إن من دلائل عظمة لغتنا العربية هو اتساعها الشاسع ودقتها في التعبير، وإن البحث اللغوي الذي يهتم بتحديد دلالة الألفاظ المتشابهة المعاني هو ما يسمى بالفروق اللغوية.
أولاً - أسباب نشوء ظاهرة الفروق اللغوية:
منذ بداية عصر التدوين، أي في أواخر القرن الأول الهجري، أخذ علماء العربية على عاتقهم مهمة جمع ألفاظ اللغة ولمِّ المتفرق منها؛ مما جعلهم يتصلون بالأعراب ويرتحلون إليهم في صحرائهم؛ ليأخذوا اللغة من منابعها الأصلية الحية، فضلاً عن اعتمادهم على التراث اللغوي الكبير الذي خلَّفه لنا القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والأدب القديم؛ شعره ونثره فتكونت لديهم مجموعة كبيرة من الرسائل الصغيرة التي تستقل كل واحدة منها بألفاظ معنى أو جنس من أجناس النبات أو الحيوان؛ مثل: "المطر" و "اللبأ واللبن" لأبي زيد الأنصاري (ت 215هـ)، و "الخيل" و "الإبل"، و "الشاء"، و "النخل"، و "الكرم" للأصمعي (ت 216هـ)(1)، وقد حوت هذه الرسائل أو الكتب ألفاظاً كثيرة للمعنى الواحد أو المتشابه من دون تحديد للفروق المعنوية بينها؛ لأنها جمعت كثيراً من لغات العرب ولهجاتها.
ومن جهة ثانية، إن للترادف والتأليف فيه أثراً كبيراً في نشوء هذه الظاهرة فقد اهتم العلماء بجمع الألفاظ المترادفة وتدوينها في فصول أو كتب كاملة اهتماماً بالغاً، وكانت كل طبقة منهم تأخذ ما جمعته سابقتها من المترادفات وتزيد عليها ما تستطيع. والحق أن ثمة فروقاً واضحة أو خفية بين قسم كبير من المفردات التي يظن بأنها مترادفة، فهي تختلف في درجاتها أو أنواعها أو غير ذلك، "فنظر"، مثلاً، تختلف عن "رنا" و "لحظ" و "لمح" وغيرها. كما أن قسماً من المترادفات هي صفات لمسمياتها؛ فللسيف أسماء كثيرة منها: الفيصل، الهندواني... ومن جراء ذلك تقاربت معاني ألفاظ كثيرة في اللغة العربية وتشابهت دلالاتها، وقد كانت الفروق بين تلك الكلمات واضحة لدى القدماء، بيد أنه بمرور الوقت وكثرة الاستعمال وضعف السليقة والاختلاط بالأعاجم اضمحلت تلك الفروق بين الكلمات المتقاربة وصار الناس يستعملونها بمعنى واحد فلذلك تأهب لهذا التساهل بعض العلماء وعدوّه ضرباً من اللحن وحرصوا على تنقية اللغة وأصالتها محتجين بالنصوص القديمة ومعولين على ما ذكره الأقدمون من اللغويين وما ورد عن العرب الفصحاء إبان عصور الاحتجاج وألَّفوا كتباً وصنفوا أبواباً(2).
ولعل الجاحظ (ت 255هـ) هو أول من نبَّه على ذلك فقد ذكر أن الناس يضعون ألفاظاً في غير موضعها الصحيح من دون مراعاة الفروق بينها، يقول: "وقد يستخف الناس ألفاظاً ويستعملونها وغيرها أحق بذلك منها، ألا ترى أن الله تبارك وتعالى لم يذكر في القرآن الجوع إلا في موضع العقاب أو في موضع الفقر المدقع، والعجز الظاهر، والناس لا يذكرون السغب ويذكرون الجوع في حالة القدرة والسلامة، وكذلك ذكر المطر؛ لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلا في موضع الانتقام، والعامة وأكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر وبين الغيث"(3). ولكن الجاحظ اكتفى بهذه الإشارة السريعة في مقدمة كتابه "البيان والتبيين".
وكذلك ابن قتيبة (ت 276هـ) فإن هذا التساهل في استعمال ألفاظ اللغة في غير أماكنها الصحيحة لهو من أسباب تأليفه كتاب أدب الكاتب يقول في مقدمته: "ولقد جرى في هذا المجلس كلام كثير في ذكر عيوب الرقيق فما رأيت أحداً منهم يعرف الفرق بين الوَكَع والكَوَع، والحَنَف من الفَدَع، واللَّمى من اللَّطع. فلما رأيت هذا الشأن كل يوم إلى نقصان وخشيت أن يذهب رسمه ويعفو أثره جعلت له حظاً من عنايتي وجزءاً من تأليفي"(4).
فجعل الباب الأول من كتابه: "باب معرفة ما يضعه الناس غير موضعه" وفيه يفرِّق بين جملة من الألفاظ يستعملها الناس بمعنى واحد، مثل الظل والفيء يقول: "يذهب الناس إلى أنهما شيء واحد وليس كذلك لأن الظل يكون غداة وعشية ومن أول النهار إلى آخره..."(5) وكذلك يفرِّق بين الآل والسراب، والبخيل واللئيم والفقير والمسكين، والخائن والسارق، والأعجمي والعجمي، والأعرابي والعربي. ثم يخصص أبواباً في الفروق في خلق الإنسان والحيوان وما يتصل بهما، ثم يجعل في أواخر "كتاب المعرفة" باباً في الأسماء المتقاربة في اللفظ والمعنى، وفيه يبين الفروق الدقيقة بين هذه الكلمات المتقاربة مثل "الحزم من الأرض أرفع من الحَزْن"(6).
ثانياً- التصنيف في الفروق:
1-ظهرت منذ القرن الثاني كتب متخصصة لإصلاح ما تخطئ به الخاصة والعامة، وما تضعه في غير موضعه، وما زالت تظهر حتى الآن، من أولها: الكتاب المنسوب إلى الكسائي (ت 189هـ) وإصلاح المنطق لابن السكيت (ت 244هـ) والفصيح لثعلب (ت 291هـ) ولحن العوام للزبيدي (ت 379هـ) ولعل أهم كتابين أشارا إلى مسألة الفروق هما:
"تثقيف اللسان وتلقيح الجنان" لابن مكي الصقلي (ت 501هـ)، و "درة الغواص في أوهام الخواص" للقاسم بن علي الحريري (ت 516هـ) ويتميز الكتاب الأول بأنه حسن التبويب جيد العرض، وقد جعل صاحبه الباب الخامس والعشرين؛ لما وضع في غير موضعه يقول: "ومن ذلك الهارب والآبق، لا يفرقون بينهما وليس يسمى آبقاً إلا إذا كان ذهابه من غير خوف ولا أتعاب وإلا فهو هارب"(7).
