يُعتبر كتاب البئر لابن الأعرابي (150 ــ 231هـ) من أقدم الكتب العربية التي تناولت التعابير والمفهومات المتعلقة بالآبار. واتجهت الكتابات الأولي في التراث العربي نحو التوثيق والتسجيل في مجال اللغة. ونتج من هذا التسجيل إرث غني ضخم . وإن كتاب ابن الأعرابي واحد من هذه الكتابات المبكرة التي اهتمت بالبئر بشمول واستقصاء فشكل مقدمة لا بد منها للأعمال المعجمية العربية التالية التي وجدت فيه مادة لغوية ثرية تختص بالبئر والماء.
جاء ذكر ابن الأعرابي في الفهرست لابن النديم بصفته واحداً من النحويين واللغويين الكوفيين. له عدد كبير من المؤلفات، وذكر ابن النديم قد أملى على الناس ما يُحمل على الجمال .
من هذه المؤلفات : كتاب الألفاظ ، كتاب الأنواء ، كتاب الخيل ، كتاب صفة الزرع ، كتاب صفة النخل، كتاب النبات... وكتاب البئر موضوع هذه الدراسة. إن تحليل الكتاب من وجهة نظر مائية معاصرة يظهر مدى الاتساع والتنوع والتقصي في موضوع الآبار والمياه الجوفية حتى القرن الثالث الهجري. ذلك أنه يجمع طائفة من الألفاظ التي تُوصف بها الآبار في حفرها واستخراج المياه منها : يحدد أجزاء البئر مثل : المقطع العرضي- الجوانب - القعر . وذلك في حالاتها المختلفة. يحدد أسماء وصفات الأدوات الملحقة بالبئر . ويحدد أسماء وصفات الآبار في أحوالها المختلفة ( الشكل - الغزارة - الصيانة ).
تظهر دراسة هذا الكتاب السوية التي وصلت إليها التفاصيل التطبيقية الهندسية في عمليات استخراج المياه الجوفية وإنشاء الآبار حتى منتصف القرن الثالث الهجري. وأورد ابن الأعرابي في كتابه أكثر من 90 لفظاً عبّرت عن حالات مختلفة في إنشاء الآبار . إضافة إلى المصطلحات التي صنفت المياه بحسب صلاحيتها للشرب الإنساني . إن تحليل هذه الذخيرة اللفظية المائية التي هي وليدة ظروف حضارية عميقة يشكل جانباً من معرفة تاريخ علم المياه في تلك الفترة، ذلك أن اللغة هي التعبير الفكري عن المعرفة .
يرد في الكتاب مفهومات هيدروليكية وهندسية وفيزيائية ، من المفهومات الهيدروليكية عمق الماء في البئر ، وهي الألفاظ التي وصفت الماء في البئر وفقاً لبعده عن سطح الأرض :
- ماءً رَفَق : وقد ورد في النص أنه القريب الغشاء القصير الرشاء والمقصود أن مستوى سطح الماء قريب .
- ماءُ باسط : أي بعيد .
- ماءً مُطْلب : وقد ورد ، أنه الماء الذي إذا أبي أن يُطلب أي البعيد جداً .
- ماءٌ عضوض : بعيد القعر وهو الماء البعيد الذي تُرافق استخراجه صعوبات .
ويُلاحظ أن الألفاظ السابقة غطتْ التدرج في المستوى المائي للبئر من القريب جداً إلي البعيد جداً الذي يرافقه أحياناً صعوبات في الوصول إليه . ويبدو أن التعامل مع الماء الجوفي والآبار كان متنوعاً إلى الدرجة التي تجاوبت فيها اللغة مع الاحتياجات الحياتية اليومية وعبرت عن مستويات الماء بما يوازي الجهد المطلوب للوصول إليها . وربما الأدوات والإجراءات الهندسية اللازمة.
