شهدت نهاية القرن الثامن عشر بعد اكتشاف اللغة السنسكريتية علي يد السير ويليام جونز تطوّراً في منهج علم اللغة الذي كان قبل اكتشاف هذه اللغة علماً يعتمد على الذاتية دون الموضوعية ، وكان البحث في اللغة مجرد اجتهادات أكثر منها اعتماداً على المنهج العلمي السليم ، وكان ظهور السنسكريتية بداية ذلك المنهج العلمي ، فقارن علماء اللغة بواسطتها بين اللغات الهندوأوروبية ووصلوا إلى نتائج علمية سليمة من خلال هذه المقارنات ، ووجود أوجه شبه بين هذه اللغات .
وظهرت في نهاية القرن التاسع عشر ما سُمّي بالبحث الحديث في علم اللغة ، وسُمّي تسميات مختلفة مثل علم اللسانيات ، أو الألسنية ، أو علم اللغة العام والألسنيات ، واللسانيات ، وبلغت هذه التسميات ثلاثةً وعشرين مصطلحاً .
وتعددت المناهج اللغوية ما بين منهج مقارن ومنهج تاريخي ومنهج وصفي ، وهذه المناهج اللغوية كلها تتميز بأنها مناهج تعتمد على الرؤية العلمية دون الافتراضية ، وتعتمد على الملاحظة والتجربة والوصف دون أن يكون للنظرة الذاتية نصيب كبير.
وعلى الرغم من اعتماد اللسانيات الحديثة على بعض المسلّمات فإنها لم تستسلم للنظرة المعيارية التي تؤمن ببعض المسلّمات التي لا تطابق المنهج العلمي .
وقد تطوّرت اللسانيات الحديثة حتى استقرت على ما سمي بالمنهج الوصفي ، وهو المقابل للمناهج المقارنة والتاريخية ، والتقابلية .
أ ـ المنهج المقارن :
بدأ البحث اللغوي الحديث عصر ازدهاره على يد ( بوب ) بهذا المنهج (ت1867م ) ، وهو منهج يدرس العلاقة بين لغتين أو أكثر ضمن أسرة لغوية واحدة ، وذلك كما تمّ مع دراسة لغات المجموعة الهندوأوروبية ، أو مجموعة اللغات السامية كالكنعانية أو الأكادية أو الآرامية ، ومن مجالات هذا المنهج البحث في بنية الكلمة (أوزاناً وسوابق ولواحق ووظائف) ، وإثبات أوجه الاتّفاق وأوجه الاختلاف بين هذه العناصر ، كما تشمل المقارنة أيضاً المقارنة بين الضمائر ، كما هو الشأن في اللغات السامية ، أو الأفعال أو المشتقات لإثبات الصلة بين هذه اللغات في هذه الفروع ، وكل هذه دراسات خاصة بالبنية .
ب ـ المنهج التاريخي :
هو الذي يهتمّ بدراسة اللغة عبر عصور مختلفة ، فيدرس الظاهرة الواحدة من خلال حقب تاريخية متعدّدة ، وتُلاحَظ خلال كل حقبة تطوّر الظاهرة عن الحقبة السابقة عليها ، ويُدرس ذلك التطوّر أو التغيير من خلال رصد تطوّر أو تغيّر المستويات الاجتماعية والثقافية وغيرهما من المستويات التي تؤثّر أو تتأثّر بالمستوى اللغوي ، كأن يدرس تطوّر صيغة صرفية من عصر إلى عصر أو دراسة صيغ جموع التكسير ـ مثلاً ـ في اللغة العربية بتتبّع توزيعها ونسبة شيوعها في المستويات اللغوية المختلفة عبر الحقب التاريخية المختلفة .
فالمنهج التاريخي وسيلة لمعرفة تاريخ الظواهر اللغوية ورصد تطوّراتها بين العصور المختلفة .
ج ـ المنهج التقابلي :
وهو من أحدث المناهج اللغوية الحديثة ، ( نشأ بعد الحرب العالمية الثانية ) ، وهو يهتم بدراسة ظواهر لغتين أو لهجتين بهدف الوصول إلى الفروق أوجه التقابل بينهما ، ولا يشترط أن تكون هاتان اللغتان أو اللهجتان من فصيلة لغوية واحدة (كما هو المنهج اللغوي المقارن ) بل يمكن أن تكون اللغتان من فصيلتين مختلفتين ، كما لو قابلنا بين الخصائص التركيبية للجملة في اللغتين العربية والإنجليزية ، أو العربية والفرنسية .
د ـ المنهج الوصفي :
المنهج الوصفي أهم المناهج اللغوية الحديثة ، وهو المنهج السائد الآن في الدراسات اللغوية في أوروبا وأميركا .
وهو منهج يحاول أن يلخّص العلوم اللغوية من الوجهة التاريخية من جهة ، ومن الوجهة المعيارية من جهة أخرى ، ويهتم هذا المنهج بوصف النصوص اللغوية ، وصفاً واقعياً للنصوص دون تدخّل من الباحث بفرض اجتهادات من ذاته أو فرض قوالب معيارية موضوعة سلفاً من خلال ملاحظات سابقة لا تصدق على ما هو أمام الباحث .
والمنهج الوصفي ـ كما سنذكر تفصيلاً ـ لا يتوقف ليسأل :
هل يجوز أن يقال كذا ، أو لا يقال ، بل هو يهتمّ بالموجود فعلاً دون إلقاء أية أهمية للمقبول أو المردود .
كما أن المنهج الوصفي أيضاً لا يتدخّل ليفرض قوالب معينة لا تتفق مع طبيعته ، ودون محاولة ـ أيضاً ـ لتقدير صيغٍ لإكمال نصّ ، أو تأويل لنصّ يتفق مع قواعد مستنبطة سلفاً من نصوص أخرى مخالفة للنصوص الموجودة أمام الباحث ، كما أنه أيضاً لا يلجأ إلى مظاهر التعليل أو إخراج النص عن ظاهره ليتمشى مع القواعد التقليدية .
حقيقة المنهج الوصفي :
يعتبر ( فردينان دي سوسير ) المؤسس الحقيقي للمنهج الوصفي بعد مجهوداته التي كانت علامة بارزة في تحويل البحث اللغوي من المناهج السابقة عليه وبخاصّة المنهج التاريخي ، الذي كان يدرس المادة اللغوية في فترات متعاقبة ليدلّ على أصلها وصورها حتى وصلت إلى ما هي عليه ، وهو أمر قد يكون ضرورياً للبحث التاريخي ، لكنه لا يغني عن دراسة الظواهر اللغوية في فترة معينة للتعرّف على خصائصها الحاضرة .
ويعتبر العالم الاجتماعي ( دوركهايم ، 1858 ـ 1917 ) هو المؤثر الحقيقي في أعمال ( دي سوسير ) ، إذ حدد ( دوركهايم ) الوقائع الاجتماعية باعتبارها أشياء تشبه الأشياء التي تُدرس في العلوم الطبيعية ، وأن هذه الوقائع الاجتماعية ذات طبيعة عامة ، فهي ليست فردية ، ( والشيء ) عند ( دور كهايم ) ينتظم كل موضوعات المعرفة ، التي لا يمكن إدراكها بالنشاط العقلي الداخلي ، ولكن بما تقتضيه من الخبرة والملاحظة والتجربة ، وقد أشار ( دوركهايم ) نفسه إلى أن اللغة يمكن اعتبارها ( شيئاً ) وهي ليست فردية ، ولكنها عامة ([1]).
فاتجاه ( دي سوسير ) إلى المنهج العلمي ـ إذاً ـ كان بفضل العالم الاجتماعي ( دور كهايم ) ، فاعتبرها هو الآخر ـ أي دي سوسير ـ اللغة ( شيئاً عاماً ) شأنه شأن الوقائع الاجتماعية الأخرى مما يسر السبيل إلى تطبيق قواعد العلم في دراسة اللغة .
ولكي يسير ( دي سوسير ) على هذا المنهج ، حدد ثلاثة أشياء ( مصطلحات ) :
الأول ( الكلام ) وهو ما يمثله ( كلام الفرد ) La parole ، وهو لذلك ليس ( واقعة اجتماعية ) لأنه يصدر عن وعي ، ولأنه نتاج فردي كامل ، على حين أن الوقائع الاجتماعية ينبغي أن تكون عامة ، تمارس فرضها على المجتمع وليست كالحركة الفردية التي تتصف بالاختيار الحرّ .
المصطلح الثاني La Language ، بمعناها العام ، وهي مجموع الكلام الفردي ، والقواعد العامة للغة الإنسانية ، وهي أيضاً ليست واقعة اجتماعية ، لأنها تتضمن مع القواعد العامة العوامل الفردية المنسوبة إلى الأفراد المتكلمين .
والمصطلح الثالث La Longe اللغة المعينة كالإنجليزية أو الفرنسية وهو المصطلح الذي يراه صالحاً للدراسة العلمية للغة المعينة ولقد حدده ( دي سوسير ) في هذه الصيغة .
