي التنوخي.
وأما النسخة المطبوعة في القاهرة فقد صدرت 1361 هـ الموافق 1942 م. وتولى إخراجها وضبطها وتصحيحها والتعليق عليها الأستاذ المحقق أحمد محمد شاكر. وفي كل سطر دليل على دأبه في البحث وعنائه في المراجعة وتدقيقه في الضبط. وقد اعتمد في التحقيق على نسختين من مخطوطات دار كتب المصرية كتبتا عام (1095 و1111 هـ).
وأشار الدكتور الضامن إلى النسخة الجديدة المنقحة المطبوعة بمصر عام 1389 هـ، وهي المعتمدة عند العلماء الآن.
وقد جاء في آخر النص المحكي هنا من الكتاب (كتاب ما عرّيته العرب من الكلام الأعجمي وغيره)، كما أثبته المحقق. والصحيح أن قوله (وغيره) لا محل له. فالمعرّب ما عرّب من الكلام الأعجمي، والأعجمي كل ما ليس عربياً. ومن ثم كان قوله (وغيره) مقحماً على الأصل. والذي جاء في المعرّب (هذا كتاب نذكر فيه ما تكلمت به من الكلام الأعجمي ونطق به القرآن المجيد، وورد في أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، رضوان الله عليهم أجمعين، وذكرته العربي في أشعارها وأخبارها، ليعرف الدخيل من الصريح، ولعل الوهم قد دخل على الناسخ مما جاء في كتب التراجم. قال ياقوت الحموي في معجم الأدباء (وللجواليقي من التصانيف شرح أدب الكاتب، والمعرّب من الكلام الأعجمي، وغير ذلك) أي غير ذلك من الكتب!.
وجاء في الكتاب (ص / 19) أيضاً:
أبنأني الشيخ أبو منصور موهوب بن أحمد بن محمد، قال: أخبرني غير واحد عن الحسن بن أحمد (1)، عن دعلج (2)، عن علي بن عبد العزيز (3) عن أبي عبيد (3)، قال: سمعت أبا عبيد (3) يقول: (من زعم أن في القرآن لساناً سوى العربية فقد أعظم على الله القول). واحتج بقوله تعالى: (إنا جعلناه قرآناً عربياً ـ الزخرف / 3) (4).
(1) قال المحقق: هذا هو الصحيح، وأما في الأصل فقد ورد الحسين، وهو أبو سعيد الحسن بن أحمد الطبسي النيسابوري، من تلامذة أبي بكر الخوارزمي، سمع عنه كتاب ـ الغريبين ـ واستملاه منه. (انظر ترجمته في إنباه الرواة ـ 1 / 277).
أقول: صح ما قاله المحقق من أن (الحسين بن أحمد) الذي ورد في الأصل محرّف، وإن الصواب، هو (الحسن بن أحمد). ذلك ما جاء في نسختي المعرب المطبوعتين (عام 1867) و(عام 1942). وكذلك ما جاء في مخطوط المعرب (9012)، في المكتبة الوطنية الظاهرية بدمشق. وقد فات المحقق أن الحسن بن أحمد الطبسي قد سمع كتاب الغربيين من مؤلفه أبي عبيد الهروي واستملاه منه ولم يسمعه من الخوارزمي، كما في الأنباه نفسه، ولكن ما الذي دعا المحقق أن يذهب إلى أن الحسن بن أحمد هو (أبو سعيد الحسن بن أحمد الطبسي النيسابوري). وثمة جملة من الأئمة قد سموا بهذا الاسم. منهم: الحسن بن أحمد الشماخي أبو عبد الله (ت 372 هـ) وهو علم في الحديث. والحسن بن أحمد بن عبد الغفار (ت 377 هـ)، وهو أبو علي الفارسي العلم الذائع الصيت. والحسن بن أحمد الأعرابي الغندجاني (ت 428 هـ) وهو العلامة النسابة العارف بأيام العرب وأشعارها الراجح المعرفة باللغة، وغيرهم. فلم لا يكون (الحسن بن أحمد) هذا الذي عناه الجواليقي في حكايته هذه، أبا علي الفارسي نفسه، وقد أضيف إليه من الرأي هنا ما عرف به حقاً في أن ما عرب من الألفاظ إنما هو من كلام العرب، كما سنوضحه في ذيل تعقببنا (4).
2 ـ قال المحقق: لم أهتد إلى معرفة (دعلج) وقد أغفله ومحقق العرب كما أغفل ترجمة الحسن بن أحمد الذي ترجمناه.
