إنما الحيزبون والدردبيـسُ ** والطخا والنقاع والعلطبيـــسُ
لغة تنفر المسامع منهـــا ** حين تـُروى وتشمئزّ النفــوسُ
(صفي الدين الحلي)
ثمة أقوام منا قد استخفهم ميراث قوم آخرين،كانوا قد صنعوه وفق آدابهم ،فأحسنوا؛ لأنه منها وإليها يعود، فجاء هولاء فأخذوه كما هو وألصقوه على آدابنا فناءت به، إذ لاتلتقي عجمة وبيان، كما لايلتقي شرق وغرب ..
وارفع عن ذهنك - أخي القارئ- بعض أساتيذ أخذوا عن الغرب وثقافة الغرب أجود ما فيه ،ثم طوّعوا ما أخذوا لخدمة أدبنا فجاءوا بالماتع المفيد ..فهولاء ليسوا معنيين بهذا الكلام ، إنما المعنيّ بعض المشتغلين بالنقد الأدبي الحديث، ممن كان فيه "حاطب ليل"، قد جمع كلمةً من هنا وكلمةً من هناك ،ثم طفق يلوي عنق اللغة كي توافق ما حطب ، حتى إذا نظرت ثم نظرت لا تجد إلا من يتكلم بكلامنا عن كلامنا بما ليس من كلامنا..!
وانظر أحدهم إذ يقول محلّلاً قصيدة عربية الوجه واللسان :
"نموذج يتوتر وينشحن ويولد تبئيراته ويصنع عوالمه عند نقط الانقلاب الحرجة، وعند التمفصلات الانكسارية حين الأشياء بين بين وهي في الآن نفسه لا هذا ولا ذاك،إنه البرزخ والمنزلة الملتبسة والتوارد المختلط والشقي بالحد وهو لحظة صبح الليل ..." (1)
.. فما التمفصلات الانكسارية ؟! وكيف يكون الشيء بين بين وهو في الوقت نفسه لا هذا ولاذاك ؟ ولمَ لم يكن- على الأقل- لا هنا ولا هناك؟..وما صبح الليل؟ وأي ميزان سمح بـ(التمفصلات) و(تبئيراته)؟!
وإليك قولَ آخر:"أردت أن ألقي الضوء على مايتراءى في حركة المتن اللغوي من الأشياء إلى المفاهيم أو العكس ،لتتمّ الوقفة التي تتقرأ علائق الأشياء، وتبطن شيئاً من الوعي الشعري الذي يحدث عند اجتراح الكلمة لصمت الأشياء، فننظر إلى الصلة بين الوعي الإنساني والأشياء وما حوله من أشياء.." (2) ...أي طلاسم تلك؟ ماذا ترك للسحرة والشياطين وصنّاع الألغاز والألاعيب البهلوانية؟ كيف يقول هذا الكلام أكاديمي معروف في أشهر مطبوعة سيارة لدينا،منذ ثلاث سنوات ثم لايجد من يسأله :ماذا تقول يا أخا العرب؟
ثم إليك المزيد، حتى ترى أنه لم يعد النقد فناً مسنوداً بذخيرة ثقافية، بل غدا مهارة صفصفة الكلمات بأسلوب القص واللصق كيفما اختلف، يقول ناقد محلي :
"ثمة كاتب هنا يرسل كتابة متحولة تعيد تشكيل اللغة المفخخة بوشي التشبيه وخطف الاستعارة نحو لغة مرتحلة بهموم السائد المعايشي.والهدف هو التشابك بين مسرح الكلام(القصة) وهذه الذات المرسلة والمتشابهة مع الكل لذلك كان التقطيع ابتداءً عبر خصوصية السيري ومحورية هاجس الخصوصية هو طغيان النزعة الفردية لمصادر الشخصيات كما سنرى لاحقاً" (3) .
ولاتتوهم أنك سترى شيئاً لاحقاً ،إنما هو يداعبك فقط ليعود فيقول:"حيث نجد الحكايات تتضمن وفرة التفصيل والتي تنتج بالتأكيد الكثير من الوظائف الظاهرة والمضمرة عبر ثنايا النص انطلاقاً من أن الكلام المنطوق يمتلك هو الآخر الشقاقية الكتابية داخل الصوت وداخل اللغة ".
هل دار كل هذه الدورة من أجل أن يقول : إن القصة تتضمن أحداثاً . أم أن ثمة شيئاً أعظم لا ندريه؟
ومامعنى التعويذة الأخيرة :" الكلام المنطوق يمتلك هوالآخرالشفافية الكتابية داخل الصوت وداخل اللغة " ؟ وما الذي يدعوه لذكر كلمة (هو الآخر) وما من (أول) يعطف عليه؟ وأي جدوى لأن يقول:" داخل اللغة " ومامن كلام يقع خارجها؟!