La Lounge Le = Language minors La parole
وهذا المصطلح يعبر عن العادات التي نتعلمها من المجتمع الكلامي التي على أساسها نتصل بالآخرين في المجتمع ، ويكون بيننا الفهم المتبادل .
ويميز ( دي سوسير ) بين هذه المصطلحات الثلاثة ، فالمصطلح الأول ليس واقعة اجتماعية ، فهو فردي قائم على عنصر الاختيار ، وعنصر الاختيار لا يمكن التنبؤ به ، فلا يخضع للدراسة العلمية .
والمصطلح الثاني لا يمثل واقعة اجتماعية خالصة ( نقية ) لأنه يضمّ إلى الجوانب الاجتماعية جوانب فردية ، فالذي يمكن أن يطلق عليه واقعة اجتماعية هو ما أسماه La Lounge لأنها عامة داخل المجتمع وهي تمارس (فرضاً ) على المتكلمين الأفراد وهي لا توجد عند كل فرد بصورة كاملة ، إنها كما يقول ( دور كهايم ) نظام من القيم النقية .
فاللغة حسب هذا الإدراك ( تجريد ) وهو أصلح شيء ـ في نظر دي سوسير ـ للدراسة ، والصياغة العلمية .
التعاقبية والتزامنية في دراسة اللغة :
يقصد بالتعاقبية الدراسة التاريخية ، لأن اللغة تدرس في مراحل تاريخية متعاقبة ، وبالتزامنية الدراسة في فترة زمنية واحدة ، والمنهج الوصفي يؤثر النوع الثاني من الدراسة (التزامنية ) لأنه يدرس اللغة في حالة استقرار ذلك لأنها أشبه بدراسة مقطع أفقي كامل من جزء من النبات ، حيث يوقفنا على جميع خواص النبات في هذا المقطع إذ يشمل مجموع الخلايا والألياف ، والحلقات ، فالدراسة هنا دراسة عامة شاملة لا تترك جزئية إلا أحاطت بها وكذلك الدراسة الوصفية للغة ، إنها دراسة شاملة دقيقة لمرحلة واحدة من مراحل اللغة .
أما الدراسة التاريخية للغة فهي دراسة جزئية لأطوار بعض الخواص دون البعض الأخر ، وبذلك يظل هذا النوع من الدراسة عاجزاً عن أن يوضح لنا بعض الظواهر تماماً كما يحدث في دراسة المقطع الرأسي للنبات الذي يمرّ بجميع أجزاء النبات ، لكنه لا يدرس كل جزء دراسة كاملة فنحن نتعرف عند كل مقطع منه على بعض خواصه ، ولا نعرف شيئاً عن بقية الخواص الأخرى ([2]).
العلامة اللغوية عند دي سوسير :
اللغة نظام من العلامات أو الرموز ، هذا هو الأساس الثالث عند ( سوسير ) ، العلامة اللغوية وهي التي جعلته يعتبر اللغة نظاماً من العلامات ، والعلامة اللغوية تتوافق مع البحث العلمي الذي يؤمن بوجود أشياء محددة ومعينة رآها في العلامة اللغوية ، وإذا كان كثير من الناس يؤمن بأن اللغة هي مستودع من العلامات ، فإنهم رأوا في هذه العلامات أنها مفردات اللغة ، أو الصلة بين ( اللفظ ) و ( الشيء الطبيعي ) على خلاف ما يراها ( دي سوسير ) أنها العلاقة بين ( التصور ) و ( الصورة السمعية ) أي بين ( اللفظ ) و ( المعنى ) ، والعلامة هي هذان الجانبان معاً ، وهما معاً كالورقة ، لا يمكننا أن نقطع وجهها دون أن نقطع الوجه الأخر ، إن أي تغيير في الصورة السمعية لابدّ أن يؤدي إلى تغيير في التصور ، وأي تغيير في التصور لابد أن يؤدي إلى تغيير في الصورة السمعية([3]).
هذه هي الأصول الثلاثة التي غيرت اتجاه الدرس اللغوي الحديث وسلكته في ميدان الدرس العلمي الموضوعي ، ويمكننا أن نجمل أهم نقاط ما تقدم فيما يلي :
1. كان تأثر ( دي سوسير ) بـ ( دور كهايم ) في ميدان العلوم الاجتماعية منفذاً إلى اعتبار اللغة أيضاً واقعة اجتماعية وجعلته يختص ما أسماه La lange ميدان البحث اللغوي .
2. تركه طريق المنهج التاريخي إلى المنهج الوصفي لأنه الأساس الصحيح لبحث اللغة على أساس علمي .
3. اقتراحه دراسة اللغة على اعتبارها نظاماً من العلامات ليتسنى تطبيق مبادئ البحث العلمي عليها .
4. جعله علم اللغة علماً مستقلاً بذاته على اعتبار أن الدراسة الحقيقية لعلم اللغة هي دراسة اللغة في ذاتها ومن أجل ذاتها([4]).
العرب والمنهج الوصفي
أولاً في القديم
ليس القول بأن العرب القدماء بدؤوا دراساتهم اللغوية بالاعتماد على المنهج الوصفي ببعيد عن الحقيقة ، ذلك لأن أية دراسة علمية لا بدّ أن تعتمد على جمع الظواهر الخاصة بالعلم المعين ثم دراستها بعد ملاحظتها وتجربتها والخروج بنتائج أو قواعد تخص هذه الظواهر .
وهكذا بدأ العرب القدماء منذ الأجيال الأولى جمع المادة اللغوية من أماكنها الصحيحة التي اعتقدوا أنها مناطق اللغة الفصحى البعيدة عن اللحن والبعيدة عن مناطق التأثر باللغات الأجنبية المحيطة بشبه الجزيرة العربية .
وعندما رجع هؤلاء العلماء ، إلى حواضرهم ( البصرة والكوفة ) صنفوا هذه المعلومات ، أو المادة اللغوية المجموعة إلى فروع مختلفة ، منها ما يختص بمتن اللغة ( المعجميات ) ، ومنها ما يختص بقواعد اللغة ( الصرف والنحو ) ومنها ما يختص بالأساليب ( النقد والبلاغة ) .
ولقد كان أول عمل لغوي ـ على يد أبي الأسود اللغوي ـ عملاً وصفياً خالصاً إذ قال لكاتبه :" إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه إلى أعلاه ، وان ضممت فمي فأنقط نقطة بيني يدي الحرف ، وان كسرت فاجعل النقطة من تحت الحرف "([5]).
هذه الطريقة التي اتبعها أبو الأسود مع كاتبه هي طريقة وصفية محضة .
وكذلك كان العلماء الأوائل في مشافهتهم للأعراب ، وحرصهم على معرفة الصورة الواقعية للكلام ، وها هو أبو عمرو بن العلاء عندما عرف الطريقة الصحيحة لضبط كلمة ( فرجة ) أهي بفتح الفاء أم بضمها ، وكان هارباً من الحجاج حتى لقي أعرابياً في الصحراء ينطقها بالفتح ويخبره عن موت الحجاج فيقول ( أبو عمرو ) فما أدري بأيهما كنت أشد فرحاً ، بقوله (فرجة ) أم إخباره إياي بموت الحجاج ([6]).
وظلت هذه الطريقة الوصفية مع العلماء حتى نهاية القرن الرابع حيث كان يهتمّ ابن جني بجمع المادة اللغوية بمشافهة الأعراب والاتصال بالمصدر البشري ، وهي الطريقة الوصفية الحديثة في جمع اللغة ، من ذلك ما يرويه عن ( أبي عبد الله الشجري ) الأعرابي فيقول ( وسألته يوماً فقلت له : كيف تجمع ( دكاناً ) ؟ فقال : دكاكين ، قلت : فسرحاناً ؟ قال : سراحين ، فقلت فقرطاناً ؟ قال : قراطين ، قلت : فعثمان ؟ قال : عثمانون ، فقلت له : هلا قلت عثامين ؟ قال : عثمانون ، فقلت له هلا قلت عثامين ؟ قال : أيش عثامين ؟ أرأيت إنساناً يتكلم بما ليس من لغته ، والله لا أقولها أبدا ([7]).
هذه هي طبيعة البحث اللغوي في العصر الأول عند العرب ، وقد ذهب كثير من العرب العلماء لمشافهة الأعراب بالبادية والأخذ عنهم ، وإنفاذ كثير من الأوراق والأحبار ، فعل ذلك الخليل والكسائي والفراء .
ونجد في الكتاب لسيبويه كثيراً من الطريقة الوصفية في رصد الظواهر اللغوية ( صرفاً ونحواً ) ، فنجده يعتمد على طريقة المشافهة للعلماء الموثوق بهم واعتماده على سؤال الأعراب الخلّص الموثوق بدقة لغتهم ، ونجد الأبواب النحوية تعتمد في أمثلتها على كثير مما قاله العلماء والأعراب ، ونذكر بعض هذه الأمثلة فيما يلي :
وهو يثبت من خلالها رأي أساتذته أحياناً وسماعه عن الأعراب مباشرة .
أ ـ في نواصب المضارع .
1ـ وذلك مثل تعليقه على قوله .
