ويهدف هذا البحث إلى الإجابة عن الأسئلة التالية:
1- ما أهمية الكتابة ومكانتها؟
2- هل ناقش علماء اللغة العرب معايير الجودة في الكتابة؟
3- هل تحدث العلماء العرب القدامى عن الكتابة الصوتية والعروضية في مؤلفاتهم أم لا؟
في الصفحات التالية نحاول الإجابة عن هذه التساؤلات.
أولاً: أهمية الكتابة ومكانتها
للكتابة قدر جليل، وشأن رفيع، وأن الله تعالى نسب تعليمها إليه، وامتن على الإنسان بهذا الكرم والفضل. قال تعالى: ﴿اِقْرَأ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ* الذي عَلَّمَ بالقَلَمِ* عَلَّمَ الإِنْسَانَ ما لمَ يَعْلَمْ﴾([4]). إن هذه الآية والتي قبلها أول ما نزل على نبي الأميين محمد صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك من الاهتمام بشأنها ورفعة مكانتها ما لا خفاء فيه.
إن الله تعالى امتنَّ على ملائكته؛ وشرَّفهم بأن وصفهم بالحَفَظَة الكِرام لهذه المهارة. فقال عز وجلَّ: ﴿وإنَّ عَلَيكُم لَحَافِظِين* كِرَامَاً كَاتِبِين﴾([5])، وهذه أعلى درجة بنعت حفَظَته بها. إن الله عز وجل أقسم بالقلم؛ الذي هو آلة الكتابة. فقال جل جلاله: ﴿ن والقَلَم ومَا يَسْطُرُون* ما أنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنون﴾([6]).
إن الرسول صلى الله عليه وسلم، ندب إلى تعلمها، وحث على طلبها، فقال عليه الصلاة والسلام: "قَيِّدُوا العِلمَ بالكِتَاب([7])". ولقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن يُعَلِّمَ الأسرى من المشركين أبناء المسلمين القراءة والكتابة كي يطلق سراحهم.
وقال صاحب مواد البيان([8]): "فقد عُرِف أن الذين وضعوها ورسموا رسومَها هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام". وقد انتقل جماعة إلى الخلافة. فأبو بكر؛ كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صارت الخلافة إليه بعد ذلك. وعمر بن الخطاب؛ كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم صارت الخلافة إليه. وعثمان بن عفان؛ كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم كتب لأبي بكر بعده، ثم صارت الخلافة إليه. ومعاوية كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم صارت الخلافة إليه بعد الحسن".
لقد حُرِّمت الكتابة على النبي عليه الصلاة والسلام، ردَّاً على الملحدين حيثُ نسبوه إلى الاقتباس من كتب الأولين، كما قال تعالى: ﴿وقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اِكْتَتَبَهَا فَهْيَ تُمْلَى عليه بُكْرَةً وأَصِيْلاً﴾([9]) وأكد ذلك بقوله ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا من قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِيْنِك إِذاً لارتابَ المُبْطِلُون﴾([10]).
يذكر النحاس خبراً عن أبي جعفر حول أهمية الكتابة وفضلها([11]): "الكتابةُ أُسُّ المُلك، وعمادُ المملكة، وأغصانٌ متفرقة من شجرة واحدة. وهي قطبُ الأدب، وفلكُ الحكمة، ولسان ناطق، وهي نور العلم، وتزكية العقول، وميدان الفضل والعدل، وهي زينة وحلية، ولبوس وجمال وهيئة وروحٌ جارٍ في أجسام متفرقة، ولو أن فضلاً ونُبلاً تَصوَّرا جسماً لتصورت الكتابةُ... ولو أن الصناعة مربوبة لكانت الكتابة سيِّداً لكل صناعة... وبها قامت السياسة والريَّاسة، وإليها ضوتِ الملوكُ بالفاقة والحاجة". "وكان يقال في الجاهلية: الكامل من أحسن الكتابَ والرمي والعومَ".
ويقول الشريشي([12]) منوهاً بأهمية الكتابة ومكانتها: "إن الكتابة تلي الخلافة في القدر، وقريبة منها في الخطر، وهي أجل ما يطلب، وأشرف ما فيه يرغب، وأحسن ما عمل، وأفضل ما انتحل".
ويقول الجاحظ([13]): "ولو لم يكن من فضل الكتابة إلا أنه لا يسجَّل نبي سجلاً، ولا خليفة مرضيّ، ولا يقرأ كتاب على منبر من منابر الدنيا، إلا إذا استُفْتح بذكر الله تعالى، وذكر رسوله صلى الله عليه وسلم، وذكر الخليفة، ثم يذكر الكتاب كما هو مشهور في السجلات التي سجلها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل نجرانَ وغيرهم، وأكثرها بخط أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في شرفه ونبله وسابقته ونجدته".
ويذكر القلقشندي([14]) أن صناعة الكتابة تجمع فضائل عديدة، وذلك لأن الملك يحتاج في انتظام أمور سلطانه إلى ثلاثة أشياء، لا ينتظم ملكه مع وقوع خلل فيها؛ أهمها:
- رسم ما يجب أن يُرْسَم لكل من العمال والمكاتبين عن السلطان ومخاطبتهم بما تقتضيه السياسة من أمر ونهي، وترغيب، ووعد ووعيد، وإحماد وإذمام.
ومعلوم أن هذه الأعمال لا يقوم بها إلا كُتّاب السلطان، ولا سبيل للكُتَّاب إلى الكتابة فيها إلا بالتدبر في صناعة الكتابة، فهي إذن من أشرف الصنائع، لعظيم عائدتها على السلطان ودولته. قال الجاحظ: "من أبْيَن فضلها أنها جُعِلت في عِليَة الناس".
ولقد مدح الأدباء والشعراء فضلاء الكتاب وأشرافهم، وذموا حمقاهم. فها هو القلقشندي([15]) يذكر في صبحه جملة من الأشعار في حسن الكتابة والخطوط. فمن أحسن ما مُدِح به كاتب؛ قول الشاعر:
وكَاتِبٌ يَرْقُم في طِرْسِه رَوْضَاً بِهِ تَرْتَعُ أَلحْـاَظُهُ
فالدُّرُّ ما تَنْظِم أقلامُـه والسِّحْر ما تَنْثُر ألفاظُه
وقال آخر:
إِن هَزَّ أَقْلامَهُ يَوماً لِيُعْمِلَهَا أَنْسَاكَ كُلَّ كَمِيٍّ هَزَّ عَامِلَه
وإِنْ أَقَرَّ عَلى رَقٍّ أَنَامِلَـهُ أَقَرَّ بالرِّقِّ كُتَّابُ الأَنَـامِ لَهُ
وكما أولع الشعراء بمدح أشراف الكتاب وفضلائهم، أولعوا أيضاً بذم حمقاهم، وأخذوا يهجونهم في كل زمن. فمن ذلك قول بعض المتقدمين يهجو كاتباً:
حِمَارٌ في الكتـابةِ يَدَّعيــها كدَعوى آل حربٍ في زِيادِ
فَدَعْ عنكَ الكِتابةَ لستَ منهـا ولوغَرِقَتْ ثِيَـابُكَ بِـالمِدَاد
وقول الآخر:
يَعِي غيرَ ما قُلْنَا ويكْتُبُ غَيْرَ ما يَعيِهِ ويَقْرَا غيرَ ما هو كاتِبُ
ثانياً: معايير الجودة في الكتابة العربية
نحاول قبل أن نتحدث عن معايير الجودة في الكتابة أن نذكر بعض الأمور العلمية التي يحتاجها الكاتب في صنعته. وهي أن الكاتب يجب أن يعرف اللغة العربية، والحساب، والعلوم، والفقه، والحديث، وغيرها من الأمور التي تفيده في كتابته. يقول ابن قتيبة([16]) معلقاً على هذا الأمر:
"وليست كتبنا هذه لمن لم يتعلق من الإنسانية إلا بالجسم، ومن الكتابة إلا بالرسم، ولم يتقدم من الأداة إلا بالقلم والدواة، ولكنها لِمَن شدا شيئاً من الإعراب، فعرف الصَّدرَ والمصدرَ، والحالَ والظرفَ، وشيئاً من التصاريف والأبنية، وانقلاب الياء عن الواو، والألف عن الياء، وأشباه ذلك... ولا بد له من النظر في جُمَل الفقه، ومعرفة أصوله: من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته عليهم السلام، كقوله([17]): "البينة على المُدَّعِي، واليمين على المُدَّعَى عليه"... ولابد له - مع ذلك – من دراسة أخبار الناس، وتَحَفُّظِ عيون الحديث؛ ليدخلَهَا في تضاعيف سطوره ممتثلاً إذا كتب، ويَصِلَ بها كلامه إذا حاور، ومدار الأمر على القطب، وهو العقلُ وجودة القريحة؛ فإن القليل معهما بإذن الله كافٍ، والكثير مع غيرهما مقصِّر. ونحن نستحبُّ لمن قَبل عنا وائتمَّ بكتبنا أن يؤدِّب نفسه قبل أن يؤدب لسانه، ويهذب أخلاقه قبل أن يهذب ألفاظه، ويصون مُرُوءَته عن دناءة الغيبة، وصِنَاعَتَهُ عن شَيْن الكذب، ويجانب – قبل مجانبته اللحنَ وخَطَل القول وشنيع الكلام ورفَثَ المزح... ويُسْتَحَبُّ له أن يدَعَ في كلامه التَّقعيرَ والتقعيب... ونستحبُّ له – إن استطاع – أن يَعْدِلَ بكلامه عن الجهة التي تُلزِمه مستثقَلَ الإعراب؛ ليَسْلم من اللَّحْن وقباحة التعبير... ويستحب له أن يُنَزِّل ألفاظه في كتبه فيجعلها على قدر الكاتب والمكتوب إليه، وألا يعطيَ خسيس الناس رفيع الكلام، ولا رفيعَ الناس خسيس الكلام..."