وأما درة الغواص فلم يعتمد الحريري على منهج معين فيه، بل ذكر ما تغلط به الخاصة من دون ترتيب، وقد احتوى بعض الفروق: "ومن ذلك أنهم لا يفرقون بين الترجي والتمني، والفرق بينهما واضح، وهو أن التمني يقع على ما يجوز أن يكون ويجوز ألا يكون، كقولهم ليت الشباب يعود، والترجي يختص بما يجوز وقوعه ولهذا لا يقال لعل الشباب يعود"(8).
وقد قامت على كتاب درة الغواص كتب عدة؛ شرحاً، وتكميلاً، وتذييلاً منها: شرح درة الغواص للخفاجي (ت 1069هـ)(9)، وتكملة إصلاح ما تغلط به العامة لأبي منصور الجواليقي (ت 539هـ)(10) وسهم الألحاظ في وهم الألفاظ لابن الحنبلي (ت 971هـ) وهو كما قال صاحبه ذيل لدرة الغواص(11)، وهذه الكتب الثلاثة لا تخلو من بعض الفروق اللغوية.
2-وإذا توسعنا –قليلاً- في مدلول الفروق اللغوية، فإن تحديد معاني الكلمات أو ترتيب درجاتها في كتب اللغة أو ضمن معاجم المعاني يدخل في هذا الباب، وقد رأينا –آنفاً- الجاحظ وابن قتيبة يحددان معاني بعض الكلمات المتقاربة في ثنايا كتبهما، وفي المزهر فصل فيما وضع خاصاً لمعنى خاص، فيه نقول كثيرة عن علماء اللغة القدامى كالأصمعي وابن دريد والقالي وغيرهم(12).
ونجد في كتاب الألفاظ لابن السِّكيت (ت 244هـ) الذي يعد أول معجم صغير من معاجم المعاني –تحديداً معنوياً لبعض الكلمات المتقاربة مثل: "باب الجماعة، القبيل: الثلاثة فصاعداً من قوم شتى وجماعُه القُبُل، والقبيلة: من بني أب واحد وجماعها القبائل، والنفر والرهط، ما دون العشرة من الرجال، والعصبة: من العشرة إلى الأربعين.."(13).
وزيادة على ذلك نجده –وإن كان من أنصار الترادف- يفرق بين بعض الكلمات المتشابهة كقوله: "باب الفقر والجدب، قال يونس الفقير يكون له بعض ما يقيمه والمسكين الذي لا شيء له"(14).
وثمة كتب أخرى من كتب المعاني تعرضت لذكر أسماء الأعضاء والجوارح في الجسم البشري وما يقابلها لدى الحيوان، واتخذت اسم الفرق؛ من أولها وأهمها كتاب الفرق لقطرب (ت 210هـ)(15) والأصمعي (ت 216هـ)(16) وثابت بن أبي ثابت (أواسط القرن الثالث الهجري)(17) وأحمد بن فارس (ت 395هـ) ومن الأخير نقتبس هذا المثال من "باب الأصابع":
"هي الأصابع من الإنسان وهي من الوحش غير الجوارح ومن الطير غير الجوارح البراثن؛ الواحد بُرثُن، ومن البعير الفراش"(18).
ثم نأتي إلى كتاب "فقه اللغة وأسرار العربية لأبي منصور الثعالبي (ت 429هـ) وهو أكثر تنظيماً من كتاب ابن السِّكيت وأحسن ترتيباً وأغزر مادة وأشد تخصيصاً لمعاني الكلمة الواحدة، يقول في "فصل تفصيل كيفية النظر وهيئاته في اختلاف أحواله: إذا نظر الإنسان إلى الشيء بمجامع عينه قيل رمقه، وإذا نظر إليه من جانب أذنه قيل لحظه، وإذا نظر إليه بعجلة قيل: لمحه، فإذا رماه ببصره من حده قيل حَدَجَه بطرفه، فإن نظر إليه نظر المتعجب منه أو الكاره له والمبغض قيل شفنه.. فإن نظر إليه بعين المحبة قيل نظر نظرة ذي علق"(19).
ومما يقربه أكثر من كتب الفروق أن الباب الثالث منه جُعل في بيان الفروق وتحديد معاني الكلمات بدقة: "الباب الثالث في الأشياء تختلف أسماؤها وأوصافها باختلاف أحوالها:
1-فصل مما روي عن الأئمة وعن أبي عبيدة: لا يقال كأس إلا إن كان فيها شراب وإلا فهي زجاجة، ولا يقال مائدة إلا إذا كان عليها طعام وإلا فهي خوان... ولا يقال فرو إلا إذا كان عليه صوف وإلا فهو جلد"(20).
2-فصل في احتذاء سائر الأئمة تمثيل أبي عبيدة من هذا الفن: لا يقال نفق إلا إذا كان له منفذ وإلا فهو سَرَب.. ولا يقال عهن إلا إذا كان مصبوغاً، وإلا فهو صوف.. ولا يقال ثرى إلا إذا كان ندياً وإلا فهو تَراب"(21).
3-فصل فيما يقاربه ويناسبه.. لا يقال للمرأة ظعينة إلا ما دامت راكبة في الهودج.. ولا يقال للسرير نعش إلا ما دام عليه الميت"(22).
4-فصل في مثله: لا يقال للبخيل شحيح إلا إذا كان مع بخله حريصاً.. ولا يقال للماء المِلح أجاج إلا إذا كان مع ملوحته مراً"(23).