ألم تسأل الربع القواء فينطق * وهل تخبرك اليوم بيداء سملق
وزعم يونس : أنه سمع البيت بـ ( ألم ) وإنما كتبت ذا لئلا يقول إنسان : فلعل الشاعر ، قال : ( ألا )([8]).
فانظر إلى دقة سيبويه وحرصه على عدم توهّم غير ما قاله أستاذه عن الشاعر الذي أنشد البيت .
2ـ وسألت الخليل عن قول الأعشى :
لقد كان في قول ثواء ثويته * تقضي لبانات ويسأم سائم
3ـ وكان أبو عمرو يقول : لا تأتنا فنشتمك .
4ـ وسمعت يونس يقول : ما أتيتني فأحدثك فيما أستقبل .
فقلت له : ما تريد به فقال : أريد أن أقول ، ما أتيتني فأنا أحدثك وأكرمك فيما أستقبل ([9]).
وسألته عن قوله تعالى :(( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فتصبح الأرض مخضرة … )) ، فقال : هذا واجب ، وهو تنبيه ، كأنك قلت أتسمع أن الله أنزل من السماء ماءً فكان كذا وكذا ؟ وإنما خالف الواجب (المثبت ) النفي ، لأنك تنقض النفي إذا نصبته ، وتغير المعنى([10]).
6ـ وسألت الخليل عن قوله عز وجل :(( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً ، أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذن ما يشاء )) .
فزعم أن النصب محمول على ( أن ) سوى هذه التي قبلها .
ولو كانت هذه الكلمة على ( أن ) هذه ( يعني أن الناصب للفعل ( يوحي ) هو ( أن ) الموجودة في الآية لا ( أن ) مضمرة ) لم يكن للكلام وجه ([11]).
وسؤال سيبويه أساتذته يعني اهتمامه بدقة السماع وكأن المروي حديث شريف يحتاج إلى أن يروى بطريقة من طرق السماع أو التحمل للرواية ، فلعمري ماذا يكون المنهج الوصفي غير ذلك .
وفي باب ما جرى من الأسماء التي من الأفعال وما أشبهها من الصفات التي ليست بفعل نحو الحسن والكريم وما أشبه ذلك مجرى الفعل ، إذا أظهرت بعده الأسماء أو أضمرتها يقول ([12]) : وسألت الخليل رحمه الله عن :( ما أحسن وجوههما ) فقال : لأن الاثنين جميع ، وهذا بمنزلة قول الاثنين : فمن فعلنا ذاك ، ولكنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما يكون مفرداً ، وما يكون شيئاً من شيء ، وقد جعلوا المفردين أيضاً جميعاً ، قال الله جل ثناؤه :" وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوّروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا : لا تخف ، خصمان بغى بعضنا على بعض " .
وفي باب الحروف الخمسة التي تعمل فيما بعدها كعمل الفعل فيما بعده : وروى الخليل رحمه الله أن ناساً يقولون ( هنا يصرح بسماع الخليل مباشرة عن العرب الموثوق بهم ) : إن بك زيد مأخوذ ، فقال : هذا على قوله ( انه بك زيد مأخوذ ) وشبهه مما يجوز في الشعر نحو قوله وهو ( ابن حريم اليشكري :
ويوما توافينا بوجه مقسم * كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم
ويورد مجموعة من الأبيات منصوبة على المدح والتعظيم ، ويورد أيضاً قول الفرزدق :
ولكنني استبقيت أعراض مازن * وأيامها من مستنير ومظلم
أناساً بثغر لا تزال رماحهم * شوارع من غير العشيرة في الدم
ومما ينتصب على أنه عظيم الأمر ، قول عمر بن شأس الأسدي :
ولم أرَ ليلى بعد يوم تعرضت * لنا بين أثواب الطراف من الأَدَمْ
حَلابيـةً وَبْريـةً حَنْتَرِيـةً * نأتْك وخانتْ بالمواعيد والذمَمْ
وبعد بيتين قال أيضاً سيبويه :" فكل هذا سمعناه ممن يرويه من العرب نصباً ، وطريقة أخرى من طرق التحمل ( في الحديث الشريف ) يأخذ بها سيبويه وهي سماعه ممن سمع من العرب الخلّص ، يقول : وبلغنا أن أهل المدينة يرفعون هذه الآية :(وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء ) ، فكأنه قال والله أعلم : قال الله عز وجل : لا يكلم الله البشر إلا وحياً ، أو يرسل رسولاً ، أي في هذه الحال ، وهذا كلامه إياهم " .
وتارة تكون الرواية أو السماع من مجهول فيقول : وأنشدنا ( بالبناء للمجهول ) لبعض العرب الموثوق بهم:
فإلى ابن أم أناسٍ أُرحّل ناقتي * عمرو ، فتبلغ حاجتي أو تزحف
ملك إذا نزل الوفـود ببابه * عرفوا مواردَ مـزبدٍ لا ينـزف
طريقة جمع المادة العلمية :
على الرغم من أن اللغويين والنحاة العرب المحدثين يعيبون في معظمهم ـ على طريقة القدماء في جمع المادة اللغوية من حيث :
التعدد النسبي
التعدد الزماني
التعدد النصّي
فإننا نجد أنه ـ في هذا الزمان المتقدم ـ لم يكن أمام علمائنا الأوائل إلا الأخذ بهذه الطرق :
أولاً : أما بالنسبة للعامل الأول ، وهو التعدد البيئي ( المكاني ) ، فإننا نجد أن هدفهم كان التحرّز ما أمكن من جمع هذه المادة من غير العرب الخلص ، والابتعاد عن أطراف الجزيرة العربية خوفاً من اختلاط لغة العرب بغيرهم من الأمم المجاورة ، كما ابتعدوا عن القبائل التي يمكن ـ نتيجة اختلاطها ـ أن تكون قد شابت لغتها بعض الخصائص اللغوية غير العربية الخالصة ، فالمنهج واضح ـ إذاً ـ أمام علمائنا ، أن يأخذوا اللغة من القبائل التي في وسط الجزيرة منعاً للتعدد اللغوي ما أمكن ، فأخذوا من قبائل قيس وتميم وأسد ، فان هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أُخذ ومعظمه ، وعليهم اتُّكِل في الغريب ، وفي الإعراب وفي التصريف ، ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين ، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم ، وبالجملة فانه لم يؤخذ عن حضري قط ، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم ([13]) .
وهذا العمل يقترب كثيراً من المنهج الحديث في جمع المادة العلمية ، خاصة في هذا العصر الذي لم توجد فيه وسائل جمع المادة العلمية ولا وسائل الانتقال ، ولا مساعدو البحث ولا وسائل التسجيل الحديثة ، إنه عمل عظيم إذا قيس بمقاييس هذا العصر .
إن النحاة القدماء لا يمكن أن نلومهم على اختيار هذه الرقعة الواسعة من الجزيرة العربية ، فقد أرادوا ألا تفوتهم نصوص من اللغة تحسب عليهم ـ إن هم تركوها ـ بأنهم لم يجمعوا نصوصاً كاملةً تكون أدقّ في المعيار العلمي ، لذا كانت محاولتهم هذه تحسباً من هذه المؤاخذات .
ثانياً : التعدد الزماني :
يقصد بالتعدد الزماني هنا ، مخالفة اللغويين والنحاة للمنهج الحديث في رصد الظواهر اللغوية ، فالمنهج الوصفي الحديث يرى أن لا تشمل الظاهرة اللغوية كلّ هذه الفترة الزمنية التي قعّد لها النحاة الأوائل منذ منتصف القرن الثاني قبل الإسلام إلى أواخر القرن الرابع بعد الإسلام في البادية ، ومنتصف القرن الثاني قبل الإسلام إلى منتصف القرن الثاني بعده في الحواضر العربية .
هذا هو اجتهاد علمائنا القدامى لقد اعتقدوا أن هذه الفترة الزمانية هي الفترة الخالصة للغة حيث لم يكن الاختلاط قد تمّ بين العرب الخلّص وغيرهم من الأمم ، وان كان قد حدث اختلاط فهو اختلاط عامّ ، ولا يشمل جميع البيئات ، ويمكن تدارك ما يحدث فيه من شوائب الاختلاط .
قد لا يرتضي المحدثون طول تلك الفترة الزمانية ، ويرون أن هذه الفترة كان يمكن أن تدرس على فترات تاريخية متعاقبة ليرى أثر التطوّر التاريخي لتلك الفترة ، ويتتبع هذه الظواهر عصراً وراء عصر ، وذلك ما يفعله المنهج التاريخي ( التعاقبي ) في العصر الحديث ، وتثبت هذه الدراسة نوع التطوّر إن كان دلالياً وذلك إذا تتبع تطوّر المعنى ، أو مبنويّاً إذا تتبع تطوّر المبنى .
