18 - المضعَّف
المضعف من الأفعال هو الذي يكون آخره حرفين من موضع واحد، وذلك نحو رَدَدْت ووَدِدْتُ واجْتَرَرْتُ وانْقَدَدْتُ[1] ..... وفيه تكرر حرف من أصول الكلمة . و الأصل في اللفظ مأخوذ من قولهم : الدِّرْعُ المُضَاعَفَةُ الَّتي نُسِجَتْ حلقتين حلقتين [2]..
19 - الضمير
ماكُني به عن متكلم أو مخاطب أو غائب [3].... وهو في اللغة يستعمل في قولهم : ضَمَرَ الفرس وغيره ضموراً، وذلك من خفّة اللحم [4] ..والجامع بين الاستعمالين اشتراكهما في المعنى وهو الدلالة على دقة الشيء وغيبته واستتاره ..
20- الضمة
إحدىالحركات المعروفة، يقال في حركات الإعراب : رفع ونصب وجرّ أوخفض وجزم . وفي حركات البناء ضمّ وفتح وكسر ووقف[5] ولما كانت هذه الحركة تحصل في الفم ،الذي يأخذ شكلاً[6]معيناً عند إخراجها، وكان المعنى اللغوي يطلق على الحلبة، يقولون : استبقوا في الضَّمة، وهي الحلبة لأنها تضمّ الخيل المندفعة في كل أوب[7]نقلوها إلى علوم لغتهم للمشاركة بينهما .
21-المطلق
صفة أطلقت على المفعول الذي هو مصدر الفعل الذي يعمل فعله فيه [8]نحو : ضرب ضرباً ... ولما أخلي أمامه فأرسل مباشرة إلى مفعوله ،فقد اشبه عندهم الناقة التي أطلقت من عقالها وأرسلت ترعى حيث شاءت . كما قالوا : فرس محجَّل ثلاثٍ : مُطلق يدٍ أو رجلٍ [9].
22- العلة
هي دليل على الحكم النحوي، باعتبارها أحد أركان القياس الأربعة : الأصل والفرع والعلة والحكم . [10]والنحوي يسعى جاهداً لاستخراج علل لأحكامه، وإظهار وجه الحكمة فيه، قال سيبويه : " وليس شيء مما يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجهاً "[11]. واستخراج علّة الحكم تتطلب التدبر وكثرة المعاودة، فهي مشابهة لعملهم في إبلهم، قالوا عالَلْتُ الناقة إذا حلبتها ثم رفقت بها ساعة لتفيق، ثم حلبتها، فتلك المُعَالَّة والعِلال [12]ومن هذه المعاودة والتكرير كانت تسمية العلة النحوية .
23- العامل :
ما أوجب كون آخر الكلمة على وجه مخصوص من الإعراب [13].والعوامل بهذا التعريف إما ظاهرة لفظية، وإما مقدرة، فضلاً عن كونها تقع من الأفعال والحروف والأسماء [14].....
ولما كان العامل يجلب أثراُ، ويترك حدثاُ نقلوه مما حاكاه في حياتهم . إنه عامل الرُّمح وهو مادون الثَّعْلب قليلاً مما يلي السنان، قال الشاعر : [ من الرمل ]
أَطْعَنُ النَّجلاَءَ يَعْوِي كَلْمُهَا * عَامِلُ الثَّعْلَبِ فيها مَرْجحِنُّ [15]
ونظراً لقدرة العامل في العمل، وهو من مسميات بيئتهم، إذ عُرف اسمه للقوائم، جنباً إلىجنب مع عامل الرمح، قالوا : " الرمح بعامله، والفرس بعوامله "[16] ..
24- الفتحة
إحدى الحركات المعروفة، وهي عبارة عن فتح الشفتين عند النطق بالحرف وحدوث الصوت الخفي الذي يسمى فتحة أو نصْبَة، وإن امتدت كانت ألفاً، وإن قصرت فهي بعض ألف . وصورتها كصورة ألف صغيرة مضطجعة [17]..
