الناظر في أول كتاب نحوي عربي وصل إلينا تروعه صورة الكمال التي برز بها ، وكمال التبويب الذي ظهر به ، وتناسق الصورة التي خرج عليها ؛ إذ شمل جميع أبواب الصرف والنحو ، وشيئا من أصول اللغة ، ومعانيها ، ولم يشذّ عنه إلا مسائل مفرقة وجد فيها المتأخر ضالته ، وقال فيها مقالته ، ووجد بها متنفّسا يتنفس منه ، وإلا شرح متنه ، وإيضاح مبهمه، وتفصيل مجمله ، واستدراك قيد أو شرط ، وإلا فهم كلام مصنفه وتوجيهه، وإلا اختصاره وتقريبه من الأذهان، و إلا إعادة صياغته، وسبك عبارته، وتبويب أبوابه وترتيبها. قال صاعد الأندلسي (ت417هـ) : "لا أعرف كتابًا ألِّف في علم من العلوم قديمها وحديثها فاشتمل على جميع ذلك العلم ، وأحاط بأجزاء ذلك الفنِّ غير ثلاثة كتب :
أحدها : المجسطي لبطليموس في علم هيئة الأفلاك .
والثاني : كتاب أرسطاطاليس في علم المنطق .
والثالث : كتاب سيبويه البصري النحوي .
فإن كلّ واحدٍ من هذه لم يشذَّ عنه من أصول فنِّه شيء إلا ما لا خطر له". (معجم الأدباء 16/117)
فهل وصل النحو إلى هذا المستوى بفعل رجل واحد أم أن في الأمر ما يحتاج إلى بيان وتفسير؟
إن هذه الورقة ستبحث هذا الموضوع ، وتتلمس شرح بدايات النحو العربي وأولياته .
فكيف نشأ النحو العربي ؟ وكيف تكوَّن؟
بل أين ذهبت آراء علماء النحو الأوائل؟ ومن المعلوم أنّه لم يصلنا ممّا كتب في النحو في أطواره الأولى شيءٌ ، وأين ذهبت تلك المحاولات ، وما كان مصير تلك الأعمال؟وأنه لم يصلنا النحو إلا بعد تصنيفه في كتاب ، فهل يعقل أن النحو بدأ مكتملا على هذه الصورة؟
نعم ، ذكر كاتبو التراجم والطبقات أنّه كانت هناك محاولات بل أعمال في التصنيف فيه من أمثال محاولات أو أعمال عيسى بن عمر في كتابيه "المكمل"و"الجامع" وغيرهما . ومن المعلوم في تاريخ العلوم أنّه "ما من حقيقة في العلم يعلمها الناس اليوم ويتعلمها الصبية في المدارس من الاحتراق ، وحقيقته ، والتنفس ، وما يجري فيه ، والهواء وتركيبه إلى الصوت وحقيقته، والضوء وخواصه ، إلا كانت يوما مجالا للبحث صعبا وكانت موضعا للشك ومصدرا للذة والقلق والاضطراب .........كذلك هذه اللغة وما يتعلمه الصبية في المدارس من تاريخها وفنونها وعلومها ، كل ذلك كان يوما مجالا صعبا للبحث ،وكان مثارا للشك ومصدر قلق واضطراب ولذة وألم ، مجالا شغل الباحثين المتفرغين قرونا ، بحثا ودرسا واستنباطا واستقراء وتدوينا وتمحيصا ، حتى استبانت سبله ووضحت خططه ووضِعت خرائطه وتساندت الحقائق فيه" . (الكلام للغمراوي ومكرر في ص 6 )
إن النحاة واللغويين الأوائل رصدوا كلام العرب وما فيه من ظواهر كلامية ؛ مثل مجيء جمع المذكر السالم مرة بالياء ومرة بالواو ، ومجيء المثنى مرة بالألف ومرة بالياء ، ورصدوا تحركات أواخر الكلم فوجدوا بعضها يتحرك بحركة متنوعة، وبعضها يلزم حركة واحدة مثل أسماء الإشارة، والأسماء الموصولة ، وأسماء الشرط. ثم لم يقفوا عند هذا الرصد وتقريره فحسب، بل جاوزوه إلى التفسير والتعليل، واستنباط قواعد لضبطه وتقنينه .
وقد أنفقوا في سبيل ذلك من الجهد والوقت والمحابر وبري الأقلام وتسويد الصحف ما أثمر خلاصة دوّنها سيبويه في كتابه؛ حتى قيل عن كتابه: إنه تعاون على تأليفه اثنان وأربعون رجلا .
وهل لنا أن نعدّ كتاب سيبويه بداية النحو العربي ، وهل يمثل المرحلة الأولى منه ، أو يمثل مرحلة متأخرة هي مرحلة التصنيف .
فقبل سيبويه كان هناك كتابان هما : " الجامع والإكمال " ، وكتاب سيبويه يعد خلاصة لأبحاث علمية سابقة استمرت قرابة قرن ونصف ، ثم اكتملت ، ونضجت إلى أن صُنِّف كتاب سيبويه .
وبهذا يتضح لنا أن هذا العلم لم ينشأ نشأة طفرة بل هي محاولات بحثية بعضها ينجح ، وبعضها يتعثر ، ثم أتت أجيال استوعبت تلك التجارب الأولية ، بعد تحوّلها إلى حقائق وقوانين علمية ، وبدهيّات مسلّمة.
وهل لزم سيبويه في عمله منهجًا واحدًا؟
سيبويه لم يكن له منهج بحثي معين فلا يعد منهجه منهجاً وصفياً أو غيره ، بل هو خلاصة لتحويل المحاولات الأولى ، والافتراضات المبعثرة للعلم إلى بدهيات علمية – كما تقدّم - وعمل بذلك مصنفاً .
وتفسير أنه تعاون على تأليف كتاب سيبويه أربعون رجلا ليس التفسير البسيط ؛ فليس معناه أن فريق عمل مكوّن من هذا العدد تفرّغ لتصنيف الكتاب فألّفوه ، بل المقصود أنه جمع مادّته من خلاصة عمل هذا العدد ، بمعنى أنه جمع آراءهم ، وخلاصة أقوالهم ، ولخّص ما بلغه عنهم من رواية شفهية أو مكتوبة. بمعنى أنه خلاصة تجربة عقود وأجيال من علماء العربية ، استطاع سيبويه أن يجمعها ويلخصها بين دفتي كتابه ، وأنى لشابٍّ لم يعمّر طويلا ، ولم يطل تردّده على مجالس العلم ، وتلبّثه عند أبواب العلماء أنى له أن يكتب مثل هذا العمل؟!!!
***********
ولن نقف طويلاً أمام من وضع النحو؟ أهو أبو الأسود الدؤلي أم علي بن أبي طالب(رضي الله عنه) أم نصر بن عاصم الدؤلي أم عبد الرحمن بن هرمز؟ كما لا تهمّنا قصص الوضع المروية والمحكية في كتب التراجم . وإنما يهمّنا كيف وضع النحو ؟ وبأي طريقة نما وترعرع ، وصار علمًا قائمًا بذاته .