وأنى لعلمائنا القدامى أن يفرقوا بين هذه الفترات في ذلك الزمن الباكر ، في عهد طفولة اللغة ؟
لقد اعتقد النحاة أن هذه الفترة الطويلة التي درسوها تمثل مرحلة واحدة من مراحل تطوّر اللغة ، وبذلك هي تمثل أصدق تمثيل الفترة الخالصة النقية ، وكأن الزمن قد توقف عند هذه الفترة ، ولم يدركوا أن هذه الفترة كافية للتغير اللغوي ( إن الفارق الزمني بين المحدثين والقدماء يعطي المحدثين من تجارب القرون السابقة ما لم يتهيأ مثله للنحاة العرب الذين كانوا طلائع في هذا العمل ، وعذر الطليعة دائماً أنه حسبه أنه أنار الطريق ومهّدها بوسائله المتاحة له ، دون أن يكون عالة على حكمة موروثة عن السابقين ، ولو أننا سلمنا بهذه الحقيقة لبدا لنا ما يتصوره المحدثون قصوراً عند القدماء كأن لم يكن ([14]) .
ثالثاً : التعدّد النصّي
أعني بالتعدد النصي ، تعدد النصوص اللغوية من حيث النوع إذ لم يعتمد النحاة واللغويون على نوع واحد من النصوص كالقرآن الكريم أو الحديث الشريف ، أو الشعر أو النثر ، وإنما كانت الأنواع الأربعة ـ باستثناء الحديث في القرون الأولى ـ مجال استشهادهم ، وهذا أمر لا يعترف به المنهج الوصفي .
وقد يكون ذلك صحيحاً ـ منهجياً ـ لكن ينبغي أن نضع نصب أعيننا دائماً أن النحاة ( لم يتصدوا لهذه المهمة الجليلة).
( مهمة المحافظة على القرآن الكريم من خلال رصد الظواهر اللغوية وتقعيدها حسب مستويات الصوت والصرف والمعجم والنحو والدلالة ) ومن أجل ذلك لم يكن ليتأتّى للعلماء أن يرصدوا نوعاً واحداً من النصوص أو لهجة واحدة من اللهجات ذلك لأن اللهجة الواحدة للقبيلة الواحدة لم تكن لتعطي صورة صادقة عن اللغة المشتركة ، ذلك لأن كل قبيلة لها استعمال خاص يعطي انطباعاً مغايراً عن اللغة الفصحى ، ولا يمكن دراسة القرآن على هذا النحو أو دراسة اللغة وإلا أتتْ على أمشاج مختلطة مختلفة .
فاذا أضفنا لعناية القدماء بالدراسات الدقيقة لهذه النصوص عناية أخرى من نوع خاص ، وهي عنايتهم واعتدادهم بهذه النصوص المروية اعتداد رواة الحديث بالحديث في نقد نصوصه وتوثيق نسبة الكلام إلى قائله ، وإن لم يكن الأمر يقتضي كل ذلك العنت عرفنا كيف كانت المحافظة على لغة القرآن الكريم ، إن هذا التوثيق الذي التزمه النحاة إنما ينتج عن كتابة النصوص لا نطقها ، ولو كانت منطوقة أو مسجلة على آلات صوتية ما كانوا في حاجة لهذا التثبت .
وعلى الرغم من أن بعض العلماء قد لاحظ ذلك التطوّر خلال الفترة الزمنية المستشهد بها ، إذ يرى الخطابي أن زيادات الحروف في أماكن ، وحذف حروف في أماكن أخر منها إنما جاءت على نهج لغتهم الأولى قبل أن يدخلها التغيير ثم صار المتأخرون إلى ترك استعمالها في كلامهم ([15]) .
على الرغم من ملاحظة ذلك التطوّر اللغوي من بعض علمائنا فإن النحويين لم يعطوه أهميته التي يستحقها ، وإن اهتم به اللغويون ومؤرخو الأدب ، ونقاده فقد تكلم اللغويون على المهجور والدخيل ، وتكلم مؤرخو الأدب ونقاده عن العصور المختلفة للأدب كالجاهلي والإسلامي والأموي والعباسي الخ ، وقد رصدوا التغيرات الخاصة بكل عصر ([16]) .
بقيت مسألة المشافهة التي يهتم بها المنهج الوصفي الحديث ، الذي يرى أن الوصف الدقيق للظواهر اللغوية إنما ينبغي أن يكون من خلال مساعد للباحث يجيد اللهجة أو اللغة المدروسة ويمثلها تمثيلاً صحيحاً دقيقاً ، ولم يكن ذلك ممكناً في القديم ، فمن أين يتعرف الباحثون القدماء على لغة أو لهجة امرئ القيس ومن عاصره ومن لحق به ، ولم يكن في ذلك الزمان آلات أو أدوات تسجل بها أصوات اللهجات أو حتى طباعتها على الآلات التي تأخذ بصمات الفم .
إن نسبة القصور إلى النحاة ـ حينئذ ـ لا تستقيم على إطلاقها لأن النحاة لو شافهوا امرأ القيس أو ابن هرمة لقامت عليهم الحجة لاختلاف النطقين حينئذ ولبرز البعد اللهجي بين طريقتي النطق ، إن كل ما استطاعه النحاة أن يسجلوا المواد المدروسة ، مما أدى إلى استنباط قواعد من مادة مكتوبة لديهم لا تفرق سطورها بين لهجة وأخرى ، بل إنهم ـ حتى من خلال هذه المواد المكتوبة ـ استطاعوا أن يفرقوا بين لهجة وأخرى ، وكل ذلك يدعونا إلى التماس العذر لعلمائنا الأقدمين ([17]) .
المنهج الكوفي :
يمكن القول إن المنهج الكوفي كان أقرب إلى المنهج الوصفي باعتبار أن نظرتهم إلى النصوص كانت نظرة وصفية ، لا تميل إلى النظرة العقلية أو الفلسفية ، ومعالجة هذه النصوص ـ في حالات كثيرة ـ حسبما هي عليه ، ولو أدى الأمر إلى استخراج قياس جديد ينطبق على النصوص الطارئة التي لم تخضع إلى القواعد المستقرة السابقة .
ولقد أثر على منهج الكوفيين على هذا النحو دراساتهم الأولى في الكوفة ، وهي مدرسة الإقراء ، إذ كانت الأولى مهتمة منذ البداية بالقراءات القرآنية ، ونبغ منهم كثير في القراءات والنحو ، فأثر هذا الاتجاه النصي على اتجاههم النحوي ، وكانوا أقرب إلى معالجة النصوص على ما تبدو عليه دون أن يعملوا عقلهم كثيراً في هذه النصوص ، ويكفي أن شيخ الكوفة علي بن حمزة الكسائي كان قارئاًَ ، بل كان شيخ القراء في الكوفة بعد حمزة بن حبيب الزيات وعاصم بن أبي النجود ([18]) .
ومن أجل ذلك كان احترامهم لسائر القراءات القرآنية ووقوفهم منها موقف القبول وعدم تخطئتهم القراء إلا في القليل النادر ، فكانت القراءات مصدراً هاماً من مصادر نحوهم ، وذلك على عكس البصريين الذين وقفوا من القراءات موقفاً متشدداً وخطئوا كثيراً من القراء لأن قراءاتهم لم توافق منهجهم ([19]) .
وأثر ذلك الموقف والمنهج بالنص في منهجهم النحوي واهتموا بالرواية والتلقين وذلك يتناسب تماماً مع المنهج الوصفي .
كانت الدراسة الكوفية ـ في عمومها ـ تعتمد على المثال الواحد ، دون أن تقف منه موقف المعارض أو المؤول ، ولعل ذلك جعل كثيراً ممن يتعصبون للمنهج البصري يقفون من الكوفيين موقف الساخر أو المتندر ، فيقولون إن الكوفيين لو وجدوا مثالاً واحداً لجعلوه أصلاً وقعّدوا عليه أي جعلوه قاعدة .
وقول بعضهم : إن أجلى ما يتميز به المذهب البصري بناء قواعده على الأغلب الشائع من كلام العرب ، وتحكيم المقاييس العقلية في الكثير من شئونه ، وإذا اصطدم بأصلٍ من أصوله بسماع غير مشهور ، فزع إلى التأويل والتوجيه ، أو رمى المسموع بالشذوذ أو الندور ، بل والتخطئة أحياناً .
أما مذهب الكوفة فلِواؤه بيد السماع ، لا يخفر له ذمة ، ولا ينقض له عهداً ، ويهون على الكوفي نقض أصل من أصوله ونسف قاعدة من قواعده ، ولا يهون عليه اطّراح المسموع ([20]) .
كان الكوفيون كما يرى ( المخزومي ) أميل من البصريين إلى فهم الطبيعة اللغوية ، وإدراك أن القضايا النحوية سبيلها السماع والاستقراء ، لا الإمعان المنطقي في القياس ، فلا يزال الكوفي يخضع في أحكامه لذوقه الطبيعي ، متحرراً من كل ما من شأنه أن يعوق تذوقه روح النص من قيود الاطراد .
وهذه هي بعض الأمثلة التي نسوقها لنتبين روح المنهج الوصفي عند الكوفيين :
1- منع الكوفيين تقدم الخبر على المبتدأ :
يمنع الكوفيون تقدم الخبر على المبتدأ في مثل ( قائم زيد ، وذاهب عمرو ) وفي مثل : ( أبوه قائم زيد ) ولا يرون رأي البصريين الذين يجيزون تقدم الخبر المفرد أو الجملة كما في الأمثلة الثلاثة المتقدمة ، ويعرب الكوفيون ذلك المبتدأ المتأخر ( عند البصريين ) فاعلاً لـ ( قائم ) ، وذاهب اللذين يعربان مبتدأ .
