تثنيات المعنى في مقالة: (ريشة الخريف) (1)
تمثل المقالة الوصفية أحد أنواع المقالة، وتتميز بعدم اختصاصها بموضوع خاص بها، فليس الوصف موضوعاً، بمقدار ما يكون الموضوع موصوفاً، وهو ما يجعله غير مقصود لذاته في الغالب، وإنما تقدمة لموضوع أو طريقة لتقديم فكرة، أو مناسبة لتقديم نص أدبي حر. وأغلب ما يستقل الوصف بنفسه حين يكون الموضوع وصف الطبيعة.
وعبد العزيز الرفاعي من الكتاب الذين يعتمدون على الوصف في كتاباتهم، ويبثونه في تضاعيف أعمالهم، ولأنه كاتب ملتزم بقضيته الاجتماعية، والقومية لم ينشغل كثيراً بكتابة المقالة الوصفية المجردة، مما أدى إلى قلة هذه اللون من المقالة لديه (2) مكتفياً بالمظاهر التي سبقت الإشارة إليها، ومن القليل الذي أخلصه للوصف مقالة: (ريشة الخريف) التي يأخذ الوصف أو قضايا الطبيعة كل جوانبها حتى يكاد يكون هو الموضوع المقصود، ويكون تسجيل ملامح التغير هو غرض المقالة ، دون أن يمنع ذلك من البحث عن معان أخرى لها.
يبدأ الكاتب بالحديث عن التغير الذي طرأ على منظره المعتاد، الأشجار الخضراء تصيبها الصفرة من جوانب عدة، والشوارع تمتلئ بالأوراق الصفراء اليابسة، والمطر رذاذ خفيف بعد أن كان يجرف ما يقع في طريقه.
ومن خلال الموازنة بين المنظر الجديد ومنظره المعتاد يدخل إلى الحديث عن الخريف، وعلاقته بالذبول، وموقف الكتاب السائد منه، ويخلص من هذا كله إلى القول بأن جمال الخريف لا يقل عن جمال الفصول التي تورق فيها الشجر وتخضر، فهو:
1- يشكل في بدايته تغييراً عن منظر سائد ألفته العين وملته النفس.
2- يحمل في داخل تكوينه ألواناً متعددة لا تحملها الخضرة في الأشجار. تتكون من الأصفر، والأحمر، وبقايا الأخضر، وهو ما يميزه عن الأخضر الصافي.
3- حين يستوي الخريف، ويفضي إلى الجفاف، وتتعرى الشجرة، فتكشف عن ساقها، فهو يحمل في هذا الوضع ملمح الإشراق من جديد، النهاية التي تعقبها البداية المثمرة، إشارة إلى الأمل والتجدد في الحياة.
بعد هذا التلخيص أو إعادة الصياغة للمقالة في بنيتها الأولى، نقف عند جوانب أخرى في المقالة لم تنص عليها المقالة، ولا تظهر في بنيتها التركيبية للجملة، تبدو في تضاعيف الألفاظ، وعلاقات الفقرات ببعض.
أول ملاحظة تواجهنا في المقالة هي الطريقة التي ترابطت بها الفقرات، إذ سارت على طريق التوالي المكاني(3)، كل فقرة تتلو الفقرة التي بعدها دون رابط لفظي يربطها بها، فليس هناك أدوات تتعالق عن طريقها أجزاء المقالة : (من النافذة، كنت كلما، اليوم..، الأوراق الصفراء، من عادتي أنني، في بداية سكناي، اعتادت عيناني، ولكني)، الفقرة الوحيدة التي ترتبط بالتي قبلها هي الفقرة الأخيرة، وجاءت مرتبطة عن طريق الاستدراك الذي يفيد التراجع عن المعنى الأول، أو أن ما يليها سيخالف ما قبلها، وهذا يعني أن ما يظهر من ترابط لفظي يصحبه تخالف من حيث المعنى في هذه الفقرة بالذات، وهو في نهاية الأمر يعزز انفصال كل فقرة عن الأخرى، مما يدفع إلى القول بأن الفقرات تتصل بشيء غائب عن المقالة أو خارج عنها تريد أن تقيده، سأحاول البحث عنه فيما يأتي أو استكشافه.