سنورد طرفًا من أخبار وأقوال أوردها أبو سعيد السيرافي في كتابه أخبار النحويين البصريين ، ومنها :
يقال : إنّ أبا الأسود الدؤليَّ لمّا وضع باب الفاعل والمفعول به ، زاد في ذلك الكتاب رجل من بني ليث أبوابًا ، ثمّ نظر فإذا في كلام العرب ما لا يدخل فيه ، فأقصر عنه ، فيمكن أن يكون الرجل الذي من بني ليث يحيى بن يعمَر ؛ إذ كان عداده في بني ليث. (أخبار النحويين البصريين ص17)
محمد بن سلاّم الجمحيّ : سمعت رجلا يسأل يونس عن ابن أبي إسحاق وعلمه ، قال : هو والنحو سواء ، أي هو الغاية ، فقال : أين علمه؟ من علم الناس اليوم؟ قال : لو كان في الناس اليوم من لا يعلم إلا علمه لضُحِكَ به!!! ولو كان فيهم أحدٌ له ذهنه ونفاذه ، ونظر نظرهم كان أعلم الناس. (أخبار النحويين البصريين ص20)
قال يونس : كان أبو عمرو بن العلاء أشدّ الناس تسليمًا للعرب ، وكان ابن أبي إسحاق ، وعيسى بن عمر يطعنان على العرب. (أخبار النحويين البصريين ص22)
وكان في زمان ابن أبي إسحاق عيسى بن عمر الثقفي وأبو عمرو بن العلاء ، ومات ابن أبي إسحاق قبلهما ، ويقال : إنّ ابن أبي إسحاق كان أشدّ تجريدًا للقياس ، وكان أبو عمرو أوسع علمًا بكلام العرب ولغاتها وغريبها، وكان بلال بن أبي بردة جمع بينهما وهو على البصرة يومئذٍ ، عمّله عليها خالد بن عبد الله القسريّ أيّام هشام . قال يونس : قال أبو عمرو بن العلاء : فغلبني ابن أبي إسحاق يومئذٍ بالهمز فنظرت فيه بعد ذاك ، قال : وبالغت فيه . (أخبار النحويين البصريين ص20)
عيسى بن عمر الثقفي أخذ عنه الخليل بن أحمد ، وله كتابان في النحو ، سمّى أحدهما الجامع ، والآخر المكمَل ، فقال الخليل :
بطــــــل النحــــو جميعًا كلّه غــير ما أحـــدث عيسى بن عمر
ذاك إكمــــــال وهذا جــامع فهمـــا للنــــــاس شمس وقمر
وهذان الكتابان ما وقعا إلينا ، ولا رأيت أحدًا يذكر أنّه رآهما . (أخبار النحويين البصريين ص25)
قال بعضهم يوما لعيسى بن عمر : أخبرني عن هذا الذي وضعت: أيدخل فيه كلام العرب كله ؟ قال : لا قلت : فمن تكلّم بخلافك واحتذى ما كانت العرب تتكلّم به، أتراه مخطئًا؟ قال: لا،قلت: فما ينفع كتابك؟!(أخبار النحويين البصريين ص26)
يونس ابن حبيبَ له قياس في النحو ، ومذاهب يتفرّد بها . (أخبار النحويين البصريين ص27)
كان الخليل الغاية في استخراج مسائل النحو وتصحيح القياس فيه ، وهو أول من استخرج العروض،وحصر أشعار العرب بها, وعمل أوّل كتاب العين ، الذي به يتهيأ ضبط اللغة . (أخبار النحويين البصريين ص30)
*********
و((لم يكن السماع من الأعراب دومًا من أجل أخذ اللغة ، وإنما كان في أحيان أخرى من أجل "تحقيق فروض نظرية في اللغة والنحو، وإذا كانت طريقة الخليل بن أحمد في جمع اللغة ووضع معجم لها، تقوم فعلا على مبدأ منهجيّ سليم ، فإن نتائج العملية التي أسفر عنها تطبيقه في مجال اللغة كانت لها جوانب سلبية تمامًا ، لقد انطلق الخليل في جمع اللغة وتنظيمها من "الإمكان الذهني" لا من الواقع اللغوي ، ففسح بذلك لصنع اللغة بدلا من جمعها، فقد كان من الصعب بل من المستحيل وضع خطّ فاصل ونهائي بين ما نطقت به العرب وما لم تنطق به، لقد كان من الطبيعي ، والحالة هذه أن ينتهي الأمر إلى تحكيم "القياس" بدلا من السماع ، الشيء الذي جعل اللغة المعجمية لغة الإمكان لا لغة الواقع؛ فالكلمات صحيحة ؛ لأنها ممكنة , وليس لأنها واقعية ، وهي ممكنة ما دام هناك أصل يمكن أن تردّ إليه أو نظير تقاس عليه. ... لقد نشأت العلوم العربية الإسلامية في تداخل وتشابك مع عملية تقعيد اللغة، وكان ذلك أول عمل علميّ مارسه العرب بالفعل ، لقد كان القياس النحوي هو أساس القياس الفقهي والاستدلال الكلامي ، مارسه الخليل بن أحمد ـ170هـ ثمّ مارسه تلميذه سيبويه ، لقد قنّن الفقهاء القياس وطوّروه ، ولكن يجب أن لا ننسى هذا أن الميدان الذي نشأ فيه وتبلور هو ميدان النحو)). د. صلاح الدين الأزهري /الترجمة وأثرها في إسلامية العلوم والآداب الإسلامية.
ما الصورة المتخيّلة لهذه البداية؟
هل افترض واضع النحو أن مكون المعنى إما المفردات وحدها ، وإما المركبات بعد تركبها من مفردات؟
هل افترض أن للمركبات أشكالا ومعانيَ؟
هل افترض تقسيمات الكلم؟
هل افترض تقسيم المركبات؟
هل افترض علائق بين مكونات التركيب؟
هل افترض تأثير مكونات التركيب في بعضها؟
هل افترض صفات العلاقة : المطابقة ، عدمها ، التنويع؟
هل هناك قوانين مطردة تضبط كلام العرب؟
كلّ هذا وغيره ممكنٌ ، بل واقع، وإن لم يصلنا منه غير النتائج التي استخلِصت من هذه المحاولات .
يقول أحمد الغمراوي في كتابه "النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي" (ص106-107) : "ما من حقيقة في العلم يعلمها الناس اليوم ويتعلمها الصبية في المدارس من الاحتراق ، وحقيقته ، والتنفس ، وما يجري فيه والهواء وتركيبه إلى الصوت وحقيقته والضوء وخواصه ، إلا كانت يوما مجالا للبحث صعبا كانت موضعا للشك ومصدرا للذة والقلق والاضطراب .........كذلك هذه اللغة وما يتعلمه الصبية في المدارس من تاريخها وفنونها وعلومها ، كل ذلك كان يوما مجالا للبحث أيضا مجالا صعبا كان مثارا للشك، ومصدر قلق واضطراب، ولذة وألم ، مجالا شغل الباحثين المتفرغين قرونا ، بحثا ودرسا واستنباطا واستقراء وتدوينا وتمحيصا ، حتى استبانت سبله، ووضحت خططه، ووضِعت خرائطه، وتساندت الحقائق فيه" .
وليس بعيدًا عنّا ما مرت به علوم الحاسب التي ارتبطت بها حياتنا الآن ، وصار من ضرورة الحياة أن نتعامل معها ، وأن نوظّفها في أنشطة الحياة كلِّها، وهذه العلوم ممّا نعيشه واقعًا ، وندرك تطوّرها السريع ، ونشعر به كلَّ يوم ؛ إذ من البدهي أن علوم الحاسب من تقنية صناعية هندسية إلى برمجيّات لم تأت من فراغ ، ولم تأت طفرةً واحدةً ، ولن نسرد ما حصل من ذلك في المراحل التاريخية القديمة ، ولا تنقلاتها في الأزمان الماضية ،فالحاسب لا شك أنه مرَّ باختراعات أوليّة كانت وراء هذا الإنجاز البشريّ ، ولاشك أيضا أن ما وظِّف في هذه المخترعات من أفكار، ولغات، وترميزات، وما صحبها من عمل ومحاولات واختبارات وتجارب، أسهمت في تحويله فيما بعد إلى عملٍ تجاريٍّ، وإبداع علمي مشاع للجميع، وليس غريبًا أن نجد كلَّ تطوُّرٍ يؤدِّي إلى تطوُّرٍ آخر أكبر منه ينبني عليه، ويؤسِّس لتطوُّرٍ يلحقه، لتتضامّ هذه التطوّرات، وتقدِّم لنا نسخة من الحاسوب سهلة الاستعمال، ذات برمجيّات متنوِّعة، عالية الكفاءة والجودة، تدخل في جميع مناشط الحياة العلمية والعملية. ومن المسلّم به أنّ هذه التطوّرات نتجت عن عمل متكامل ، وتآزر بين ركيزتي الحاسب الآليّ : علوم الحاسب (البرامج) ، وتقنيات هندسة الحاسب وصناعته .
وقد بلغت هذه العلوم درجةً من اليسر والسهولة قياسًا على ما عاناه الجيل المؤسِّس ، والمستفيدون الأوائل من الحاسب ، بحسب ما حدّثنا به بعضهم،حتّى صار الكثير منّايستفيد وهو لا يشعر بما عاناه المبدعون في صناعة الحاسب وتطوير برمجيّاته ؛ لأنّنا نجد أشياء سهلة ، بسيطة، ميسَّرة لا تسترعي الانتباه ، ولا تلفت إليها الأنظار، وهذه الأشياء السهلة المشاعة، كانت في يوم من الأيّام خيالات علمية، وفروضًا مشكوكًا في صحّتها، وتصوّرات اختطّتها عقول مبدعة ، واستنطقتها أدمغة ملهمة، وسطرتها أقلام واعية، وهي أفكار وأعمال قد لا يُشْعَرُ بقيمتها وما صحبها من جهدٍ وعناء ، وقد نسي المستفيدون منها أصحابها ومنشئيها، وقد لا يكلّفون أنفسهم البحث عنهم، وقد مرّت بهذه المراحل جميع العلوم ، والنحو العربيّ ليس بِدْعًا منها .
إن النحاة واللغويين الأوائل رصدوا كلام العرب وما فيه من ظواهر كلامية ؛ مثل مجيء جمع المذكر السالم مرة بالياء ومرة بالواو ، ومجيء المثنى مرة بالألف ومرة بالياء ، ورصدوا تحركات أواخر الكلم فوجدوا بعضها يتحرك بحركة متنوعة ، وبعضها يلزم حركة واحدة مثل أسماء الإشارة ، والأسماء الموصولة ، وأسماء الشرط . ثم لم يقفوا عند هذا الرصد وتقريره فحسب، بل جاوزوه إلى التفسير والتعليل، واستنباط قواعد لضبطه وتقنينه، كما رصدوا المعاني من تركّب المفردات مع بعضها، وتركّب الأدوات مع الأسماء والأفعال، وما تدلّ عليه من معانٍ، وما يجري على الكلام من مظاهر التحسين، وما يطرأ على الأبنية من زيادة وتغيير، يكون لها أثر في معناها، أو لا يكون لها أثر، أو حذفٍ يكون له أثرٌ في تحسين نطقها وتخفيفها، كلّ هذا كان مجرّد افتراضات، انتهت إلى حقائق ويقينيات ومسلَّمات.