وحجة الكوفيين هو أن تقدم الخبر في مثل هذه الجمل يلزم عليه تقدم ضمير يعود على المبتدأ المؤخر ( في رأي البصريين ) وفي ذلك عود للضمير المتقدم على المبتدأ المتأخر ، ورتبة الضمير ـ في الأصل ـ التأخر عن العائد إليه لا التقدم ([21]).
إن مذهب الكوفيين في هذه المسألة أقرب إلى الوصف من مذهب البصريين كما أنها أقرب إلى الواقع اللغوي أيضاً وليس بها نوع من الإكراه أو الغصب لإجبار النص على ترتيب معين .
( البصريون يقولون بحذف الخبر ، والكوفيون يجعلون المنصوب خبراً )
2- مسألة حذف خبر ليت :
ساق البصريون شاهداً على حذف الخبر ، قول الشاعر :
يا ليت أيام الصبا رواجعا
وقول البصريين بالحذف بناء على نصب الخبر ( رواجعا ) ، دون رفعه ، لأن خبر ( إن ) يكون مرفوعاً وليس منصوباً ، فقالوا إن هذا المنصوب حال والخبر محذوف تقديره ( لنا ) أي : ( يا ليت أيام الصبا لنا رواجعا ) ، وتقدير البصريين هذا حفاظ على قواعدهم ، وهي : أن خبر هذه الحروف ينبغي أن يكون مرفوعاً ، فإذا لم يكن مرفوعاً فيمكن إعرابه حالاً ويبحث عن خبر جديد !! ، وهذا تفكير معياري غير واقعي .
ولم يقل الكوفيون بالحذف بل قالوا : إن ( رواجعا ) خبر ( ليت ) وليست حالاً ، ولسنا مضطرين إلى تقدير خبر محذوف لأن نصب الخبر وارد وجائز عند الفراء ، وهذه لغة بعض العرب ، لأن ( ليت ) بمعنى ( تمنى ) وهم يقولون : ( تمنيت زيداً قائماً ) فكذلك ( ليت ) في هذا البيت .
وفي ظني أن فكر الفراء في هذه المسألة أقرب إلى الوصف خصوصاً أن فكره لا يحوج إلى تقدير ، وقد اتفق النحاة جميعاً على أن الفكر الذي لا يحوج إلى تقدير أولى مما يحوج إلى تقدير ([22]) .
3- النعت بالمصدر
ينعت بالمصدر كثيراً وإن كان على غير قياس ، قال ابن مالك :
ونعتوا بمصدر كثيرا * فالتزموا الإفراد والتذكيرا
فيقال هذا رجل عدل وإنسان زَور ورجل رضي ، قال تعالى :( قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً ، فمن يأتيكم بماء معين ) ، وقال تعالى :( وجاؤوا على قميصه بدمٍ كذب ) .
ومع هذه الكثرة لم يوافق البصريون والكوفيون ، على أن يترك النعت على صيغته المصدرية ، لكن البصريين كانوا أكثر تكلفاً من الكوفيين .
فقد رأى البصريون أنه لابدّ من تأويل مضاف محذوف ، ففي قولهم ( رجل عدل ) ، أي رجل ذو عدل ، وذو زور ، وذو رضى ، وذو غَوْر ، وذو كذب .
وقد كان الكوفيون أقل تكلفاً ، إذ لم يقدروا مضافاً محذوفاً ، لكنهم جعلوا المصدر في صيغة المشتق ، فقالوا إن النعوت عدل ، وغور ، وكذب ، وما ماثلها من المصادر في قوة المشتقات ، عادل ، وغائر ، وكاذب ، وما ماثلها .
ووافق ابن يعيش على أن تقبل صيغة المصدر على شكلها دون تأويل ودون حذف وهو أقرب الثلاثة إلى الوصفية([23]).
4- العطف على الضمير المرفوع المتصل دون فصل :
يرى جمهور النحاة أنه إذا أُريد العطف على الضمير المرفوع المتصل فلابد أن يفصل بينه وبين المعطوف عليه بشيء آخر كالضمير المنفصل أو التوكيد أو المفعول أو أي فاصل أخر كما في هذه الآيات :
( فاذهب + …… + أنت وربك فقاتلا ) 24 المائدة .
فعطف ( ربك ) على الضمير المرفوع المستتر في ( اذهب ) بالضمير المنفصل ( أنت ) ، وكذلك قوله تعالى :( اسكن + ……. + أنت + وزوجك الجنة ) .
ويعلل ابن الحاجب لذلك أن الضمير المرفوع المتصل ( أو المستتر ) كالجزء من الكلمة ، وهم أي العرب أو النحاة لا يعطفون على الجزء !! ( هكذا ) فأتوا في الصورة بالمضمر المنفصل ، ليكون العطف عليه لفظاً ([24]) .
وإذا جاء العطف دون فاصل ما فهو ضعيف أو قبيح عند البصريين كقول الشاعر :
قلت : إذ أقبلت + …… + وزهر تهادى * كنعاج الفلا تعسّفن رملا
وقول آخر :
فلما لحقنا والجياد عشيةً * دعوا : بالكلابِ واعتزينا لعامر
فقد عطف في البيت الأول ( زهر ) على الضمير المرفوع المستتر في ( أقبلت ) أي ( هي ) دون فاصل ما .
وعطف ( الجياد ) في البيت الثاني على ضمير المتكلمين الفاعل ( نا ) من ( لحقنا ) وذلك ضعيف عند البصريين .
واستقبح ذلك سيبويه أيضاً ، ولم يعلل لذلك القبح كغالب أحواله فقال :( واعلم أنه قبيح أن تقول : ذهبت وعبد الله ، وذهب وعبد الله ) ([25]) ، وكذلك استقبح ذلك المبرد .
وأجاز ذلك الكوفيون ولم يستقبحوا ما ورد على ذلك ولم يضعفوه ، ولم يتأولوا ولم يقدروا ، لأن ما ورد من كلام العرب من شعر أو نثر فهو مقبول عندهم .
وابن مالك أيضاً يجيز ذلك إذ يقول ( ولا يمتنع العطف عليه دون فصل ، ومنه ما حكى سيبويه ، ( مررت برجلٍ سواءٍ + …… + والعدم ) فعطف العدم بالرفع على الضمير المستتر في سواء ([26]) .
وقد جاء أيضاً في الشعر غير ما تقدم قول جرير :
ورجا الأخيطلُ من سفاهة رأيه * ما لم يكن + …… + وأبٌ له لينالا
فقد عطف قوله ( أب ) بالرفع على الضمير المستتر ( هو ) في ( يكن ) ، وتجويز الكوفيين لهذه الأمثلة والشواهد يشير إلى تمسكهم بالنصوص وأخذها على ظاهرها ، دون تأويل وهو ما يأخذ به المنهج الوصفي .
هذا قليل من كثير من طريقة الكوفيين أو أفراد منهم ( كالكسائي أو الفراء أو ثعلب ) في دراسة الظواهر النحوية ( أو الصرفية ) يعتمدون الظاهر الموجود أمامهم خاصة ـ إذا كان قرآناً أو قراءات ـ احتراماً وتقديساً للنص القرآني ، أو للنص العربي شعراً أو نثراً ، وهذه الطريقة الوصفية أراحتنا من كثير من وجوه التأويل التي تفسر أشياء في ذهن العلماء دون أن تفيد في تفسير ما هو موجود فعلاً .
ثانياً : الدراسات اللغوية الوصفية العربية في العصر الحديث ( القرن العشرين ) :
بعد أن أتصل طلاب البحث العلمي بطرق البحث اللغوي في أوروبا وأمريكا في القرن العشرين ، أدركوا ضرورة الربط بين التراث العربي العظيم ونظريات البحث الحديث ، واستئناف النظر في أعمال القدامى على ضوء مناهج الدرس الحديث ، وهؤلاء الباحثون الرواد يشكلون بأعمالهم العلمية القيمة حلقة الوصل بين التراث والمعاصرة .
إن فترة ليست بالقصيرة كانت الغلبة فيها للمنهج الوصفي البنيوي الذي أولى العلماء فيه جلّ اهتمامهم لدراسة اللغات الحية ، واستمرّ الأمر كذلك إلى أن ظهرت المدرسة التحويلية بعيد منتصف القرن العشرين على يد العالم اللغوي نعوم تشومسكي ، وأدت إلى ثورة في علم اللغة مما قدمته من منهج لغوي جديد ([27]) .
لقد ظهرت محاولات جادة في مطلع نهضتنا الحديثة ترمي إلى ربط الدراسات العربية بالمنهج الحديث .