حين نتأمل مضمون هذه الفقرات لا نجدها تتناول موضوعاً محدداً ، فعلى الرغم من الأوصاف التي نعم بها الخريف، فهي لم تخلص لهذا الموضوع الذي جاء في تضاعيفها، ووجدناها تحفل بعدد من الموضوعات أولها التحول الذي بدا في رؤوس الأشجار من الخضرة إلى الاصفرار، ثم ذكر ملامح المشهد الذي اعتاده، وهو ما يحمل في طياته الجمع بين المشهدين والموازنة بينهما، مما يعني أن قضية الخريف ومراحل السنة الأخرى هي القضية التي شغلت أجزاء المقالة، فجاءت بصورة مقابلة ذات صفات متباينة بين الخريف وباقي المراحل، قدمها كما تبدو في الجدول التالي:
المراحل الأخرى الخريف
شديد الخضرة إلى حد السواد الأوراق تميل إلى الاصفرار الضارب إلى الحمرة
المطر يتعاون مع سلطات النظافة في غسل الشوارع المطر يدهن الشوارع بالماء، أو يريد أن يرشه رشاً لطيفاً
الكتاب والشعراء ينددون به
يسقط المطر هادئا رزيناً الأمطار تسقط في هدوء تام
الشوارع نظيفة نظافة مزعجة أوراق صفراء كثيرة تغطي الرصيف
في إطار هذا التناظر بين عناصر الموازنة نجد الكفة تميل ناحية الخريف، فبينما المطر في الصيف يسبب النظافة المزعجة نجده في الخريف يدهن الشارع دهاناً، ويرشه رشاً لطيفاً، وفي حين أن ما يقوم به المطر وهو هادئ رزين يجعل الخضرة سواداً، والنظافة مزعجة، لا نجده يفعل ذلك في أوراق الشجر التي تسقط في الخريف، وإنما يصبح هذا السقوط لوناً من الوفاء/الشوق للأم الأرض.
ونجد ملامح هذا الرجحان في اللغة التي يستخدمها الكاتب في الحديث عن الخريف، وملامحه، فبدايته في أعالي الشجر تيجان من ذهب، وأجزاؤه في جوانبها أوشحة من نسيج أصفر.
وبعد أن يجعل اللون الأصفر ذهباً، أو حلية يفصل بينه، وبين الخريف، ويورد موقف الكتاب والشعراء الظالم للخريف، فيدافع عنه، ويحمل مسئولية كره الشعراء اللون الأصفر الذي عده قبل قليل ذهباً أو وشاحاً، وفي التذكير بأن هذا اللون حلية ما ينفي ضمناً تهمة السوء والقبح في ذلك اللون، ولا ينفي هذا المعنى، أو يقلل من هذه الدلالة قوله إن الأصفر دليل الذبول، أو دائماً دليل الذبول، فيظهر أن هذه الجملة خاصة (دائما) جاءت للإيهام بموضوعية الرؤية من جهة، وليتم من جهة أخرى الفصل الكامل بين الخريف واللون الأصفر، ويجنب الخريف أي رؤية سلبية تجاهه، فتكون منحصرة في الأصفر، فكأن اللون الأصفر هو الذي أساء إلى الخريف وهو ما يدفعنا إلى التساؤل عن حقيقة العلاقة بين الأصفر والخريف من خلال التساؤل: هل الأصفر دليل الذبول، وهل الناس يكرهونه لأن لونه أصفر؟ أم لأنه يعبر عن الخريف، والمدلول/الخريف/النهاية هو الذي صبغ اللون الأصفر بهذا المدلول، بمعنى أن دلالة الخريف على النهاية، وارتباط هذا الخريف باللون الأصفر صبغ هذا اللون بهذه الدلالة التي هي ليست سمته اللازمة.
فإذا كان الكاتب يكره الأصفر لأنه دليل الذبول، والذبول هو الخريف، فكيف يفصل الآن بين الأصفر والخريف، فيجعل الخريف مظلوماً، ويحمل الأصفر المسئولية؟ الذي ليس في النهاية سوى سمة من سمات الخريف، أو دليلاً عليه، وهذا ما يعزز موقف الدفاع عنه.
ويتجاوز الكاتب الفصل بين الخريف واللون الأصفر إلى أن يجعل الخضرة مستقلة بذاتها، لا تنتمي إلى الصيف ولا تنتمي إلى الربيع، وهنا يصبح الأصفر مقابل الأخضر ولا مقابل للخريف، وهو ما يعني إخراج الخريف ولو إلى حين من دائرة المقابلة، والمفاضلة لينحصر الجدل بين الأخضر والأصفر، مما يجعلها مقارنة بين الألوان دون ارتباط هذا اللون بحقيقة الشيء، وهو ما ينعكس بعد ذلك على دلالة الخريف التي ستنحصر مشكلته في كون لونه أصفر، ولا يطال ذلك حقيقته، أو معناه، وما ينعكس فيه، وهنا يفارق الخريف حقيقته التي تعني النهاية ليصبح ما يميزه عن غيره هو اللون الأصفر، يماثل فصل الصيف المتميز بلونه الأخضر.
واعتمد الكاتب لإيصال فكرته هذه على تصوير الأشجار بالفتيات اللاتي تحولن من فتيات يرتدين زياً موحداً رسمياً إلى فتيات ملابسهن تحوى عدداً من الألوان الزاهية، وغدا لكل واحدة منهن لون تختلف به عن الأخرى، فكأنهن في حفل ظهرن فيه بزينتهن، يتفاخرن بألوانهن الزاهية خارج نطاق المدرسة ذات الزي الرسمي الموحد، إضافة إلى أن هذا تغيير من حال إلى حال أفضل منه فإنه يوحي بأن هذا اللون لباس خارجي لا يعدو الظاهر يمكن أن يبدله الإنسان في أي وقت دون أن يكون لهذا التغيير أي أثر على حقيقة ما يستره الغطاء، ومن خلال سلطة الصورة كما يقول البلاغيون (4)، يمارس الكاتب الإقناع بالإيهام بأن فكرته صحيحة نظراً لتطابق حال المشبه والمشبه به بالظاهر، وإمكان تطابقهما في الباطن.