وقد انتقل لفظها إلى مصطلح النحوي، لعلاقة بين المعنيين . إذ هي في الأصل من أوصاف الناقة، قالوا فَتُوحٌ، واسعة الإحْليل، ونُوقٌ فُتحٌ[18] . أو ربما نقلوها من قولهم : الفتح : الماء يَخْرُجُ من عَيْن أو غيرها [19]وهما من مشتملات حياة العرب المادية ..
25- الماضي
لقب الفعل الذي يدلّ على حدث مضى وانتهى، جاء في الكتاب : " وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ الأسماء، وبُنيت لِما مضى ..فأمابناء ما مضى فّذهبَ وسَمِعَ ومَكُثَ وحُمِدَ ..."[20]
ودلالة الماضي تحمل في طياتها النفاذ والمرور، يشبههافي دلالاتها ما عرفوه من استعمالهم في السيف، قالوا : " مضى السيف في الضريبة، وله مضاء، وأمضى من السيف ...."[21]وهذا الاستعمال كان هاديهم في اختيارهم لمصطلح الماضي ..
26-النفي
ما لا ينجزم بــ " لا "، وهو " عبارة عن الإخبار عن ترك الفعل "[22]، والنفي يتم بواسطة أحرف مخصوصة وأفعال واسماء، ومن أمثلة الأحرف " لن "، كما في قوله تعالى [ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أبداً ][23].. حيث أبعد تمني الموت وعراه عن الكاذبين في الآية . وقد اهتدوا إلى هذا المصطلح من معاناتهم وواقع حياتهم، إذ استعملوا " النفي " لمايدانيه في المعنى ،وهو " نَفِيُّ الرِّيح " . ومعناه ما تنفيه من التراب حتى يصير في أصول الحيطان . و" نَفِيُّ المطر .. ونفي الرَّحى : لما تَرَامَتْ به من الطحين [24]..
27النهي
ضد الأمر ،وهو قول القائل لمن دونه لا تفعلْ [25]ومن أمثلته قوله عزّ وجلّ : [ لا تَخافي ولا تَحْزني ] [26].وقد استعملوا مادة " نَهِيّ " في قولهم : جَمَلٌ نّهِيٌّ وناقةٌ نَهِيَّةٌ[27]: تناهت سِمَناً وبلغت الغاية في ذلك كما أن مفاد النهي وغايته الكف عن فعل الشيء ...
28- النصب
أحد حالات الإعراب الذي هو " الرفع والنصب والخفض "[28]، وله علامة مخصوصة، هي الفتحة، أو ما ينوب عنها.. ولما كان النصب يدل في معناه على إقامة الشيء ،والفتحة، وهي العلامة الأصلية تستوي على الحرف لتُظْهِر إقامته، كان استعمال العرب لها منقولاً مما يشابهها في حياتهم، قالوا في استعمال مادة " نصب " : نصبتُ الرُّمحَ وغيره أنصبه، وتيسٌ أنصبُ وعنزٌ نصباءُ : إذا انتصب قرناها، وناقة نصباء : مرتفعة الصدر ..[29]
29- النعت
عرفه ابن مالك بقوله : [ من الرجز ]
فاَلنَّعتُ تَابِعٌ مُتِمُّ مَا سَبَقْ
بِوَسْمِهِ أوْ وَسْمِ ما بهِ اعتَلَقَ[30]
وقد تأتي لمعانٍ[31]منهاالتوضيح نحو جاءني زيدٌ التاجرُ .. أو التخصيص، نحو جاءني رجلٌ تاجرٌ .....ولما كان النعت في المعنى وصف الشيء بما فيه، فقد أخذوه مما شاركه في المعنى من موجودات حياتهم، ومسميات بيئتهم، وهو الفرس، فالنعت في حقيقة وضعه يدل على الفرس العتيق السَّبَّاق [32]فكأن السبق أصبح صفة بها يعرف، كذلك حال النعت الذي به يعرف الاسم تخصيصاً وتوضيحاً ..