وقد أنفقوا في سبيل ذلك من الجهد والوقت والمحابر وبري الأقلام وتسويد الصحف ما أثمر خلاصة دوّنها سيبويه في كتابه؛ حتى قيل عن كتابه: "تعاون على تصنيفه اثنان وأربعون رجلا" .
قال أبو الطيب اللغوي في كتاب مراتب النحويين )) :واعلم أنَّ أول ما اختل من كلام العرب وأحوج إلى التعلُّم الإعرابُ ؛ لأن اللَّحْنَ ظهرفي كلام الموالي والمتعرِّبين من عهد النبي ، فقد روينا أن رجلاً لحن بحضرته فقال:أرْشِدُوا أخاكم فقد ضلّ.
وقال أبو بكر: لأن أقرأ فأُسْقِط أحبُّ إليَّ من أن أقرأ فألحن.
وقد كان اللَّحنُ معروفاً بل قد روينا من لفظ النبي صلى الله عليهوسلم أنه قال: أنا مِنْ قريش ونشأت في بني سعد فأنَّى لي اللحن! وكتب كاتب لأبيموسى الأشعري إلى عمر فلحن فكتب إليه عمر: أن اضرِبْ كاتبك سوطاً واحداً وكانعليّ بن المديني لا يغيِّر الحديثَ وإن كان لحناً إلاّ أن يكون من لفظ النبي صلىالله عليه وسلم فكأنه يُجَوِّز اللحن على مَنْ سواه.
ثم كان أول من رسم للناس النحو أبو الأسود الدؤلي وكان أبو الأسودأخذ ذلك عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه وكان أعلم الناس بكلامالعرب وزعموا أنه كان يجيب في كل اللغة.
قال أبو الطيب: ومما يدل على صحة هذا ما حدثنا به محمد بن عبدالواحد الزاهد: أخبرنا أبو عمرو بن الطُّوسي عن أبيه عن اللَّحيانيِّ في كتابالنوادر قال: حدثنا الأصمعي قال: كان غلام يطيف بأبي الأسود الدؤلي يتعلَّم منهالنحو فقال له يوماً: ما فعل أبوك؟ قال: أخذته حمَّى، فضخته فضخاً، وطبخته طبخاً،وفنخته فنخاً، فتركته فرخاً، قال: فما فعلت امرأةُ أبيك التي كانت تشارُّه وتجارُّه،وتضارّه وتزارّه، وتهارّه وتمارّه؟ قال: طلقها وتزوج غيرها فحظيت عنده ورضيت وبظيتقال: وما بظيت يا بنَ أخي؟ قال: حرف من العربية لم يبلغْك قال: لا خيرَ لكفيما لم يبلغْني منها!!.
وأبو الأسود أولُ من نقط المصحف، واختلف الناس إلى أبي الأسود، يتعلمون منه العربية وفرَّع لهم ما كان أَصَّله، فأخذ ذلك عنه جماعة.
قال أبو حاتم: تعلَّم منه ابنه عطاء بن أبي الأسود ثم يحيى بنيَعْمَرَ العدواني كان حليف بني ليث وكان فصيحاً عالماً بالغريب ثم ميمون الأقرن ثمعَنْبسة بن معدان المهري وهو الذي يقال له عَنْبسة الفيل.
قال: وأما فيما روينا عنالخليل فإنه ذكر أن أبرعَ أصحابِ أبي الأسود عَنْبَسَة الفيل وأن ميموناً الأقرنأخذ عنه بعد أبي الأسود، فَرَأَس الناس بعد عنْبَسَة، وزاد في الشرح، ثم توفي وليس فيأصحابه أحدٌ مثل عبد اللّه بن أبي إسحاق الحضرميّ، وكان يقال: عبد اللّه أعلم أهلالبصرة، وأنقلهم، ففرَّع النحو وقاسه، وتكلم في الهمز، حتى عمل فيه كتاب ممّا أملاه، وكانرئيسَ الناس، وقال أبو حاتم: قال داود بن الزبرقان عن قتادة قال: أول من وضعالنحوَ بعد أبي الأسود يحيى بن يعمَر، وقد أخذ عنه عبد اللّه بن أبي إسحاق.
وكان في عصر عبد اللّه بن أبي إسحاق أبو عمرو بن العلاء المازني ولهأخ يقال له أبو سفيان وكان أخذ عمن أخذ عنه عبد اللّه، قال: قال الخليل: فكانعبد اللّه يُقَدَّم على أبي عمرو في النحو وأبو عمرو يُقَدَّم عليه في اللغة، وكانأبو عمرو سيّدَ الناس، وأعلمَهم بالعربية، والشعر، ومذاهب العرب. وأخبرونا عن أبي حاتمٍ،عن الأصمعي قال: قال أبو عمرو: كنت رأساً والحَسنُ حيٌّ.
قال أبو الطيب: ولم يؤخذ على أبي عمرو خطأ في شيء من اللغة، إلاّفي حرف قصر عن معرفته عِلمُ من خَطّأه فيه وروايتُه.
أخبرنا جعفر بن محمد، أخبرنا عليّ بن حاتم وغيره، عن الأصمعي، عن يونسقال: قيل لأبي عمرو بن العلاء : ما الثّفر؟ قال: الاست فقيل له: إنه القُبُلفقال: ما أقرب ما بينهما فذهب قوم من أهل اللغة إلى أنَّ هذا غلط من أبي عمرو، وليسكما ظنوا، فقد نص أبو عمرٍو الشيبانيُّ وغيره على أن الثُّفر: الدبر، والثفر منالأنثى: القبل.
قال الخليل: وأخذ العلم عن أبي عمرو جماعة منهم عيسى بن عمرالثقفيّ، وكان أفْصحَ الناس، وكان صاحب تَقْعِير واستعمال للغريب في كلامه.
ويونس ابن حبيب الضبيّّّّ وكان متقدَّماً، وكان النحوُ أغلب عليه، قال أبوعُبيدة: اختلفتُ إلى يونس أربعين سنة أملأ كل يوم ألواحي من حفظِه.
وأبو الخطاب الأخفش: فكان هؤلاء الثلاثة أعلم الناس، وأفصحهم.
وألَّف عيسى بن عمر كتابين في النحو: أحدهما مبسوط سمَّاه "الجامع"،والآخر مختصر سماه "المكمل" قال محمد بن يزيد: قرأت أوراقاً من أحد كتابي عيسى بنعمر وكان كالإشارة إلى الأصول وفيهما يقول الخليل بن أحمد:
بطل النحـــــــو الذي ألفتمو غير ما ألف عيسى بن عمر
ذاك إكمــــال وهذا جامـــع فهـما للناس شَمْسٌ وقمـر
وأبو الخطابالمذكور، أول من فَسَّر الشعر تحت كل بيت، وما كان الناس يعرفون ذلك قبله، وإنما كانواإذا فرغوا من القصيدة فسَّروها.
قال أبو الطيب: وكان في هذا العصر، عمر الراوية أبو حفص، إلاّ أنهلم يؤلف شيئاً ولم يأخذ عنه من شُهِر ذكره، فبلغنا أن سوار بن عبد اللّه لما وليالقضاء دخل عليه عمر الراوية يهنِّئُه، فقال له سوار: يا أبا حفص إن خصمين ارتفعاإليَّ اليوم في جارية فلم أدْرِ مَا قَالا، قال فما قالا ؟ قال: إن الخصم ذكر أنَّهاضَحْيَاء قال: بلى، أيها القاضي ، إنها التي لا ينبت الشعر على عانتها.
وممن أخذ عن أبي عمرٍو أبو جعفر الرؤاسيُّ عالم أهل الكوفة، ولم يناظرهؤلاء الذين ذكرنا ولا{كان}قريباً منهم، قال أبو حاتم: كان بالكوفة نَحْويٌّ يقال لهأبو جعفر الرؤاسيُّ، وهو مطروح العلم، ليس بشيء، وأهل الكوفة يعظِّمون من شأنه، ويزعمون أنكثيراً من علومهم، وقراءتهم مأخوذ عنه.
قلت: الأمرُ كذلك، وأبو جعفر هذا هو أستاذ الكسائيِّ، وهو أول من وضعمن الكوفيين كتاباً في النحو، وكان رجلاً صالحاً، وقيل: إنّ كل ما في كتاب سيبويه،" وقال الكوفيّ كذا" إنما عَني به الرؤاسيُّ. هذا ، وكتابه يقال له الفَيْصل، وكان له عمٌّيقال له مُعاذ بن مسلم الهرّاء، وهو نحوي مشهور، وهو أول من وضع التصريف.
