كان النحوي العربي لا يهتمُّ بصِحَّة الرواية، وإنما يهتمّ بصِحَّة الاحتجاج بعربيَّة مَن سُمِع منه النصّ، وإنْ كان منتحِلًا، أو ناحِلًا، أو ربما مجنونًا. لأنها أمور لا تطعن في سلامة اللغة، من حيث هي. إن شاهد النحويّ منظور فيه إلى (حُجِّيَّة القائل- أو الناقل- النحويَّة)، لا إلى (صحَّة نسبته الشاهد إلى الشاعر المعيَّن). ومن ثَمَّ فإنه لا يَصِحُّ أن يُحتجَّ باستشهادات سيبويه، مثلًا، على صحَّة نسبة الأبيات التي يستشهد بها سيبويه إلى الشعراء المنسوبة إليهم لديه، من جاهليِّين أو إسلاميِّين. لأنه لا يَعنيه أن يكون القائل الشنفرَى، على سبيل المثال، أو الأعشى، أو النابغة، أو امرأ القيس، أو أعرابيًّا كاذبًا، أو حتى مجنونًا؛ بما أن مدار اهتمامه منصبٌّ على سلامة نِسْبَة الشاهد إلى عربيٍّ حُجَّةٍ في عربيَّته، لا على سلامة نِسْبَة الشاهد إلى قائله الحقيقي، أو على أخذ الشاهد عن الراوي الحُجَّة في روايته، بالضرورة.
ولمَّا كان النحوي إنما يتحرَّى الحُجِّيَّة النحويَّة في الناطق بالشاهد، ولمَّا كان لا يلتفت إلى ما جاء عن غير حُجَّة نحويًّا- وَفق مقاييس احتجاجه الزمانيَّة والمكانيَّة- ولمَّا كانت بضاعة النحوي المطلوبة قد اشتهرت بين الرواة، وكان في هؤلاء الرواة الكَذَبَةُ والمتكسِّبون بالرواية، كان من المحتمل- والحالة تلك- وقوع أمرين:
1- إهمال عربيَّةٍ وافرةٍ، لا مطعن فيها، سوى عدم انطباق شروط النُّحاة عليها.
2- مع حِرص النُّحاة، لم يكن ما استشهدوا به ليَخْلو من الفساد اللغوي؛ لأن الراوي المتكسِّب، المتاجِر بالرواية، مثلما كان مستعِدًّا للكذب في الرواية، ربما كان مستعِدًّا أيضًا لتحريف الكَلِم عن مواضعه، من أجل أن يُدهِش الباحثَ عن الغرائب والنوادر، من جهة، أو لكي لا يروي من اللغة إلّا ما وافق قواعد النُّحاة، من جهة أخرى؛ حاجبًا ما عداه، وإنْ كان يعرفه مستعمَلًا عن عربٍ أقحاح.
وبذا جرى تنميط العربيَّة وَفق قواعد ذهنيَّة؛ ما خالفها نُفيتْ صحَّته من العربيَّة، وما وافقها رُسِّخ فيها وخُلِّد ذِكره. ولئن كان ذلك المنهاج قد أَدَّى إلى استقامة عِلْم النحو، وضَبْط أنساقه، فإنه على المستوى اللغوي العامّ قد أسهم جوهريًّا في أن يُهْمَل من العربيَّة أكثر ممَّا يُحفَظ.
ولقد بدت مثل تلك المخالفات لقواعد النحو في القرآن الكريم، قبل غيره، من قبيل تلك الآية المشهورة: ﴿قَالُوا: إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى.﴾ [طه: 63]. وفي قراءة: ﴿إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ﴾. وإنْ كان المعنى بهذه الصياغة الأخيرة لا يبدو متَّسقًا، إلَّا لو جاءت الصياغة: «إِنْ هَذَانِ إلَّا سَاحِرَانِ»، كما في آية [المائدة: 110] وغيرها: ﴿فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ: إِنْ هَـٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾.
ومن تلك المخالفات عن قواعد النحو أيضًا الآية الأخرى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ والَّذِينَ هَادُواْ (والصَّابئُونَ) والنَّصَارَى، مَنْ آمَنَ بِاللّهِ واليَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا، فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ.﴾ [المائدة: 69]. في حين تَرِد الصياغة في الآية الأخرى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ والَّذِينَ هَادُواْ والنَّصَارَى (والصَّابِئِينَ)، مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا، فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ.﴾ [البقرة: 62](1). أو الآية: ﴿لـٰكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ والمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ومَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ، (والمُقِيمِينَ) الصَّلَاةَ، والمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، والمُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ واليَوْمِ الآخِرِ؛ أُولَـٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا.﴾ [النساء: ١٦٢]. التي أَوْجَه تخريجاتها أن «المقيمين الصلاة» المقصود بهم الملائكة، أي الذين يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله؛ فيكون تخريج الآية الإعرابي: «لـٰكِنِ (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ)، (والمُؤْمِنُونَ [الذين] يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ومَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وبالمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ)، و(المُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)، و(المُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَاليَوْمِ الْآخِرِ): أُولَـٰئِكَ سَنُؤْتِيْهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا.» (انظر: تفسير الطبري). ولكَم داخَ النُّحاة ودَوَّخونا لتخريج الإعراب في تلك الآيات، طوعًا أو كرهًا(2). ولو أنهم سلَّموا أن قواعدهم لم تكن متَّبعة كلَّ الاتِّباع قبل التقعيد، لأراحوا واستراحوا. وكما يُقال في لغة القانون: «لا عقاب إلّا بقانون أو بنظام»، يقال هنا: «لا تَخْطِيْءَ إلَّا بقاعدة». أمَّا ما جاء قبل وضع القواعد للُّغة، فلا يخضع لقواعد إنما وُضعت بعد الاستعمال اللغوي، ولا تُعَدُّ خروجاتُه أخطاء لغويَّة أو نحويَّة، بحالٍ من الأحوال. هذا على الفرض، جَدَلًا، أن ثَمَّة خروجًا على تلك القواعد؛ وقد أوضحنا وجاهة الاستعمال، وأنْ لا خروج هنالك عن أساليب العرب. على أن لقائلٍ أن يقول أيضًا: إن أمثال تلك الاستعمالات جاءت وَفق أعراف لغويَّة كانت متَّبعة، وإنْ لم تُدَوَّن أو يُعْتَدّ بها لندرتها، فجُعلتْ ممَّا سمَّاه علماؤنا: «الشاذّ» الخارج عن القاعدة، ولا يُقاس عليه. ولقد وُجِدَت أمثال هذه الخروجات النحويَّة في شِعر العرب ونثرهم معًا، ممَّا لا حصر له.