كانت أولى هذه المحاولات لدى ( جورجي زيدان ) في كتابيه عن اللغة ( الفلسفة اللغوية والألفاظ العربية ) والثاني عن ( اللغة العربية كائن حي ) ، وقد عرض في هذين الكتابين دراسات عن وظيفة اللغة وطبيعتها وطرق تحليلها ، وأفاد في هذين الكتابين من ممارسات الغربيين وتجاربهم وطرق بحثهم خاصة المستشرقين الألمان ، وقد أفاد الرجل من هذه التجارب البحثية الغربية ، والنظريات اللغوية التي كانت سائدة في أوائل القرن العشرين .
وثاني هذه المحاولات ما قام به الأب أنستاس ماري الكرملي بدراسة اللغة العربية ، علومها ولهجاتها ، ومحاولة النهوض بها ، ظهر ذلك في مؤلفاته اللغوية ، وفي مجلة ( لغة العرب ) التي كان يصدرها ([28]) .
وقد قام بعض المستشرقين بالتدريس ـ في أوائل القرن العشرين ـ في كلية الآداب في جامعة القاهرة ، وكان تركيزهم على العلاقات التاريخية بين اللغة العربية وأخواتها الساميات ، ووصلوا إلى نتائج طيبة في الربط بين أفراد هذه الأسرة اللغوية .
الدراسات المنهجية الحقيقية لعلم اللغة الوصفي :
كانت البداية الحقيقية للكتابات في علم اللغة الوصفي على يد ، د : علي عبد الواحد وافي حينما كتب (علم اللغة ) ، ( وفقه اللغة ) ، وكانت دراسته في هذين الكتابين تعتمد على المبادئ الآتية :
1- ينبغي أن تعتمد الدراسة الوصفية على الملاحظة والتجريب .
2- التفريق بين اللغات الحية والميتة .
3- ينبغي تقسيم الظواهر اللغوية إلي مستويات صوتية وصرفية ونحوية ودلالية .
4- البنية اللغوية تتألف من عناصر ذات وجود متميز لكنها بينها علاقات عضوية .
5- ضرورة التفرقة بين اللغة المنطوقة واللغة المكتوبة .
الدكتور إبراهيم أنيس ودراساته الوصفية في الأصوات والنحو والدلالة :
للدكتور أنيس كتابات مختلفة في المستويات اللغوية المختلفة فله كتاب ( الأصوات اللغوية ) يدرس فيه الأصوات العربية دراسة صوتية تحليلية وصفية ، ويفرق بين الدارسات الوصفية والدارسات التاريخية .
وله كتاب ( اللهجات العربية ) يعرض فيه خصائص اللهجات العربية قبل وبعد الإسلام ، ويدرسها دراسة وصفية تحليلية، كما يعرض فيه المستويات الفونولوجية والمورفولوجية والنحوية والدلالية للهجات .
وهو يشرح منهجه في صدر كتابه ( اللهجات العربية ) : ودراستنا للهجات يجب أن تبدأ وصفية ، نشرحها ونسجلها ، ونحلل أصواتها وكلماتها دون التعرض في البدء إلى أي نوع من المقارنات أو الحكم على أن لها صلة بلهجة قديمة ، فإذا فرغنا من الدراسة الوصفية التحليلية لكل لهجة من اللهجات الحديثة نكون قد حققنا أغراضاً جليلة منها :
1- تسجيل لهجاتنا التي تكون مرحلة تاريخية من حياتنا الاجتماعية .
2- إشباع رغبات العلماء في الدراسات الأكاديمية للهجات .
3- استخدام تلك الدراسات في دراسة اللهجات العربية القديمة ([29]) .
الدكتور عبد الرحمن أيوب ونقده للدرس النحوي القديم :
قدم الدكتور أيوب كتاباً قيماً في نقد التراث النحوي القائم على أسس معيارية ومتأثر بالدراسات اليونانية في مسائل التقسيم الأرسطي للكلمة ، ومسائل التعليل ، وإغراقه في التأويل وإعطاء شكل آخر للجمل من خلال هذا التأويل ليس موجوداً في شكلها الحالي .
ويبدأ الدكتور أيوب في نقده للنحو العربي بدءاً من الكلام وأقسامه ومروراً بمعاني الإعراب والبناء ثم يتتبع الأبواب النحوية القديمة ناقداً لها ولأسسها الفكرية القائمة عليها ، لكن الدكتور أيوب لا يقدم لنا في كتابه القيم بناءً نحوياً جديداً بديلاً للتراث النحوي القديم .
والكتاب يقدم لنا منهجاً دقيقاً في الوصفية ويوصي باتباعه ، وترك الدراسة اللغوية القديمة ، لأنها أدت إلى تعقيد الدراسات الصرفية والنحوية .
وتقسيمه للغة شأنه شأن من تعرضوا لهذا التقسيم بعده يقوم على أساس الشكل والوظيفة لا الدلالة ، وينتهي إلى التقسيم السداسي للكلمة ([30]) .
الدكتور تمام حسّان وبناءٌ حديثٌ لعلوم اللغة والبلاغة :
بدأ الدكتور تمام حسان حياته العلمية بعد عودته من انجلترا بكتابين أولهما ( مناهج البحث في اللغة ) وثانيهما ( اللغة بين المعيارية والوصفية ) .
وهو في الكتاب الأول يحدد مناهج البحث في علوم اللغة أصواتاً وصرفاً ونحواً ودلالةً ، ويحدد هذه الفروع بالمنهج الوصفي ، ويرسم طريقة البحث باتباع الآتي :
1- الباحث في علوم اللغة كالباحث في تشريح الجسم الإنساني عليه أن يصف ما يراه لا أن يصدر أحكاماً أو يفرض قواعد .
2- وأن الباحث اللغوي لا يفرض قواعد أو يصدر أحكاماً ، وليس أيضاً من وظائفه أن ينص على ما يجوز لغوياً ولا ما لا يجوز .
3- وأن الباحث اللغوي يختار مرحلة بعينها من لغة بعينها ليصفها وصفاً استقرائياً ، وتتخذ النواحي المشتركة بينها ويسميها قواعد ، لكن هذه القواعد ليست معياراً ولكنها جهة اشتراك بين حالات الاستعمال الفعلية .
هذه هي المبادئ التي راعاها الدكتور تمام ، وهو يرسم قواعد المنهج الوصفي الصحيح في دراسة فروع اللغة .
وكتابه الثاني ( اللغة بين المعيارية والوصفية ) ، هو رسم لحدود كل من المنهجين ، وإن كان ذلك من خلال رصد لظواهر المنهج العربي القديم ، كالقياس والتعليل والمستوى الصوابي ، وأثر الفرد في نمو اللغة ، وهو في كل خطوة يخطوها لا يحكم وإنما يصف ويلاحظ ، ومقدار بُعْد ما كان عليه القدماء من المنهج الوصفي ، وهو في رصده للمنهج الوصفي يرصده من خلال حديثه عن مظاهر وصفية كالحديث عن الرموز اللغوية ، والاستقراء والتقعيد ، والمسلك الاجتماعي للغة .
ولا شك أن الكتاب ما إن تنتهي آخر خطواته حتى نكون قد تعرفنا المنهجين القديم والحديث ، وتعرفنا على أهمية المنهج الحديث وأنه الذي ينبغي أن يتخذ أساساً للبحث اللغوي .
( اللغة العربية معناها ومبناها ) :
يقع هذا الكتاب في ثمانية فصول تشمل جميع المستويات اللغوية بدءاً من الكلام واللغة في الفصل الأول ، وبالأصوات في الفصل الثاني ، ثم النظام الصوتي في الفصل الثالث ، ثم النظام الصرفي في الفصل الرابع ، ثم النظام النحوي في الفصل الخامس ، ثم الظواهر السياقية في الفصل السادس ، ثم المعجم في الفصل السابع ، وأخيراً الدلالة في الفصل الثامن .
وفي ظني أن هذا الكتاب هو خلاصة أفكار الدكتور تمام حسان في البحث اللغوي المتكامل ، بل لا أغالي إذا قلت إنه قمّة الدراسات اللغوية العربية في الربع الأخير من القرن العشرين .
إن منهج الدكتور تمام في هذا الكتاب هو أن يجعله متكاملاً ، كل فصل يقود إلى الفصل الذي يليه ، وهو إلى حد كبير يوضح أنه لا يمكن فصل المستويات اللغوية عن بعضها إلا من أجل البحث فقط .
وقد اهتم الدكتور تمام في كل خطوة ومسألة من هذا الكتاب أن يمزج الدراسات البنيوية بالدراسات الدلالية أو كما هو منطوق الكتاب أن يجعل المبنى والمعنى شيئاً واحداً في الدراسة ، وأنه لا تقوم دراسة لغوية صحيحة لأي مستوى لغوي إلا بالاهتمام بالجانبين معاً ، وأنه لا يمكن فصلهما عن بعضهما ، أو كما عبر ( دي سوسير ) بأن العلاقة اللغوية لا يمكن فصل مبناها عن معناها ، لأنها كوجهي الورقة إذا قطع أحد الوجهين قطع الوجه الآخر .