3-ومن جانب آخر، فإن منكري الترادف قد التمسوا الفروق الدقيقة بين معاني الألفاظ التي عدها المقرون له مترادفة فصنفوا فصولاً أو وضعوا كتباً في ذلك، و "لعل أول ما وصفنا من إنكار الترادف هو ما حكاه ثعلب عن أستاذه ابن الأعرابي (ت 231هـ) القائل "كل حرفين أوقعهما العرب على معنى واحد في كل واحد منهما معنى ليس في صاحبه ربما عرفناه فأخبرنا به، وربما غمض علينا فلم نلزم العرب جهله"(24).
ثم تابعه تلميذه ثعلب (ت 291هـ) فقال "إن كل ما يظن من المترادفات فهو من المتباينات التي تتباين بالصفات"(25). ثم ابن فارس (ت 395هـ) في الصاحبي، ففي باب الأسماء كيف تقع على المسميات ينقل "ويسمى الشيء الواحد بالأسماء المختلفة نحو: السيف والمهند والصارم والذي نقوله في هذا أن الاسم واحد هو السيف وما بعده من الألقاب صفات، ومذهبنا أن كل صفة منها فمعناها غير معنى الأخرى"(26).
ويكرر مثل هذا القول في باب أجناس الكلام في الاتفاق والافتراق، ثم يذكر أنواع الكلام والفروق بين الألفاظ المتقاربة في المعنى: "ومنه تقارب اللفظين والمعنيين كالحزم والحَزن، فالحزم من الأرض أرفع من الحزن، وكالخضم وهو بالفم كله، والقضم وهو بأطراف الأسنان. ومنه اختلاف اللفظين وتقارب المعنيين كقولهم: مدحه إذا كان حياً وأبَّنه إذا كان ميتاً، ومنه تقارب اللفظين واختلاف المعنيين، وذلك قولنا: حَرِجَ إذا وقع في الحرج، وتحرج إذا تباعد عن الحرج، وكذلك أثم وتأثم"(27).
وكذلك تابعهم ابن درستويه (ت 347هـ) في كتابه تصحيح الفصيح، ثم جاء العسكري (ت بعد 395هـ) وألَّف كتاباً كاملاً في الفروق، وكذلك الراغب الأصبهاني (ت 502هـ) في مقدمة كتابه المفردات في غريب القرآن، ذكر أنه سيؤلف كتاباً في الفروق إن أمدَّ الله في عمره، ولا نعرف عن هذا الكتاب شيئاً يقول: "وأتبع هذا الكتاب إن شاء الله تعالى ونسأ في الأجل بكتاب ينبئ عن تحقيق الألفاظ المترادفة دون غيره من أخواته، نحو ذكره القلب مرة، والفؤاد مرة والصدر مرة.. ونحو ذلك مما يعده ممن لا يحق الحق ويبطل الباطل أنه من باب واحد فيقدر أنه إذا فسر الحمد لله بقوله الشكر لله، ولا ريب فيه بلا شك فيه، فقد فسر القرآن ووفاه البيان"(28).
ثالثاً-كتب الفروق:
ذكر العسكري في مقدمة كتابه الفروق أنه لم يرَ في موضوع الفروق "كتاباً يكفي الطالب ويقنع الراغب مع كثرة منافعه" ولهذا الكلام معنيان: أولهما، أنه أول من ضم شتات هذا العلم ولمّه في كتاب كاف شاف، وثانيهما: أن هناك بعض الرسائل أو الكتب في موضوع الفروق ولكنها غير كافية، وفي أثناء البحث تبين لي أن هناك رسالة من هذا النوع بعنوان: بيان الفرق بين الصدر والقلب والفؤاد واللب للحكيم الترمذي (توفي في القرن الثالث الهجري)(29).
وثمة كتاب لأبي الطيب اللغوي (ت 351هـ) اسمه الفروق وفي المزهر نقول منه: "قال أبو الطيب اللغوي في كتاب الفروق: يقال، يده من اللحم غمرة وندلة... ومن التراب تربة، ومن الرماد رمدة، ومن الصحناء صَحِنة، ومن الخمط مَسِسَة، ومن الخبز خبزه، ومن المسك ذفرة، ومن غيره من الطيب عطره، ومن الشراب خَمرة، ومن الروائح الطيبة أرجة"(30).
1-كتاب الفروق في اللغة لأبي هلال العسكري:
آ-سبب تأليف الكتاب:
يقول أبو هلال العسكري في خطبة الكتاب بعد حمد الله والصلاة والسلام على رسوله "ثم إني ما رأيت نوعاً من العلوم وفناً من الآداب إلا وقد صنف فيه كتب تجمع أطرافه وتنظم أصنافه إلا الكلام في الفرق بين معان تقاربت حتى أشكل الفرق بينها نحو العلم والمعرفة والفطنة والذكاء.. وما شاكل ذلك فإني ما رأيت في الفرق بين هذه المعاني وأشباهها كتاباً يكفي الطالب ويقنع الراغب مع كثرة منافعه فيما يؤدي إلى المعرفة بوجوه الكلام والوقوف على حقائق معانيه، والوصول إلى الغرض فيه فعملت كتابي هذا مشتملاً على ما تقع الكفاية به من غير إطالة ولا تقصير، وجعلت كلامي على ما يعرض منه في كتاب الله وفي ألفاظ الفقهاء والمتكلمين وسائر محاورات الناس، وتركت الغريب الذي يقل تداوله ليكون الكتاب قصداً بين العالي والمنحط، وخير الأمور أوسطها"(31).
ونستطيع أن نتبين من هذه المقدمة أشياء عدة منها أن أبا هلال هو أول من خصَّ موضوع الفروق بكتاب كامل كاف شامل، وإن هدفه من هذا الكتاب هو التفريق بين ألفاظ ذات معان متقاربة، استعملها الناس بمعنى واحد، وأن هذا التفريق ذو أهمية كبيرة فهو يؤدي إلى المعرفة بوجوه الكلام، والوقوف على حقائق معانيه، والوصول إلى الغرض فيه، وأما موضوعه فقد جعله على ما يعرض منه في القرآن، وما يجري على ألسنة الفقهاء والمتكلمين وسائر محاورات الناس تاركاً الغريب لقلة جدواه وعدم إفادة العامة منه.