وتابعه النحاس في هذا المجال قائلاً([18]): "فأما الفقه والفرائض وصناعة الحساب والعلم بالنحو فكلُّ واحد منها منفردٌ على حدته، وإن كان الكاتب محتاجاً إلى أشياء منها، نحو ما يُكتَب بالألف والياء، وإلى شيء من المقصور والممدود... ".
وأضاف العسكري([19]) على ذلك قائلاً: "ينبغي أن نعلم أن الكتابة تحتاج إلى آلات كثيرة، وأدوات جمة، من معرفة العربية لتصحيح الألفاظ وإصابة المعنى... ".
ولا يستغني كاتب الإنشاء عن علم، ولا يَسعُه الوقوف عند فنٍّ، لأن الأدب هو الأخذ من كل علم بطرف. يقول ابن الأثير الجزري([20]): "إن صاحب هذه الصناعة يحتاج إلى التشبث بكل فن من الفنون، حتى إنه يحتاج إلى معرفة ما تقوله النادبةُ بين النساء، والماشطة عند جَلْوة العروس، وإلى ما يقوله المنادي في السوق على السلعة، فما ظنك بما فوق هذا؟ والسبب في ذلك أنه مُؤَهَّل لأن يهيم في كل واد، فيحتاج أن يتعلق بكل فن".
وبعد هذه المقدمة الوجيزة عن الأمور العلمية التي يحتاجها الكاتب في صنعته، نعود إلى الحديث عن معايير الجودة التي ذكرها القلقشندي([21]) وغيره ([22]).
المعيار الأول: المعرفة باللغة العربية وعلومها
يحتاج الكاتب المعتبر أن يكون ضليعاً في اللغة، ومطلعاً على أسرارها وخفاياها، وما تحمله العبارات من المعاني الصريحة والخفية، ليوظف كل ذلك في كتبه، وأن يضعه في مواضعه المناسبة، لكل مقام مقال. ونحاول هنا أن نسلط الضوء على أربعة أمور في اللغة العربية وهي: فضلها وما اختصَّت به على سائر اللغات، والمعرفة بالنحو، والصرف، وعلوم البلاغة.
أما فضلها: فلقد اختارها الله عز وجل لغة لكتابه العزيز، ولغة لأشرف خلقه ورسله، وجعلها لغة أهل سمائه وسكان جنته. ووصفها بأنبل الصفات وأعلاها. قال تعالى:﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍ مُبِيْن﴾([23]) وقال:﴿وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌ مُبِيْنٌ﴾([24]). وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "تَعَلَّمُوا اللَّحنَ والفَرائِضَ فإِنَّه مِن دِيْنِكُم". وقال يزيد بن هارون: "اللحن هو اللغة". ولا خفاء أنها أمتنُ اللغات وأوضحها بياناً، وأذلقُها لساناً، وأمدُّهَا رُوَاقَاً، وأعذبها مذاقاً.
وأما ما اختصت به دون غيرها من اللغات، فذكر النحاس خبراً عن اللغة العربية([25]): "ويقال إن لغة العرب هي اللغة التامة الحروف، الكاملة الألفاظ، لم ينقص عنها شيء من الحروف فَيشِينَهَا نُقْصَانُه، ولم يزد فيها شيء فيعيبها زيادتُه، وسائرُ اللغات فيها حروف مولَّدة، وتَنقصُ عنها حروف أصلية، كاللغة الفارسية تجد فيها زيادة ونقصاناً... قال الفراء: وجدنا للغات العرب فضلاً على لغة جميع الأمم اختصاصاً من الله عز وجل لهم، كرامةً كَرَّمَهُم بها؛ فبعث منهم رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه قرآناً بلسان عربي مبين".
المعرفة بالنحو: إن معرفة الكاتب بعلم النحو تجعل رسالته واضحة ومفهومة ومعبرة عن مدلولها والمراد منها، وذلك لإن النحو هو قانون اللغة العربية([26])، وميزان تقويمها؛ ويحتاج الكاتب إليه ليعرف طُرُق الإعراب، ليرتسم في فكره، ويدور على لسانه، وينطلق به مقالُ قلمه وكلمه، ويزولَ به الوهم عن سجيته، ويكون على بصيرة من عبارته. فإنه إذا أتى من البلاغة بأعلى رتبة ولحن في كلامه، ذهبت محاسن ما أتى به، وانهدمت طبقة كلامه، وألغى جميع ما حسَّنه، ووُقِف به عند ما جهله. وقال عمر بن الخطاب:"... تَعَلَّموا العربية فإنها تثبِّت العقل، وتزيد في المُرُوءة". وقال الرشيد يوماً لبنيه: "ما ضرّ أحدَكم لو تعلّم من العربية ما يُصْلح به لسانه؟ أيسُرّ أحدَكم أن يكون لسانُه كلسان عبده وأَمَتِه؟" ولله در أبي سعيد البصري حيث يقول:
النَّحوُ يَبْسُط من لسان الأَلكَنِ والمرءُ تُكْرِمُه إذا لم يَلـحَنِ
وإذا طَلَبْتَ من العلوم أجلَّهـا فَأَجَلُّهَا عِندي مُقِيمُ الأَلْسُنِ
المعرفة بالتصريف: كما أن النحو ضروري للكاتب، فإن الصرف ضروري كذلك، لأن الكاتب بحاجة إلى معرفة علم الصرف([27]) ليعرف أصل الكلمة، وزيادتها، وحذفها، وإبدالها، فيتصرَّف فيها بالجمع والتصغير والنسبة إليها وغير ذلك؛ لأنه إذا أراد جمعَ الكلمة أو تصغيرَها أو النسبةَ إليها، ولم يعرف الأصلَ في حروف الكلمة وزيادتَها وحذفَها وإبدالَها، ضلَّ حينئذ عن السبيل، ونشأ من ذلك مجال للعائب والطاعن.
المعرفة بعلوم البلاغة (المعاني والبيان والبديع): تعد علوم البلاغة من أولويات الكاتب وأدبياته([28])، والتفريط بها إنما هو تفريط بحسن التعبير وجماله ورونقه وديباجته (دبلوماسيته)، وهي قاعدةُ عمود الفصاحة، ومَسْقِطُ حجر البلاغة، ليحيط بمقاصدها: ليتوصل بذلك إلى فهم الخطاب، وإنشاء الجواب، جارياً في ذلك على قوانين اللغة في التركيب، مع قوة الملكة على إنشاء الأقوال المركبة المأخوذة عن الفصحاء والبلغاء: من الخُطَب والرسائل والأشعار من جهة بلاغتها، وخُلوها عن اللُّكَن، وتأدية المطلوب بها، وتكميل الأقاويل الشعرية نثراً كانت أو نظماً، في بلوغها غايتها، وتأدية ما هو مطلوب بها، وأنها كيف تتعيَّن بحسب الأغراض لتفيد ما يحصل بها من التخيل الموجب لانتقال النفس من بسط وقبض، والشيء يُذكر بضده، فيذكر المحاسنَ بالذات والعيوب بالعرض.