وبعد أن يطمئن الكاتب على قوة حجته، وربما اقتحامه عقل المتلقي يختم مرافعته بالقول: "هذا الخريف رائع"، وهي جملة اسمية خبرها اسم، والاسم يفيد الثبوت كما يرى البلاغيون (5)، تحوي حكما قاطعاً مبنياً على ما ساقه من حجج، كما أنها جملة مقصودة في بنائها، تبدأ باسم الإشارة الذي يفتح الباب للتخمين عن حقيقة المشار إليه.
يتبع الكاتب اسم الإشارة بلفظ معرف بـ (أل)، والاسم المعرف بـ (أل) بعد اسم الإشارة يعرب في الغالب بدل، وهذا يعني أن هناك اتحاداً بين الإشارة والخريف وأن المشار إليه لم يتحدد بعد، فسواء قلنا: الخريف رائع، أو هذا رائع، فالمعنى واحد، وهنا تظل الحاجة قائمة إلى البحث عن المشار إليه الذي لا تحده لفظة (الخريف).
أشير من قبل إلى أن الفقرات باقتصارها على رابط التوالي المكاني توحي بارتباطها بشيء خارج عن النص، ويتظاهر هذا المعنى مع الدلالة المفتوحة للإشارة إلى مشار خارج النص، ولو أعدنا الجملة بتغيير يسير في الصياغة وجعلناها: (هذا خريف رائع) لربما أصبحت أكثر دقة في الدلالة على الخريف الذي أمام الكاتب، وألهمه هذه الفكرة، وأكثر تعبيراً، لكنها لن تكون كافية للتعبير عما يدور في ذهنه، وما يتحدث عنه خارج إطار المشهد، وإنما في جوانب أخرى أثارها المشهد في نفسه، ومن هنا نتساءل عن (أل) التعريف التي بدلت المعنى، وجعلت (الخريف) معادلاً للمشار إليه، فهو يتضافر مع سائر أجزاء المقالة للكشف عن حقيقة المشار إليه، وتحديد (الخريف) المقصود هنا.
تأتي (أل) عند النحويين للعهد، أو للجنس، والعهد يعني الحضوري، أو الذهني، أو الذكري، ومن هنا فهي لا تخرج في هذا المعنى عن إطار تنكير كلمة (خريف) وأضعف منه دلالة على المعنى المراد، وهنا تتخلف القاعدة النحوية، ولا تصبح الزيادة في المبنى زيادة في المعنى، ويمكن أن نقول إنها حشو كما يعبر البلاغيون، ومن هنا فدلالة (أل) على الجنس أقرب من حيث الصناعة النحوية، وأكثر دلالة للبنية اللغوية، ويتناسب مع لغة المقالة كاملة، وهو ما يعني أن الكاتب يتحدث عن مرحلة الخريف بكل أنواعها، تلك المرحلة التي يعيشها ساعة كتابة المقالة، و أثارتها في نفسه حين رأى المشهد أمامه فانعكس على بناء المقالة، ولغته في التعبير عن الظواهر أمامه، تلك الإثارة التي تشي بها (لكن) الاستدراكية في الفقرة الخامسة، وتوحي بانقلاب في سياق الجملة يوازيه انقلاب آخر في رأي الكاتب تجاه الخريف ما كان المشهد أمامه ليثيره ويوصل إليه لولا ما في نفسه من استعداد وقبول.
-------------
(1) عبد العزيز بن أحمد الرفاعي، جريدة الجزيرة، الرياض، عدد5534، 2/4/1408هـ .
(2)انظر: إبراهيم بن محمد الشتوي، أدب عبد العزيز الرفاعي دراسة موضوعية وفنية، الطبعة الأولى، (الرياض، دار الرفاعي للنشر والطباعة والتوزيع، 1419هـ)، ص223.
(3) التوالي المكاني وصف للحال التي جاءت عليها فقرات المقالة، والتي تعني أنها لم تعتمد فيما بين الفقرات نمطاً من الترابط السببي أو المنطقي أو الاستنتاجي، فجاءت كل فقرة تحوي فكرة ليست ناتجة عن التي قبلها ولا مكملة لها، وإنما مستقلة عنها، مرتبطة بموضوع المقالة الكلي .
(4) يرى البلاغيون أن التشبيه يفيد تقريب المشبه، وإمكانية وقوعه من خلال نقل المعنوي إلى الحسي، انظر: عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، د.ط، صححه وعلق حواشيه السيد محمد رشيد رضا، (بيروت، دار المعرفة، 1402هـ/1982م)، ص102.
(5) انظر: المصدر السابق، ص132 .