ب-منهجه:
وقد جعل العسكري كتابه هذا في ثلاثين باباً في كل باب ألفاظ لمعان متقاربة في موضوع من الموضوعات، فالباب العشرون في الفرق بين الكبر والتيه والجبرية، وما يخالف ذلك من الخضوع والخشوع وما بسبيلهما، والباب الحادي والعشرون: في الفرق بين العبث واللعب والهزل والمزاح والاستهزاء والسخرية وما بسبيل ذلك، وترك الباب الثلاثين، وهو آخر أبواب كتابه، في الفرق بين أشياء مختلفة حسبما تيسر له.
وأما الباب الأول، فقد ذكر فيه نظريته في نفي الترادف في اللهجة الواحدة لعدم فائدته ثم يذكر مقاييسه في التفريق بين الألفاظ المتقاربة في المعاني، وهي كثيرة منها: اختلاف ما يستعمل عليه اللفظان اللذان يراد التفريق بين معنييهما، مثل: العلم والمعرفة، فالعلم يتعدى إلى مفعولين، والمعرفة إلى مفعول واحد.
ومنها اعتبار صفات المعنيين مثل الحلم والامهال، فالحلم لا يكون إلا حسناً والامهال يكون حسناً وقبيحاً. ومنها اعتبار ما يؤول إليه المعنيان مثل المزاح والاستهزاء، فالمزاح لا يقتضي تحقير الممازح، والاستهزاء يقتضي ذلك. ومنها اعتبار الحروف التي تتعدى بها الأفعال، كالعفو والغفران، تقول عفوت عنه أي محوت الذم والعقاب عنه، وتقول غفرت له: أي أنك سترت له ذنبه ولم تفضحه ومنها اعتبار النقيض، كالحفظ والرعاية، فنقيض الحفظ الإضاعة، ونقيض الرعاية الإهمال. ومنها اعتبار الاشتقاق، كالتلاوة والقراءة فأصل التلاوة من قولك تلا الشيء الشيء يتلوه إذا تبعه، فلا تكون التلاوة في الكلمة الواحدة، والقراءة تكون فيها، تقول قرأ فلان اسمه ولا تقول تلا اسمه. ومنها ما يوجبه صيغة اللفظ من الفرق بينه وبين ما يقاربه كالفرق بين الاستفهام والسؤال، وذلك أن الاستفهام لا يكون إلا لما يجهله المستفهم أو يشك فيه لأن المستفهم طالب لأن يفهم، وقد يجوز أن يسأل فيه السائل عما يعلم وعما لا يعلم، فصيغة الاستفهام استفعال، والاستفعال للطلب. ومنها اعتبار حقيقة اللفظين أو أحدهما كالفرق بين الحنين والاشتياق وذلك أن الحنين في اللغة هو صوت من أصوات الإبل تحدثها إذا اشتاقت إلى أوطانها ثم كثر ذلك حتى أجري اسم كل واحد منهما على الآخر(32).
وهكذا فالعسكري قد عول كثيراً على الدلالة الأصلية للألفاظ مهتدياً إلى ذلك بالاشتقاق وأصل الوضع، كما تجاوز الدلالة اللغوية إلى اعتبارات أخرى نحوية وصرفية ومنطقية وعقلية"(33).
مثال من الفروق في اللغة: "الفرق بين الصفة والنعت".
"النعت فيما حكى أبو العلاء –رحمه الله- لما يتغير من الصفات، والصفة لما يتغير ولما لا يتغير فالصفة أعم من النعت... ولم يستدل على صحة ما قاله من ذلك شيء، والذي عندي أن النعت هو ما يظهر من الصفات ويشتهر ولهذا قالوا: هذا نعت الخليفة، كمثل قولهم: الأمين والمأمون، والرشيد، وقالوا اول من ذكر نعته على المنبر الأمين، ولم يقولوا صفته، وإن كان قولهم الأمين صفة له عندهم، لأن النعت يفيد من المعاني التي ذكرناها ما لا تفيد الصفة ثم قد تتداخل الصفة والنعت فيقع كل واحد منهما موضع الآخر لتقارب معناهما، ويجوز أن يقال الصفة لغة، والنعت لغة أخرى، ولا فرق بينهما في المعنى، والدليل على ذلك أن أهل البصرة من النحاة يقولون: النعت، ولا يفرقون بينهما"(34).
وأول ما نرى في هذا المثال مناقشته للأخبار بأدب وتواضع، غير أن حجته هنا غير قوية وشاهده عليها هو كلام الناس، وهو غير حجة، وقلّة الشواهد أو خلو بعض الفروق منها سمة عامة في الكتاب، ثانياً أنه يشير إلى التوسع في استعمال هاتين اللفظتين اللتين صارتا تدلان على معنى واحد، ثالثاً أنه يهتم بالتفريق بين مصطلحات النحويين "الصفة والنعت".
وهو لا يقتصر على ذلك بل يفرق بين ألفاظ الفقهاء والمناطقة، ويتمثل بأقوالهم، يقول في الفرق بين الرسم والحد: "فرق المنطقيون بين الرسم والحد فقالوا: الحد مأخوذ من طبيعة الشيء، والرسم من أعراضه"(35). بل ويأخذ شيئاً من ألفاظهم ومحاكمتهم العقلية، يقول: "لعل قائلاً يقول... قلنا"(36). وهو قد يذكر أكثر من فرق بين اللفظين كتفريقه بين الاسم والحد، فقد ذكر أربعة فروق بينهما.
وأخيراً، تجدر الإشارة إلى أن فروقه لا تخلو في بعض الأحيان من شيء من التكلف والتعسف(37) وخصوصاً بين الكلمات التي لم يستطع التفرقة بينها "بلطف الصنعة" أو وجد صعوبة فيها، كالنأي والبعد فهما في المعاجم بمعنى واحد؛ والزعم بوجود الفروق بين جميع ألفاظ اللغة قاطبة يمنع صحة تفسير أي نوع من الكلام؛ قرآناً أم حديثاً أم شعراً أم نثراً؛ ويمنع بالتالي حدوث المعاجم التي من أهدافها الأولى تفسير كلمة بكلمة أو أكثر.