وقد اهتم الدكتور تمام بإظهار العناصر التي يشتمل عليها كل مستوى لغوي :
أولاً : النظام الصوتي للغة يستخدم في دراسته العناصر الآتية :
1- معطيات علم الأصوات ، وهي أوصاف الحركات التي يقوم بها الجهاز النطقي ، أثناء النطق ، وكذلك الآثار السمعية المصاحبة .
2- طائفة من العلاقات العضوية الإيجابية ، وطائفة أخرى من المقابلات أو ( القيم الخلافية ) للتفريق بين الأصوات .
ثانياً : النظام الصرفي يتكون من :
أ- مجموعة من المعاني الصرفية ترجع إلى :
1- مباني التقسيم كالاسمية والفعلية والحرفية .
2- أو مباني التصريف كالإفراد والتثنية والجمع ، والتذكير والتأنيث والتعريف والتنكير ، والتكلم والخطاب والغيبة .
3- مقولات الصياغة الصرفية كالطلب والصيرورة والمطاوعة والألوان ، والأدواء والحركة والاضطراب ، والتعدية الخ .
ب- مجموعة من المباني تتمثل في الصيغ الصرفية ، وفي اللواصق واللواحق والأدوات فتدل هذه المباني على تلك المعاني بوجودها إيجاباً ، وبعدمها سلباً ( الدلالة العدمية ) .
جـ طائفة من العلاقات العضوية الإيجابية وأخرى من المقابلات ( القيم الأخلاقية ) بين المعنى والمعنى ، أو المبنى والمبنى ، حيث يلتقي المصدر ( صوم ) مع الصفة المشبهة ( شهم ) في صيغة ( فعل ) ، وحيث يفرق بين الصيغة والأخرى باختلاف وزنهما ( كفاعل ) في مقابل ( مفعول ) و ( المتجرد ) في مقابل ( المزيد ) و ( المذكر ) في مقابل ( المؤنث ) وهكذا .
( والنظام النحوي يتكون من ) :
أ- طائفة من المعاني النحوية العامة كالخبر ، والإنشاء ، والإثبات ، والنفي والتوكيد ، والاستفهام ، والأمر والنهي ، والدعاء ، والتمني ، والترجي ، والعرض ، والتحضيض ، والشرط والقسم ، والتعجب ، والمدح ، والذم ….. الخ .
ب- طائفة من المعاني النحوية الخاصة ، أو معاني الأبواب ، كالفاعلية ، والمفعولية ، والحالية ، ……الخ .
جـ مجموعة من العلاقات التي تربط بين المعاني الخاصة وتكون قرائن معنوية عليها ، حتى تكون صالحة عند تركيبها لبيان المراد منها ، وذلك كعلاقة الإسناد والتخصيص والنسبة والتبعية .
د- ما يقدمه علما الصوتيات والصرف لعلم النحو من المباني الصالحة للتعبير عن العلاقات كالحروف والحركات في علامات الإعراب ، والمباني كالاسم والفعل والحرف عندما تحتاج إليها الأبواب النحوية كأسماء الفاعلين والمفعولين والصفات المشبهة … الخ ، وبذلك ندرك مدى تماسك عناصر الأنظمة المختلفة .
هـ القيم الخلافية وهي التي لا يستغنى عنها أي نظام من الأنظمة ، وهي التي تميز بين العناصر السابقة في النظام بعضها والبعض الآخر ، كأن نرى الخبر في مقابل الإنشاء والشرط الإمكاني في مقابل الشرط الامتناعي ، والمدح في مقابل الذم ، والمتقدم رتبة في مقابل المتأخر ، والمرفوع في مقابل المنصوب ، والمتعدي في مقابل اللازم ، …… الخ .
هذه هي الأنظمة الثلاثة التي تشتمل عليها اللغة باعتبارها منظمة كبرى مكونة من عدة أنظمة أصغر([31]) .
والذي يحتاج منا إلى وقفة أكبر هو النظام النحوي الذي أشرنا إليه في السطور السابقة :
أولاً ( المبنى والمعنى والعلامة )
هذه المصطلحات الثلاثة ترتكز عليها الدراسات الصرفية والنحوية ارتكازاً فاعلاً مؤثراً ، ولا نغالي إذا قلنا إن هذه المصطلحات الثلاثة تنبع منها كل العناصر والفروع الصرفية والنحوية ، فكل باب نحوي وكل جملة نحوية تتجسد فيها هذه المصطلحات ، ويمكن توضيح ذلك من خلال المثال التالي :
المعنى المبنى العلامة
التأنيث التاء التاء في فاطمة أو صامتْ
المطابقة التاء التاء في أبَتْ هندٌ الأذى
الفاعلية الضمة الضمة على الدال في أبتْ هندٌ
والذي يبدو من هذا التصوير للصلة بين المعنى النحوي والمبنى الصرفي ، والعلامة المكتوبة أو المنطوقة هو التأكيد على تجذّر الارتباط بين المصطلحات الثلاثة ، وأنها حزمة واحدة لا تنفكّ في فهم المعنى الصرفي أو النحوي ، وذلك بخلاف المنهج الوصفي الغربي ـ عند بعض أعلامه مثل بلومفيلد ـ الذي لا يعترف بهذا الالتحام بين هذه الثلاثية ، ولعلنا نذكر قول ( بلومفيلد ) :" إن المعنى هو أضعف نقطة في الدرس اللغوي " ، فإذا أردنا دراسة اللغة دراسة حقيقية واقعية فلابد من فهم هذا الارتباط بين الأمور الثلاثة .
( المعنى النحوي يظهر من خلال نظرية تظافر القرائن ) :([32])
نظرية تضافر القرائن هي لبّ التفكير النحوي عند الدكتور تمام حسان وهو يعتبرها بديلاً عن نظرية العامل القديمة في النحوين اليوناني والعربي ، وإذا كانت نظرية العامل قد عقدت الدراسات النحوية القديمة لما ترتب عليها من قول بالحذف والتقدير والتأويل والتعليل ، وتغلغل المقولات المنطقية في دراسة النحو نتيجة ذلك ، فان الدكتور تمام يعتبر نظرية تضافر القرائن هي النظرية اللغوية الخالصة من كل مقولة لا تعتبر لغوية .
والمعنى النحوي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بهذه النظرية لا ينفكّ عنها ، وإن انتفت أو سقطت قرينة من هذه القرائن حلّ غيرها من القرائن محلها ولذلك سماها ( نظرية تضافر القرائن )
فإذا كان القدماء قد اعتمدوا كثيراً على الإعراب والعامل وما يمتّ إليهما من مقولات أخرى فإن هذه النظرية تعتمد على مقولات كلها لغوية ، وهذا تبيين للقرائن :
أولا : القرائن اللفظية
1- الصيغة كصيغة الفعل ، وصيغة الاسم للفاعل أو المفعول أو الأداة للاستفهام .
2- الإعراب ( العلامة الإعرابية ) كالرفع للفاعل والمبتدأ والنصب للمفاعيل والجر للمضاف إليه والمجرور بالحرف .
3- الرتبة كأن تكون رتبة الخبر مع المبتدأ التأخير ، والحال مع صاحبه ، والنعت مع منعوته ، وقد تكون الرتبة حرّة كالمبتدأ مع الخبر ، أو ملتزمةً كالفعل والفاعل والنعت والمنعوت الخ .
4- المطابقة وهي مطابقة الجزأين المتضامّين في النوع والإعراب والتعدد والتحديد .
5- الربط كاحتياج المبتدأ أو الخبر إلى رابط يربط بينهما ، وكاحتياج جملتي الحال والنعت أيضاً إلى رابط يربطهما مع صاحب الحال والمنعوت .
6- التضامّ قبول كل ضميمة لضميمة أخرى على سبيل الجواز أو الوجوب أو التنافي كالمبتدأ والخبر أو الفعل والفاعل والتابع والمتبوع .
7- الأداة كالاستفهام والنفي والنهي والعرض والتحضيض ، الخ فبهذه الأدوات يُستفاد المعنى العامّ للجملة .
8- النغمة : ومعناها أن فهم معنى الجملة لا يتوقف على صيغة تفيد ذلك المعنى كأداة الاستفهام التي تفيد معنى الاستفهام ، أو النفي التي تفيد معنى النفي ـ الخ ، لكن قد يلقى الكلام بطريقة صوتية ( نغمة ) تفيد الاستفهام أو التعجب أو غير ذلك دون حاجة لأداة ما ، كقول ابن الملوح :
ثم قالوا تحبها !! قلت بهراً * عدد الرمل والحصى والتراب
ويشرح د / تمام المقصود بكل قرينة بطريقة مفصلة لا مجال هنا له ، ثم يضرب بعض الأمثلة ليوضح كيف تغني بعض القرائن عن بعض ويحل الغالب محل الجزء ، وها نحن نضرب مثالاً واحداً .
إهدار القرينة الإعرابية :
إن المعربات التي لا تظهر عليها الحركات أقل بكثير جداً من مجموع ما يمكن وروده في السياق من الكلمات ، فهناك الإعراب بالحذف ، والإعراب المقدر للتعذر ، أو للثقل ، أو لاشتغال المحل وهناك المحل الإعرابي للمبنيات ، والمحل الإعرابي للجمل ، وكل هذه الإعرابات لا تتمّ بواسطة الحركة الإعرابية الظاهرة ، بل بعضها بالحركات المقدرة والآخر دون علامة .