وأضاف العسكري([29]) قائلاً: "... ولهذا العلم بعد ذلك فضائل مشهورة، ومناقب معروفة (منها): أن صاحب العربية إذا أخَل بطلبه، وفرَّط في التماسه، ففاتته فضيلته. وعَلِقَت به رذيلة فَوْته. عَفَّى على جميع محاسنه، وعمَّى سائر فضائله، لأنه إذا لم يَفْرُق بين كلام جيد، وآخر رديء، ولفظ حَسَن، وآخر قبيح؛ وشعر نادر، وآخرَ بارد، بانَ جهلُه، وظهرَ نقصُه، وإذا أراد أن يضع قصيدة أو ينشئ رسالة، وقد فاته هذا العلم، مزجَ الصفوَ بالكدر، وخلط الغُرَر بالعُرَر (القذر)، واستعمل الوحشي العكر، فجعل نفسه مهزأة للجاهل، وعبرةً للعاقل... إذا أراد تصنيفَ كلام منثور أو تأليفَ شعر منظوم، وتخطَّى هذا العلم، ساء اختيارُه له، وقَبُحَت آثارُه فيه؛ فأخذ الرديءَ المرذول، وترك الجيِّد المقبول، فدلَّ على قصور فهمه، وتأخر معرفته وعلمه".
وخلاصة القول: إن الكاتب يحتاج إلى هذه العلوم الثلاثة ليفهم كتاب الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، لكي يستمدَّ منهما شريف المعاني، وفصيح الألفاظ؛ وتحسين الكلام وتدبيجه وتنميقه وتحبيره.
المعيار الثاني: المعرفة باللغات الأخرى
قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاْفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِيْنَ﴾([30]).
ولقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: زيد بن ثابت بتعلم لغة السريان([31]): "قال زيد بن ثابت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: تُحسِن السريانية أنها تأتيني كتب. قال: قلت: لا. قال: فتَعَلَّمْها فتعَلَّمَها في سبعة عشر يوماً". فكنت أجيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقرأ كتب يهودا إذا وردت عليه.
يحتاج الكاتب إلى معرفة لغة الكتب التي ترد عليه لمَلِكِه أو أميره ليفهَمَها، ويجيب عنها من غير اطِّلاع تَرْجُمان عليها، لأن ذلك أصون لسرِّ ملكه، وأبلغ في بُلوغ مقاصده.
وينبغي على الكاتب أن يتعلم اللغات الأعجمية؛ خاصة في المخاطبة والمكاتبة([32]):
"أما المخاطبة فبأن يكون لسانُ ملكه بعضَ الألسن العجمية، أو كان الغالب عليه لسانٌ عجمي مع معرفته بالعربية. كما غلبت اللغة التركية على ملوك الديار المصرية، وكما غَلِبت اللغة الفارسية على ملوك بلاد العراق وفارس، وكما غلب لسانُ البربر على ملوك بلاد المغرب.
أما المكاتبة: فبأن يكون يعرف لسان الكُتُب الواردة على ملكه ليترجمَها له، ويجيب عنها بلغته التي وردت بها، لأنه أوقع في النفس، وأصون للسرِّ عن اطلاع ترجمان عليه؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت بتعلم السريانية أو العبرانية وحثه عليها".
المعيار الثالث: حفظ كتاب الله العزيز
اعلم أن الكاتب يحتاج إلى ذلك في إنشائه. قال الحلبي([33])’ "لابد للكاتب من حفظ كتاب الله تعالى، وإدامة قراءته، وملازمة درسه، وتدبر معانيه، حتى لا يزال مصوَّراً في فكره، دائراً على لسانه، ممثلاً في قلبه، ليكون ذاكراً له في كلامه، وكل ما يرد عليه من الوقائع التي يحتاج إلى الاستشهاد به فيها، ويفتقر إلى قيام قواطع الأدلة عليها ﴿فَلِلَّه الحُجَّةُ البَالِغَةُ﴾([34]). وكفى بذلك مُعيناً له على قصده، ومُغنياً له عن غيره. قال تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا في الكِتَابِ مِنْ شَيء﴾([35])، وقال جل وعز: ﴿تِبْيَانَاً لِكُلِّ شَيء﴾([36]).
وقال الحسن بن علي لمعاوية حين نازعه في الخلافة([37]): ﴿وإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُم ومَتَاعٌ إِلَى حِيْن﴾([38]). وكتب الحسن إلى معاوية: أما بعد فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين وكافة للناس أجمعين ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كَان حَيَّاً ويَحِقَّ القَوْلُ عَلى الكَافِرِين﴾([39]).
قال ابن الأثير الجزري([40]): "فإن صاحب هذه الصناعة ينبغي له أن يكون عارفاً بذلك، لأن فيه فوائد كثيرة، منها أن يُضَمِّنَ كلامه بالآيات في أماكنها اللائقة بها، ومواضعها المناسبة لها، ولا شبهة فيما يصير للكلام بذلك من الفخامة والجزالة والرونق".
المعيار الرابع: حفظ الأحاديث النبوية
لا غنى للكاتب عن حفظ الأحاديث النبوية الشريفة، لما فيها من بلاغة وإعجاز وحجة دامغة، وفصاحة تامة. وذكر الحلبي([41]): "لابد للكاتب من حفظ الكثير من الأحاديث النبوية، والآثار المروية عن الصحابة رضوان الله عليهم؛ وخصوصاً في السير، والمغازي، والأحكام؛ وتأمُّل فصاحتها، والنظر في معرفة معانيها وغريبها؛ وفقه ما لابدَّ له من معرفته من أحكامها لينفق منها على سَعة، ويستشهد بكل شيء في موضعه، ويحتجَّ بمكان الحجة، ويستدلُّ بموضع الدليل، ويتصرف عن علم بموضوع اللفظ ومعناه، ويبنى كلامه على أصل لا يُزَلْزَل، ويسوق مقاصده إلى سبيل لا يَضِل عنه، فإن الدليل على المقصد إذا استند إلى النص قويت فيه الحجة، وسلَّم له الخصم، وأذعن له المعاند؛ والفصاحة والبلاغة إذا طُلبت غايتها فإنها بعد كتاب الله في كلام من أُوتِيَ جوامع الكلم، وقال: "أنَا أَفْصَحُ مَن نَطَقَ بِالضَاد ([42])".
إن الصدر الأول من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم كانوا يحتجون بالحديث، ويستدلون به في مواطن الخلاف والنزاع، فينقاد الجَمُوح ويستسهل الصَّعب، وقد رجع الأنصار يوم السَّقيفة إلى حديث: "الأئمَّةُ من قريش([43])" حيث رواه لهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وأذعنوا له، وبايعوه بعد ما اجتمعوا إلى سعد بن عُبادة، وقالوا: "مِنَّا أَمِيرٌ ومِنْكُم أَمِيْرٌ([44])"".
ومن أدبيات الكاتب الضرورية أن يعرف أنواع الحديث وأقسامه: كالصحيح، والحَسَن، والمُرْسَل، والمرفوع، والمُسْنَد، والمتصل، والمنقطع، ونحو ذلك. وكذلك المعرفة بأسماء الرجال، والمشاهير من المحدثين: كالبخاري، ومسلم، وأبي داود، وابن ماجه، والترمذي، وغيرهم.
المعيار الخامس: حفظ خطب البلغاء، والتفنن في أساليب الخطباء
يلزم الكاتب أن يعرف كيف يتصرف في الخطب، وأن يحفظ الكثير منها وبخاصة البليغة والفصيحة، وأن يعرف مشاهير الخطباء وأعلامهم. ومتى ما أكثر من حفظ الخطب المشهود ببلاغتها، اتسع له المجال في الإنشاء، وذُلِّلت أمامه الصعاب من مستوعرات الكتابة، وجرت على لسانه الكلمات الفصيحة، ووُظِّفَت في مقامها المناسب.
وذكر القلقشندي: "إن الخطب جزء من أجزاء الكتابة، ونوع من أنواعها، يحتاج الكُتَّاب إليها في صدور بعض المكاتبات، وفي البيعات، والعهود، والتقاليد، والتفاويض، وكبار التواقيع، والمراسيم، والمناشير... وكذلك يعرف مصاقع الخطباء، ومشاهير الفصحاء، والبلغاء([45])".
وأضاف العسكري([46]): "واعلم أن الرسائل والخطب متشاكلتان في أنهما كلام لا يلحقه وزن ولا تقفية. وقد يتشاكلان أيضاً من جهة الألفاظ والفواصل، فألفاظ الخطباء، تشبه ألفاظ الكُتَّاب في السهولة والعذوبة، وكذلك فواصل الرسائل، ولافرق بينهما إلا أن الخطبة يشافه بها، والرسالة يكتب بها، والرسالة تُجعل خطبة، والخطبة تُجعل رسالة، في أيسر كلفة".