جـ-تقويم الكتاب:
على الرغم من كثرة من ترجم لأبي هلال(38)، فإن اثنين فقط ذكرا له كتابه هذا، أولهما القفطي (ت 646هـ) صاحب كتاب إنباه الرواة على أنباه النحاة، يقول عن العسكري: "وتصانيفه في غاية الجودة... فمن تصانيفه: كتاب صناعتي النظم والنثر، وهو كتاب بديع، كتاب الفروق وهو كتاب حسن، فرق فيه بين معاني الكلمات"(39). وثانيهما البغدادي (ت1093هـ) الذي اكتفى في خزانته بذكر اسم كتابه(40). غير أني عثرت على نقد مهم لكتاب الفروق، للخفاجي في شرحه درة الغواص، يقول الخفاجي عن الفروق كتاب أبي هلال: "وهو فن بديع في علم اللغة وإن وقع النزاع في أكثره، كما سننبهك عليه قريباً"(41) ومثل هذا تقويمي للكتاب فللعسكري فضل السبق والريادة وفضل الجودة والاتقان فهو خير كتاب في بابه، وإن وقع النزاع في أكثره.
د-مختصر كتاب الفروق:
أشار بروكلمن إلى وجود مختصر من كتاب الفروق لأبي هلال يقول "ومنه مختصر في إمبروزيانا 5: 875، اختصره أحد تلامذة العسكري بعنوان اللمع في الفروق نشر في بولاق 1322 ونشر بمصر أيضاً 1345"(42).
وهو كتاب مجهول المؤلف يقع في خمس وثلاثين صفحة لا يعتمد الترتيب أو التبويب، إنما هو كما قال صاحبه "شذرة علقها من كتاب الفروق لأبي هلال العسكري"(43).
ويقول في الختام "وليكن هذا آخر ما أردنا تعليقه من هذا الكتاب، وفيه أشياء كثيرة تقبل المؤاخذة وتحتاج إلى تحرير"(44).
2-فروق اللغات في التمييز بين مفاد الكلمات لنور الدين بن نعمة الله الحسيني الجزائري (ت 1158هـ):
آ-سبب تأليفه:
أوهم الجزائري –في مقدمة كتابه- القارئ أنه لم يؤلف في الفروق كتاب قبله، على خطورة هذا العلم أو أهميته في فهم الكتاب والسنة، وأنه ألَّف كتاباً لم يسبق إليه وفتح باباً لم يطرق قبله ناسباً إليه فضل الريادة في هذا المجال مع أنه نصَّ صراحة على النقل من بعض كتب الفروق التي سبقت كتابه، قال: "ولم أجد من تصدى لجمع ذلك في كتاب، أو نظمه في فصل، أو فرزه في باب، وإنما يوجد منها في بعض الكتب تفاريق، أو نزر مشتت في بعض التعاليق، فيعسر الوقوف عليها، عند مسيس الحاجة إليها، فجال في خلدي قبل هذا بأعوام أن أجمع ذلك في كتاب، وأرتبه على الأبواب"(45).
ويحاول محقق هذا الكتاب، الأستاذ الدكتور محمد رضوان الداية أن يجد له مخرجاً من هذا الإشكال، كعادة المحققين في الدفاع عن أصحاب كتبهم، فيقول قد "يكون الأمر تنبيهاً إلى حسن صنيعه وانتهاجه نهجاً فيه أثر ذاتي، وموقف محدد موضح من المسائل والمصطلحات التي أوردها فهذا أمر ممكن ومقبول، وهو يحل هذا الإشكال"(46).
ب-منهجه:
بيَّن الجزائري منهج الكتاب بقوله "ورتبته على المنهج المعروف" في ترتيب الحروف، ولكن في الأوائل دون الأواخر، ومن غير ملاحظة مجردات المصادر... فالفرق بين الابتداع والاختراع مثلاً ذكرته في باب الألف... ولاحظت ترتيب الكلمتين الموردتين لبيان الفرق بينهما ترتيب حروف الهجاء، فقدمت ما هو مقدم في ذلك الترتيب، فالفرق بين الإرادة والشهوة مثلاً، يطلب من باب الألف، والفرق بين البث والحزن من باب الباء وهكذا"(47).
وهو "غالباً ما كان يورد مصطلحين اثنين ليبين الفروق بينهما، وقليلاً ما كان يثبت ثلاثة مصطلحات أو أكثر من ذلك"(48).
عدد مواد الكتاب التي فرق بينها (276) مادة لغوية وهذا عدد قليل، فالمؤلف لم يجهد في تطلب المفردات اللغوية ومع هذا فقد فرق بين مصطلحات الفقهاء والمتكلمين ولم يلتزم الألفاظ اللغوية فحسب، وأما ما يميز هذا الكتاب عن سابقه فهو كثرة الشواهد فقد استشهد لأكثر مواده بالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والأدب القديم، وأكثر من الاستشهاد بأقوال كبار الأئمة من الشيعة وبالصحيفة السجادية خاصة، مثال: الإنابة والتوبة، قيل التوبة: هي الندم على فعل ما سبق. والإنابة: ترك المعاصي في المستقبل. قلت، ويشهد لذلك قول سيد الساجدين –عليه السلام- في الصحيفة السجادية: "اللهم إن يكن الندم توبة إليك فأنا أندم النادمين وإن يكن الترك لمعصيتك إنابة فأنا أول المنيبين"(49).
والأثر الذاتي للمؤلف يبدو واضحاً فهو "كثيراً ما ينبه إلى استنباطه الفرق بين مفردتين مما لم يسبقه أحد إليه مشيراً إلى صنيعه في ذلك"(50).
ومما يؤخذ عليه الإطالة في بعض المواد، كالإرادة والمشيئة، والإيجاز الشديد في بعضها الآخر، كالابن والولد، وكذلك أنه لم يعزُ قسماً غير قليل من نقوله عن سابقيه فضلاً عن بعض التكلف في التفريق بين الكلمات المتشابهة، وعدم وضوح شروحه في بعض الأحيان.
وفي نهاية الفروق يقول: "هذا ما تيسر لي في هذا الوقت إيراده من الفروق، وإن وقفت على غير ذلك فيما بعد ألحقته –إن شاء الله تعالى- بالكتاب، والله الهادي في كل باب"(51). وهذا يعني أن الكتاب إنما هو مسودة لم يكمل المؤلف جمع موادها، وختم الكتاب بفصول كثيرة مهمة في فقه اللغة والأضداد ومثلثات الكلام، وشرح بعض أدوات الاستفهام، وفسَّر بعض الأمثال ثم ذيله ببعض رسائله وخطبه وبقصيدة له.