إننا لو افترضنا أن كل الإعرابات تمّت على أساس الحركة الظاهرة ، فلم يكن هناك إعراب تقديري ولا محلي ، فإننا سنصادف صعوبة أخرى تنشأ عن أن الحركة الواحدة تدل على أكثر من باب واحد ، ومن هنا تصبح دلالتها على الباب الواحد موضع لبس .
لذا كان الاعتماد على العلامة الإعرابية باعتبارها كبرى الدوالّ على المعنى ، ثم إعطاؤها من الاهتمام ما دعا النحاة إلى أن يبنوا عليها النحو كله عملاً يتسم بالكثير من المبالغة .
1- قالت العرب :( خرق الثوبُ المسمارَ ) فأعطت المفعول ( الثوب ) علامة الفاعل ( المسمار ) والعكس ، فأهملت العلامة الإعرابية ، إذ أخذ كل من الفاعل والمفعول علامة الآخر واعتمدوا على القرينة المعنوية وهي قرينة الإسناد .
2- قال تعالى :" إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون " المائدة 69
فما الذي رفع ( الصابئون ) ، مع أنها معطوفة على اسم ( إن ) المنصوب ؟ ، إن قرينة التبعية ( وهي العطف ) أغنت عن العلامة الإعرابية ، أي بعطفها على اسم إن المنصوب .
إننا لو فحصنا الأمثلة المختلفة التي أهدرت فيها قرينة الإعراب أو غيرها من القرائن لوجدنا القرائن الأخرى حلّت محل القرينة الغائبة .
ولنعد إلى أحد المثالين السابقين لنرى ما القرائن الأخرى التي أغنت في الآية الكريمة عن قرينة الإعراب .
سنجد ما يلي :
1- الصيغة ( اسم إن ) والأصل فيه أن يكون منصوباً .
2- الربط وهي ارتباط اسم إن وما عُطف عليه بالخبر ، " فلهم أجرهم عند ربهم " بالضمير الرابط في ( فلهم ) و ( أجرهم ) .
3- الرتبة إذ قرينة اسم إن وما عطف عليه التقديم على الخبر كما أن المعطوف رتبته التأخير عن العاطف والمعطوف عليه.
4- التبعية بالعطف تفيد نصب هذا الاسم المرفوع لأن المعطوف ينبغي أن يكون إعرابه كإعراب المعطوف عليه .
وهكذا نستمر في عرض القرائن واحدة بعد الأخرى حتى ننتهي من عرضها جميعها ، وتثبت في النهاية أن جميع القرائن تسير في اتجاه التعويض عن القرينة المهدرة ، وهكذا نستطيع أن نثبت ذلك مع جميع القرائن الأخرى إذا أهدرت واحدة هُرِع الجميع إلى سد مسدّها والقيام بوظيفتها .
لقد تكلم القدماء في هذه القرائن ـ ما عدا قرينة النغمة ـ وتكلموا في الأبواب النحوية عن : ( الإسناد ) ( والصيغة ) و ( الرتبة ) و ( المطابقة ) و ( الأداة ) ، لكنهم عالجوها فرادى وليس على الطريقة التي تكلم عنها د / تمام في كتابه ، وفي ظني أن الحديث على هذا النحو ، لو عولج منذ القديم ما كان النحو وصل إلى هذه الحالة من التعقيد .
إن هناك كتباً أخرى عالجت الصرف والأصوات على طريقة المنهج الوصفي ، لكنها لم تصل إلى حد النظرية التي رسمها د / تمام ، وهناك مسائل كثيرة مهمة داخل الكتاب ، وهو يحتاج إلى عرض خاص ، لكننا نكتفي بهذا القدر وبعرض محاولة أخيرة تطبيقية .
( النحو الوصفي وعرض الأبواب النحوية على صور تطبيقية ) :
للباحث محاولة في مجال النحو الوصفي التطبيقي سماها ( النحو الوصفي من خلال القرآن الكريم )
درس في هذه المحاولة أبواب النحو على المنهج الوصفي في أربعة أجزاء :
درس في الجزء الأول المقدمات النحوية ، وعرض رأيه في الصفحات الأولى من الكتاب ، وطريقته في دراسة الأبواب ، ومعنى النحو الوصفي ، ومميزاته عن المنهج التقليدي ، وعرض رأيه في الإعراب والإعرابين التقديري والمحلي ، وأدخل المعربات إعراباً تقديرياً في المبنيات بجامع عدم ظهور الحركة في كل ، وشرح معنى الإعراب المحلي ، وأنه يمكن الاستغناء عنه ، لأن الإعراب المحلي عرض لصيغة أخرى تقبل الإعراب غير الصورة الشكلية الحقيقية الحاضرة ، أي أنه يرى أن هذه الصيغة التي لا تقبل الإعراب يحلّ محلها صيغة أخرى تقبل الإعراب .
وفي الأجزاء الثلاثة الأخيرة ، درس أبواب الجملة الاسمية في الثاني ، وأبواب الجملة الفعلية في الثالث ، ثم المشتقات وبقية الأبواب في الجزء الرابع ، وسمّى أبواب المشتقات بالجمل الوصفية باعتبار أن المشتق هو الذي يؤدي وظيفة الفعل ، وإن كان الإعراب لهذه الأبواب لم يخرج كثيراً عن الطريقة التقليدية .
وحاول تطبيق نظرية ( تضافر القرائن ) على كل باب نحوي ، والفرق بينه وبين الأبواب الأخرى , وكيف تميّز القرائن باباً عن باب آخر ، وكيف تحلّ القرائن محلّ القرينة المهدرة ، ممّا يجعل من فهم الباب النحوي وتمييزه عن الأبواب الأخرى أمراً غير عسير .
وحاول في دراسته للأبواب أن يعالج النصوص ( الجمل ) على هيئتها الحاضرة ، دون أن يقول بمسألة الحذف خاصة الحذف الواجب ، وأخذ بالمنهج الوصفي بما يُسمى بالجمل الناقصة ، وإن كان القول بالجمل الناقصة فيه اعتراف ضمني بمسألة الجزء المحذوف ، لكن المعنى لا يحتاج إلى ذكره ، ويكون السياق هو الذي قام بتكميل النقص في الجملة ، لأن ذلك المحذوف غير موجود ، ولا حاجة لنا إليه ، وهي على أية حال محاولة ضمن محاولات المحدثين للخروج من الأطر القديمة التي ألبسها النحو العربي أزمنة طويلة .
والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل .
محمد صلاح الدين مصطفى بكر
فجر السبت 11 شعبان 1422هـ / 27 /10 /2001م
--------------------------
([1]) النحو العربي والدرس الحديث ص 26
[2] النحو العربي والدرس الحديث 29
[3] النحو العربي والدرس الحديث 31
[4] النحو العربي والدرس الحديث 32
[5] ابن النديم : الفهرست 59-60
[6] الأنباري : نزهة الأباء 25 – تحقيق أبو الفضل ابراهيم دار نهضة مصر
[7] ابن جني : الخصائص 1/242 تحقيق محمد على النجار ـ دار الكتب المصرية .
[8] الكتاب ج3 ص 37 الهيئة المصرية للتأليف والنشر .
[9] الكتاب ج3 ص 40 الهيئة المصرية للتأليف والنشر .
[10] الكتاب ج3 ص 49 الهيئة المصرية للتأليف والنشر .
[11] الكتاب ج3 ص50 الهيئة المصرية للتأليف والنشر .
[12] الكتاب ج2 ص48 الهيئة المصرية للتأليف والنشر .
[13] المزهر – السيوطي 1/111 دار إحياء الكتب العربية ، تحقيق محمد جاد المولى .
[14] الأصول 118 – تمام حسان .
[15] ثلاث رسائل في إعجاز القرآن الكريم ص 48 .
[16] انظر الأصول 116 .
[17] انظر الأصول 117-118 .
[18] مدرسة الكوفة النحوية 22-26 .
[19] مدرسة الكوفة النحوية 237-241 .
[20] مدرسة الكوفة النحوية 350 نقلاً عن مجلة المجمع العلمي – دمشق ص 119 .
[21] الإنصاف 1-56 .
[22] المفصل 28 ، والخصائص 2/374 .
[23] انظر : أوضح المسالك 3/312 ، وشرح المفصل 3/50 .
[24] الإيضاح 1/455 .
[25] كتاب سيبويه 2/380 .
[26] انظر : همع الهوامع 2/138 ، وشرح الكافية للرضي 1/319 .
[27] دراسات في البنية الصرفية في ضوء اللسانيات الوصفية ص 30 – د. عبد المقصود أحمد .
[28] دراسات في البنية الصرفية في ضوء اللسانيات الوصفية ص 30 .
[29] اللهجات العربية 9-10 .
[30] دراسات نقدية في النحو العربي 7-9
[31] اللغة العربية معناها ومبناها 178-179 .
[32] اللغة العربية معناها ومبناها 191-241 .