30 - النحو
علم بقوانين يعرف بها أحوال التراكيب العربية من الإعراب والبناء وغيرهما[33]وهو في أصل منبته يعني القصدَ والطريقَ[34]قال ابن السكيت : نَحَا نَحوه إذا قصده، ومن منطلق التشابه بين المعنيين اللغوي والاصطلاحي الذي يتمثل بالقصد كان المسّوغ لاستعارة هذا اللفظ والذي يرجح ذلك ما رُوي عن أبي الأسود الدؤلي من أنه وضع وجوه العربية وقال للناس انْحُو نحوه فسمي نَحْواً[35]..ما سبق نماذج توسّدناها لنقرّ بحقيقة مصطلحات النحو العربي، إنها انطلاقة مادية تدل على واقع محسوس، تماشت معه مادة العربية وخاماتها، فالعربية أخذت من أفواه الأعراب مشافهة، وكانت في غالبيتها تدور حول أوصافهم لمشاهداتهم في حياتهم وحياة حيواناتهم وصحرائهم ...وعندما هبوا لوصف الأحداث اللغوية من أجل وضع قوانين لها، أخذوا يقارنون بين هذه الأحداث وماشاكلها في بيئتهم . وكانت المشابهة جسر العبور الذي عن طريقه حمل اللفظ معنى اصطلاحياً إلى جانب معناه الأصلي، وبهذا الإجراء نمت ألفاظ العربية وآتت ثماراً جنّية ( معاني جديدة)استمدت بذورها من جنى اللغة نفسها بعد اتخاذها شكلاً آخر، والذي يدعم ما نراه جملة أمور أبرزها..
1-أن مصطلحات النحو لم توجد مع بزوغ النحو ،بل تأخرت عنه مدّة قضاها علماء العربية في تدارس مبادئ النحو، ليفهموا مقصدها، ومن ثّمَّة راحوا يفتشون لها عن ألفاظ ( مصطلحات ) تناسبها، ودليل ذلك أن المصطلحات الأولى لم تكن كما نعهدها اليوم بل كانت بواكيرها الأولى شرحاً لمقصدها، لهذا طالت لتبلغ جملة أو أكثر. والذي يشد أزر ذلك ما جاء في كتاب سيبويه، من أمثلة أحد عناوينه :
" باب الفعل الذي يتعدى اسم الفاعل إلى اسم الفعول، واسم الفاعل والمفعول فيه لشيء واحداً "[36] يريد به مصطلح " كان وأخواتها " .. وأمثلة أيضاً " باب ما يعمل عمل الفعل ولم يَجْرِ مجرى الفعل، ولم يتمكن تمكنه " [37]..ويقابله مصطلح التعجب .
2- أن الدلالة المعنوية للألفاظ متأخرة عن الدلالة الحسية وتالية لها، وهذا أمر يرتضيه العقل وتسنده الوقائع وذلك لأن الإنسان في بدائيته ينطلق من المحسوس إلى المعقول في عملية الإدراك [38]وقد ضرب أحد الدارسين مثلاً يؤيد ذلك وهو " قطع " ،قال : ففي أول استعمال " قطع " لم يكن يريد بها إلا القطع الحسي لكنه بعد أن ارتقى في الحضارة، وارتقت تصوراته حدثت له معانٍ جديدة بينهاوبين القطع مشابهة ذهنية، كقولنا : " قطع في الأمر " أي جزم[39] ....
3- إن المستحدثات الجديدة في المجتمع، تؤدي إلى تفكير أبناء اللغة في وسيلة يستطيعون فيها رأب الصدع الحاصل في اللغة، وذلك عن طريق إيجاد مصطلحات للمستحدثات، فينطلقون إلى الألفاظ القديمة ذات الدلالة المندثرة فيحيونها، وهذا ما حصل لعلماء العربية وهم يضبطون قواعد لغتهم . وهو أمر يرجحه " Waldron " بقوله : " في المخترعات والاكتشافات الحديثة نحن نستعمل ألفاظاً قديمة لمعانٍ حديثة ولذا يتغير المعنى " [40]...