المعيار السادس: حفظ جانب جيد من مكاتبات الصدر الأول
يَحْسُن بالكاتب أن يحفظ من مكاتبات الصدر الأول ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. لأن هذه المكاتبات فيها من البلاغة وقوة البيان، ونصاعة الأسلوب، وتنقيح القريحة، وإرشاد الخاطر الشيء الكثير، وعليه أن يوظف هذه المحفوظات في أسلوبه التحريري في أثناء ممارسته للكتابة([47]).
المعيار السابع: حفظ الشعر، وفهم معانيه، واستكشاف غوامضه
مما لا غنى للكاتب عنه حفظ الشعر، لما فيه من غزارة المواد، وصقل مرآة العقل، وانتزاع الأمثال، وتوليد المعاني وابتكارها، ومعرفة اللغة ونوادرها وغريبها. وقد كان الصدر الأول يعتنون بذلك غاية الاعتناء. قال محمد بن سلام عن بعض مشايخه([48]): "كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لا يكاد يَعْرض له أمر إلا أنشد فيه بيت من شعر".
وذكر القلقشندي([49]) ثلاث حالات لاستعمال الشعر في الكتابة، على الكاتب أن يضطلع بها:
الحالة الأولى: الاستشهاد، وهو أن يورد البيت من الشعر، أو البيتين، أو أكثر في خلال الكلام المنثور مطابقاً لمعنى ما تقدم من النثر.
الحالة الثانية: التضمين، وهو أن يُضَمِّن البيت الكامل من الشعر أو نصف البيت لبعض القرينة.
الحالة الثالثة: الحَلُّ، "وهو أن يعمد الكاتب إلى الأبيات من الشعر ذوات المعاني فيُحِلُّها من عُقُل الشعر، ويسْبُكها في كلامه المنثور، فإن الشعر هو المادة الثالثة للكتابة بعد القرآن الكريم، والأخبار النبوية، على قائلها أفضل الصلاة والسلام، وخصوصاً أشعار العرب، فإنها ديوان أدَبهم، ومستودع حِكَمهم، وأنفَسُ علومهم في الجاهلية؛ به يفتخرون، وإليه يحتكمون. فإذا أكثر من حفظ الشعر وفهم معانيه، غزُرت لديه المواد، وترادفت عليه المعاني، وتواردت على فكره، فيسهُل عليه حينئذ حلُّها، ووضْعُها في مكانها اللائق بها بحسب مقتضيات الكتابة([50])".
ولا يستغني الكاتب عن معرفة العروض الذي هو ميزان الشعر، وأن يعرف أسماء البحور، وغير ذلك من مصطلحات العروضيين ليدخلها تضاعيف كلامه عند الضرورة، كما أوضح ذلك الآثاري([51]).
المعيار الثامن: حفظ الأمثال
لا مناص للكاتب من النظر في كتب الأمثال الواردة عن العرب نثراً أو نظماً، والنظر في كتب الأمثال المصنفة في ذلك: مثل كتاب: الأمثال للميداني، وغيره([52]).
ونظراً لمكانة الأمثال العالية في الكتابة، فهي كالرموز التي يلوح بها على المعاني تلويحاً، كما أنها أوجز من الكلام، وأكثره اختصاراً. وعلى الكاتب أن يحفظ الكثير منها، وأن يوظفها في مكانها المناسب، لكي تنقاد إليه معانيها، وتساق إليه ألفاظها، في وقت الحاجة إليها.
وفي هذا الخصوص يقول ابن عبد ربه([53]): "الأمثال هي وَشْيُ الكلام، وجوهر اللفظ، وحَلْي المعاني، والتي تَخيَّرتها العرب، وقدَّمتها العجم، ونَطِقَ بها كلُّ زمان وعلى كل لسان. فهي أبقى من الشعر، وأشرفُ من الخطابة، لم يَسْرِ شيء مسيرها، ولا عَمَّ عُمُومَها، حتى قيل: أَسْيَرُ من مَثَل، قال الشاعر:
ما أنتَ إلاَّ مَثَلٌ سائرُ يَعْرِفهُ الجاهِلُ والخابِرُ
وقد ضرب الله تعالى الأمثال في كتابه فقال: ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾([54]). وقال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلْنَاسِ ومَا يَعْقِلُهَا إِلا العَالِمُون﴾([55]) إلى غير ذلك من آي القرآن.
وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمثال فقال([56]): "ضرب اللهُ مثلاً صراطاً مستقيماً، على كتفي الصراط سوران فيهما أبواب مُفَتَّحةٌ، وعلى الأبواب سُتُور مُرخاةٌ، وعلى الصراط داع يقول: يا أيها الناس اسلكوا الصراط جميعاً ولا تَعَوِّجوا، وداع يدعو على الصراط، فإذا أراد أحدكم فتح شيء من تلك الأبواب، قال: ويلك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراطُ الإسلامُ، والستور: حدود الله، والأبواب المفتحة: محارم الله، والداعي الذي على رأس الصراط: كتاب الله، والداعي من فوق واعظ الله يذكر في قلب كل مسلم" هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم أعرف له علة ولم يخرجاه. إلى غير ذلك من الأمثال التي ضربها صلى الله عليه وسلم".
واعلم أن الأمثال على ضربين([57]): قريب الفهم بظهور معناه، وكثرة دورانه بين الناس؛ وبعيد الفهم لخفائه، وقلة دورانه بين الناس. فالقريب من الفهم الكثير الدوران على الألسنة؛ مثل قولهم([58]): "عِند الصباح يَحْمَدُ القومُ السُّرى" وهو مثل يُضرب للترغيب في السير في الليل، والحث عليه.
المعيار التاسع: معرفة أنساب الأمم من العرب والعجم
يحتاج الكاتب في مكاتباته إلى معرفة أنساب الأمم عندما يُصَدِّر كتبه عن مَلِكِه إلى ملوك وأمراء القبائل العربية وغيرهم من الأمم؛ فإن لم يكن عارفاً بأنسابها، كان قاصراً فيما يكتبه من ذلك. ولقد وقع بعض الكتاب في عيوب كثيرة منها على سبيل المثال، أن ملك البَرْنو من ملوك السُّودان كتب كتاباً إلى الأبواب السلطانية، بالديار المصرية في الدولة الظاهرية برقوق يذكر فيه أن المجاورين لهم من عرب جُذام قد أغاروا عليهم وسَبَوْا جماعة من نسائهم وذراريهم وباعوهم بالديار المصرية وما حولها، ثم قال ونحن من ذريَّة سيف بن ذي يَزَنَ العربي القرشي، فخلط القحطانية بالعدنانية، لأن سيف بن ذي يزن من بقايا التبابعة من حِمير من القحطانية، وقريش من العدناينة، وناهيك بذلك عيباً أن لو وقع من كاتب معتبر... كما أن الكاتب يحتاج إلى معرفة أنساب العجم في المكاتبات إلى ملوكهم؛ وعَقْد الهُدَن معهم، ونحو ذلك([59])".
المعيار العاشر: المعرفة بمفاخرات الأمم ومناظراتهم
من الأمور المسلمة بها، أن يكون الكاتب المعتبر على معرفة بالمفاخرات والمناظرات الواقعة بين الأمم وعلى دراية بها، وأن يعرف وجوه الافتخار التي يمدح بمثلها، لتعينه على المدح والاطراء الواقع في الولايات، وما يُفَضَّل به كل واحد من البلغاء على خصمه، وما يردُ عليه من الأجوبة المبطلة له، لتعينه على إنجاز رسالته إنجازاً صحيحاً ([60]).
المعيار الحادي عشر: في أوابد العرب
يجب على الكاتب أن يعرف أموراً كانت العرب عليها في الجاهلية بعضها يجري مجرى الديانات، وبعضها يجري مجرى الاصطلاحات والعادات، وبعضها يجري مجرى الخُرافات، وجاء الإسلام بإبطالها. وهي عدة أمور، منها([61]) الكهانة، والزَّجْر والطِّيرَة والميسر وغيرها.
المعيار الثاني عشر: في معرفة عادات العرب
ينبغي على الكاتب المعتبر أن يكون على علم ومعرفة بعادات العرب، وأن يوظف هذه المعرفة في مراسلاته ومكاتباته عندما يكتب الكتب والرسائل والوقائع. وهناك صنفان من العادات أحدهما([62]): أسواق العرب المعروفة قبل الإسلام. كان للعرب أسواق يقيمونها في شهور السنة، ويتنقلون من بعضها إلى بعض، ويحضرها سائر قبائل العرب: ممن قرُب منهم وبعُد. وثانيهما: نيران العرب. وهي إحدى عشرة ناراً([63]).