ثم قال أبو الطيب: ولا يذكر أهل البصرة يحيى بن يَعمر في النحويين،وكان أعلم الناس، وأفصحهم؛ لأنه استبدَّ بالنحو غيرُه ممَّن ذكرنا، وكانوا هم الذين أخذالناس عنهم. وانفرد يحيى بن يَعمَر بالقراءة،والذين ذكرنا من الكوفيين فهم أئمتهم فيوقتهم،وقد بينا منزلتهم عند أهل البصرة، فأما الذين ذكرنا من علماء البصرة فرُؤَساءعلماء ،معظمون غير مدافَعين في المِصْرَيْن جميعاً، ولم يكن بالكوفة ولا في مصرٍ منالأمصار مثل أصغرِهم في العلم بالعربية.
ثم أخذ النحو عن عيسى بن عمر الخليل بن أحمد الفُرْهوديُّ، فلم يكنقبلَه ولا بعده مثله، وكان أعلمَ الناس وأذكاهم، وأفضل الناس وأتقاهم، قال محمد بنسلاَّم: سمعت مشايخنا يقولون: لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل بن أحمد،ولا أجمع، ولا كان في العَجَم أَذْكَى من ابن المقفع، ولا أجمع. وقال أبو محمدالتوّجيّ: اجتمعنا بمكة أدباء كلِّ أُفق، فتذاكرنا أمر العلماء، حتى جرى ذكرُ الخليل،فلم يبق أحد، إلاّ قال : الخليلُ أذكى العرب، وهو مِفْتَاحُ العلوم، ومصرفها.
قال أبو الطيب: وأبدع الخليل بدائع لم يُسبق إليها، فمن ذلك تأليفهكلام العرب على الحروف، في الكتاب المسمَّى "كتاب العين"، واختراعه العروض، وأحدث أنواعاًمن الشعر ليست من أوزان العرب)).(مراتب النحويين لأبي الطيب ص30-31)
**********
والذي نخلص إليه بعد هذه الجولة مع النصوص والأخبار: أنّ علماء اللغة والعربية صنفان :
صنف شغَلَهُ جمع اللغة ، وأخذها عمّن يستحقّ أن تؤخذ عنه ، وهؤلاء عملهم جمع ما يصل إلى أسماعهم من أقوال العرب ، وأشعارها ، وأرجازها ، وحكاياتهم وقصصهم ، وهؤلاء مهمّتهم الجمع ، وتقديم مادّة أوّليّة للصنف الثاني، ونستطيع أن نمثِّل لهؤلاء بمثل الأصمعي، وأبي عمرو الشيباني ، وحمّاد.
وصنف شغله الإفادة ممّا يجمعه ، أو يجمعه الصنف السابق في التحقّق من صحّة فروض نظرية نحوية ؛ كأن يضع فروضًا ثمّ يحاول اختبار صحّتها من خلال ما حفظه ورواه من كلام العرب ، ويمثِّل هؤلاء الخليل بن أحمد الذي كان يختبر صحّة فروضه في الصرف ، والنحو ، والمعجم ، والعروض ، وكانت مرجعيّته شيئين: الإمكان الذهنيّ، والإمكان الواقعيّ، فالإمكان الذهنيّ هو الشيء الذي يمكن عقلا، ويصحّ تخيُّله، وإن لم يمكن واقعًا ، والإمكان الواقعيّ هو المرويّ المستعمل عن العرب ؛ فهو حين يقرِّر في الصرف أنّ أبنية الاسم الثلاثي عشرة، أو أحد عشر بناءً ، يفترض أوزانًا اثني عشر وزنًا من ناجية حسابية : 3×4= 12 من ناحية حسابية (3) حركات للفاء ×(4) ثلاث حركات وسكون للعين = 3×4=12 بناءً ، استبعِد منها سكون الفاء الذي لو وجِد لكانت العملية 4×4=16بناءً ، غير أنّ العرب لا تبتدئ بساكن ، فبقي (12) بناءً ممكنًا من الناحية النظرية الذهنية ، والتصوّر العقلي ، بعد تحكيم قوانين العقل وقواعد الاستعمال، ويستبعد منها واحد باتفاق ؛ لأن العرب لم تستعمله ، وهو"فِعُل" وآخر باختلاف ، وهو "فُعِل" فتصير الأوزان :
v فَعْل – فَعَل – فَعُل – فَعِل .
v فُعْل – فُعَل – فُعُل – فُعِل .
v فِعْل – فِعَل – فِعُل – فِعِل .
فالخليل احتكم إلى العقل الرياضي ، وإلى الممكن عقلا تخيُّلا وافتراضًا، وإلى الواقع من المرويِّ، والمستعمل في لغة العرب، فخرج بهذه الخلاصة في أبنية الاسم الثلاثيّ المجرّد، وتلقّى العلماء مِنْ بعده هذه المسلّمة أو البدهيّة بالقبول والتســليم ، ولم تعد ملكًا للخليل ولا لغيره من النحاة.
ومثل هذا تقريره أنّ أقلّ أبنية الأسماء والأفعال ثلاثة أحرف، افترض أن يكون حرفًا واحدًا ، وأن يكون حرفين ، وأن يكون ثلاثة ، فاستبعد الأول ؛ لأن حرف الابتداء لا يكون حرف الوقف ؛ إذ حرف الابتداء متحرِّك ، وحرف الوقف ساكن ، وهما نقيضان لا يجتمعان ، واستبعد كونه على حرفين ؛ لأن موضعي الابتداء والوقف لا يتواليان ، وهذا فيه مشقة على المتكلِّم ؛ إذ ما يكاد يبتدئ حتّى يقف ، ولم يستبعد الثالث ؛ لأن الحرف الأوّل يبتدأ به ، والثالث يوقف عليه والثاني يحشى به ما بين الحرفين فيكون فاصلا بين الابتداء والوقف ، ثمّ استقرأ كلام العرب فوجد فيه ما ظاهره أنّه حرف أو حرفان ، فخرِّج على أن المقصود الوضع لا الاستعمال ؛ فالعرب قد تضع الفعل على ثلاثة أحرف ، وتستعمله على حرف أو حرفين مثل : "قِ" و"عِ" من "وقى" و"وعى"، و"عِدْ" و"صِفْ" من "وعد" و"وصف" ، ومثل"شِية" و"هِبة" من"وشى" و"وهب" ، وكان الجواب من الخليل بن أحمد والنحاة أن الوضع غير الاستعمال ، وأن المقصود هو أصل الوضع ، وأمّا الاستعمال فللعرب أن تستعمل الكلمة الثلاثية على أفلّ من حرفين، بل على حرفٍ واحد، وهذا لا يناقض أصل الوضع.
وحين يفترض في الجملة الاسمية التعريف والتنكير في طرفيها أو ركنيها يضع أربعة فروض، بالنظر إلى ذات الطرف أو الركن، وبالنظر إلى وصفه بالتعريف أو التنكير، فالطرفان أو الركنان، وهما (المبتدأ أو الخبر) ووصفهما التعريف أو التنكير، إمّا أن يكونا معرفتين ، وإمّا أن يكونا نكرتين، وإمّا أن يكون أوّلهما معرفة ، وثانيهما نكرة ، وإمّا أن يكون أوّلهما نكرة وثانيهما معرفة. وهذا جرى بعد وضع أو فرض فروض سابقة ، مثل أن يكون من يخبر عنه معرفة أو في حكم المعرفة ؛ لأنّه لا يصحُّ أن تتحدّث عن غير المعروف بذاته ، أو وصفه، وقد صدق هذا الفرض، من خلال اختباره واستقراء كلام العرب ، وأمّا ما يخبر به فلا مانع أن يكون معروفًا أو غيره (معرفة أو نكرة) بل الأصل فيه أن يكون نكرة، والتعريف عارض عليه : افترض قسمة رباعية : ((معرفة + نكرة / معرفة + معرفة / نكرة + نكرة / نكرة + معرفة)) . هذا هو الممكن عقلا غير أن المستعمل في واقع كلام العرب المرويّ الأوّل والثاني فقط ، ولا يجوز الابتداء بالنكرة إلا إذا أفادت بمسوِّغ يسوِّغ الابتداء بها.
وما يذكره النحاة في الصور المفترضة في باب "الصفة المشبَّهة" يعدّ من هذا ؛ فالخليل وإخوانه النحاة يضعون الفروض والتقسيمات ثمّ يختبرون صحتها بعرض كلام العرب واستعمالهم عليها، ثمّ يخرجون بالقاعدة المبنيّة أساسًا على فرض وتخيّل، ثمّ تأييدِه بما سمِع عن العرب ، ورُوِي عنهم بعد استقرائه واستنتاج الحكم الملائم، وهذا هو القياس ، وما النحو لولا القياس؟!