ويمكن استيحاء صورة الواقع اللغوي، وعمل اللغويين فيه ليكون الدليل والسند ،وقد رسم د.إبراهيم أنيس أُطر الصورة، قال : " ... هكذا وجدنا أنفسنا أمام ذلك الفوج الزاخر من الألفاظ القديمة الصورة، الجديدة الدلالة، كالمدفع والقنبلة والدبابة واللغم .. وغير ذلك من آلاف الألفاظ التي أحياها الناس أو اشتقوها وخلعوا عليها دلالات جديدة تطلبها حياتهم الجديدة .. فمن منا الآن إذا سمع كلمة " السيارة " أو " القاطرة " يخطر في ذهنه صورة القافلة في الصحراء ،أو الناقة الأولى التي تسير القافلة على هديها ؟ "[41]...
4- إن العربي اهتم بمسميات بيئته كل الاهتمام ،وقد تجلّى الأمر في كثرة المترادفات للمسمى الواحد . من شواهد ذلك أسماء الأسد والحية والحجر[42]...فضلاً عما جمعه الأستاذ " دو هامر " De H ammer " من المفردات العربية المتصلة بالجمل وشؤونه فوصلت إلى أكثر من خمسة آلاف وستمئة وأربع وأربعين [43].
ولا غرابة بعد ذلك أن ينقل العربي ألفاظ مشاهداته وصفات إبله لتكون مصطلحات لِمَاشابهها من قضايا نَحْوِه. وتبدو شدّة الترابط بين حيوان الصحراء والعربي من خلال إنزال حيوانها منزلة العقلاء، ومخاطبته إياه الإنسان، يشهد لذلك ما روي عن عنترة من أبيات قالها معبراً عما في نفس حصانه : [ من الكامل ]
وَازْوَرَّ مِنْ وَقْعِ القَنَا بِلَبَانِهِ * وَشَكَا إِلَيَّ بِعَبْرة وَتَحَمْحُمِ
لو كانَ يدْرِي مَا المُحاورةُ اشْتكى * ولَكَانَ لَوْ فَهِمَ الكَلاَمَ مُكَلِّمِي [44]
وهي حقيقة ترجح هذا التشابه، مما يغلِّب نقل العرب ألفاظ حيوان صحرائهم إلى مصطلحات نحوهم ..
5- إن نشأة المصطلحات والمسميات المعنوية، ترقى إلى نماذج حيّة في حياة الإنسان . نموذج أدركه وحسّ به وعايشه وعاينه، ليصبح كأنه جزء منه . وعندما يعرض لمفهوم فكري يريد التعبير عنه، يعود إلى ما يعرفه في حياته، فتكون المشابهة جسر العبور، ينطلق منه وينقل اللفظ إليه، وقد وصف أحد الدارسين علمية الانتقال، بقوله : " إن اللفظ يتبعُ المدرَك ويأتي بعده ضرورة، فالأصل في اللغة المدرَك الذهني ثم يأتي الإنسان بالصوت أو باللفظ الذي يُعّبر فيه عن ذلك المدرك.
وجميع المدارك الذهنية اجتماعية نشأت من صلة الإنسان بماحوله وبمن حوله .."[45]ومن هنا نفذ العربي إلى استخراج مصطلحات نحوه ..
