أحمدك ربي علَّمتَ بالقلم، علَّمتَ الإنسانَ ما لم يعلم، وأصلِّي وأسلِّمُ على النبيِّ الأميِّ أخشى الناسِ لله، وأتقاهم له؛ أما بعد: فإنَّ من عرفَ شرفَ العلمِ ومنزلتَه وفضلَه؛ لم يقضِ نهمتَه منه، وما رجا زيادةً في حياتهِ رجاءَه الزيادة في العلم، فللعلمِ لذَّةٌ يعجز ذو البيانِ عن الإفصاح عن كُنهِها، فكيفَ لو اقترن العلمُ بالقربى من الله التي هي آكدُ ثمارِ العلم النافع؟! وإنَّ الكُتُبَ -واللهِ- لهي روضةُ العقلاء، ونزهة الفضلاء، ودَوحة النبلاء، وغذاء الألبَّاء، ولذلك كانت السلاحَ المعرفيَّ للأوائل، وكانت لهم الرَّفيقَ، والجليسَ، والمحدِّثَ، والنَّديمَ، والأنيس.. ونثروا في مدحها المقطوعات، وقرضوا في الثناء عليها المنظومات!
وطالبُ العلمِ مهما جالسَ الشيوخ والعُقلاء، وحضرَ مجالسَ العلمِ لدى العلماء= لا يمكنه بحالٍ أن يستغني عن القراءةِ والعُكُوفِ عليها إن رامَ التحقيقَ وجودَة البناء، فللعلماء إشاراتٌ تخلو منها الكُتُب، وللكُتُبِ مَلَكاتٌ ليست عند الرِّجال، والمعادلة تكامليَّة.
وإنَّك لتبتهِجُ أشدَّ البهجةِ وأنتَ ترى الإقبالَ من طلبةِ العلم يزدادُ على اقتناءِ الكُتبِ والعناية بها، والتوسُّعِ في الاطلاع، مما أثمرَ نماءً في الملَكات، وزكاءً في المعلومات، وبناءً للعقليَّةِ الناقدة، والبصيرة النافذة. إلاَّ أنَّ هذه البهجةَ يشوبُها كدَرٌ ومنغِّصاتٌ، لعلَّك تشاركني ذلك -أخي القارئ- ولو تنظيرًا، أبثُّها في هذه المقالةَ التصحيحيَّة، ومن اللهِ أستلهمُ الصوابَ والسَّداد، وأعتذرُ إن زدتُ في النقول والاستطراد.
فصلٌ:
إنَّ التذكيرَ بأنَّ هناك فروقًا بين التُّحَفِ والمزهريَّات، والكُتُبِ والمجلَّداتِ= تذكيرٌ بمعلومٍ، وتقريرٌ لواضح، لكنْ قد يعزُبُ ذلك عن الذهنِ مع الغَدوةِ والرَّوحةِ والإدلاج، كما قد يعزُبُ عن الإنسانِ أنه خُلِقَ من نطفةٍ أمشاج، فإذا ذُكِّرَ تذكَّر! لا بأسَ، فإنعامُ النظرِ وتجوُّلُ الفِكَرِ في ما هو مُتقرِّرٌ؛ سبيلٌ للتحرُّرِ من التبعيَّة المطلقة للسائد، والمسايرةِ حيثُ تسيرُ الرِّياح.
ومما نشأ قبلَ قُرونٍ ظاهرةُ «عِشْقِ الكُتُب»، وتطوَّرت هذه الظاهرة في تلك القرونِ، وقُرِّرَت كثيرًا، ونالت حظًّا من كُتبِ التراجم، وعُرِفَ بها خلقٌ من الكُتبيين والورَّاقةِ وبعضِ العلماء على اختلاف تخصُّصاتهم، ثم جُمِعت أخبارُهم وعجائبهم لدى المتأخرين بهذه العُنواناتِ «عُشَّاق الكُتُب»، فأورثت هذه المعاني لدى كثيرٍ من شُداةِ العِلمْ قداسةً للكتابِ لذاتِه، وأنَّ الكُتُبَ في نفسها غايةٌ، وجمعَها -مجرَّدةً- رعايةٌ، وتناسى كثيرٌ منهم شروطَ التحصيلِ وآفاتِه، وقانونَ العلمِ وغاياته، فتضخَّمَ لديهم تعظيمُ «عِلْمِ الوَرَق»!
