-1-
أورد (الزمخشري)، في «أساس بلاغته»(1): «هو من النَّبَط والنَّبيط والأنباط، وهو نَبَطِيٌّ ونِباطيٌّ وأنباطيٌّ. وقال خالد بن الوليد لعبدالمسيح بن بقيلة: أعَرَبٌ أنتم أم نَبيطٌ؟ فقال: عَرَبٌ استَنبَطنا ونَبيط استَعرَبنا. ومنه قول أبي العلاء المعرِّي:
أيـن امرؤ القـــيس والعــذارَى ** إذْ مالَ مِن تحتِهِ الغَبيطُ
استَنبَطَ العُرْبُ في المَوامِي ** بَعدَكَ واستَعرَبَ النَّبِيْطُ!»
فقد كانت صفة «نَبَطِيّ»- بحسب العنصريَّة العربيَّة- صفة قَدحٍ، لا مدح. إلَّا أن ما كان قَدحًا وثَلبًا وهَجوًا بالأمس العربي أصبح اليوم مدحًا ومجدًا وفخرًا! بل أصبح التعرُّض له بالنقد أو التقويم محلَّ استنكافٍ من أربابه، وتمعُّر وجوهٍ من أحبابه، ومثار ثورةٍ نَبَطيَّة شعواء، غيرةً على المساس بهذا المجد التليد!
وكأني بتلك الصِّفة لذلك الشِّعر بـ«النَّبَطي» ما جاءت قديمًا إلَّا إشارة إلى هُجنته، وعدم فصاحته، بل رطانته، كرطانة النَّبيط، التي لا يفهمها إلَّا أهلها. فما خالف لسان العرب، وأشبه رطانة النَّبيط- الذين لعلَّهم كانوا أوَّل الملتوية ألسنتهم عن اللسان العربي لمجاورتهم الأعاجم، في العراق والشام- فما أشبه كلامهم من الكلام سمَّاه العرب حَكْيًا نَبَطيًّا، أيًّا ما كان قائلوه أو كانت ديارهم. ومن ثَمَّ سُمِّي نَبطيًّا؛ لأنه بلسانٍ ذي عِوَج، وغير عربيٍّ مبين، لا يفهمه إلَّا أبناؤه، من ذوي لهجته المحكيَّة التي صيغ فيها. وربما كان لونًا شِعريًا متوارثًا قديمًا جدًّا، لم يُدوَّن، ولم يُلتفت إليه؛ لانحراف عربيَّته. وسُمِّي بذلك الاسم لأنه عتيقٌ بالٍ، أَكَلَ الدهر عليه وشَرِب، فلم يَعُد يستسيغه العرب. وكأنه من شِعر أصحاب الحِجر، وأنباط تلك الديار الأقدمين، من قوم ثمود. ثم دارت الأيّام، حتى احتلَّ في العقود المتأخِّرة مكانة الشِّعر العربي الفصيح لدى سواد الناس الكبير في قلب جزيرة العرب، وصار مفخرة أبناء الجزيرة الشِّعريَّة!(2) ولئن كان النَّبَط عَرَبًا من العَرَب البائدة، فقد ظلُّوا، لموقعهم في أقاصي الجزيرة، مـتاثِّرين بالشعوب المجاورة، وكانوا عقديًّا وثقافيًّا بين يهودٍ ونصارى ووثنيِّين. وهو ما صوَّره (يوسف زيدان)، في روايته «النَّبَطي»، من خلال شخصيَّات الإخوة الثلاثة: الهوديّ (اليهودي)، وسلُّومة (النصراني)، والنَّبَطي (المتنبئ الحائر)، وأُمّهم (أُمّ البنين) الوثنيَّة، التي تعبد الربَّة (اللات). لأجل ذلك وغيره كان عَرَب الجزيرة، في الحجاز ونجد وجنوب الجزيرة، يستنكفون منهم، وينظرون إليهم تلك النظرة التي عبَّرت عنها النماذج الشِّعريَّة التي ذكرنا شوهدها في المقال السابق.
ومهما يكن من شيء، فإن صفة «نَبَطِيّ» كانت صفة منقصة أصلًا، وكانت عيبًا لدى العرب، ولاسيما حينما تقترن باللسان؛ واللسان لدى العربي كان سيفه، وكان مقوِّمًا من مقوِّمات كرامته، وجزءًا من انتماء أصله ونَسَبه، ثم استنوق الجمل واستنبط العرب.. فسبحان من يُغيِّر ولا يتغيَّر! وما ذلك إلَّا لعبادة الموروث، مهما انحرف وانحطّ أو فسد، وتمجيد ما خلَّف الآباء، وإنْ كانوا «لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُون»!