المعيار الثالث عشر: النظر في كتب التاريخ والمعرفة بالأحوال
من الضروري أن يعرف الكاتب التاريخ جيداً، وأن يستشهد به في مكانه المناسب، ليبطل مزاعم الآخرين الذين ينتحلون المعلومات التي لا أصل لها، وأن يكون رده عليهم بالحجة والبرهان القاطع الذي لا لبس فيه ولا تزوير للحقائق والأمور. وهذا يستدعي حاجة الكاتب إلى معرفة وقائع التاريخ، وتفاصيلها، ولا يكاد يستغنى عن العلم بشيء منها لأمور، منها: العلم بأزمنة الوقائع والماجَرَيات، وأحوال الملوك والأعيان والحوادث، والماجَرَيات الحاصلة بينهم، فتحتج بكل واقعة منها في موضعها، ويستشهد بها فيما يلائمها، ويحتج لمثل ذلك؛ فإنه متى أخلَّ بمعرفة ذلك احتج بالقصة في غير موضعها، أو نسبها إلى غير من هي له، أو لبَّس عليه خصمه بالاستشهاد بواقعة لا حقيقة لها، أو نسبها إلى غير من هي له، ليظهر حُجته عليه، وما يجري مجرى ذلك، وفيه مقصدان([64]):
المقصد الأول: في ذكر نبذة تاريخية؛ لا يَسع الكاتب جهلها، مما يحتج به الكاتبُ تارة، ويذاكر به ملِكَه أو رئيسه بأخرى.وهي على ضربين:
الضرب الأول: الأوائل
وهي معرفة مبادئ الأمور المهمة، وقد أفردها أبو هلال العسكري بالتصنيف([65])؛ ومنها:
- الخلافة وما يتعلق بها: أول من سُمِيَّ خليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وأول من سُمِيَّ أميرَ المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
- الوزراء: أول من سُمِيَّ وزيراً في الإسلام أحمد بن سليمان الخلاَّل، وزير السفاح أول خلفاء بين العباس.
- القضاة: أول قاض كان في الإسلام عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه، إلخ.
الضرب الثاني: من النبذ التاريخية التي لا يسع الكاتب جهلُها نوادر الأمور ولطائف الوقائع والماجريات([66]).
العراقة وشرف الآباء: قال الثعالبي: أشرف الأنبياء في النبوة، يعني تواصل الآباء فيها: يوسف بنُ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام؛ وشاهد ما قاله أن النبي صلى الله عليه وسلم، يقول([67]): "الكريمُ ابنُ الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسفُ بنُ يعقوبَ بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن...".
المقصد الثاني: في وجه بيان استعمال الكاتب ذلك في خلال كلامه([68])
"لا يخفى أن الكاتب إذا عرف أحوال المتقدمين وسيرَهم، وأخبارهم، ومن بَرَع منهم، صار عنده علم بما لعله يُسأل عنه، واعتدادٌ لما يرد عليه من ذكر واقعة بعينها، أو يحتجُّ عليه به من صورة قديمة: ليكون على يقين منها، مع ما يحتاج إلى إيراده في خلال مكاتباته ورسائله: من ذكر من حَسُن الاحتجاج بذكره في أمر من الأمور أو حالة من الحالات".
المعيار الرابع عشر: المعرفة بخزائن الكتب، وأنواع العلوم
لقد اهتم الخلفاء والملوك العرب في القديم بخزائن الكتب اهتماماً كبيراً([69])، واقتنوا عدداً ضخماً منها. واعتنوا أيضاً بعلوم الأدب، والشريعة، والطبيعة، والهندسة، والهيئة، والعدد، والعلوم العملية. لأن الكاتب إذا عرف هذه العلوم والفنون، وما صنف فيها من الكتب، أمكنه التصرف فيها في كتابه بذكر علم نبيل لمساواته أو التفضيل عليه، وذكر كتاب مصنف في ذلك حيث تدعو الحاجة إلى ذكره وغيره من الفوائد الجلية.
المعيار الخامس عشر: المعرفة بالأحكام السلطانية
من الأمور المهمة التي يجب على الكاتب معرفتها أن يعرف جملة من الأحكام السلطانية وهي([70]): "كيف يخلص قلمه على حكم الشريعة المطهرة، وما يشترط في كل ولاية من الشروط، فينبه عليها ويقف عندها، وما يلزم ربَّ كل وظيفة من أرباب الوظائف وما يندب له، فيورده في وصاياه... فإذا عرف حكم كل قضية، وما يجب على الكاتب فيها، وفَّاها حقها، وأتى بذكر ما يتعلق بها من الشروط، وجرى في وصايا الولايات بما يناسب كل ولاية منها؛ فجرى الأمر في ذلك على السَّداد، ومشَتْ كتابته فيها على أتم المراد؛ إن كتب بَيْعة، أو عهداً لخليفة، تعرَّض فيه إلى وجوب القيام بأمر الخلافة، ونَصْبِ إمام للناس يقوم بأمرهم، وتعرَّض إلى اجتماع شروط الخلافة في المولَّى، وأنه أحق بها من غيره. ثم إن كانت بيعة نشأت عن موت خليفة، تعرض لذكر الخليفة الميت، وما كان عليه أمره من القيام بأعباء الخلافة، وأنه دَرَجَ بالوفاة، وأن المولَّى استحقها من بعده دون غيره. وإن كانت ناشئة عن خلع خليفة تعرَّض للسبب الموجب لخلعه: من الخروج عن سنَن الطريق، والعدول عن منهج الحق ونحو ذلك مما يوجب الخلع لتصح ولاية الثاني. وإن كان عهداً تعرَّض فيه إلى عهد الخليفة السابق إليه بالخلافة، وأنه أصاب في ذلك الغرضَ، وجرى فيه على سَوَاء الصراط، ونحو ذلك مما يجري هذا المجرى من سائر الولايات...
وهذه فقرة من بيعة أنشأتها توضح ما أشرت إليه من ذلك، فمن ذلك ما قلته فيها مشيراً إلى وجوب القيام بالإمامة:
أما بعد، فإن عقد الإمامة لمن يقوم بها من الأمة واجب بالإجماع، مستند لأقوى دليل تنقطع دون نقضه الأطْماع؛ وتنبو عن سماع ما يخالفه الأسماع .
ومن ذلك ما قلته فيها مشيراً إلى اجتماع شروط الخلافة في المولَّى وهو: وكان فلان أمير المؤمنين، هو الذي جمع شروطها فوفَّاها، وأحاط منها بصفات الكمال واستوفاها؛ ورامت به أدنى مراتبها فبلغت أغياها، وتسوَّر معَاليَهَا فَرقِيَ إلى أعلاها، واتحد بها فكان صورتها ومعناها" إلخ.
المعيار السادس عشر: علامات الترقيم
إن معرفة مواضع علامات الترقيم ضرورية جداً للكاتب، لكي يوظفها في كتاباته، ليعرف فواصل الكلم بعضه من بعض. والعلماء العرب الأوائل بحثوا هذه الظاهرة وأولوها عناية فائقة. ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقطِّع قراءته. لقد ثبت عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ قطَّع قراءته آية آية؛ يقول ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾ ثم يقف. ثم يقول ﴿الحمد لله رب العالمين﴾ ثم يقف. ثم يقول ﴿الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين﴾. رواه أبو داود ساكتاً عليه، والترمذي وأحمد، وأبو عبيدة وغيرهم؛ وهو حديث حسن، وسنده صحيح([71]).
ولقد اهتم الصحابة بهذا الأمر كذلك: "لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يهتمون عند قراءة مسائله مشافهة، ويتعلمونه كما يتعلمون القراءة، أخرج ابن النحاس عن ابن عمر رضي الله عنه، أنه قال: "لقد عشنا برهة من دهرنا، وإن أحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فيتعلم حلالها وحرامها، وأمرها وزجرها، وما ينبغي أن يوقف عنده منها. واستمر السلف الصالح من الصحابة والتابعين، يتناقلون مسائل هذا العلم مشافهة إلى أن جاء عصر التدوين، فبدأ العلماء بالتأليف فيه ([72])".
ولقد كان الكُتَّاب أيضاً يراعون فواصل الكلام في الإنشاء، وأين توضع هذه العلامات صحيحةً، كما يذكر القلقشندي([73]):
"الخط إذا كان متميز الفُصول، وصل معنى كلِّ فصل منه إلى النفس على صورته، وإذا كان متصلاً دعا إلى إعمال الفِكْر في تخليص أغراضه. وقد اختلفت طُرُق الكُتَّاب في فصول الكلام الذي لم يُمَيَّزْ بذكر باب أو فصل ونحوه. فالنُّسَّاخ يجعلون لذلك دائرة تفصل بين الكلامين، وكُتَّابُ الرسائل يجعلون للفواصل بياضاً يكون بين الكلامين؛ من سجع أو فصل كلام، إلا أن بياض فَصْل الكلامين يكون في قدر رأس إبهام، وفصل السجعتين يكون في مقدار رأس خِنْصر".