3-فرائد اللغة، الجزء الأول في الفروق، تأليف الأب هنريكوس لامنس اليسوعي (ت 1356هـ):
آ-سبب تأليفه:
وهو كالعسكري من منكري الترادف التام، وكسابقه الجزائري يوهم عدم وجود كتاب في الفروق قبله فيذكر في مقدمة كتابه أنه ألَّف هذا الكتاب لطلبة المدارس لأنه ليس بين أيديهم من كتب اللغة ما يستعينون به "ولو فرض أنهم حصلوا تلك الكتب برمتها ما عانوا بها الكشف إلا نادراً، لطولها واتساع مادتها" يقول: "ولذلك فإن احتياج المدارس إلى كتاب تنضم فيه تلك المترادفات حملنا على أن ننتجع كتب أئمة البلغاء، وأكابر علماء اللغة الفصحاء حتى ظفرنا بضالتنا، ووجدنا نادتنا، فجمعنا تلك الألفاظ المشتتة في تأليفهم على أوفق ترتيب وأوردنا ما ذكروا بينها من الفروق على أكمل تهذيب، وبذلنا غاية الجهد في الضبط والإحكام"(52).
ومعنى هذا أن الكتاب مدرسي، ويجب أن نقومه على هذا الأساس، ولا بأس في ذلك لولا أنه أوهمنا أنه جمع مادته من ثنايا تواليف علماء اللغة، مع أنه اعتمد على كتاب العسكري، وأخذ من كتاب الجزائري، بل إن الأستاذ الدكتور محمد رضوان الداية يرى أن كتاب فروق اللغات كان "مادة أساسية اعتمد عليها هنريكوس لامنس اليسوعي الذي أصدر كتاباً سماه فرائد اللغة الجزء الأول في الفروق... ولعل كلمة اعتمد غير كافية للدلالة على ما صنعه هنريكوس لامنس؛ فالحق أنه أخذ مادة الكتاب كلها –تقريباً- وأدخلها في كتابه، وحذف منها الشواهد والأمثلة والنصوص، وأسقط أيضاً العبارات الإسلامية والمصطلحات الفقهية، أو اكتفى منها بالقليل، وأشار مرات قليلة إلى أخذه من كتاب السيد نور الدين، ثم سكت عن ذلك واستمرأ النقل المباشر، وهذا نموذج من نماذج استفادتهم من التراث القديم، ونسبة الفضل إليهم"(53).
ب-منهجه:
اتبع لامنس طريقة الجزائري في ترتيب مواده على حروف الهجاء من دون الرجوع إلى أصل المادة، وهو، بعد، كتاب ضخم يحتوي على تسع وثلاثين وستمئة وألف مادة لغوية فرق بينها، وهو عدد كبير، فليس غريباً أن فرق فيه بين المصطلحات الطبية والفقهية والمنطقية، أو بين الكلمات الغريبة أو المهجورة مثل: "الاذراع واللخا، الاذراع: كثرة الكلام والإفراط فيه، واللخا: كثرة الكلام في الباطل"(54).
4-كتب أخرى في الفروق:
بادئ ذي بدء أود أن أشير إلى أن في كتاب الذريعة إلى تصانيف أهل الشيعة عدة كتب باسم الفرق(55)، منها ما يستدل أنه من كتب الفروق اللغوية أو فيها شيء من ذكر الفروق مثل كتب:
1-الفرق بين الإيمان والإسلام للشيخ علي بن عبد الله بن علي المهري البحراني المتوفى 1318.
2-الفرق بين العلم والمعرفة للشيخ محمد علي الحزين المتوفى 1181.
3-الفرق بين اللمس والمس للشيخ محمد علي الحزين المتوفى 1181.
وثمة أيضاً كتب عدة باسم الفروق (56) منها ما نص على أنها في الفروق اللغوية وهي:
1-الفروق: في بيان الألفاظ المتشابهة للسيد شهاب الدين النجفي المولود في 1318,
2-فروق اللغات: لنصر الله بن محمد باقر الشيرازي.
3-فروق اللغة: للشيخ تقي الدين الكفعمي.
4-فروق اللغة: للمحدث الجزائري السيد نعمة الله المتوفى 1112.
وممن خص الفروق بقسم أو باب في كتاب من المتأخرين إسماعيل حقي التركي (ت 1137هـ) في كتابه الذي وسمه "بالفروق" فأوهم بأنه أفرده لهذا الموضوع بيد أنه جعل الباب الرابع والأخير من أبواب كتابه فقط "في الفروق المفيدة في فنون شتى" ولم يرتب مواده حسب حروف الهجاء ولا حسب الموضوعات ولم يعتمد فيه أي ضرب من الترتيب. وقد فرق فيه بين الكلمات مثل: (السهو والخطأ)، والتراكيب مثل: (أنت لا تكذب، لا تكذب أنت)- (الجهل البسيط- الجهل المركب)- (مقدمة الكتاب مقدمة العلم)، والحروف والأدوات مثل: (عن، من)، (عند، لدى) أو بين معاني الحروف مثل (لا الجنس والتي تشبه بليس)، (إن، أن)، (أما المفردة، أما المركبة) وهو يفرق بين كلمتين- في أكثر الأحيان- وقد يفرق بين ثلاث كلمات مثل (الطريق- الصراط- السبيل) أو أكثر مثل الفرق بين (اليقين والظن والشك والوهم) والفرق بين (الكافر والمنافق والمرتد والمشرك والكتابي والدهري والزنديق) وغالباً ما يكون مقياس بيان الفرق لغوياً أو اصطلاحياً؛ نحوياً، فلسفياً؛ فقهياً مثل: (الصفة والنعت)، (الخواص والمزايا والكيفيات)، (فقه القضاء وعلم القضاء). ويستشهد أحياناً على أقواله بالقرآن الكريم والحديث الشريف والشعر وأقوال اللغويين والفلاسفة والفقهاء والعلماء والأتراك، بيد أن فروقه ترد من دون براهين أو إشارات تدل عمن أخذت عنه، وقد يفرق أحياناً بين كلمات واضحة مثل (الإغراء والتحذير) ويورد فروقاً بين كلمات من المثلث اللغوي مثل: (اللَبْس واللبُسْ)، و (السَد والسُد)، وكرر في هذا الباب الفرق بين القعود والجلوس مرتين(57) وقد انحسر مد التأليف في العصر الحديث، فلم يفرد موضوع الفروق بكتاب كامل. ومن أول المحدثين الذين جعلوا للفروق حظاً في كتبهم؛ أحمد بن مصطفى اللبابيدي الدمشقي، الذي ألَّف كتاب لطائف اللغة عام (1311هـ)، وهو كتاب من كتب المعاني وفقه اللغة تخلله فصل جمع فيه مؤلفه ألفاظاً كثيرة، فرق بينها دون الإشارة إلى مصادره إلا في المقدمة، مثال: "كسب: خيراً، اكتسب: شراً- ذكاه: ذبحه، زكاه عَدَله ومدحه"(58)، وهو أحياناً يفرق بين كلمات لا حاجة للتفريق بينها مثال "نعم: للمدح، ساء: للذم"(59) وثمة كلمات يفرق بينها وهي من باب المثلثات أو المشترك اللفظي مثل "الذُعْرْ: الخوف: الذَعَر: الدهش"(60).