أقول: جاءت ترجمة دعلج هذا في كثير من كتب التراجم لا سيما وفيات الأعيان (2 ، 271) وسير أعلام النبلاء (16 / 30) وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي (2 / 291) وتاريخ بغداد (8 / 387) وهو دعلج بن أحمد بن دعلج بن عبد الرحمن أبو محمد السجستاني. كان محدثاً ثقة ثبتاً مأموناً، كما قال الواسطي والدار قطني. وجاء في طبقات الشافعية (أنه (دعلج بن أحمد بن محمد دعلج أبو محمد السجزي) والسجزي نسبة إلى سجستان على غير قياس. ولد سنة ستين ومائتين أو نحوها وتوفي (351 هـ). وله نيف وتسعون سنة.
3 ـ قال المحقق: هو علي بن عبد العزيز صاحب أبي عبيد والراوي عنه كتبه، توفي سنة 287 هـ. (انظر طبقات النحويين للزبيدي ـ ص / 144، ومعجم الأدباء ـ 14 / 11 ـ 4، وأنباه الرواة ـ 2 / 292) ولم يترجم له ناشر المعرّب في حين ترجم غيره من المشاهير كأبي عبيد وأبي عبيدة.
أقول: أبو عبيد هو القاسم بن سلام الخراساني البغدادي من كبار علماء الحديث، والأدب واللغة، صاحب التصانيف في القراءات (157 ـ 224هـ) (طبقات ـ 2 / 17، والتذهيب 265، والأعلام ـ 4 / 10).
أما أبو عبيدة فهو معمر بن المثنى التيمي البصري من أئمة الأدب واللغة ومن حفاظ الحديث (بغية الوعاة / 395).
4 ـ أقول لعل من المفيد إيضاح ما قصد إليه الجواليقي هاهنا. فقد اختلف الأئمة قديماً فيما جاء من المعرَب في القرآن الكريم، أهو عربي اتفقت ألفاظه فاشتركت وتواردت في العربية وسواها، أم أعجمي عربته العرب فاعتد دخيلاً أم هو أعجمي الأصل عربي الحال نطق به العرب بألسنتها. وهكذا تشعبت وجوه القول في ذلك إلى مذاهب ثلاثة: مذهب يقول أن القرآن عربي. لا معرّب فيه، فلو صح أن به دخيلاً للزم أن يكون في القرآن ما ليس بعربي. قال تعالى: (إنا أنزلناه قرآناً عربياً ـ 12 / 2) وقال ( وقال (إنا جعلناه قرآناً عربياً ـ 43 / 3). قال الشافعي: والقرآن يدل أنه ليس من كتاب الله شيء إلا بلسان العرب ). وقد أطال الاستدلال على مذهبه. وقال أبو عبيدة (إنما نزل القرآن بلسان عربي مبين، فمن زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول) كما جاء في كتابه (مجاز القرآن). وبذلك قال ابن جرير وأبو بكر البلاقلاني وابن فارس.
ومذهب يقول أن المعرّب الذي وقع في القرآن قليل يسير لا يخرجه عن كونه عربياً. فالأصل أن يكون ما جاء في القرآن على أسلوب العرب ونظمهم. وقد روي عن ابن عباس وابن جبير ومجاهد وغيرهم أنهم قالوا في أحرف كثيرة أنها بلغات العجم كاليم والطور والقسطاس...
ومذهب ثالث قال به أبو عبيد، فيه تصديق للمذهبين جميعاً. قال أبو عبيد القاسم بن سلام: (والصواب عندي مذهب في تصديق القولين جميعاً. ذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية، كما قال الفقهاء، لكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربية). وقد مال إلى هذا القول الجواليقي فقال (هي عجمية باعتبار الأصل، عربية باعتبار الحال). أي أنها أعجمية الأصل لكن العربي أعربتها بألسنتها فتداولها القوم وجرت على ألسنتهم وشاعت فأنزلت منزلة الفصيح من الكلم.
وقد أخذ به ابن الجوزي.