وأمّا عمل الخليل في المعجم وفق نظام التقاليب فهو عمل رياضيّ صوتيّ قائم على افتراض صور لتركّب الكلم من الأصوات (الأخرى) تكوينًا ورتبة ؛ حيث يفترض تكوّن الكلم إمّا من أصلين (صوتين) وإمّا من ثلاثة أحرف (أصوات) ، وإمّا من أربعة ، وإمّا من خمسة ، فافترض أنّه في حال الثنائيّ يتولّد بتغيير مكان الحرف صورتان ، مثل "سدّ" و"دسّ" وفي حال الثلاثي : – إسقاط المتكرِّر = 6 حالات "تقليبات"> وفي حال الرباعي وفي حال الخماسيّ ثمّ يجري استعراض كلام العرب ، فما وجِد في كلامهم من التقاليب عدّ مستعملا ، وما لم يوجدْ عدّ مهملا ؛ فالمستعمل لدى العرب لا إشكال فيه ؛ لأن السماع أيّد القياس والفرض الذي افترضه الخليل ، وأمّا المهمل الذي لم تنسج العرب عليه ولم تستعمله في كلامهم فلا يلزم أن يكون إهماله ضربة لازب ، لا يجوز لغير العرب المحتجِّ بلسانهم أن يقربه ، ولا أن يجري عليه ألفاظًا تولِّدها الحاجة ، وتدعو إليها مستجدّات اللسان ؛ لأنّ المهمل الذي لا يجوز أن يتحوَّل إلى مستعمل لا بدّ أن يتوافر فيه شرطان : أن تهمله العرب ، وأن لا يتّفق مع نظام تكوُّن الكلم ، كأن يتوالى فيه صوتان لا يتواليان في العربية ، مثل النون والراء، والسين والذال، والصاد والجيم ، ونحو ذلك ، وهكذا كوَّن الخليل معجمه على هذين الأساسين : (الصوت ، والتقليب) ، وأمّا ضبط الحروف بالحركات، وما يدخل في تكوين الكلم من زيادة أحرف (أصوات) فتركه لأنّه أمر صرفيّ مردُّه القياس، وهو ما لا يعنى به المعجم غالبًا، فنظر الخليل إلى اللغة وبيده اليمنى المرويُّ منها وما سمعه وحفظه من لسان العرب وكلامهم ، وبيده الأخرى المقاييس التي قاسها ، فما وجد من مقاييسه له نموذج ومثال من لغة العرب أثبته على أنّه مستعمل ، وما لم يجده وصفه بالإهمال ، أو ضرب عن ذكره صفحًا ، مكتفيًا بعبارة "والمستعمل منه كذا وكذا" ، وهو عمل مكّن الخليل من حصر ما استعملته العرب من التقاليب أو حصر المداخل المعجمية وإحصائها بحسب الصور التقليبية ، وإن كان لا يلزم منه حصر اللغة وإحصاؤها، وهو ممّا لا يجوز نسبته إلى الخليل؛ لأنّه أكبر قدْرًا من أن يدّعيَ ذلك (ينظر الصاحبي ص 26) فالتقاليب ليست هي اللغة؛ إذ اللغة تتألّف من أصوات، وأمثلة تشترك في تكوينها الأصوات، وما يعرض لها من حركات وسكون وتركيب، وما ينضمّ إليها من زيادات، وتغييرات أخرى؛ فالذي يمكن أن يقال عن عمل الخليل: إنّه حصر التقاليب المستعملة حسب ما بلغه ووصل إلى سمعه من لسان العرب. وهذا لا ينازع فيه أحد؛ أنه جاء عن طريق الفرض العلمي، وإعمال الرياضة والعقل، والإمكان ، ثمّ عرض ما سمِع من كلام العرب عليه.
ولم يختلف عمل الخليل في العروض عن أعماله الافتراضية الأخرى ؛ إذ افترض الأوزان العروضية وفق خمس دوائر هي : دائرة المختلف , ودائرة المؤتلف , ودائرة المشتبه , ودائرة المجتلب , ودائرة المتفق , وهي فكرة رياضية ، وتشمل هذه الدوائر البحور الشعرية المستعملة وغير المستعملة , بمعنى أن هذه الدوائر يمكن أن يستخرج منها جميع البحور الشعرية الممكنة ، بأن نجعل البداءة في كلِّ بحر نفترضه بنقطة من النقاط الإحدى عشرة , ثمّ ننظر هل العرب استعملت هذا البحر (الوزن) أم لا ؟ فدائرة المختلف يمكن أن نستخرج منها البحور التالية :
- فعولن مفاعيلن مكررة أربع مرات = البحر الطويل .
- فاعلاتن فاعلن مكررة أربع مرات = البحر المديد .
- مستفعلن فاعلن مكررة أربع مرات = البحر البسيط .
- مفاعيلن فعولن مكررة أربع مرات = بحر مهمل ، لم تستعمله العرب .
- فاعلن فاعلاتن مكررة أربع مرات = بحر مهمل ، لم تستعمله العرب .
- فاعلن مستفعلن مكررة أربع مرات = بحر مهمل ، لم تستعمله العرب .
وقد استعملها (أعني الثلاثة الأخيرة) بعض المولًّدين ، وسمّاها بعضهم : المستطيل ، والممتدّ ، والمنبسط .
ويستبعد خمسة تبدأ بالساكن ؛ لأن العربية لا تبدأ بساكن ، ولأن الوحدة العروضية من سبب أو وتد لا بدّ أن يتحرك أولها . كما يستبعد اثنان أيضًا يبدآن بالمتحرِّك الثاني من الوتد المجموع ؛ لأنّ الوزن العروضيَّ لا ينتهي بمتحرِّك ؛ إذ تمام الكلام لابدَّ أن يكون بعلامة وقف كالسكون ، وأحد الوزنين ينتج عنه وزن قلق ، تفاعيله :
(مستفعلن مفعولُ مستفعلن مفعولُ مستفعلن مفعولُ مستفعلن مفعولُ)
والآخر ، وهو لا يقلُّ عنه قلقًا , وزنه :
(مفعولاتُ مفعولُ مفعولاتُ مفعولُ مفعولاتُ مفعولُ مفعولاتُ مفعولُ)
ليكون الممكن اثني عشر وزنًا من جرّاء البدء من عند كل حرف من الأحرف الاثني عشر , لم يستعمل العرب المحتجّ بشعرهم منها سوى الثلاثة الأولى ، كما توضِّحه الصورة السابقة .
ومن الواضح الفرق بين ما قال به الخليل وذهب إليه ، وبين ما قصد إليه تشومسكي وعناه بالفطرة اللغويّة ، ممّا يجعل مرجعية الخليل اللغة النموذجية التي هي المعيار ، وهي التي ينبغي احتذاؤها والنسج عليها، وأمّا عند تشومسكي فالمرجع هو لغة الإنسان ، وفطرة كلِّ إنسان اللغوية ، والنظام اللغويّ المتغلغل في اللاشعور لدى كلِّ إنسان.
وهكذا يصحّ لنا أن نقول بوجود الطائفتين : الرواة وهم الذين جلّ همّهم جمع المادّة اللغوية والأدبية وتدوينها عن العرب ، والنحاة والذين جلّ همّهم وضع الفروض العلمية ، ورسم الخريطة العلمية لقواعد النحو وفق معطيات عقليّة وفكريّة ورياضية ، ثمّ تجرى الاختبارات للتأكّد من صحّتها وسلامتها، وبيان المستعمل واقعًا والممكن استعماله ، وإن لم تستعمله العرب ، ودرجته في الاطّراد والقياس والشذوذ ، والشيوع والندرة، والكثرة والقلّة، والجواز والمنع ،وإصدار حكم يجيز أو لا يجيز استعماله أو القياس عليه ، وإن لم تستعمله العرب، مثل البناء على بناءٍ أو وزنٍ من أبنية العرب أو أوزانها التي استعملوها في بعض كلمهم، وإن لم يسمع هذا البناء، وهو ما يعرف بمسائل التصريف، أو مسائل التدريب، ومثل استعمال تقليب تركه العرب وأهملوه من دون أن يكون في استعماله مانع من نظام اللغة.
*********
قال ابن النديم : قرأت بخطِّ أبي العبّاس ثعلب : اجتمع على صنعة كتاب سيبويه اثنان وأربعون إنسانًا منهم سيبويه . (ابن النديم /الفهرست ص50).
وبوقفة تأمّل لهذا النص : هل يقصد ثعلب أنه كان يجتمع في الوقت الواحد أربعون رجلا يكتبون هذا المصنَّف ، ويتبادلون الرأي فيما يدوِّنونه فيه من أقوال وآراء؟ أم يقصد أنّ سيبويه جمع في كتابه آراء أكثر من أربعين رجلا؟ من التوفيق أن نستبعد الأول ، ومن السداد أن نذهب إلى الثاني .
قال ابن العربي : " ... وقد جمعتُ من العربية فنونا ، وتصرّفتُ فيها تمرينا ، منها كتاب الإيضاح للفارسي ، والجمل ، وكتاب النحاس ، والأصول لابن السراج ، والدُرَيْود ، وسمعتُ كتاب الثمالي ، وكتاب الصناعة الأصلي الذي أنهاه الخليل إلى سيبويه ، ثم تولّى نظمه وترتيبه ... " . (قانون التأويل ، ابن العربي ، دراسة وتحقيق محمد السليماني ، دار القبلة ومؤسسة علوم القرآن ص417-418) .