6- إن المتتبع لمسيرة النحو العربي بعامة ومصطلحاته بخاصة يرى بأُمِّ عينه انطلاقتها المادية في ظلال الصحراء . إذ انطلق اللغويون والنحاة إلى مناهل اللغة يجمعون منثورها ويضمون متفرقها، لاستنباط أحكامها ورسم أطر قواعدها ،وكان المنهل الصافي في ذلك أعراب الصحراء الذين ابتعدوا عن مجاري الاختلاط بالشعوب الأخرى، فصفت مشاربهم لدى اللغويين، وقد حفظت المصادر روايات تدعم ذلك، منها ما قاله الكسائي للخليل : " من أين أخذت علمَك هذا ؟ فقال : من بوادي الحجاز ونَجْد وتِهامة، فخرج ورجع، وقد أنفذ خمس عشرة قِنِّينة حبراً في الكتابة عن العرب، سوىما حفظ ..."[46]..
وعندما بدأ بوضع أحكام لغته، قفل راجعاً إلى مصدره الأول يسائل الأعراب عن بعض قضاياه، مستعملاً مصطلحات ( ألفاظاً ) استعمالاً جديداً فيجيبون عن معناها اللغوي الذي فهموه ويغرب عن بالهم المعنى الاصطلاحي ،وشاهد ذلك أن أحدهم سمع بعض فصحاء العرب ينشد : [من الرجز ]
* نَحْنُ بَنِي عَلْقَمَةَ الأَخْيَارا *
فقال له : " لِمَ نَصَبْتَ بَنِي ؟ " فقال : " مَا نَصْبتُه " [47] ويعلق ابن فارس على ذلك بقوله : " وذلك أنه لم يَعْرفْ من النَّصْب إلا إسناد الشيء " [48]ففي هذا دليل على أسبقية المعنى اللغوي المادي على المعنى الاصطلاحي ..
7- إن المصطلحات النحوية كانت أسماء لمسميات عرفوها، وألفاظاً لأحداث وَعَوْها، فمصطلح " النحو " و" الإعراب " و " الرفع "و " النصب " وسواها لم تكن تعرف إلا بأسمائها، يدعم أزر ذلك ما نقله ابن فارس، قال : " وزعم قومٌ أن العربَ العاربة لم تعرف هذه الحروف بأسمائها، وأنهم لم يعرفوا نَحْواً ولا إعراباً ولا رفعاً ولا نَصْباً ولا هَمْزاً ....[49]..
ثم نقلوا هذه الألفاظ من معانيها إلى معان مشابهة لها أو قريبة منها أو بينها مناسبة، والذي يغلب ذلك ما رواه السيوطي عن بعض شُرَّاح الجمل : قال : " ...والسبب في ذلك أن الإعراب جعلت ألقابه مشتقة من ألقاب عوامله، فالرفع مشتق من رافع، والنصب من ناصب، والجر أو الخفض من جاور وخافض والجزم من جازم "[50]وبهذه الطريقة تم نقل المصطلحات النحوية .
تلك هي أدلة استعارة مصطلحات النحو العربي من موجودات بيئتهم، إنها إضاءة على حقيقة تطور الدلالات اللغوية في تراث العربية، فضلاً عن كونها مَعلماً يعرفنا كيف استطاع لغويونا مواجهة الحدث الحضاري المتمثل بتقعيد قواعدنا، وإيجاد مصطلحات لهذا المعلم الطارئ ...
إنها صُوَى في حياتنا اللغوية، تعود علينا بالخير العميم، لِمَا فيها من كشف النقاب عن دفائن ذخيرتنا اللغوية، وكثير من حقائقها التي تتمثل بالأمور الآتية :
1- الإسهام في ترجيح الرأي حول قضية تفاقم الجدل[51] فيها، وهي قضية نشأة اللغة وكان إسهامها فيها عن طريق إظهار كيفية نمو اللغة وتطورها لمواجهة المستجدات، وذلك عن طريق استعارة مصطلحات النحومن واقع التراث الغوي، وهذايدل بجلاء على أن اللغة في بواكيرها الأولى كانت توقيفاُ ثم أخذت تنمو عن طريق الاصطلاح ،وهذاالرأي ترجحه الوقائع، ويؤيده ابن حزم، بقوله : " ...... فَصَحَّ أنه توقيف من الله عزّ وجلّ وتعليم منه، إلا أننا لا ننكر اصطلاح الناس على إحداث لغات شتى بعد أن كانت لغة واحدة وقفوا عليها، بها علموا ماهية الأشياء وكيفياتها وحدودها .... " [52]..