لستُ هنا أزهِّدُ في الكِتابِ، وأنَّى لي ذلك، لكنني أحاول إبداءَ نظرةٍ خاصَّةٍ في هذه المسألةِ ليست ببِدْعٍ من الرأي، وهي قابلةٌ للخلافِ والوِفاق.
ما رأيتَ أضرَّ بكثيرٍ من أذكياءِ الطَّلبة، وأبطالِ الحَلَبةِ في ميادين العلم والدَّعوة والفِكر والثقافة= من إيثارِ «عِلْمِ الوَرَقِ» على حقائقِ العلمِ، وأصولِ المعارف. تجِدُ الواحدَ ربَّما يشتري الكتابَ حياءً أن لا يراهُ أصحابُه مقتنيًا له، وهل هناك أعجبُ في العلم من مجاملةِ الإنسانِ غيرَه في خاصَّةِ نفسِه وما يحتاجُ إليه؟!
ورُبَّما أصابه خِزيٌ وعارٌ أن يُذكرَ عنده مؤلِّفٌ أو كتابٌ لم يسمعْ به من قبلُ، وتمرُّ عليه في المجلسِ نفسهِ معارفُ ومسائلُ لم يسمع بها أو يتصوَّرها بلهَ أن يفهمها ويُتقنها، ولا يشعر برُبعِ الخزي الذي يشعر به عند عدم معرفته كتابًا أو مؤلِّفًا، وما ذاك إلاَّ من تضخُّمِ «عِلمِ الوَرق» في النُّفوس!
فإذا فتَّشْتَه عن علمِـهِ قال علمي يا خليلي في السَّفَطْ
في كراريسَ جيادٍ أُحكِمَتْ وبِخَطٍّ أيِّ خَـطٍّ أيِّ خـطّْ
فإذا قلتَ له هاتِ إذنْ حكَّ لِحيَيْهِ جميعًا وامْتَخَطْ!
وهذا من آثار تقديسِ الكُتُبِ كأوراق، ثمَّ تجده لا يفترُ من ذكرِ أخبار «عُشَّاق الكُتُب» ولو تأمَّل أحوالَ أكثر الموصوفين بذلك؛ لرأى شاسعَ البَونِ، وعظيمَ الفَرْق! فلو نظرتَ لحال الجاحظِ الذي يُعدُّ من كبار «عُشَّاق الكُتُب»؛ لبان لك أنَّ عشقَهُ عشقُ انكبابٍ لا عشقَ جمعٍ وتكثُّر، وقد قال عنه ياقوت كما في [المعجم 2/ 217] نقلاً معاصرٍ له: «لم أرَ قطُّ ولا سمعتُ مَن أحبَّ الكُتُبَ والعُلومَ أكثرَ من الجاحظ، فإنه لم يقع بيدهِ كتابٌ قطُّ إلا استوفى قراءتَه كائناً ما كان، حتى إنه كان يكتري دكاكين الورَّاقين، ويبيت فيها للنَّظر!».
هل أدركنا معنى (إلاَّ استوفى قراءتَه كائنًا ما كان)، وأين هذا ممن لا همَّ له إلاَّ القُنيةَ فقط، وتكثير الرُّفوفِ، والكفاية -إن ساعدته الهمَّة- بالنظر في المقدِّمات والفهارس، ولمحاتٍ من بطنِ الكتاب؟!