ثمّ إننا بنظرنا في النصوص المنقولة عن أبي سعيد السيرافي ، وبنظرنا في تكوّن العلوم ونشأتها ، وبنظرنا فيما رواه ابن النديم عن خطِّ ثعلب نقول :
نعم ، كانت بداية النحو عبارة عن مسائل متفرِّقة يفترضها النحاة ، ثمّ يحاولون اختبار صدق هذه الفروض ، فأبو الأسود وضع شيئًا ، ونصر وضع شيئًا ، وابن هرمز وضع شيئًا آخر ، وكلّ هذه جزئيّات ، أضيف إليها ما وضعه وفرضه من كان في زمانهم أو بعدهم من طبقة النحاة التالية، فكانت هذه محاولات أولية سطرت أوائل فكر النحاة العرب ، وكانت عبارة عن بحوث مفرّقة ، وكانت في وقتها بدعًا علميًّا ، وإنجازًا كبيرًا ، يتجادل الناس حوله بالقبول والرفض، والشكِّ واليقين، والصحّة والخطأ، والاطّراد وعدمه، بمعنى أن النحويّ أو النحاة يضعون الفرض أو المفترض أو المتخيَّل تحت النظر ، حتّى يخرج بنتيجة يختبر صدقها واطِّرادها، ويعالجها غيره متعقِّبًا له، مؤيِّدًا أو معارضًا، ثمّ تتحوّل نتيجة هذه الحركة إلى مسلَّمة علميّة لا تختصّ بقائلها الأوّل، ومستنتجها السابق، وليس عالم أولى بها من عالم ؛ لأنّها أصبحت مشاعًا للجميع.
وكانت هذه أشبه بألواح مفرّقة أوإضبارات ؟ مبعثرة، تحتاج إلى من ينشط لجمعها وتلخيصها واستخلاص نتائجها، ونظم ذلك كلّه في سلك واحد، وكان هذا العمل ينتظر مثل سيبويه ، وإن كان سيبويه ، كما تقول كتب التراجم ، قد سيِق إلى شيء من ذلك.
ولا يعني قولنا هذا تنقّص عمل سيبويه، وإنّما يعني إنصاف علماء قبل سيبويه، وإنصاف أمّة من النحاة ، وحفظًا لحقٍّ فئة انقطعت لهذا العلم ، وإنصافهم لا يضير سيبويه شيئًا ؛ إذ كثيرًا ما يتساءل القارئ العربي وغيره عن مصير جهد هؤلاء الأعلام ؛ إذ لا نرى آراءهم منثورة منشورة في كتب النحو ، ولا مبثوثة مشهودة في تصانيفه ؛ إذ لا نجد في كتاب سيبويه رأيًا لأبي الأسود الدؤلي ، بل لم يرد ذكره إلا أربع مرّات مستشهدًا بشعره :
ý قال أبو الأسود الدؤليّ :
فإن لا يكنها أو تكــنْه فإنّه أخـــوها غــذته أمُّه بلِبـانهـــــــا
ý وقال أبو الأسود الدُّؤَليُّ :
أميران كانا آخياني كلاهما فكلاً جزاه الله عنِّي بما فعَلْ
ý قال سيبويه: زعم عيسى أن بعض العرب ينشد هذا البيت"لأبي الأسود الدؤلي":
فألفــــيته غـير مســـتعتـب ولا ذاكـــر الله إلا قـــليلا
ý وقال أبو الأسود :
إذا جئتُ بوَّابًا له قال: مرحبًا ألا مرْحَبٌ واديك غير مضيقِ
ولم يرد ذكر نصر بن عاصم (ت89هـ) ولا عبد الرحمن بن هرمز (ت117هـ) ولا عنبسة الفيل (ت100هـ) ولا يحيى بن يعمر الليثيّ (129هـ) فضلا عن نحاة الكوفة من أمثال معاذ بن مسلم الهراء (ت187هـ)، ولا الرؤاسي (ت187هـ) .
ألم يكن لهم آراء في النحو ، بل ألم يكن لهم آراء أسِّس عليها النحو أو عليها بنِي؟ وهل ما نتداوله في النحو بريء منهم ، أم أنّهم أصحابه وصنّاعه؟ ومثل هذه أسئلة يجوز أن تطرَح ، ويطلب لها جواب رشيدٌ سديد ، ويمكن أن يقال في الجواب : لعلّ السبب أنّ آراء الطبقات الأولى هي بدهيات النحو الأساسية أو الكلية ، أمّا من بعدهم فصار لهم عمل في التأكُّد من صحّة الفروض ، وانطباقها، وتلاؤمها مع الاستعمال العربيّ، وفي الاستثناءات ، ومقارنة القياس بالاستعمال العربي ، فصار لهم تخريجات ، وقواعد استثنائية من الكليّات ، وتفسير ، وتعليل ، وتوجيه، وتخريج، وتأييد، واستدلال.
**********
وإذا أعدنا الكرّة في كتاب سيبويه لا نعدم آراء وأقوالا منسوبة لأشياخ أشياخ سيبويه ممّن لم يأخذ عنهم مباشرة ، وإنّما اتّصل بهم عن طريق أشياخه كالخليل ، ويونس، وأبي زيد.
ولو نظرنا في كتاب سيبويه (تحقيق عبد السلام هارون) ما أورده من أقوال نسبت لعيسى بن عمر ، وعبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، لوجدنا ما نسِب لعيسى بن عمر (ت149هـ) ، وأخذ سيبويه عنه محلّ شكٍّ، لا يعدو ثمانية عشر رأيًا ، ورواية واحدة ، على النحو التالي :
1) مسألتان في إعمال المشتقِّ : مسألة إعمال المشتق وهو غير منوّن "ولا ذاكر الله إلا قليلا". (1/169) . ومسألة نصب المعمول المعطوف على المعمول المضاف إليه "... باعث دينار...". (1/171) .
2) مسألة تحميل المشتق معنى الفعل في شعر للفرزدق "ولا خارجًا من فيَّ زور كلامِ" . (1/346) .
3) مسألة في النعت المقطوع . (2/65) .
4) ثلاث مسائل في الحال : إجازة نصب نحو : :مبرورًا مأجورًا، ومصاحبًا معانًا" على الحال ، أي: رجعت ... واذهب". (1/2719) . وإجازة الرفع في "ادخلوا الأولُ فالأوّلُ" . (1/398). ومسألة نصب "مقبلا" على الحال في قولهم "هذا أول فارس مقبلا" . ومسألة تردّد المشتقِّ إذا وقع بعد نكرة بين أن يكون حالا أو وصفًا.(2/21).
5) مسألة نصب المستثنى المتّصل ، مثل "ما أتاني أحدٌ إلا زيدًا".(2/319).
6) مسألة نصب المنادى في نحو "يا مطرًا". قال سيبويه :"ولم نسمع عربيًّا يقوله ، وله وجه من القياس إذا نوِّن وطال, كالنكرة. (2/203) .
7) مسألة في ضمير الفصل : إعرابه مبتدأً ثانيًا في قوله (تعالى) ((كانوا هم الظالمون)) آية 76 من الزخرف . (2/392).
8) مسألة في "إذن" : الإهمال في نحو"إذن أفعلُ" رواه عن ناس من العرب (3/16). .
9) مسألة في الحكاية (تخريج قراءة) (3/143).
10) ثلاث مسائل في الممنوع من الصرف : منع الصرف لكل فعلٍ سمِّيَ به أو ما كان على وزن الفعل (3/206-207)، وصرف المؤنث الثلاثي ساكن الوسط المنقول عن المذكّر ، مثل "عمرو" اسم امرأة ، يصرف ؛ لأنه على أخفِّ الأبنية(3/242 و281) . وصرف "أُحَيٍّ" (3/472) .
11) مسألة في الهمز (التخفيف) (الخبء) (3/545) .
12) مسألة القف بالسكون في نحو "ارمِ واغزُ" (4/159).
13) مسألة النسب إلى "سمُرة" و"دُئِل" بفتح العين (3/343).
14) تقوية لرأيٍ للخليل برواية يونس وعيسى . (2/65) .
ولوجدنا اسم عبد الله بن أبي إسحاق الحضرميّ (ت149هـ) يتردّد في الكتاب سبع مرّات تمثِّل آراء نحوية، إلى جانب ذكره مرّتين في بيت الفرزدق المشهور:
1. مسألة في الممنوع من الصرف ، إذا سمّيت بـ"عمْرو" مؤنّثًا منعته الصرف. (3/242) .
2. مسألة نصب الاسم الظاهر بعد "إيّاك" (إياك إيّاك المراءَ" وهي مسألة في التحذير. (1/279).
3. مسألة في النعت المقطوع للمدح أو الذم أو الترحّم . (2/77) .
4. مسألة في تحقيق الهمزتين في نحو "قرأ أبوك ، وأقرئ أباك". (4م443) .
5. مسألة في إمالة الألف بعد حرف استعلاء في قول كثيِّر "صار بمكان كذا وكذا". (4/121) .
6. نصب الفعل المضارع بعد "واو" المعيّة في قوله : ((ياليتنا نردّ ولا نكذِّبَ)) آية 27 من الأنعام. (3/44) .