من المفهومات الهيدروليكية التي ترد أيضاً ، تأثير الهطل المطري على الوارد المائي في البئر :
- بئر قطوع : وقد ورد في الكتاب أنه البئر الذي إذا كانت قلّت الأمطار قلّ ماؤها .
- بئرٌ واتنة : وقد ورد أنها التي يدوم ماؤها في المطر والقيظ .
ومن المفهومات الهيدروليكية المتعلقة بحركة الماء نحو البئر :
- البئر الثائب : وقد أورد ابن الأعرابي أنها إذا استقي ماؤها جمّت بماء آخر .
- الحسي : وهو الماء الدائم الذي لا ينقطع .
- البئر النيّط : التي يخرج ماؤها من عرضها .
- البئر الظنون : وهي التي يأتي ماؤها مرة ويذهب أخرى .
عبّرت الألفاظ السابقة عن حركات مائية مختلفة في البئر ، فللدلالة على استمرار رجوع الماء إلى مستواه الأصلي بعد نزح الماء نلاحظ مفهوم ( البئر الثائب )، وللدلالة على حركة بطيئة للماء عبر الرمل نلاحظ المفهوم العربي المائي ( الحسي ). وللدلالة على قرب المستودع المائي فيدخل الماء من جوانب البئر فهناك مفهوم ( البئر النيط ).
وللدلالة على عدم ثبات المستوى المائي في البئر كان هناك (البئر الظنون). إن هذه المفهومات المائية العربية تشكل حلقة تاريخية أساسية في دراسة هيدروليكيا الآبار وهو علم حديث يهتم بدراسة حركة الماء في البئر وحوله، إذ يتم الربط بين الجريان في الآبار والهبوط في المستوى المائي أو السطح البيزومتري الذي ينتج عن عملية ضخ المياه من الآبار. فالجريان الثابت المتوازن لا يحدث فيه تغيرات مع الزمن إلا نادراً. وبعد توقف عملية ضخ المياه من البئر يعود المستوى المائي إلي حال الثبات وهو ما دلّ عليه لفظ ( الثائب )، أما في حال الجريان غير الثابت فيعتمد هبوط المستوى المائي على الزمن منذ بداية الضخ، وهو ما عبّر عنه مفهوم ( البئر الظنون ).
أما ( الحسي ) فهو ليس مفهوماً يفيد فقط في توصيف حركة الماء داخل التربة وإنما يشير أيضاً إلي نوع محدد من المياه تحت السطحية. وجاء في لسان العرب الحسي : حفيرة قريبة القعر . قيل إنه لا يكون إلا في أرض أسفلها حجارة وفوقها رمل ، فإذا أمطرت نشفه الرمل فإذا انتهي إلي الحجارة أمسكته . وهو وصفٌ يكاد أن يتطابق مع ( المياه المعلقة ) أحد أنواع المياه تحت السطحية.
ومن المفهومات الهندسية الإنشائية التي تتعلق بالشكل الهندسي للبئر ومنها ألفاظٌ وصفت المقطع العرضي للبئر :
البئر القَليب : إذا دُور رأسها أي البئر التي يكون مقطعها العرضي دائري .
البئر الحَفر : الواسعة الرأس أي البئر التي يكون مقطعها العرضي كبيراً .
البئر السُك : إذا كانت ضيقة أي مقطعها العرضي صغيراً .
ومن ضمن هذه المفهومات ما عبّر أيضاً عن شاقولية البئر وطريقة ( تبطين الجدران الداخلية للبئر ) و ( الأدوات والمنشآت الملحقة بالبئر لتسهيل استخراج المياه منه ).
إن إعادة قراءة هذا النص التراثي المهم تدخله في مهمة جديدة بعد أن تَوضّح أن بعداً علمياً وهندسياً كان جاثماً في البعد اللغوي للكتاب ما يعني أنه في الرؤية المعاصرة يقدم تفسيرات نوعية في تاريخ العلوم المائية على مستوى العالم .
--------
جريدة الحياة 25 -07 -1422هـ / 12 -10 -2001م ( العدد : 14089 )