أضف إلى ذلك ما ذكره الكاتب([74])’: "وينبغي أن لا يذكر الجملة في آخر السطر والتفصيل في أول الذي يتلوه، فإنه تلبيس لاتصال الكلام؛ ولا أن يجعل في أول السطر بياضاً فيقبح بخروجه عن نِسَبِ السطور؛ ولا أن يُفْسِح بين السطر وما بعده فسحاً زائداً عما بين كل سطرين لقبحه أيضاً، ولكن يُراعي ذلك من أول السطر مقدراً الخط بالجمع والمشْق حتى يتخلُصَ من هذا العيب".
توضح هذه النصوص أهمية استخدام علامات الوقف (الترقيم) بين أجزاء الكلام، لمعرفة المعنى التام من عدمه. وتعيين مواضع الفصل والوصل، والوقف والابتداء، وتحديد أغراض الكلام، وأنواع النبرات الصوتية، تحقيقاً للدقة في إدراك القارئ للمعاني، وفهم العبارات.
المعيار السابع عشر: جودة الخط
يعد الخط الحسن من علامات الرزق، وهذه الموهبة لا تعطى لكل الناس، فهي شرف عظيم لمن برز فيها وأجاد. وسئل بعض الكتاب عن الخط، متى يستحق أن يوصف بالجودة؟ فقال([75]): "إذا اعتدلت أقسامه، وطالت ألفهُ ولامهُ، واستقامت سطورُه، وضاهى صعودَه حدورُه، وتَفَتَّحَتْ عيونُه، ولم تشبه راءَه ونونَه، وأشرق قرطاسُه وأظلمت أنقاسُه (المداد)، ولم تختلف أجناسُه، وأسرع إلى العيون تصوُّرُه، وإلى العقول تثمّرُه، وقُدِّرت فصولُه، واندمجت وصولُه، وتناسبَ دقيقُه وجليلُه، وخرج عن نمط الورّاقين، وبعد عن تصنُّع المحرِّرين، وقام لكاتبه مقام النسبة والحلية. كان حينئذ كما قلت في وصف خطّ:
إذا ما تَـجَلَّـلَ قـرطـاسـَه وسـاوره الـقـلـمُ الأرقـشُ
تَـضمَّـن من خـطِّـه حُـلَّةً كنـقـش الدنانـير بل أنـقش
حـروفٌ تُـعيدُ لـعين الكليلِ نشـاطاً ويقـرؤهـا الأخـفش..."
ووصف أحمد بن صالح من جارية خطَّاطة آلات كتابتها؛ فقال([76]):
"كأن خطَّها أشكالُ صورتها، وكأن مدادَها سوادُ شعرها، وكأن قرطاسَها أديمُ وجهها، وكأن قلمَها بعض أناملها، وكأن بيانها سحرُ مقلتها، وكأن سكِّينَها غنجُ لحظها، وكأن مقطَّها قلب عاشقها".
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "الخط الحسن يزيد الحق وضوحاً".
المعيار الثامن عشر: العنوانات
لقد اهتم العلماء العرب بهذه المسألة اهتماماً كبيراً، لما لها من أهمية بالغة في كيفية توجيه الكتاب إلى الآخرين، ومعرفة مقام كل شخص منهم. وها هو النحاس([77]) ذكر ذلك بشكل مفصل في كتابه. حيث قال: ‘يروى أن أول من كتب من الخلفاء "من عَبْدِ اللهِ فلان بن فلان" عُمَرَ بن الخطاب رضي الله عنه، وكتب المأمونُ في أول عُنواناته: بسم الله الرحمن الرحيم: فاستمر الأمر على ذلك إلى هذا الوقت’.
أمثلة على عناوين الكتب([78]):
باب العنوان من الرئيس إلى المرؤوس
فأول ما يكتب به من الأمام:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبدِ اللهِ أحمد / أو/ باسمه، وإن شئت: من عبدِ اللهِ أبي العباس الإمام الراضي بالله أميرَ المؤمنين إلى فلان بن فلان: سلامٌ عليكَ، فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسألهُ أن يصلي على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا فصل
ثم يقال: أما بعدُ؛ فإن كذا وكذا، ويُؤتى على المعنى.
فإذا فرغ من ذلك، وأراد أن يأمر بأمر كتب على فصل:
قد أمر أمير المؤمنين ورأي أن يكتب إليك فتؤمرَ بامتثال ما أمر به. والعمل بحسبه.
ثم يقال بعد ذلك بفصل: واعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين، واعمل به إن شاء الله.
ويمكن أيضاً
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبدِ اللهِ الإمام ِ الراضي بالله أمير المؤمنين/ هذا في الجانب الأيمن، وفي الجانب الأيسر: إلى: فلان بن فلان.
ثم الكتاب من ولي العهد، وتُحذف منه كلمة "الإمام" و "أمير المؤمنين" ويقول: من ولي العهد، ثم من الوزير، على حسب الطبقات.
باب عنوانات النظراء: تعنون كُتُبُهم على حسب منازلهم وتقاربهم. مثلاً: جعلني اللهُ فداك، أعزه اللهُ، إلخ.
باب عنوان كتاب المرؤوس إلى الرئيس يكتب إلى الإمام " لعبدِ اللهِ أبي العباس الإمام الراضي بالله أمير المؤمنين" في الجانب الأيمن؛ "من فلان بن فلان" في الجانب الأيسر، وإلى الوزير كذلك، وولي العهد كذلك.
ولمن أراد المزيد، عليه بالرجوع إلى ذلك الكتاب، فإن فيه ما يغني عن المسألة.
ثالثاً: الكتابة الصوتية والعروضية
ما ترك الأول للآخر شيئاً. فالعلماء العرب القدامى بحثوا هذه الظاهرة المهمة منذ أيام الخليل بن أحمد الفراهيدي رحمه الله في علم العروض. لا كما يذكر محمود: "... سعى اللغويون منذ القرن السادس عشر حتى نهاية القرن التاسع عشر لإيجاد أبجدية صوتية خالية من العيوب بقدر الإمكان، وتلبي حاجات الدارسين لتحليل مختلف اللغات واللهجات، حتى أقرت الجمعية الدولية للدراسات الصوتية آخر أبجدية صوتية دولية، بعد تعديلات مختلفة عليها([79])".
وها هو القلقشندي([80]) يناقش هذه الظاهرة بشكل مستفيض في باب الهجاء. حيث يقول:
"المصطلح الرسمي: وهو ما اصطلح عليه الصحابة رضوان الله عليهم في كتابة المصحف عند جمع القرآن الكريم، على ما كتبه زيد بن ثابت رضي الله عنه، ويسمى الاصطلاح السلفي أيضاً.
المصطلح العروضي: هو ما اصطلح عليه أهل العَرُوض في تقطيع الشعر؛ واعتمادهم في ذلك على ما يقع في السمع دون المعنى، إذ المعتدّ به في صنعة العَرُوض إنما هو اللفظ، لأنهم يريدون به عدد الحروف التي يقوم بها الوزن متحركاً وساكناً، فيكتبون التنوين نوناً، ولا يُراعون حذفها في الوقف، ويكتبون الحرف المدغم بحرفين، ويحذفون اللام وغيره مما يدغم في الحرف الذي بعده: كالرحمن، والذاهب، والضارب، ويعتمدون في الحروف على أجزاء التفعيل، فقد تتقطع الكلمة بحسب ما يقع من تبيين الأجزاء كما في قول الشاعر:
سَتُبْدِي لَكَ الأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلاً وَيَأْتِيْكَ بِالأَخبارِ مَنْ لم تُزَوِّدِ
فيكتبون على هذه الصورة:
سَتُبْدي، لَكَلأْيْيَا، مُمَاكُنْ، تَجَاهِلَنْ وَيَأْتِي، كَبلأَخْبَارِ، مَلَّمْ، تُزَوِّدِي
واعلم أن الأصل في الكتابة مطابقة المنطوق المفهومَ، وقد يزيدون في وزن الكلمة ما ليس في وزنها، ليفصلوا بالزيادة بينه وبين المشبِه له، وينقصون من الكلمة عما هو في وزنها استخفافاً واستغناءً بما أبقى عما انتقص، إذا كان فيه دليل على ما يحذفون: كما أن العرب تتصرف في الكلمة بالزيادة والنقصان، ويحذفون ما لا يتم الكلام في الحقيقة إلا به استخفافاً وإيجازاً، إذا عرف المخاطب ما يقصدون".