7. مسألة الوصف بـ"غير"وهو يجعل"غير" استثناءً بمنزلة "إلا".في قول الفرزدق :
ما بالمدينة دارٌ غيرُ واحدةٍ دار الخـــليفة إلا دار مروانِ
(2/340-341) .
كما ورد اسمه في غير مسائل النحو في البيت الذي هجاه به الفرزدق :
فلو كان عبد الله مولًى هجوته ولكنّ عبد الله مــولى مـــوالــيا
(3/313 و315) .
**********
ما طرحناه من أسئلة قبل هذه النقول، وما كان من قبيلها، وهي أسئلة مشروعة، يتعيَّن علينا أن نتلمّس إجابات لها، فنقول :
إن قانون تفسير نشأة العلوم التي بموجبها نعلم أنّ كلَّ علم مبناه على بدهيّات ومسلّمات لا يستأثر بها أحد دون أحد، ولا يختصّ بها فردٌ دون آخر ، ولا تنسَب لفلان دون فلان، بل تستحيل إلى ملكٍ مشاع يملكه كلُّ من قدر على تحصيله، وإن كانت في يوم من الأيّام تشكِّل قضيّة علميّة ، وتؤسِّس فرضًا علميًّا من نتاج زيدٍ من الناس، فأوّل ما خرج كان يذهب لصاحبه ، ثمّ تعاوره أهل العلم حتّى ابتذلوه وأحالوه بدهيّة علميّة ، ومسلَّمة لا نزاع فيها، وملكًا مشاعًا ، لا ينازع أحد في ملكيّته، إذا حصَّله، غير أنّ هذه البدهيّات والمسلّمات كانت تتداول في بيئة العلم ومحيطه، ويتناقلها أهله آخرًا عن أوّل، وقد تكون عند البعض مفرَّقة مبعثرةً ، لا تعطي صورة علم متكامل متجانس, يعرف الناس بعضًا منها، ويغيب عن بعضهم بعضٌ منها، ولا يستوعبها صدر حافظ، ولا يزبرها سجلّ راصد، ولا يستعيدها كاملة لسان ناطق، أو عقل ذاكر، فتكون بحاجةٍ إلى من ينظر فيها، ويجمع شتاتها، وينقِّح أصولها، ويشذِّب أطرافها، ويقرِّب أبعادها، ويصوغ عبارتها، ويستكمل نقصها، ويقيم أودها، ويصلح معوجَّها.
وهذا هو عين فعل سيبويه الذي ثقِف العربية عن أبي عمرو، وأكثر عن الخليل، ويونس، وأبي زيدٍ، وآخرين، فاستخلصه، فأخذه عنهم كما أخذوه عمّن سبقهم، فكلّ طبقة ورِثتْ علم العربية على وضعٍ وصورةٍ، وأضافت إليه إمّا الجديد ، وإمّا التنقيح ، وإمّا العبارة والصياغة، وإمّا التصحيح، وإمّا التفسير، وإمّا التعليل، وإمّا التخريج، وإمّا التوجيه، وإمّا الاستثناء، وإمّا استكمال شروط وضوابط، وإمّا إعادة صياغة القواعد بعد اكتمال الصورة حولها، وإمّا استكمال اختبار صدق الفرض ، وسلامته ، و اطِّراده.
فعمله خلاصة تراكميّة لعمل أمّة بل طبقات من الرجال ، وهذا أمر طبيعيٌّ ، لو لم يعمله سيبويه لعمِله غيره، ومن هنا ندرك بُعْدَ غور كلمة ثعلب إمام العربية في عصره، عن تعاون اثنين وأربعين رجلا على تأليف الكتاب، وهل يذهب بادئ رأينا أنّ هؤلاء كانوا يجتمعون في جلسة حوار أو عصف ذهنيّ ليسطروا هذا الكتاب؟ لا أحد يقول هذا، وإنّما الذي يسوغ قوله أنّ سيبويه جمع لخافًا ، ومسوّدات، وأوراقًا, ورقاعًا، وإضبارات، وخلاصاتٍ كتبها أساتذته، ومن قبلهم من نحاة العربية، أواكتتبها وانتسخها من كتبهم وأوراقهم، فكان عمل سيبويه هو النهاية الطبيعية ، كما هو الحال في جميع العلوم ونشأتها ؛ إذ يتأخّر التصنيف فيها عن بداية البحث والنظر فيها،كما أوضحنا فيما سلف ، وإلاّ فبم نفسِّر قولَهم عن ابن أبي إسحاق وسعة علمه، في زمنه، وضآلته النسبية في الزمن اللاحق؛ إنها السنّة الطبيعية في نشأة العلوم ، التي تقوم على تصوّر مشكلة، وطرح أسئلة عليها، أو خاطرة ، ففرض ، واقتراح حلٍّ .... كما يرتّب ذلك أصحاب الفكر والمنهج .
**********
ونستطيع بعد النظر في كتاب سيبويه أن نقول : إنّ النحاة في الطبقتين الأوليين : المؤسِّسين والطبقة التالية لهم وضعوا بدهيّات النحو ، وقواعده الكلّيّة ، وعمل هؤلاء مسلّمات يتداولها المشتغلون بالنحو وطلابه من غير أن تعزى لقائلٍ بعينه ؛ لأنّها مسلّمات ، وبدهيّات يتّفق عليها ، وعليها يبنى النحو ، ولهذا السبب لم ينقل إلينا من الآراء النحوية شيء ينسب لأحد رجال هاتين الطبقتين إلا ما نسِب لعبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، وهي أشياء يسيرة .
ولو لم يكن النحو بهذا الوضوح لما كان للنحاة أن يقفوا للشعراء يترصّدون طريقهم ، ويبينون وفق قياساتهم عن عوراتهم ، ويتتبعون سقط كلامهم ، كما يبيِّنون خروجهم على المألوف من كلام العرب ، ونظام العربية ، وخير مثال على ذلك ما كان يفعله عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي مع الفرزدق الذي برم به وبتعقّباته ، حتّى هجاه بقوله :
فلو كان عبد الله مولًى هجوته ولكــــن عبـــــد الله مــولى مواليا
وتعقبات ابن أبي إسحاق أشهر من أن تذكر ، ومن قبله عنبسة الفيل ، ""الذي أخذ من الفرزدق نصيبه من الهجاء ؛ لأنّه كان يروي عليه شعر جرير ، حين قال :
لقد كان في معدان والفيل زاجر لعنبســـة الراوي عليَّ القصـــائدا
فسأل بعض عمّال البصرة عنبسة عن هذا البيت وعن الفيل ، فقال عنبسة : لم يقلْ : والفيل، إنّما قال: اللؤم، فقال: إنّ أمرًا فررت منه إلى اللؤم لأمر عظيم" . (أخبار النحويين البصريين ص19)
ولا يتعدّى ما نقِل لنا - غير ما تقدّم - ما نقِل من آراء النحاة الطبقة الثالثة من النحاة البصريين ؛ لأنّها الطبقة التي نظرت في بدهيات وكليّات النحو التي سطرها من قبلهم، وعرضوا تلك القياسات والفروض على كلام العرب ، وما اعتدّوا به من بيانهم وأقوالهم، وأمكن لهم أن يضعوا تتمّة للقواعد ، بوضع قواعد فرعية، أو استثناءات من القواعد الكليّة ، حسب أصولهم التي وضعوها ، والنسبيّات التي ارتضوها، فهم عارضوا القياس بالمسموع من كلام العرب ، أو عرضوا كلام العرب على قياساتهم من أجل التأكّد من صحّة القياسات والفروض ، ومن أجل تخريجه وتوجيهه بما يتوافق مع قواعدهم، كما شغِلت بتفسير وتعليل الأحكام النحوية، ومسالك العرب في كلامها، وتأويل ما يخرج ظاهره عن قواعدهم وقياسهم . نجد هذا واضحًا في عمل رجلين من أشياخ الخليل لم يلقهما سيبويه، ولم يأخذ عنهما، هما : عيسى بن عمر،على الراجح لي من عدم أخذه عنه، وعبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي ، وقد زاد عليهما الخليل في التعليل والتفسير والتأويل والقياس.