2-اعتبارها التفاتة لطيفة تدل علىنمو معاني المفردات، وتطور مدلولاتها واختصاص كل علم وفرع من المعرفة بجانب من معاني ألفاظ اللغة وهو مظهر عبقرية، وعنوان حيوية وقدرة على المواضعات اتسمت بها العربية، ومن أدلة هذه الحيوية والقدرة علىحمل اللفظة الواحدة لجملة من المعاني، ماذكره الخوارزمي، قال : " لفظة الرّجعةَ، فإنها عند أصحاب اللغة : المرة الواحدة من الرجوع، لا يكادون يعرفون غيرها، وهي عند الفقهاء الرجوع في الطلاق الذي ليس ببائن، وعند المتكلمين ما يزعمه بعض الشيعة من رجوع الإمام بعد موته، أو غيبته، وعند الكُتاب حساب يرفعه المُعْطي في العسكر لطمع واحد ،وعند المنجمين سير الكواكب من الخمسة المتحيرة، علىخلاف نّضَد البروج "[53]....
3- إسداء خدمة عن طريق المشاركة في حلّ مشكلة يعانيها العربي اليوم تتمثل بمصطلحات العلوم التي تجتاحنا كلّ يوم ،مشكلة زرعت في نفوس الناطقين بالضاد قلة الثقة بها، وأنها لغة قاصرة عن الوفاء بحاجات أهلها في ميادين شتى :العلوم، الفنون، الصناعات ... ولعل في ما قدّمناه ردّاً على مزاعم أولئك القوم ، وحجة دامغة تثبت قدرة العربية على أن تكون لغة العِلم والحضارة والتقدم..
لقد استطاع علماء العربية إيجاد مصطلحات لعلوم لغتهم ولغيرها من العلوم بواسطة استخراج كنوز العربية وتفعيلها وتثميرها، وهي قادرة اليوم على أن تعود مجدّداً لتفي بحاجات أهلها، بشرط أن يهبوا و يعكفوا على مفردات لغتهم وينقلوا المتشابه إلى شبيهه ويسموه باسمه .. متأسين بعمل نحاة العربية ..
هلاّ أفقنا بعد هذا، ونفضنا غبار الخجل، وتحررنامما أصابنا من الخبل القائل بعجز لغتنا وقصورها عن مواجهة مقتضيات الحياة، بالعودة إلى دفائن لغتنا ؟!! لو فعلنا ذاك لحصلنا على قسط كبير من المصطلحات، وعندما يعجزنا الأمر ننثني إلى مجار أخرى كالترجمة والتعريب ....وغيرهما ...
لكننا لم نفعل شيئاً من هذا ، بل ندبنا حظنا ولغتنا ولم تَسْتعصِ دموعنا ...ولم تلبث أن انطلقت من بين ظهرانينا شتى دعوات كان من بينها التحوّل إلى لغة أخرى...[54]
إننا انتجعنا الجدب والخصبُ محيطٌ بنا من كل جانب، فاضطرنا القحط والمحل - بسبب سوء تقديرنا ومنهجنا - إلى التفريط في جنب العربية، وظننا أننا نخدم أمتنا ونحافظ على شخصيتنا لتواكب تيار الحضارة ،وما درينا أن " في الحفاظ على اللغة الوطنية حفاظاً على الشخصية الوطنية، وأن خدمة الأمة العربية يكون بتمثل لغتها القومية، ثم الأخذ باللغات الأجنبية الأخرى . أما أن يكون هناك تمسك باللغات الأخرى على حساب اللغة القومية فهذا أسلوب لا يلجأ إليه إلا مَن أراد لهذه الأمة التخلف لا التقدم كما يدّعي " [55]
أكرمْ بعلماء عربيتنا ! الذين واجهوا مستحدثات، فأوجدوا لهامصطلحات، ووضعوا علوماً ولم تعجزهم المصطلحات والمسميات، ما أحوج عالِمنا وطالِبنا اليوم لأن يتأسى ليكون نِعْمَ الخلف لذاك السلف ..