ومن المحدثين الذين ألفوا في الفروق: عباس أبو السعود، فقد خصص فصلاً كبيراً في كتابه "شموس العرفان بلغة القرآن" عرض فيه نماذج كثيرة من الفروق من دون ترتيب ومن دون إشارة إلى المصادر أو المراجع، لا في هوامش الفصول ولا في آخر الكتاب، أي من دون توثيق(61) وكذلك عبد الفتاح المصري في قطوفه اللغوية، فهو لم يشر من أين أخذ مادته غير أنه ذكر ثبتَ المراجع في نهاية الكتاب مع أنه كتاب حديث جداً، طبع 1984م(62).
رابعاً- نفي كون بعض الكتب من كتب الفروق:
وقد لفت انتباهي قول الأستاذ حاكم مالك اللعيبي في كتابه المتميز "الترادف في اللغة" في أثناء حديثه عن الفروق: "هناك كتب أخرى في الفروق مثل: تعريفات الجرجاني وكليات العكبري ومصطلحات التهانوي ومفردات ابن البيطار وغيرها، وقد وجدت أن هذه الكتب قد عنيت، في الغالب، بالتفرقة بين ألفاظ هي من قبيل المصطلحات العلمية والفنية، مما يختص بمفردات المتكلمين والمناطقة والأطباء والفلاسفة والأصوليين والفقهاء؛ بغية تحديدها بدقة، وقد عزفت عن الخوض فيها لبعدها عن موضوعنا، وعدم عنايتها بالدلالة اللغوية، أو لعدم اقتصارها على ذلك"(63).
وسأعزف عن دراستها؛ لا لبعدها عن موضوعنا فحسب بل لأنها ليست من كتب الفروق في شيء، يقول الجرجاني عن كتابه التعريفات "فهذه تعريفات جمعتها واصطلاحات أخذتها من كتب القوم ورتبتها على حروف الهجاء"(64)، وكذلك الكليات فهو معجم في المصطلحات(65)، أما الجامع لمفردات الأدوية والأغذية فهو معجم طبي نباتي(66)، وكشاف اصطلاحات الفنون فهو كاسمه ضمنه التهانوي مصطلحات العلوم العربية من صرف ونحو وغيرها، ثم مصطلحات العلوم الشرعية؛ من كلام وأصول وفقه، ثم العلوم الحقيقية؛ كالمنطق والحكمة وعلم العدد والهندسة والطب وقليلاً جداً ما يعرض لقضية الفروق، وإن عرض لها فهو يفرق بين اللفظتين بمقاييس كثيرة غير لغوية، كما فرق بين الرعشة والاختلاج عند الأطباء(67).
فلو عددنا مثل هذه الكتب والمعجمات من كتب الفروق؛ فكل المعجمات قاطبة إذن من هذا الباب فهي تحتوي على الألفاظ المتقاربة والمتشابهة، ولكن كل لفظ في بابه.
وأخيراً؛ أشير إلى بعض الكتب التي حملت اسم الفروق أو الفرق وليست في مجال الفروق اللغوية: الفرق بين الحروف الخمسة للسيد البطليوسي، والفرق بين الضاد والظاء لجمهرة من العلماء منهم غلام ثعلب والصاحب بن عباد والحريري والحميري، والفرق بين الراء والعين لأبي سعيد محمد بن علي الجاواني، وكتاب الفروق للقرافي؛ وهو في الفروق الفقهية وإن كان يعتمد الأساس اللغوي.
وبعد، فهذه عصارة مكثفة اعتصرتها من كتب اللغة توضح دقة اللغة العربية وتأصل هذه الظاهرة اللغوية، وتدرس بعض كتب الفروق، وتبين أهمية التعمق في دراسة هذا الموضوع، وضرورة دراسة مفردات الفروق اللغوية دراسة دلالية وصوتية وكذلك دراسة الفروق لدى المفسرين وأصحاب الحديث والفقهاء والفلاسفة والأصوليين، فهذه الأمور تؤلف نواة بحث أنف، أرجو من الله تعالى أن يرعى فيه قلمي أو أقلام غيري.
الحواشي:
(1)نظرة تاريخية في حركة التأليف عند العرب: د. أمجد الطرابلسي. دار الفتح دمشق ط 6-1976، ص 12 ص53- مصادر التراث العربي: د. عمر الدقاق. دار الشرق العربي بيروت، ص134.
(2) الترادف في اللغة: حاكم مالك لعيبي- وزارة الثقافة والإعلام. العراق 1980، ص 223.
(3)البيان والتبيين: الجاحظ، تح عبد السلام هارون، ط 2 مكتبة الخانجي مصر 1960، 2/20.
(4) أدب الكاتب: ابن قتيبة، تح محمد الدالي، مؤسسة الرسالة ط 2-1982 م، ص 12.
(5) نفسه: ص 26.
(6)نفسه: ص 200.
(7)تثقيف اللسان: ابن مكي الصقلي. تح عبد العزيز مطر- لجنة إحياء التراث الإسلامي القاهرة 1966، ص 199.
(8)درة الغواص- الحريري، تح محمد أبو الفضل إبراهيم، دار نهضة مصر 1975، ص 262.
(9)شرح درة الغواص. الخفاجي ط1 – مطبعة الجوائب قسطنطينية 1299هـ.