هذا ، وإذا أخذنا في الاعتبار أن النحو كلّه معتمد على القياس أولا ، ثم تعارض أقيسته بكلام العرب ، كما هو واضح من كلام النحاة ، وقد قال الكسائيّ :
إنما النحــــو قيـــــاس يتبع وبـــه في كل أمـــــر ينتفـــــع
وجاء في ترجمة عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي: أنّه أول من بعج النحو، ومدّ القياس، وشرح العلل . (الزبيدي ص23 ) ويقال : إن له نيِّفًا وسبعين مصنّفًا ، ذهبت كلّها. (الفهرست ص62)
و((قال أبو فيد مؤرِّج بن عمرو السدوسيّ (ت195هـ) أول ما تعلّمت القياس في حلقة أبي زيد الأنصاري بالبصرة))(إنباه الرواة 2/327)
هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى : ماذا يعني قول حمّادٍ، وقول سيبويه: لأطلبنّ علمًا لا يلحنني فيه أحد، ألا يعني: أنّ هناك علمًا قائمًا بذاته، يتجارى الطلبة في طلبه، يقيم اللسان، ويصلح المنطق، هو النحو، وأنّ سيبويه طلب علمًا له كيانه، وحدوده، وأعلامه، وأشياخه، ومدارسه، وحلقاته، وأصوله، وهو علم معروف، متداول يعرفه النحاة وغير النحاة، بدليل أن شيخه صحّح كلامه، وفق قواعده، ومن المعروف أن شيخه حمّاد بن سلمة، وإن اشتهر في علم الحديث معدود في طائفة النحاة؟ بل ما مدلول انتشار حلقات تدريس العربية في الأمصار الإســـلامية كالبصرة والكوفة من القرن الأول حتّى ظهر كتاب سيبويه؟ و بم كان هؤلاء العلماء والأشياخ يتكلّمون ؟ وبم كانوا يتجادلون؟ وبم كانوا يجتذبون الطلاّب إن لم يكن لديهم علم قد اكتملت أسسه ، وضربت عروقه في أرض عزاز؟ ثمّ إنّه لا يمكن لعلمٍ لم يستوِ أن يكون حديث الناس ، وأن يكون حديث الناس، وأن يكون أعلامه محطَّ أنظارهم، ما بين مستهجنٍ، وبين مستحسنٍ، وبين متخوِّفٍ من سطوتهم، فالشعراء كالفرزدق، يقيمون وزنًا للنحويين، وبعض الأعراب يهجون النحو والنحاة، وغيرهم يتطلَّبه من أشياخه، وعلمائه. ثمّ أليس إزراءً بأمّة أن نقول إن النحو لم يكن شيئًا حتّى صنّف فيه سيبويه كتابه؟!
لعلّ عند سيبويه الخبر اليقين ، فقد اقترح على غيره إحياء علم الخليل ، ففي مقدّمة كتابه عن القاضي إسماعيل بن إسحاق (ت282هـ) : سمعت نصراً يحكي عن أبيه (نصر بن علي ت250هـ) قال: قال لي سيبويه حين أراد أن يضعكتابه: تعال حتى نتعاون على إحياء علم الخليل.(مقدمة الكتاب/تحقيق عبد السلام هارون ص8). وقد أدرك هذا شارح كتابه أبو سعيد السيرافي (ت368هـ) بقوله: "وعامة الحكاية في كتاب سيبويه عن الخليل ، وكلما قال سيبويه: " وسألته" أو "قال" من غير أن يذكر قائله ، فهو الخليل" (مقدمة عبد السلام هارون لكتاب سيبويه ص25) ومن قبله قال أبو الطيِّب اللغوي (ت351هـ): سيبويه أعلم الناس بالنحو بعد الخليل، وألّف كتابه الذي سمّاه الناس قرآن النحو ، وعقد أبوابه بلفظه ، ولفظ الخليل" (مراتب النحويين ص65)
بل لو تجاهلنا هذا كلّه ن وألقينا نظرة عجلى على كتاب سيبويه ، واخترنا مثلا منه ما سمّاه "باب مجاري أواخر الكلم من العربية" لوجدنا ما فيه مسلَّماتٍ وبدهيّات نحويّة ، تتفق عليها جميع كتب النحو ، وتكتب تحت عنوان "المبنيِّ والمعرب" . ولا نجد في هذا الباب أسماءً نحويّة تتردّد ، وتنسب إليها الآراء والأقوال ،بل نجد في هذا الفصل الأحكام والقواعد غير معزوّة . 0انظر سيبويه 1/13-23) وانظر أبوابًا أخرى ، مثل "المسند والمسند إليه" و"الفاعل" و"المفعول" وسائر الأبواب ، مما يشي أنَّ هذه الموادّ أو المعارف مشاعة الملكيّة، مستفيضة الشهرة، دوّارة على ألسنةِ أهل العلم، منشورة بين أشياخه وطلاّبه.
وكلّ ما قلناه لا ينقص من قدر سيبويه وكتابه ، فهو – كما قال أبو جعفر أحمد بن محمد النحّاس (ت338هـ) : ((لم يزل أهل العربية يفضِّلون كتاب أبي بشرٍ عمرو بن عثمان بن قنبر ن المعروف بسيبويه ن حتّى لقد قال محمد بن يزيد: "لم يعمل كتاب في علم من العلوم مثل كتاب سيبويه، وذلك أن الكتب المصنّفة في العلوم مضطرة إلى غيرها، وكتاب سيبويه لا يحتاج من فهمه إلى غيره)).(مقدمة كتاب سيبويه / تحقيق عبد السلام هارون/ص5) .
**********
الخــــــاتمـــــــــة:
يطيب لي أن أختم هذا العمل بأبرز ما انتهيت إليه من نتائج ، وهي :
- أن التاريخ أو قراءتنا له قد جار على النحاة الأوائل في الطبقات الأولى من النحاة ، وبخسهم حقّهم في تأسيس النحو.
- أنّ العمل النحوي ، من تنظير ، وتأليف عمل تراكميٌّ ، لا يمكن أن يستبدَّ به نحويٌّ واحد، وقد أسهم في تكوينه وبنائه طبقات متوالية من علماء المدينتين البصرة والكوفة ، وكان لمن بعدهم شرف المشاركة في هذه الجهود المباركة ، وإن كان على أنطقةٍ محدودة .
- أن النحو كغيره من العلوم لم يخرج عن قانون نشأتها وتكوُّنها، الذي يمرُّ بمرحلة تكونُ أوّليّاته، ومبادئه، فروضًا علميّة، محلَّ شكٍّ، قبل أن تتحوَّل مسلَّمات وبدهيّات ، مشاعة الملكية، في مرحلة انتقال العلم من مرحلة التأسيس والبحث ؛ ليدخل مرحلة التصنيف .
- أن النحو بأساسيّاته وكلّيّاته اكتمل، أو وضعت معظم قواعده الكلّيّة، وأرسيت أسسه في الطبقة الثانية من نحاة البصرة أو الثالثة، إلا ما لا خطر له، ولا شأنَ.
- أن هناك محاولات لتصنيف النحو قبل سيبويه، منها تأليف عيسى بن عمر كتابيه: "الجامع، والمكمل" وما نسب لعبد الله بن أبي إسحاق الحضرميّ من أنّه عمِل نحو سبعين كتابًا في النحو، وما ذكِر بشأن صحائف لأبي الأسود وغيره.
- أنّ التصنيف يعنى بالجمع و طريقة العرض،وبسلامة الفكرة وصحّتها أكثر من عنايته بنسبة الأقوال، وعزو الآراء,ولذا لا نجد مسلّمات النحو المتّفق عليها تعزى لعالم ، وإنما يكون العزو في حال الاختلاف. وهو بهذا يخالف البحث الذي يعنى بها، ويعنى أكثر بتحديد المشكلة، وطرح الأسئلة حولها، وفرض الفروض العلمية لحلِّها،
- أنّ البحث فسّر عدم ورود أسماء كثير من النحاة المؤسِّسين للنحو العربيّ، أو قلّته في كتابٍ مثل كتاب سيبويه،بأنّ آراءهم وفروضهم تحوّلت إلى بدهيّاتٍ ومسلَّماتٍ، لا تختصُّ بمن قالها، بل أصبحت ملكًا مشاعًا لجميع المشتغلين بالنحو.
- تصحيح مفهوم تواضع علم عبد الله ابن أبي إسحاق ، وأن مقصود المتكلِّم بذلك أن يفيد أن النحو طرأت عليه زيادات وإفادات لم تكن في عهده, ولو أدرك الزمن المتأخِّر لأدركها، ولتكلّم عنها بأحسن ما يتكلّم به المتأخِّرون.
- أنّ سيبويه استفاد من علم سابقيه، ومن تصنيفهم، أو محاولات التصنيف في النحو، التي سبقته ، وهذا يفسِّر لنا كلمة ثعلب :"تعاون على تصنيف كتاب سيبويه اثنان وأربعون رجلا" .
- أنّ سيبويه بدون منازع حاز قصب السبق في تصنيف النحو العربي، وقد بهر من بعده بتصنيفه؛ حتّى عدّ عمله من الأعمال الإبداعية المتميّزة ، وشهادات علماء العربية وغيرهم قائمة بذلك.
- ما قُدِّم بهذا العمل لا يعدو كونه محاولة تفسيرية لنشأة النحو العربيِّ، تعطينا صورة عن هذه النشأة، وتطوّر النحو في مراحله الأولى.
- أنّ علماء العربية الذين جمعوا اللغة من العرب كنوا على ضربين : فئة كان همّها جمع اللغة ، وكلام العرب، وفئة تروي اللغة من أجل توظيفها في القياس واستخلاص أحكام العربية والنحو.
تمّ ..........وصلّى الله وسلّم على محمّدٍ وآله وصحبه.
**********************
**************
Nike Total Air Foamposite Max 2020 Retro Colorways + Release Dates