وكان ابن جني قد نزع إلى مثل هذه المقالة في الخصائص (1 / 362) في باب (ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب). قال أبو الفتح: (قال أبو علي: إذا قلت طاب الخشكنان، فهذا من كلام العرب، لأنك بإعرابك إياه قد أدخلته كلام العرب، ويؤكد هذا عندك أن ما أُعرب من أجناس الأعجمية قد أجرته العرب مجرى أصول كلامها. ألا تراهم يصرفون في العلم نحو آجُرٍ وابريسم وفرند وفيروزج، وجميع ما تدخله لام التعريف. ذلك أنه لما دخلته اللام نحو الديباج والفرند... أشبه أصول كلام العرب، أعني النكرات، فجرى في الصرف ومنعه مجراها. قال أبو علي: ويؤكد ذلك أن العرب اشتقت من الأعجمي النكرة كما تشتق من أصول كلامها. قال رؤبة:
هل ينجيني خَلِفٌ سِختيتُ أو فضةٌ أو ذهبٌ كبريتُ
قال: فسختيت من السَّخت كزحليل من الزحل).
وجاء في الكتاب (ص / 20):
(قال أبو عبيد: وروي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغيرهم في أحرف كثيرة أنها من غير لسان العرب، مثل: سجيل، والمشكاة، واليمّ، والطُّور، وأباريق، واستبرق، وغير ذلك.
أنبأني الشيخ أبو محمد عبد الله بن برّي، قال: قوله: أخبرني غير واحد، يعني: علي بن طِراد الزينبي نقيب النقباء (1)، وغيره: علي بن نبهان (2).
1 ـ قال المحقق: هو شرف الدين علي بن طراد بن محمد الزينبي المتوفى 538 هـ.
ولي نقابة النقباء في عهد المستظهر بالله، ثم للمقتفي.. (انظر المنتظم ـ 10 / 109) والكامل في التاريخ، حوادث سنة 522 هـ، والنجوم الزاهرة ـ 5 / 273)، وقد ورد في الأصل: طراد بن علي الزينبي.
أقول: الذي جاء في الأصل المخطوط هو الصحيح، دون ذلك جاء به المحقق. فقد ذكرت التراجم أن طراد بن علي الزينبي هذا هو واحد ممن قرأ لعيهم الجواليقي.
فقد جاء في النجوم الزاهرة وشذرات الذهب أن طراداً هذا هو ابن محمد بن علي الهاشمي العباسي أبو الفوارس نقيب النقباء ومسند العراق في عصره. كان أعلى الناس منزلة عند الخليفة، وأملى مجالس كثيرة، وولي نقابة العباسيين بالبصرة، وتوفي سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، وقد جاوز التسعين.
وفي الأنساب (3 / 37) أن الجواليقي أبا منصور.. قد سمع أبا القاسم علي بن أحمد البسري، وأبا الفوارس طراد بن محمد الزينبي.
وفي طبقات الحنابلة للحافظ رجب (وسمع الحديث عن أبي القاسم بن البسري وأبي طاهر بن أبي الصقر.. وطراد الزينبي). وفي البلغة للفيروز أبادي (قد قرأ على الخطيب التبريزي وأبي الفوارس طراد بن محمد الزينبي).
أما (علي) الذي أحلَّه المحقق محل (طراد) الذي جاء في الأصل، فهو نقيب النقباء علي بن طراد بن محمد الزينبي، وقد كان معظماً في الدولة وفقيهاً، لكنه كان متروياً من المعرفة بقوانين الوزارة وأسباب الرياسة، كما جاء في الفخري، فشغل أمور الدولة وشؤون السياسة.
2 ـ قال المحقق لم أهتد إلى ترجمته. أي ترجمة علي بن نبهان).
أقول: في ترجمة محمد بن محمد بن مواهب بن محمد المعروف بابن الخراساني أبو العز، النحوي العروضي، الشاعر الكاتب، وقد ولد (494 هـ) وتوفي (576) أنه قرأ على أبي منصور الجواليقي.. وسمع الحديث من أبي علي بن سعيد بن نبهان وغيره.. وقد جاء ذلك في بغية الوعاة (101) كما جاء في معجم الأدباء (19/ 46). ولعل الأصل محرّف والصواب هو (أبو علي بن سعيد) لا (علي بن نبهان). وجاء اسمه في البغية (محمد بن سعد) والصحيح (محمد بن سعيد) قال الصفدي في كتاب الوافي بالوفيات (3 / 104): (هو محمد بن سعيد بن إبراهيم بن سعيد بن نبهان أبو علي.. أسمعه جده لأمة أبو الحسين هلال بن المحسَّن الصابئ من الحسن بن شاذان وغيره، وسمع من جده هلال وأبي الحسن بشرى بن عبد الله الفاتني وأبي علي الحسن بن الحسين بن دوماء النعالي. قال ابن النجار ولم يبق على وجه الأرض من يروي عن هؤلاء الأربعة غيره، فألحق الصغار بالكبار وقصده الطلاب من الأقطار. وحدث كثيراً وكان صحيح السماع، وتوفي سنة إحدى عشرة وخمسمائة). وجاء اسمه في الفهرست (محمد بن سعيد بن إبراهيم بن نبهان) أيضاً.