-------------------------------------------
[1] سيويه : الكتاب، ج3 ص 529 - 530 .
[2] الزمخشري : أساس البلاغة، ص 376، مادة [ ضعف] ..
[3] السيوطي : همع الهومع ( عني بتصحيحه محمد بدر الدين النعساني، دار المعرفة، بيروت، لا، تا )، ج1، ص 56، والفاكهي : حدود النحو ( ضمن الحدود في ثلاث رسائل، تقديم وتحقيق د . عبد اللطيف محمد العبد، منشورات المكتبة العصرية، صيدا، 1979 م )، ص 13 .
[4] ابن فارس : مقاييس اللغة، ج3 ص 371، مادة [ ضمر ]
[5] السيوطي : الأشباه والنظائر في النحو، ج1 ص 347 ..
[6] وصف أبو الأسود شكل الفم عند إخراج الحركات، ، قال : إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه على أعلاه، فإن ضممت فمي فانقط بين يدي الحرف وإن كسرت فاجعل النقطة تحت الحرف .. يراجع ،السيرفي : أخبار النحويين البصريين ( تحقيق د. محمد إبراهيم البنا، دار الاعتصام، القاهرة، ط1، 1985 م ) ص 35 .
[7] الزمخشري : اساس البلاغة، ص 379، مادم [ ضمم ]
[8] ابن السراج :الأصول في النحو ( تحقيق د . عبد الحسين الفتلي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1985 م ) ج1 ص 160
[9] الزمخشري : اساس البلاغة، ص 394، مادة [ طلق ] .
[10] ابن الأنباري : لمع الأدلة في أصول النحو ( تحقيق د. عطية عامر، استكهولم، 1963 م ) ص 42 .
[11] السيوطي : كتاب الاقتراح ( دار المعارف، حلب، 1359 هــ ) ص 47 .
[12] ابن فارس : مقاييس اللغة، ج 4 ص 13، مادة [ عل ] ..
[13] علي الجرجاني : كتاب التعريفات ( مكتبة لبنان، بيروت، طبعة جديدة، 1985م )، ص 150، مادة [ عامل ] ..
[14] عبد القاهر الجرجاني : كتاب الجمل في النحو، ص 57 - 58
[15] ابن فارس : مقاييس اللغة، ج4 ص 145، مادة [ عمل] .
[16] الزمخشري : أساس البلاغة، ص 436، مادة [ عمل ] ..
[17] السهيلي : نتائج الفكر في النحو ( حققه وعلّق عليه الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوّض، دار الكتب العلمية ، بيروت ط1، 1992م ) ص67، والقلقشندي : صبح الأعشى ( نسخة مصورة عن الطبعة الأميرية، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، لا، تا ) ج3 ص 161 ..
[18] الفيروز أبادي : القاموس المحيط، ج1، ص 239، مادة [ فتح] ..
[19]ابن فارس : مقاييس اللغة، ج4، ص 469، مادة [ فتح ] ..
[20] سيبويه : الكتاب، ج1، ص 12
[21] الزمخشري : أساس البلاغة، ص 597، مادة [ مضي ] ..
[22] علي الجرجاني : التعريفات، ص 265، مادة [ نفي]
[23] سورة البقرة الآية 95
[24] ابن فارس : مقاييس للغة، ج5، ص 456، مادة [ نفي ] .
[25] علي الجرجاني : التعريفات، ص 268، مادة [ نهي ]
[26] سورة القصص، الآية 7
[27] الزمخشري : أساس البلاغة، ص 661، مادة [ نهي ] ..
[28] السهيلي : نتائج الفكر في النحو، ص 66
[29] ابن فارس : معجم المقايس، ج5 ص 434، مادة [ نصب] ..