-2-
أما وإن لسان العرب قد تطوَّر، وتطوَّرت قواعده، ومن النكوص والتراجع والتقهقر العودة إلى بدايات وبدائيَّات من حِقَب ذلك التطوُّر الطويل. حتى إنك لو رجعت إلى اللغة العربيَّة في صدر الإسلام لعثرت على طَوْرٍ من الخطِّ، مثلًا، والإملاء والقواعد اللغويَّة اندثرت في ما بعد، أو أصبحت من متروك الاستعمال، بعد أن تطوَّرت الكتابة وقُعِّدت القواعد. بل إن من تلك الطرائق في الكتابة والنحو ما جاء في القرآن الكريم، ممَّا يمثِّل طَوْرًا من أطوار العربيَّة، لم يَعُد مقبولًا استعماله. ومن آيات ذلك أن تلحظ مثلًا في ما عُثِر عليه من كتابات صدر الإسلام أن إعراب الأسماء الخمسة لم يكن ملتزَمًا به في كلّ الأحوال، فـ«أبو» تَرِد تارةً بالواو وتارةً بالألف وتارةً بالياء، في غير مواضعها الإعرابيَّة المقعَّدة. شاهد ذلك ما كَشَفَ عنه (محمَّد بن حميدالله) من كتابات على جبل سلع، المجاور للمدينة المنوَّرة، والمرجَّح أنه بخط (علي بن أبي طالب) و(عمر بن الخطّاب)، وأنه كُتِب في السنة الربعة للهجرة، أيَّام غزوة الخندق، حيث يَرِد فيه: «أنا علي بن أبو طالب»! وفي نقش آخر: «أمسَى وأصبح عمر وأبي بكر يتوبان إلى الله من كلّ ما يكره»!(3) ومثل هذا يُعَدُّ خطأً نحويًّا فاحشًا اليوم. كما أورد (ابن فضل الله العمري، -749هـ)(4)- ممَّا يَدلّ على ما كانت عليه العربيَّة في الصدر الأول للإسلام قبل تقعيد القواعد- ما يلي، في وصف زيارة (الخليل) الإبراهيمي، والعهد الذي كتبه رسول الله إلى تميم الداري: «... فلمَّا قضينا من الزيارة الأرَب، وهزَّتنا من النوبة الخليليَّة الطرَب، بعثتُ وراء الصاحب ناصر الدِّين أبي عبدالله محمَّد بن الخليليّ التميميّ الداريّ. وهو بقيَّة هذا البيت الجليل، والمُنتهي إليه النظر على وقف الحبيب سيِّدنا محمَّد، صلى الله عليه وسلم، وبلد أبيه إبراهيم الخليل. والتمسنا منه إحضار الكتاب الشريف النبويّ المكتتب لهم بهذه النَّطِيَّة، والمُشرِّف لهم به على سائر البريَّة. فأنعم بإجابة الملتَمَس، وجاء به أقرب من رَجْعِ النَّفَس. وهو في خِرقة سوداء من مُلْحَم قُطنٍ وحَرير، من كُمِّ الحسن أبي محمَّد المستضيء بالله أمير المؤمنين، وبِطانتها من كَتَّان أبيض على تقدير كُلِّ إصبع منه ميلان أسودان، مشقوقان بميل أبيض، جُعِل ضمن أكياس يَضُمُّها صُندوق من آبنوس، يُلَفُّ في خِرقة من حَرير. والكتاب الشريف في حِزْقَة من خُفٍّ من أَدَم، أظنُّها من ظَهر القَدَم. وقد مَوَّه سوادُ الجِلد على الخطِّ، لا أنَّه أذهبه، وما أخفَى من يَدِ كاتبه المشرَّفة ما كتبه. وهو بالخطِّ الكوفيّ المَليح القويّ. فقبَّلنا تلك الآثار، وتمتَّعنا منه بمَدَد الأنوار. ومعه ورقة كتبها المستضيء بنصِّه شاهدة لهم بمضمونه، ومزيلة لشَكِّ الشَّاكِّ المُريب وظنونه. ومضمون ما كتب كهيئته وسطوره: «نسخة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه لتميم الداريّ وإخوته في سنة تسعٍ من الهجرة بعد منصَرَفه من غزوة تبوك في أَدَم من خف أمير المؤمنين عليٍّ وبخَطِّه، نسخته كهيئته:
«بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أنطَى محمَّد رسول الله، لتميم الداريّ، وإخوته، حبرونَ، والمرطومَ، وبيت عَيْنون، وبيت إبراهيم، وما فيهنَّ، نَطِيَّةَ بَتٍّ بذِمَّتهم، ونَفَّذْتُ وسَلَّمْتُ ذلك لهم ولأعقابهم؛ فمَن آذاهم آذاه الله، فمَن آذاهم لعنه الله! شَهِدَ عتيق بن أبو قحافة، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وكتب عليّ بن بو طالب وشَهِدَ».»