وجاء في الكتاب (ص 20 ـ 21):
(ثم قال ابن بري رحمه الله: الحروف التي يجوز فيها البدل من كلام العرب عشرة، خمسة منها يطرد إبدالها، وهي الكاف والجيم والقاف والباء (1) والفاء، وخمسة لا يطرد إبدالها، وهي السين والشين والعين واللام والزاي).
1 ـ قال المحقق: أراد بالباء الأعجمية نظير (P) في اللاتينية، وهي الصوت الانفجاري المقابل للفاء الرخوة في العربية.
أقول: إنما يصدق هذا الكلام غالباً فيما عُرّب عن الفارسية. فكل ما في العربية من حروف الفارسية لا يطرد البدل فيه، وكل ما لم يكن في العربية من هذه الحروف أبدل منه حرف عربي، أشبه ما يكون مخرجاً بالحروف الفارسية، فيما تصوروا.
والذي ذكروه أن ثمة أربعة أحرف فارسية ليست في العربية، وهي الكاف الفارسية، والجيم الفارسية، والباء الفارسية، والزاي الفارسية. على أن في الفارسية كافاً وجيماً وباءاً وزاياً ينطقون بها كما ينطق العرب بها.
فالكاف الفارسية حرف بين الكاف والجيم، وهو يقلب في التعريب جيماً كقولك جزاف وأصله الفارسي كزاف بكاف فارسية، وقولك جورب فيما أصله كورب بكاف فارسية، وقد تقلب قافاً أو كافاً.
والجيم الفارسية حرف بين الجيم والشين، وهو يقلب في التعريب صاداً كقولك صك فيما أصله الفارسي جك، بجيم فارسية. لكنهم قالوا شاكري وهو الأجير. فيما أصله جاكر كما في القاموس وهو قليل. وقيل إن الأصل شاكر ومعناه عمل السخرة، كما في كتاب الألفاظ الفارسية المعربة للسيد أدّي شير.
والباء الفارسية حرف بين الباء والفاء، ولفظ الباء بها أغلب من الفاء، وهي تقلب في التعريب فاء، كما قالوا الفانيذ وهو ضرب من الحلوى وأصله الفارسي بانيذ بباء فارسية أو تقلب باء كما قالوا البد بضم الباء بمعنى الصنم وأصله الفارسي بت بباء فارسية وهكذا قالوا في البِرِند بكسرتين فِرِند أو برِند، وفولاذ في بولوذ بباء فارسية.
هذا والباء كما تلفظ في العربية، من حروف اللغات السامية والفارسية أيضاً.
والزاي الفارسية حرف بين الزاي والجيم وهو يقلب في التعريب زاياً عربية كما قالوا القز في كز. ولم يذكر ابن بري الزاي فيما يطرد إبداله بل جعلها مما لا يطرد إبداله.
أما الفاء الفارسية فهي حرف بين الفاء والباء، ولفظ الفاء بها أغلب. قال الشيخ طاهر الجزائري في كتابه (التقريب)، وقد استقينا منه كثيراً مما أتينا به: (وقد ذكره ابن سينا وكان موجوداً في عصره في بعض الكلمات الفارسية، ثم هجر النطق به حتى صار نسياً منسياً)
أما القاف التي ذكرها ابن بري فيما يطرح إبداله فليست في الفارسية أصلاً. فقد جاء في (التقريب): (وأما الحروف التي توجد في العربية ولا توجد في الفارسية فهي ثمانية: الثاء والحاء والصاد والضاد والطاء والظاء والعين والقاف) وجاء في المعجم الذهبي : (القاف الحرف الخامس والعشرون من الألف باء الفارسية.. هذا الحرف دخيل على الفارسية من اللغة العربية وبسبب تمازج اللغتين اختلط هذا الحرف بالغين أحياناً. وأغلب الألفاظ التي تبدأ بالقاف عربية أو مغولية أو تركية).
وقد مهدت بهذا لتخف الكلفة على القارئ في فهم أصول التعريب، حين الكلام على المعربات في الفصول القادمة.