[30] ابن مالك : الألفية ( دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1985م ) ص 40
[31] ينظر تفصيل ذلك عند الأشموني : شرح الأشموني ( مع حاشية الصبان، دار الفكر ،بيروت، لا، تا )، مج2، ج3، ص 59
[32] الفيروز أبادي : القاموس المحيط، ج1، ص 159، مادة [ نعت ] ..
[33] علي الجرجاني : التعريفات، ص 259، مادة [ نحو] ..
[34] ابن منظور : لسان العرب، ج15، ص 309-311 مادة [ نحا] ..
[35] ابن منظور : لسان العرب، ج15 ص 310، مادة [ نحا]، وابن الأنباري : نزهة الألباب في طبقات الأدباء (تحقيق د . إبراهيم السامرائي، مكتبة الأندلس، بغداد، ط2، 1970 م)، ص 18
[36] سيبويه : الكتاب، ج1 ص 45
[37] سيبويه : الكتاب، ج1 ص72
[38] وقد أكد ذلك الجرجاني بقوله : " ومعلوم أن العلم الأول أتى النفس أولاً من طريق الحواس والطباع ،ثم من جهة النظر والروية .." ينظر عبد القاهرالجرجاني : أسرار البلاغة ( صححه السيد محمد رشيد رضا ،دار المعرفة، بيروت، 1982م )، ص 102
[39] جرجي زيدان : الفلسفة اللغوية ( دارالجيل ،بيروت، ط1، 1982 م ) ص 97
[40] .Waldron : Sense and sense development ( London - 1967 ) : 117
[41] إبراهيم أنيس : دلالة الألفاظ ( مكتبة الأنجلو المصرية، ط3، 1976 م ) ص 146 -147
[42] ذكر ابن فارس أن العرب جمعت للأسد خمسمئة اسم، وللحية مئتين ،وللحجر سبعين اسماً، يراجع، ابن فارس : الصاحبي في فقه اللغة ...ص 44
[43] v . Renan ; Histoire General des Langues Semitique ( Paris ) . :387 .
[44] التبريزي : شرح القصائد العشر ( تحقيق د . فخر الدين قباوة : منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت ط3، 1979 م ) ص 311
[45] د. عمر فروخ : عبقرية اللغة العربية ( دار الكتاب العربي ،بيروت، 1981 م )، ص 39 ..
[46] السيوطي : بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة ( تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر، ط2، 1979 م ) ج2 ص 163
[47] ابن فارس : الصاحبي في فقه اللغة ، ص 35
[48] ابن فارس : الصاحبي في فقه اللغة، ص 35
[49] ابن فارس : الصاحبي في فقه اللغة، ص 35
[50] السيوطي : الأشباه والنظائر في النحو، ج1 ص 347
[51] تقتسم الفرقة هذه القضية منذ القديم، ينظر، السيوطي : الاقتراح، ص 7 . ولا يزال الجدل قائماً إلى اليوم، يراجع، زيان أحمد إبراهيم : " اللغة اصطلاح لا توقيف "، المجلة العربية للعلوم الإنسانية، الكويت ( العدد 8، المجلد 5، ربيع 1985 م) ص 166 - 174
[52] ابن حزم : الإحكام في أصول الأحكام، مج1، ج1، ص 32 -33 ..
[53] الخوارزمي : مفاتيح العلوم ( تحقيق إبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1 . 1984 م ) ص14..
[54] ينظر . د. بنت الشاطئ : لغتنا والحياة ( دار المعارف ، مصر، 1971 م ) ص 95 - 126 .
[55] د. محمود أحمد السيّد : شؤون لغوية ( دار الفكر، دمشق، ط1، 1409 هــ - 1989 م ) ، ص 18..
----------------
نشر هذا البحث في :
مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 68 - السنة السابعة عشرة - آب "أغسطس" 1997 - ربيع الآخر 1418