وقد سُقنا في مقال سابق نَصَّ تلك الوثيقة عن (ابن فضل الله العمري)، وفيها العهد الذي كتبه رسول الله إلى تميم الداري:
«...هذا ما أنطَى محمَّد رسول الله، لتميم الداريّ، وإخوته... شَهِدَ عتيق بن أبو قحافة، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وكتب عليّ بن بو طالب وشَهِدَ.»
وهي دالَّة دلالة مهمَّة على ملامح لغويَّة تاريخيَّة كانت قبل التقعيد اللغوي والنحوي.(3)
كما أنها دالَّة كذلك على مسألة تاريخيَّة أخرى بالغة الأهميَّة في جدليَّات المسلمين السياسيَّة السرمديَّة، بعد «التعقيد» السياسي والمذهبي الذي أعقب خصومة المسلمين حول الحاكم: أ يجب أن يكون من الأسرة النبويَّة، أم لا بأس أن يكون من غيرها، في «ديمقراطيَّة إسلاميَّة» مبكرة؟ وذلك من خلال ترتيب شهود وثيقة الرسول على هذا «النحو»: (أبي بكر، فعمر، فعثمان، فعليّ). إذ يغلب على التصوُّر أنه ما كان رسولُ الله ليُرتِّب شهوده هذا الترتيب سهوًا، أو اعتباطًا، لولا ما يبدو من أن مراتبهم «البروتوكوليَّة» قد كانت بهذا التسلسل سُنَّةً غالبةً متَّـبَعَةً منذ العهد النبوي، وفي معاملات الرسول نفسه.
وعودًا إلى مسألة الفصحى والعاميّة التي تطرقنا إليها في مقالات سالفة، فلقد كان ينبغي على المتعلِّم في العصر الحديث- إنْ كان شاعرًا- أن يطمح إلى الارتقاء بلغته الأدبيَّة لتجاوز المستوى المتدنِّي الذي ارتبط بالأُمِّيَّة والجهالة والعُزلة والاختلاط اللغوي، أو حتى بعربيّة ما قبل التقعيد. أمّا الإبداع والجماليّة من حيث هما، فليس ثمَّة شِعر، يستحق هذا الاسم، فاقدًا للإبداع أو الجمال، في أيِّ لغة كانت، عربيَّة وغير عربيَّة.
-------------------------------
(1) ولهذا الاستعمال وجاهته، على كل حال، وَفق القواعد النحويًّة المقرَّرة؛ إذ لمَّا قرَّر أن الذين آمنوا والذين هادوا مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُون، استأنف في أثناء ذلك الإشارة إلى النصارى والصابئين، وكأن تلك جملة اعتراضيَّة. وهو أسلوبٌ عربيٌّ مألوفٌ، لا يخضع فيه المستأنَف للمقتضى الإعرابيّ حسبما قبله، وفي ذلك فَرْزٌ له وتمييز، كما نفعل اليوم عندما نستعمل من علامات الترقيم (الشَّرْطَة الاعتراضيَّة) لتِبيان الجملة الاعتراضيَّة في أثناء الكلام. ولعلّ مسوِّغ هذا الاستئناف أسلوبيًّا أن الخطاب المباشر كان قبل الآية وبعد الآية موجَّهًا إلى السامعين على نحو فوريّ من يهود المدينة، فالآيات هي: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ، لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ومَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ، ولَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا؛ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا- وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ- مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولَا هُمْ يَحْزَنُونَ. لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا؛ كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾. (سورة المائدة: 68- 70). ولئن كانت الآية الأخرى من سورة البقرة- ومثلها في سورة الحج- تشتركان في تلك الحيثيّة المسوِّغة أسلوبيًّا للاستئناف، فإن الاستئناف ليس أمرًا لازمًا في كلّ حال، بل هو خيار تعبيريّ، للمُخاطِب أن يستعمله في دَرْج الكلام، (ولاسيما في جملة غير ملاصقة للعامل الإعرابي)، أو أن يَدَعَه.
(2) راجع آراء النحاة حول الآية «إن هذان لساحران»: (ابن منظور، لسان العرب، (أنن)).
(3) انظر مقالنا تحت عنوان «استنبَطَ العُرْبُ في الموامي!»، صحيفة «الراي»، الخميس 11 يوليو 2013، ص45، على الرابط: http://www.alraimedia.com/Article.aspx?id=450079&;date=11072013ـ
-------------------
[الكاتب: أ.د/عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «حُجَج النُّحاة!»، المصدر: صحيفة «الرأي» الكويتية، العدد 12440، الثلاثاء 23 يوليو 2013، ص24].