وجاء في الكتاب (ص / 21):
(وأما البدل المطرد في كل حرف ليس من حروفهم كقوله: كربُج (1)، الكاف فيه بدل من حرف الكاف والجيم. نحو جورب (2)، وكذلك. فرند (3) وهو بين الباء والفاء، فمرة تبدل منها الياء، ومرة تبدل منها الفاء).
1 ـ قال المحقق: الكربج الحانوت، وقيل موضع كانت فيه حانوت، وأصله بالفارسية كربق. (انظر اللسان: كربج).
أقول: قالوا (كُربَج وقُربَق وكُربق) بفتح الباء كجندَب، وهو الحانوت أو الدكان أما الأصل الفارسي فهو (كربه) وجعله بعضهم (كُلبه) باللام كما في اللسان والتقريب. وقد وقع في ظن محقق المعرب (280) أنه محرّف، ولكن في معاجم الفارسية (ُكلبَه). وزاد اللسان (وأصله بالفارسية كربق) كما ذكره المحقق، والصحيح (كُربَه). وكربق هو اللفظ المعرّب منه، إذ ليس في الفارسية (كربق) وقد ذكرنا في تعقيب مضى أن (القاف) دخيلة على الفارسية.
وفي تعريب (كربه) مسألتان: الأولى أن صاحب المعرب وابن بري قد اعتدا الكاف فيه كافاً فارسية بين الكاف والجيم، أبدل منها بالتعريب كاف عربية أو قاف فقيل (كربج وقربق وكربق) بضم فسكون ففتح، وفي التقريب نحو من ذلك. على أن أدي شير والمعجم الذهبي قد جعلا الكاف في (كربه) عربية لا فارسية، وفي الفارسية (كاف) تلفظ كالكاف العربية وهي الحرف السادس والعشرون. وأضاف أدّي شير لفظاً رابعاً لتعريب (كربه) هو (قربج). والباء في (كربج) وأختيها مفتوحة كما فتحت في الأصل، وقد حكى اللسان الضم أيضاً، كما حكى أدى شير ضم الباء في (قربج) خاصة.
والمسألة الثانية. أن الهاء في (كربه) ترسم ولا ينطق بها، وإنما ترسم للدلالة على أن ما قبلها متحرك لا ساكن. وقد قلبت بالتعريب جيماً أو قافاً.
2 ـ أقول: لم يعرض المحقق لما جاء في الأصل من قول ابن بري، (كقوله كربج الكاف فيه بدل من حرف بين الكاف والجيم نحو جورب) فكيف يكون (كربج الكاف فيه.. نحو جورب). وقد تبين بالبحث أن ثمة كلاماً سقط من الأصل، ولم يفطن له المحقق فقد جاء في المزهر (1/ 162) حكاية لهذا القول بالنص الآتي: (كقولهم كربج الكاف فيه بدل من حرف بين الكاف والجيم ـ فأبدلوا فيه الكاف أو القاف نحو قربق، أو الجيم ـ نحو جورب). وهذا هو الصحيح. وجورب بفتح فسكون معرّب (كورب) أبدل من كافها الفارسية جيم عربية. فالغالب أن تبدل من الكاف الفارسية جيم كجورب من كورب وجزاف من كزاف وقد تبدل منها كاف نحو كربج، وقالوا الكَرد بمعنى العنق وأصله كَردَن بكاف فارسية، أو تبدل منها قاف نحو قربق، وقالوا: القَرد لغة في الكَرد.
3 ـ أقول قوله (وكذلك فرند هو بين الباء والفاء..) الأرجح فيه (وكذلك برند) بباء الفارسية (بين الباء والفاء، فمرة تبدل منها الباء)، فيقال برند بباء عربية (ومرة تبدل منها الفاء) فيقال فِرِند. والبرند والفرند. بكسر الأول والثاني، جوهر السيف وماؤه. وقد شرحنا الإبدال فيه في الكلام على الباء الفارسية. وعلى هذا نص المظان. ففي الألفاظ الفارسية لأدي شير (الفرند بكسرتين السيف ووشيه وجوهره، تعريب برند بفتحتين وباء فارسية. والبرند بكسرتين لغة فيه / 119). وهو نحو ما جاء في التقريب (فرند السيف بكسرتين جوهره ووشيه، وهو معرب برند بفتحتين وباء فارسية أبدلت فاء لقربها منها. وجاء فيه برند بكسرتين بإبدال الباء الفارسية باء عربية لقربها منها أيضاً).
على أني رأيت المعجم الذهبي يذكر الفرند في الألفاظ الفارسية، وهو معرب، فكأنه استعمل في الفارسية بلفظه العربي بعد تعريبه، وليس هذا غريباً.