ومن عللِ استكثارِ بعضِهم طلبُ الرُّقيِّ في الإيمان والصَّلاحِ، كما هو حالُ سلمان بن عبد الحميد الحمويِّ الحنبليِّ [805 هـ] من شيوخِ ابن حجر، حيثُ يقولُ ردًّا على زوجِه، وقد لامته على ذهاب ماله في الكُتُب:
وقائلةٍ أنفقتَ في الكُتْبِ ما حوتْ * يمينُك من مالٍ فقلتُ: دعيني لعلِّي أرى فيها كتابًا يدلُّني * لأخذ كتابي آمنًا بيميني! وهذه غايةٌ من أشرفِ الغاياتِ وأجلِّها.
فصلٌ:
كُنَّا إلى زمنِ ما قبلَ شُهرةِ معارضِ الكُتُب نسمعُ من يشتكي من عدمِ تمكنِّه من القراءة، والجرد الأوَّلي، والنظرة الفاحصة للكتاب المشترَى، وأصبحنا اليومَ نسمعُ من يشتكي من عدم تمكُّنِه من إخراجِ الكُتُبِ من الأكياس، أو إزالة القرطاس، أو وضع اسمه على غلاف الكتابِ بلهَ النظر والتأمل فيه، وازداد الأمرُ أن تسمع من يقول لك في المعرض الجديد: كتبي التي اشتريتُها من المعرض الماضي لم أنظر فيها إلى الآن، وبعضهم نسي ما اشتراه، واشترى نُسخًا أُخرى من كُتبٍ موجودةٍ في مكتبته!
هذا الحسين بن منصور اليمني يقول [كما في (آداب المعلمين والمتعلمين)]: (ينبغي لطالب العلم إن يعتني بتحصيل الكتب المحتاج إليها ... ولا يجعل تحصيلَها وكثرتَها حظَّه من العلم، وجمعَها نصيبَه من الفهم).
وللهِ درُّ مفخرةِ الجنوب، العالِم الشابِّ حافظٍ الحكمي رحمه الله [1377 هـ] إذ يقولُ:
بِبَيتِ الشَّيخِ كُتْبٌ ما شراها * وجمَّعها ولكنْ ما قراها
وطابتْ نفسُهُ منها بسلوى * إذا فتح المكانَ بأن يراها
فوا أسفي على الأيامِ ضاعتْ * سُدًى وقضى على نفسٍ كراها
لكنَّ العذرَ الطازج لأكثر هؤلاء: هذه مراجعُ للبحث، فأصبحت كُلَّ مكتبتِه مراجع! أعتقدُ أننا اليومَ -بعدَ الإعلامِ الجديد- لسنا بأحوجَ لإرشاد الناس للقراءة منا إلى ترشيدِ القراءة، وتقرير أنَّ مجرَّدَ جمعِ الكُتُبِ قد أصبح هوايةً كهوايةِ جمع الطوابع، وأنَّ اقتناءَ الكُتبِ فرعٌ عن الحاجةِ المعرفيَّة، وثمرةٌ لمعرفةِ مقامات العلوم والفنون، وقد رأيتُ من كتبَ في (تويتر) يسأل عن سُبُلِ طلب العلم، والمنهجيَّة فيه، ثمَّ هو بعد ستة أشهرٍ يُغرِّدُ عن الكُتُب، وجديد النُّسخِ، والطبعاتِ والمؤلفات، وحديثِ الكُتُبِ الفكريَّة، والروايات، والأدب، ويزور المكتبات في الأسبوع أربع مرات، فعلمتُ أنه قد تضخَّم عنده (عِلْمُ الوَرَق)، واكتفى به!
فَصْلٌ:
وأمَّا أسبابُ إيثار (عِلمِ الوَرَق) على حقائق العلمِ؛ فكثيرةٌ، لكنَّ أهمَّها في نظري: الاسترواحُ بها، والتخفُّفُ من عِبءِ العلوم، ومشقَّةِ التحصيل، وخداعُ النفسِ بأنَّها سالكةٌ دربَ العِلْم الأصيل!