ولقد جارى اللغويون العرب في العصر الحديث، علماء اللغة في أوربا في الحديث عن هذه الظاهرة، التي تسمى الكتابة الصوتية. وها هو محمود يثير هذا السؤال([81]):
"هل هناك كتابة صوتية وأخرى غير صوتية؟ والجواب: نعم.
هناك كتابة صوتية تحاول أن ترمز إلى الأصوات المنطوقة في اللغة. وهناك كتابة تصويرية ترمز إلى المعنى الذي قد تعبر عنه الأصوات المنطوقة، وذلك بأن تحاول نقل هذا المعنى بالرسم.
وقد عرف الإنسان الكتابة التصويرية أولا، ثم توصل إلى الكتابة الصوتية التي أخذت عنده شكل الكتابة المقطعية أول الأمر، ثم عرف الإنسان بعد ذلك الكتابة الهجائية العادية، والفرق بين النوعين واضح، وهو أن الرمز المكتوب يشير إلى صوتين فأكثر في الكتابة المقطعية، في حين يشير الرمز المكتوب في الكتابة الهجائية العادية إلى صوت واحد في الأغلب الأعم، لكن النوعين يمكننا أن نسميهما كتابة صوتية، في مقابل النوع الأول الذي نسميه كتابة تصويرية؛ لأنه يصور المعنى ولا يرمز إلى الأصوات.
الكتابة العادية: هي الأبجديات (الألفبائيات) التي عرفتها البشرية بعد أن طوَّر الفينيقيون الكتابة المصرية المقطعية إلى الكتابة الأبجدية الهجائية (أبجد هوز حطي كلمن...الخ).
ومن أمثلتها الآن الأبجدية أو(الألفبائية) العربية، والإنجليزية، والفرنسية، والتركية...إلخ.
أما الكتابة الصوتية: في اصطلاحنا الآن فهي تلك الأبجديات أو الألفبائيات التي اخترعها، أو انتقاها بعض اللغويين للتخلص من العيوب الظاهرة في الأبجديات العادية، وللاستعانة بها في دراساتهم وتحليلاتهم اللغوية.
لقد لوحظ أن جميع الأبجديات أو (الألفبائيات) المستعملة في نظم الكتابة العادية أبجديات معيبة وناقصة، ولذا فكر علماء اللغة في وضع أبجديات أطلق عليها الأبجديات الصوتية، هدفها تجنب عيوب الأبجديات المستعملة وتسجيل الكلام تسجيلاً صوتياً، أو على حد تعبير دي سوسير تمثيل الأصوات المنطوقة بكل دقة([82])".
لقد ذكر القلقشندي هذه القضايا في حديثه عن المصطلح الرسمي، أو ما يعرف بالكتابة العادية، والمصطلح العروضي أو ما يعرف بالكتابة الصوتية، والمصطلح العام تحت باب الهجاء. ولمن أراد المزيد، فعليه بالرجوع إلى ذلك المصدر، ومقارنة ذلك مع ما ذكره محمود([83]) وغيره في هذا المجال.
ولقد علّق بعض محكمي هذا البحث على هذه القضية بقوله: "الكتابة العروضية والصوتية تعنيان بالمنطوق. والكتابة العروضية كتابة تعليمية، ومجالها الشعر، ووحدتها التفعيلة، والكتابة الصوتية مجالها أوسع، ووحدتها المقطع، وهي أبجدية صوتية عالمية، تكتب بها جميع اللغات وأصواتها، فضلاً عما بينهما من فروق في كتابة المصوِّتات الطويلة (حروف المد)، والقصيرة (الحركات)". وعلى الرغم من وجاهة هذا الرأي، إلا أننا نرى أن الفكرة في كتابة هذه اللغات كتابة صوتية إنما هي مستوحاة من فكرة العروض التي تميل إلى تقطيع البيت الشعري إلى وحدات تعتمد على التفعيلة، وهذه الوحدات أو التفعيلة تعتمد كذلك على المقاطع لمعرفة بداية التفعيلة ونهايتها، وخاصة أن التفعيلة أحياناً تكون مجزوءة صغيرة كالمقطع، فالعبرة في الفكرة لا في نظام العمل هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، الكتابة العروضية هي الأسبق، ومن ثم ارتكزت الكتابة الصوتية عليها في كثير من الأمور وخاصة التقطيع المقطعي، لأنها في النتيجة تعتمد على التقسيم كما هو في الطريقة العروضية التي تعلم تقطيع البيت الشعري إلى كلمات ومقاطع كي يسهل تعلمها، وفائدتها أنها تسهل تعليم اللغة وبخاصة الكلمات الطويلة التي يصعب نطقها من قبل المتعلمين، وتقطعها إلى مقاطع صغيرة كي يسهل نطق الأصوات والكلمات نطقاً صحيحاً.
الخاتمة:
بيَّن اللغويون العرب القدامى معايير الجودة في الكتابة العربية، وناقشوها. ووضَّحوا ما يجب على الكاتب المعتبر أن يفعله في هذا الميدان، عندما يمارس هذه المهنة النبيلة السامية. كما أن معايير العلماء القدامى تتسم بالموسوعية والشمولية، لتصبح لدى الكاتب فكرة عامة عن موضوع الكتابة. أما المعايير الحديثة في تعليم الكتابة([84])؛ فهي معايير ناقصة وجزئية إذا ما قورنت بالمعايير التراثية التي أماط عنها اللثام جهابذة هذا الفن. كما أن المعايير الحديثة يلاحظ عليها أن تهتم بمعيار اللغة (الهجاء، والترقيم وغيرهما) اهتماماً كبيراً، وتهمل المعايير الأخرى التي ذكرناها في أثناء الشرح. فمن ذلك مثلاً ما ذكره خصاونة عن صبحي وقطامي وعبد الحميد ([85]) أن هناك مجموعة معايير لابد من توافرها في الكتابة الإبداعية، منها: "احتواء الكتابة الإبداعية على أفكار تتصف بالجدة والعمق والمرونة في توظيف الخيال وسعته، وحل المشكلات المطروحة، ثم تحقيق إنتاج له قيمة اجتماعية. ولا بد من تميز الكتابة بالأصالة عند مقارنتها بالكتابات السابقة، سواء أكان ذلك بالأسلوب التعبيري، أم بطريقة حل المشكلة، وامتلاك القدرة على توظيف التراكيب اللغوية بيسر ودون أخطاء تذكر، وتوظيف عناصر الموضوع وإخراجها في بناء متكامل من خلال الكتابة في موضوعات تتصف بالجدة، وتجنب الموضوعات التقليدية: المناسبات الدينية، والوطنية..." وبالله التوفيق.
المصـادر:
- الآثاري، أبو سعيد زين الدين شعبان بن محمد القرشي، 1998م، الوجه الجميل في علم الخليل "ألفية في العروض والقوافي"، حققها، هلال ناجي، الطبعة الأولى، بيروت، عالم الكتب.
- ابن الأثير، 1377هـ، أسد الغابة في معرفة الصحابة، بيروت، دار إحياء التراث العربي.
- ابن الأثير الجزري، ضياء الدين نصر الله بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم، 1998م، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، حققه وعلق عليه، كامل محمد محمد عويضة، الطبعة الأولى، بيروت، دار الكتب العلمية.
- الأصفهاني، حمزة بن الحسن، 1992م، التنبيه على حدوث التصحيف، حققه، محمد أسعد طلس، راجعه، أسماء الحمصي، و عبد المعين الملوحي، الطبعة الثانية، بيروت، دار صادر.
- باشا، أحمد زكي، 1912م، الترقيم وعلاماته في اللغة العربية، الطبعة الأولى، المطبعة الأميرية بمصر، نشر مكتب التوعية الإسلامية لإحياء التراث الإسلامي بمصر.
- البيطار، عبد الرراق حسن بن إبراهيم بن حسن، 1993م، حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر، حققه ونسقه وعلق عليه، محمد بهجت البيطار، الطبعة الثانية، بيروت، دار صادر.
- الترمذي، محمد بن عيسى بن سورة، 1417هـ، سنن الترمذي. حكم على أحاديثه وآثاره وعلق عليه، محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، الرياض، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع.
- الثعالبي، أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل، 2004م، فقه اللغة وأسرار العربية، ضبطه وعلق حواشيه وقدم له ووضع فهارسه، ياسين الأيوبي، صيدا-بيروت، المكتبة العصرية.
- الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر، 1998م، البيان والتبيين، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، الطبعة السابعة، مكتبة الخانجي بالقاهرة.