وجاء في الكتاب: (ص / 21)
(وأما ما لا يطَّرد فيه الإبدال فكل حرف وافق الحروف العربية كقولهم: وكذلك ـ قفشليل أبدلوا الشين من الجيم، واللام من الزاي، والأصل ـ قفجلَيز ـ وقيل: فقجلاز، وأما القاف في أوله فبدل من الكاف التي بين الكاف والجيم (2)
1 ـ قال المحقق: لم يقل أحد من المتقدمين أن ـ العين ـ في إسماعيل أبدلت بالهمزة، والهمزة أصل إلا سبيبويه. والذي يذهب الباحثون إليه في علم اللغة المقارن في اللغات السامية أن العين أصل وأن إسماعيل هو يشماعيل في العبرانية، والأصل ـ شمع ـ وهو الفعل ـ سمع ـ في العربية، والياء واللام لاحقة بمعنى الإله، وهو نظير جبرائيل وميكائيل وغيرهما.
أقول: هاهنا تكملة يتضح بها المعنى، وقد سقطت من الأصل. فقد جاء في المزهر (11 / 162): (أبدلوا السين من الشين والعين من الهمزة ـ وأصله اشمائيل).
وفحوى كلام المحقق أن الأوائل لم يتعرفوا أصل (إسماعيل) كما هو في العبرانية وأن الباحثين الجدد في علم اللغة الحديث اهتدوا إلى هذا الأصل، وهو من (شمع) العبراني ومعناه (سمع) وأن (الياء واللام) بمعنى الإله. أقول قد قال بهذا الأوائل وصدقه الأواخر. فانظر إلى ما جاء في كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية لأبي حاتم أحمد بن حمدان الرازي (ت 322 هـ) قال أبو حاتم الرازي (2 / 164): (وجبرئيل وميكائيل قرآه قوم بالهمزة وقوم بغير همزة.. قال ابن عباس: وهو منسوب إلى ـ أيل ـ وأيل اسم من أسماء الله.. وكذلك جبر هو مضاف إلى أيل وميكا مضاف إلى أيل.. وكان ما جاء على هذا المعنى فهو اسم مضاف إليه مثل إسماعيل) وأردف (وسمعت بعض أهل المعرفة يذكر أن معناه اسمع يا ألله). وروى عن الأصمعي قوله (فهذه الأسماء التي تجيء مضافة إلى أيل معناها كلها كما قلنا عبد الله ورسول الله ونبي الله...، هي بالعبرانية أو غيرها من اللغات مضافة إلى الله تعالى، وأيل اسم من أسماء الله تعالى). وقد نسب الرازي هذه الأسماء إلى العبرانية والسريانية وقد عربها العرب. وسيأتي فضل بيان لذلك في الصفحات الآتية.
2 ـ أقول إنما يوردون (القفشليل) مثالاً لما وقع في تعريبه إغراب. فقد حكى (التقريب) عن أصل هذا اللفظ روايتين، إحداهما أنه (كفجه ليز) بكاف فارسية، ومعناه مغرفة الطعام، وقد حكاه عن القاموس قلبت فيه الكاف الفارسية قافاً، وهو قليل، والجيم الفارسية شيناً، والغالب أن تقلب صاداً (كما قالوا في جك: صك). وقلبت الزاي لاماً فلم يراعوا فيه مخرج الحرف وإنما راعوا عدد الأحرف وأتبعوا الآخر ما قبله. والرواية الثانية (كبجلاز أو كفجلاز) بكاف عربية وجيم فارسية ومعناه آخذ الرغوة. وقد أيد أدّي شير الرواية الأولى لكنه جعل كافها عربية وكذلك المعجم الذهبي. و(كفجه) معناه المغرفة، و(ليز) ما يسلس ويتزحلق، وأصل معناه الأرض الناعمة.
وذهب الميداني النيسابوري في (السامي) مذهباً آخر فجعله (كفجكير) بكاف عربية وأخرى فارسية بينهما جيم فارسية، وفي الأخير راء. وقد أتى المعجم الذهبي بنحو منه (كفكير) للمعرفة ذات الثقوب فقال أنه جعل في العامية كفكير بكافين عربيتين.
(للبحث بقية)
1 طبع بمؤسسة الرسالة ببيروت (1405 هـ / 1985).
----------------
نشر هذا البحث في :
مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 23 - السنة السادسة - نيسان "ابريل" 1986 - شعبان 1406