فإنَّ للنظرِ في تفاريق المؤلفات، والاكتفاء بالتصوُّرات البدائيَّة للكتب على اختلافها، واقتناصِ بعض الفوائدِ من هُنا وهناك= لذَّةً معرفيَّة توهِمُ صاحبَها بتصوُّرِ الإحاطة بها، وهذا من أضرِّ الأمور بطالبِ العلم، وقد حذَّر منها العقَلاء قديمًا وحديثًا، فإنَّهم لما علموا أنَّ النظر في أصول العلوم والمسائلِ وتحصيلها يحتاجُ جِدًّا وجَلَدًا وصبرًا= أدركوا أن طالبَ العلمِ سيتحيَّل بهذه الوسائلِ للتهرُّبِ من مشقَّة العلم!
كيف إذا أدركنا أنَّ هذا الإقبالَ الكبير على الكُتُبِ بلا انضباطٍ، وإنما مجاراتٌ للموجة والموضةِ= عائقٌ كبيرٌ من عوائق حيازة العلم! وبعضُ الأحبَّة يسأل: بكم ستشتري كُتبًا من معرضِ هذا العام؟
وهذا السُّؤال غلطٌ، فالكُتُبُ هي التي تفرضُ نفسَها على المال، ولا يُفرَضُ المالُ عليها، فقد يحتاج الزائرُ أن يشتري بـ 5000 ريال، وقد تحصلُ الكفايةُ بأن يشتري بـ 500 ريال، وإنما الشَّأن في التخطيط وتصوُّرِ الاحتمالات، وتقدير أمور الطوارئ بالاستعداد.
وقد عقدَ ابنُ خلدون في مقدِّمته فصلاً في أنَّ كثرةَ التآليفِ في العلومِ عائقةٌ عن التحصيل!
وهذا الأديبُ عباس العقَّاد يحمد الله أنه لم يتيسر له شراءُ الكُتُبِ في مبتدأ قراءاته، فيقول في [أنا، ص 39-40]: (وأحمدُ الله أنَّ شراءَ الكُتُبِ عن سَعةٍ لم يكن لازمًا في أيَّام صِباي للاطِّلاع على أوائل المعرفة الأدبيَّة، بل على المعرفة الأدبيَّة في مراحلها المتقدِّمة) وكان لفقره يشتري الكُتُبَ دينًا على أقساط، فيتابعُ: (وبهذهِ الطَّريقةِ قرأتُ: العقد الفريد، وثمرات الأوراق، والمستطرف، والكشكول، والمخلاة، ومقامات الحريري، وبعض الدواوين)!
أرأيتَ الآن كيف أنَّ التوسُّعَ في شراءِ الكُتبِ في مبتدأ الأمر ووسطه - وإن أفادَ - يُضيِّعُ كثيرًا من أصول العلوم المهمَّة؟!
يتابعُ العقَّادُ ليصلَ إلى قاعدةٍ من أنفعِ قواعدِ العلمِ والمعرفة، فيقول: (هذه الندرة من الكُتب التي تيسرت لي أيَّام التلمذة وما بعدها علَّمتني دُستورًا للمطالعةِ أدين به إلى الآن، وخلاصته؛ أنَّ كتابًا تقرؤه ثلاثَ مرَّاتٍ أنفعُ من ثلاثةِ كُتُبٍ تقرأ كُلّاً منها مرَّةً واحدة)!
وهذا ابنُ جماعةَ الكنانيُّ يضعُ يدَه على الجُرحِ، فيقول ناصحًا [كما في (تذكرة السامع والمتكلم)]: (وكذلك يَحْذَرُ [أي طالبُ العلمِ] في ابتداءِ طلبه من المطالعاتِ في تفاريقِ المصنَّفاتِ؛ فإنه يضيِّعُ زمانَه، ويُفَرِّقُ ذهنَه، بل يُعطى الكتابَ الذي يقرؤه، أو الفنَّ الذي يأخذه كليَّتَهُ حتى يُتقِنَه). آهٍ لو عملنا بهذهِ فقط، لكُنَّا على غير ما نحن عليه بمفاوز!