- جاسم، جاسم علي، 2009م، "علم اللغة النفسي عند قدامى اللغويين العرب"، مجلة العربية للناطقين بغيرها، معهد اللغة العربية في جامعة إفريقيا العالمية، الخرطوم، السودان، العدد السابع، السنة السادسة. ص ص 52-57.
- جاسم، جاسم على، 2011م، "الجودة في التراث العربي: الخط العربي مثالاً"، مجلة فيصل الثقافية، العددان 421- 422. ص ص 44-55.
- ابن الجزري، أبو الخير محمد بن محمد، 2002م، النشر في القراءات العشر، قدَّم له، علي محمد الضباع، خرّج آياته، زكريا عميرات، الطبعة الثانية، بيروت، دار الكتب العلمية.
- الحاكم، أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن محمد، 1997م، المستدرك على الصحيحين، الطبعة الأولى، دار الحرمين للطباعة والنشر والتوزيع.
- الحلبي، شهاب الدين أبي الثناء محمود بن سليمان الحلبي الحنفي، 1398هـ، كتاب حسن التوسل إلى صناعة الترسل، طبع بالمطبعة الوهبية بمصر.
- ابن حنبل، أحمد، مسند الإمام أحمد بن حنبل، دار الفكر.
- خصاونة، رعد مصطفى، 2008م، أسس تعليم الكتابة الإبداعية، عمان، جدارا للكتاب العالمي، إربد، عالم الكتب الحديث.
- الخولي، محمد علي، 1989م، أساليب تدريس اللغة العربية. الطبعة الثالثة، الرياض، مطابع الفرزدق التجارية.
- الداني، أبو عمرو عثمان بن سعيد، 1987م، المكتفى في الوقف والابتدا في كتاب الله عز وجل، دراسة وتحقيق، يوسف عبد الرحمن المرعشلي، الطبعة الثانية، بيروت، مؤسسة الرسالة.
- الشريشي، أبو إسحاق إبراهيم بن أبي الحسن على بن أحمد بن علي الفهري، 2004م، كنز الكتاب ومنتخب الآداب، تحقيق ودراسة، حياة قارة، أبو ظبي، المجمع الثقافي.
- الشهري، سالم بن رافع بن سالم، 1427هـ، تقويمالتعبيرالكتابيلتلاميذالصفالثالث الثانويالأدبيببعضدولمجلسالتعاون الخليجيفيضوءمعاييرالكتابةالعربية "دراسةمقارنة"، بحثتكميليمقدمإلىقسمالمناهجوطرقالتدريسفيكليةالتربيةبجامعةأمالقرى بمكة المكرمة.
- صبحي، تيسير، وقطامي، يوسف، 1992م، مقدمة في الموهبة والإبداع، الطبعة الأولى، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
- الصولي، أبو بكر محمد بن يحيى بن عبدالله، 1994م، أدب الكُتَّاب، شرح وتعليق، أحمد حسن بسج، الطبعة الأولى، بيروت، دار الكتب العلمية.
- الطبراني، سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير، 1428هـ، المعجم الأوسط، بيروت، دار الكتب العلمية.
- _____، 1428هـ، المعجم الكبير، بيروت، دار الكتب العلمية.
- عبد الحميد، عبد الله، 1996م، تنمية مهارات التلخيص لدى طلاب (دراسة تجريبية)، مجلة دراسات في المناهج وطرق التدريس، ع35، كلية التربية بطنطا.
- ابن عبد ربه، أحمد بن محمد، 1983م، العقد الفريد، تحقيق، عبد المجيد الترحيبي، الطبعة الأولى، بيروت، دار الكتب العلمية.
- العسكري، أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل، 1966م، الأوائل، حققه وعلق عليه، محمد السيد الوكيل، الناشر، السيد أسعد طرابزرني الحسيني.
- _____، 1989م، كتاب الصناعتين الكتابة والشعر، حققه وضبط نصه، مفيد قميحة، الطبعة الثانية، بيروت، دار الكتب العلمية.
- عمر، أحمد مختار،1991م، دراسة الصوت اللغوي، القاهرة، عالم الكتب.
- العُمري، أبو العباس شهاب الدين أحمد بن يحيى بن فضل الله، 1988م، التعريف بالمصطلح الشريف، عني بتحقيقه وضبطه وتعليق حواشيه، محمد حسين شمس الدين، الطبعة الأولى، بيروت، دار الكتب العلمية.
- ابن قتيبة، أبو محمد عبدالله بن مسلم، 1986م، أدب الكاتب، حققه وعلق حواشيه ووضع فهارسه، محمد الدالي، الطبعة الثانية، بيروت، مؤسسة الرسالة.
- القلقشندي، أبو العباس أحمد، 1922م، صبح الأعشى في كتابة الإنشا، الطبعة بدون، القاهرة، دار الكتب المصرية.
- الكاتب، علي بن خلف، 2003م، مواد البيان، تحقيق، حاتم صالح الضامن، الطبعة الأول، مركز جمعة الماجد، دمشق، دار البشائر للطباعة والنشر.
- محمود، محمد أحمد، 2003م، علم الأصوات، الطبعة الأولى، الرياض، دار إشبيليا للنشر والتوزيع.
- مؤسسة CFBT لصالح هيئة التعليم، المجلس الأعلى للتعليم، 2004م، معايير المناهج التعليمية لدولة قطر، اللغة العربية: صف الروضة حتى الصف الثاني عشر.
- الميداني، أبو الفضل أحمد بن محمد بن إبراهيم الميداني، د.ت، مجمع الأمثال، بيروت، دار المعرفة.
- النحاس، أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل، 2004م، عمدة الكُتَّاب، عناية، بسام عبد الوهاب الجابي، الطبعة الأولى، بيروت، دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع.
- النويري، شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب، د.ت، نهاية الأرب في فنون الأدب، لا طبعة، القاهرة، مطابع كوستاتسوماس وشركاه.
- وزارة التربية والتعليم، 2003م، المستويات المعيارية لمادة اللغة العربية الصف الأول – الثاني عشر، مشروع إعداد المعايير القومية، لجنة المنهج ونواتج التعلم، جمهورية مصر العربية.
- Jassem, Jassem Ali. 2000. Study on second language learners of Arabic: An error analysis approach. Kuala Lumpur: A. S. Noordeen.
8- الكاتب، مواد البيان، ص 27. / القلقشندي، صبح الأعشى في كتابة الإنشا، ج1، ص39-40./ الصولي، أدب الكُتَّاب،11-16. / النويري، نهاية الأرب في فنون الأدب، ج7، ص1 وما بعدها.
[72]- الداني، المكتفى في الوقف والابتدا في كتاب الله عز وجل، ص49.
[73]- القلقشندي، ج3، ص149-150. / للمزيد انظر: باشا، الترقيم وعلاماته في اللغة العربية، ص 10.
[74]- الكاتب، مواد البيان، ص 320-321. / للمزيد انظر: القلقشندي، ج3، ص149-150./ باشا، المرجع نفسه، ص 10-12.
[75]- الصولي، ص 73.
[76]- الأصفهاني، ص45-46. / النويري، ج7، ص14 وما بعدها.
84- الخولي، أساليب تدريس اللغة العربية، انظر فصل، مهارة الكتابة. وانظر أيضاً؛
- الشهري، تقويمالتعبيرالكتابيلتلاميذالصفالثالث الثانويالأدبيببعضدولمجلسالتعاون الخليجيفيضوءمعاييرالكتابةالعربية "دراسةمقارنة".
- مؤسسة CFBT لصالح هيئة التعليم، معايير المناهج التعليمية لدولة قطر: اللغة العربية: صف الروضة حتى الصف الثاني عشر.
- وزارة التربية والتعليم، المستويات المعيارية لمادة اللغة العربية الصف الأول – الثاني عشر.
85- خصاونة، أسس تعليم الكتابة الإبداعية، ص62. / صبحي، تيسير، وقطامي، يوسف، مقدمة في الموهبة والإبداع. / عبد الحميد، عبد الله، تنمية مهارات التلخيص لدى طلاب (دراسة تجريبية).
- Jassem, J. A. 2000. Study on second language learners of Arabic: An error analysis approach. Kuala Lumpur: A. S. Noordeen. Ch.7.
---------------------------------------
صناعة الكتابة ومعايير الجودة عند علماء العرب القدامى
الأستاذ الدكتور : جاسم علي جاسم
معهد تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، السعودية
بحث محكم نُشر في مجلة الدراسات اللغوية، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، المجلد الرابع عشر، العدد الثالث، 1433هـ، 2012م. الصفحات: 225-261.