وقد أثارت قواعد هذا النص استغراب العمري، فأردف بقوله: «هذه نسخة الكتاب الشريف. و«أبو قحافة»: ألف وباء وواو، ثم «قحافة»، و«بو طالب»: باء وواو، ثم «طالب». وليس في «بو» ألف. بُيِّن ذلك ليُعرف. و«كتب» في ذِكر عليٍّ رضي الله عنه مُقَدَّمة، و«شَهِدَ» مُؤَخَّرة. بُيِّن ذلك أيضا ليُعرف. وقد رأيت ذلك كُلّه بعيني، ومن خَطِّ المستضيء نقلت. وهو خَطُّه المعروف المألوف. وقد رأيته وأعرفه معرفةً لا أشكُّ فيها ولا أرتاب. وقرأتُه من الكِتاب النبوي نفسه. وهو موافِقٌ لما كَتَبَه المستضيءُ، نقلًا منه، على أن آثاره كادت لتعفَّى، وتحتجب عن الناس لفساد الزمان وتتخفَّى.»(5)
هكذا نقل إلينا (ابن فضل الله العمري) تلك الوثيقة الخطِّيَّة، وبَيَّن نَصَّها بدقَّة «ليُعرَف»- كما ذَكَر- ولكي يُستدلّ بها في دراسة تاريخ اللغة العربيَّة. فهي دالَّة على بعض ملامح اللغة العربيَّة إبَّان تلك المرحلة قبل التقعيد، وأن القواعد التي وضعها النُّحاة لم تكن مطَّردة في لسان العرب كُلَّ الاطِّراد، ولكن لعلَّها كانت الغالبة في الاستعمال على لغة الحجاز ووسط الجزيرة.
عليه، فإن من العبث التراجع إلى أطوار مندثرة في تاريخ التطوُّر اللغوي، مهما ازدانت الأسباب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أساس البلاغة، (نبط).
(2) اطَّلعت بعد هذا الرأي على رأي شبيه لـ(عبدالله بن خميس)، في كتابه «الأدب الشعبي في جزيرة العرب»، (1958). وكان من أشهر الحفيِّين بهذا الشِّعر. ولئن كان قد عبَّر عن عدم الرضى عن هذا الوصف، ممَّا دفعه- رحمه الله- إلى تفضيل مصطلح «الشِّعر الشعبي»، فما يُغيِّر ذلك من واقع الأمر شيئًا، لا من حيث هُجنة ذلك الشِّعر اللغويَّة، ولا من وَسْمه بتلك الصفة الدالَّة على موقفٍ سالفٍ للعرب من هذا النمط اللغوي الخارج على العربيَّة، وإنما هو موقف أُريد تبديله في العصر الحديث، ولو بتغيير التسمية. وما تُغني التسميات عن الحقائق شيئًا.
(3) انظر: المنجد، صلاح الدِّين، (1979)، دراسات في تاريخ الخط العربي منذ بدايته حتى نهاية العصر الأموي، (بيروت: دار الكتب الجديد)، 29- 31.
(4) (2003)، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، تح. عبدالله بن يحيى السريحي (أبو ظبي: المجمع الثقافي)، 1: 225- 226.
(5) م.ن، 1: 227.
-[الكاتب: أ.د/عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «استنبَطَ العُرْبُ في الموامي!»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، العدد 12428، الخميس 11 يوليو 2013، ص45]، على الروابط:
http://www.alraimedia.com/Article.aspx?id=450079&date=11072013 http://www.alraimedia.com/Resources/PdfPages/AlRAI/8DDC617E-D1BA-4CB8-9217-857D3A56FE16/P45.pdf