وهكذا.. تظل تبحث عن " الدلالة " في خضم هذه الأسلاك الشائكة فلا تجد شيئاً، هذا في الوقت الذي يصكّ سمعك هولاء،بأن ثمة دالاً ومدلولاً،ورسالةً، ومرسلاً ،ومرسَلاً إليه، وربما لم يتأكدوا بعد من فهمك لهذه القضية فأخذوا يرسمونك أنت(دائرة) ويرسمون الشاعر(دائرة) أخرى ويجعلون القصيدة (سهماً)يطير منه إليك!..على أنهم- حتى وإن أسرفوا في النص على هذه القضية وهي من مسلّمات الشداة- لو عدت تبحث في كلامهم عن تطبيق ما قالوا لما وجدته، إن هي إلا معمعات وتهويمات يتبارى فيها القوم..
ولا تتوهم أن سبب هذا الغموض علم كبير، فما هو إلا العجز الأكبر،فالكلمات عربية - كما رأيتَ - ولكنك لا تستطيع أن تفهم منها شيئاً لأنها ركّـبت تركيباً أعجمياً.. وقد تتساءل: ما الذي يدعو هؤلاء إلى هذه الحذلقة؟ ..إن الذي يدعوهم لهذا، هو علم الواحد منهم أنه متى أخلى مقاله من هذه المعابثات اللفظية صار أفرغ من فؤاد أم موسى - لأنه غالباً لا معلومة فيه- فأنى له - بعد ذلك - التثاقف في المحافل؟!
.. لقد عهـِدنا النقد يُـفهم ولا يُبهم، وعَهـِدنا النقاد يأخذون بأيدينا إلى روعة البيان وشهْد الإبداع، ولربما صفقنا طرباً لقصيدة مرت علينا - قبل تحليلهم - مروراً عابراً ،فإذا بهولاء يكدرون علينا إبداعاً هم ناقدوه!... وإذا بهم إذا أرادوا أن يُكحلوه أعموه..! .. حتى إنك لتقرأ قصيدة فتعجبك ولا تفتأ تعيدها مترنماً بها، فإذا ما قرأت لها تحليلاً من أشباه هؤلاء شتمت الحبر الذي كُتبت به !
فإذا ماعييت من النقد ، واتجهت إلى الأدب وجدته يسير مسار النقد، ربما احتجاجاً على سوء ما هو به صانع ، فأعلن أن ( بيده لابيد عمرو)!، فذا أحدهم يقول :
أنام ( جميعاً) .. وليس بقربي أحد!
ننام (وحيداً) .. فأذهل من كثرتي،
وجهلي بـ(كم) العدد!
فما كنتُ لي ..ذات يوم حيث كان الجميع لهم
ولكنني كنت وحدي .. كثيراً أفيض بهم
فكيف سأعثر يوماً عليّ، وكيف سألمحني من بينهم؟! (4)
هذا مايقوله شاعر(!) في مجلة ثقافية عربية(!).. ولكن لا تلمه ، لعله فتش في التاريخ عن شخصية "يتناصّ" معها فلم يجد إلا "هبنـّقة" وكلمته المأثورة: "أنت أنا فمن أنا؟"!!.. غير أنه أحسن- على أي حال - بقطعه الطريق على هواة تكسير الكلام إذ لن يجدوا في قصيدته مايزيدون عليه.
وبــعـــد:
فإن " البيان" إرث عربي تليد ، وهو أعلى ما توصف به لغة ، فبه أثنى القرآن الكريم على اللغة العربية .. وما كان العيّ والتعمية والإلغاز – يوماً- فخراً لمفتخر، فما "العجمة" و " ليُّ اللسان" إلا من سمات لغاتٍ أخر، لو علم الله فيها خيراً لما قدّم العربية عليها وجعلها لغة كتابنا ولغة جنتنا.
ولئن بقيت صحفنا تعج بمثل هذه الألغاز فلبئس الوارثون نحن ،ولبئس حاملو أمانة الإرث إلى الأجيال.
ـــــــــــــــــ
(1) محمد البنكي، في مجلة البحرين الثقافية.
(2) عالي سرحان القرشي ، في مجلة اليمامة السعودية.
(3) عبدالرحمن المجماج، في مجلة اقرأ السعودية.
(4) عماد أبو سالم، في مجلة المنتدى الإماراتية.