(10)تكملة إصلاح ما تغلط به العامة: الجواليقي. تح عز الدين التنوخي. مطبعة ابن زيدون 1936. دمشق، ص 2.
(11)سهم الألحاظ في وهم الألفاظ: ابن الحنبلي: تح د. حاتم الضامن مؤسسة الرسالة ط2- 1985، ص 36.
(12)المزهر: السيوطي تح محمد أبو الفضل إبراهيم ط 3- دار إحياء الكتب العربية مصر 1/435.
(13)الألفاظ: ابن السكيت. تح لويس شيخو. المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين 1897م، ص 19.
(14)نفسه: ص 10.
(15)الفرق: قطرب، تح د. خليل إبراهيم العيطة، مكتبة الثقافة الدينية القاهرة ط1- 1987.
(16)الفرق: الأصمعي، تح د. صبيح التميمي، دار أسامة بيروت ط1- 1987.
(17)الفرق: ثابت بن أبي ثابت، تح محمد الفاسي، معهد الدراسات والأبحاث للتعريب، الرباط 1974م وانظر سائر كتب الفرق في معاجم المعاجم. أحمد الشرقاوي إقبال دار الغرب الإسلامي ط 1-1987 بيروت ص 112-114.
(18)الفرق: ابن فارس اللغوي. تح د. رمضان عبد التواب مكتبة الخانجي القاهرة ط1/ 1982، ص 62.
(19)فقه اللغة: الثعالبي، تح سليمان سليم البواب، دار الحكمة، دمشق 1984م، ص 118.
(20)نفسه: ص 40.
(21)نفسه: 41.
(22)نفسه: ص 42.
(23)نفسه: ص 43.
(24)الترادف في اللغة ص 198 وما بعدها، وقد استفدت في هذا القسم منه. وانظر المزهر 1/400.
(25)المزهر: 1/403.
(26)الصاحبي: ابن فارس، تح السيد أحمد صقر، مكتبة عيسى الحلبي البابي، ص 114.
(27)نفسه: ص 328.
(28)المفردات في غريب القرآن: الراغب الأصبهاني، أعده للنشر محمد أحمد خلف الله، ص هـ.
(29)وقد حققها نقولا هير، وطبعت في دار إحياء الكتب العربية القاهرة 1958. ولم أستطع الحصول عليها.
(30)المزهر 1/447.
(31)الفروق في اللغة: لأبي هلال العسكري. دار الآفاق الجديدة ط 5 1983. ص 9، ص 10.
(32)نفسه: من ص 16 إلى ص 19.
(33)الترادف في اللغة: ص 225.
(34)الفروق: ص 21-22.
(35)نفسه: ص 24.
(36)نفسه: ص16.
(37)في اللهجات العربية: إبراهيم أنيس ط 2 مط لجنة البيان مصر 1952. ص 162.
(38)الأعلام 2/196، هدية العارفين 1/273، إنباه الرواة 4/183، طبقات المفسرين للداودي 1/134 طبقات المفسرين للسيوطي ص 10، البلغة للفيروزبادي ص 62 دمية القصر 1/506، خزانة الأدب 1/230 معجم البلدان 4/124، معجم المؤلفين 2/240، معجم ياقوت 8/258، أعيان الشيعة 5/148، بغية الوعاة 1/506.
(39)إنباه الرواة على أنباه النحاة: للقفطي، تح محمد أبو الفضل إبراهيم القاهرة مط دار الكتب 1973، 4/183.
(40)خزانة الأدب: للبغدادي، تح عبد السلام هارون دار الكتاب العربي القاهرة 1967، جـ 1/230.
(41)شرح درة الغواص: ص 32.
(42)تاريخ الأدب العربي: كارل بروكلمن: ترجمة عبد الحليم النجار. دار المعارف 1961، 2/254.
(43)مختصر الفروق، من فروق أبي هلال العسكري، مجهول المؤلف ط1 بولاق 1904، ص 4.
(44)نفسه: ص35.
(45)فروق اللغات في التمييز بين مفاد الكلمات: نور الدين الجزائري تح د. محمد رضوان الداية ط 1 1987 المستشارية الثقافية للجمهورية الإيرانية: ص15.
(46)نفسه: ص 7.
(47)نفسه: ص 17.
(48)نفسه: ص 8.
(49)نفسه: ص 35.
(50)نفسه: ص 9.
(51)نفسه: ص223.
(52)فرائد اللغة جـ 1 في الفروق: هنريكوس لامنس اليسوعي مط الكاثوليكية للآباء اليسوعيين 1889 بيروت، ص 5.
(53)فروق اللغات: ص 5.
(54)فرائد اللغة: ص 9.
(55)الذريعة إلى تصانيف أهل الشيعة: أقابزرك الطهراني، ط 3 بيروت دار الأضواء، 16/174-177.
(56)نفسه: 16/186-187.
(57)الفروق: لإسماعيل حقي دار الطباعة المعمورة سنة 1291-ص153، ص 164.
(58)لطائف اللغة: لأحمد بن مصطفى اللبابيدي الدمشقي انتهى من تأليفه سنة 1311هـ، ص 153.
(59)نفسه: ص 154.
(60)نفسه: ص 159.
(61)شموس العرفان بلغة القرآن: عباس أبو السعود. دار المعارف 1980.
(62)قطوف لغوية: عبد الفتاح المصري ط 1-1984- مؤسسة علوم القرآن دمشق- بيروت.
(63)الترادف في اللغة ص 231.
(64)التعريفات: الجرجاني مكتبة لبنان- بيروت 1978م. ص 4.
(65)الكليات: أبو البقاء الكفوي. تح د. عدنان درويش، محمد المصري، وزارة الثقافة دمشق 1975.
(66)الجامع لمفردات الأدوية والأغذية: ابن البيطار، أعادت طبعه مكتبة المثنى، بغداد.
(67)كشاف اصطلاحات الفنون: التهانوي تح د. لطفي عبد البديع وأصحابه، وزارة الثقافة مصر، 3/41.
-----------
مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 44 - السنة 11 - تموز "يوليو" 1991 - محرم 1412
http://awu-dam.org/trath/44/turath44-009.htm
Air Jordan 1 Retro High OG "Board of Governors" White/Black-Royal Blue