فَصْلٌ:
وجِماعُ ما ينفعُ طالِبَ العِلمِ في سَيرهِ العلميِّ، ومنهجهِ العمليِّ ثلاثةُ أمور: أوَّلاً: طَلَبُ بركةِ العِلْم من الله.
ما أعطيَ طالبُ علمٍ عطاءً كبركةٍ يجدُهُ في عِلمِه، ونورٍ يُساكِنُ قلبَه يفرِّقُ به بين الحقِّ والباطلِ والفاضلِ والمفضول، وسدادٍ في القولِ، وصوابٍ في العلم. فتلك - واللهِ - الغايةُ التي يشمِّرُ لها أربابُ الفلاح، وقُصَّادُ التوفيق، فلم يقنعوا بالقُشورِ ولا بالرُّسوم، ولم يَرَوا الكُتَبَ إلاَّ وسيلةً لا غير، وأنا أقطفُ لك نماذجَ سريعة من حياةِ أولئك الذينَ تحَرَّوْا رَشَدًا.
فهذا الإمامُ ابنُ قيِّم الجوزيَّة -رحمه الله- الذي قال عنه ابنُ حجرٍ في [الدرر الكامنة] واصفًا عشقَه للكتب: (وكان مُغرًى بجمعِ الكتب، فحصَّل منها ما لا يُحصر، حتى كان أولادُه يبيعون منها بعد موته دهرًا طويلاً سوى ما اصطفوه منها لأنفسهم!) كان إمامًا متقنًا عارفًا بمضامين الكُتُبِ، وقد ألَّف كُتَبًا خمسةً حالَ سفرهِ، بعضها من أعاجيبِ المؤلفات التي قد لا تتهيَّأ للمعتكف في مكتبته، كـ (بدائع الفوائد)، و(زاد المعاد)، و(تهذيب السنن)! يقولُ – كما في الفوائد- : (فالكُتُبُ كثيرةٌ جِدًا، والكلامُ والجِدال والمقدَّرات الذهنيَّة كثيرة،والعِلْمُ بمعزلٍ عن أكثرها!).
ولا أظنُّه يخفى عليك قولَ الإمام أبي العبَّاس ابن تيميَّة رحمه الله: (وقد أوعبت الأمَّةُ في كُلِّ فَنٍّ من فُنونِ العِلْمِ إيعابًا، فمن نوَّرِ الله قلبِه؛ هداه بما يبلغه من ذلك، ومن أعماه؛ لم تَزِدْه كثرةُ الكُتُبِ إلاَّ حَيرةً وضلالاً!).
فَكَمْ جامعٍ للكُتْبِ في كُلِّ مذهبٍ * يزيدُ مع الأيَّامِ في جمعهِ عمى
ومِن غريبِ ما رُوي في ترجمةِ [ابنِ أبي الحواري (ت: 246)] رحمه الله الذي كان يقول عنه الجُنيدُ: (ريحانة الشام) ما ذكره القاضي ابنُ أبي يعلى في [طبقات الحنابلة (1/ 191)] أنَّه رمى بكُتبه في البحر، وقال: (نِعْمَ الدَّليلُ كُنتِ، والاشتغالُ بالدَّليلِ بعدَ الوُصُولِ مُحالٌ!)
وقال لما أغرقَ كُتُبَه: (يا عِلْمُ: لم أفعل هذا تهاوُنًا بك، ولا استخفافًا بحقِّك، ولكن كُنْتُ أكتُبُ لأهتدي بك إلى ربِّي، فلمَّا اهتديتُ بك إلى ربِّي استغنيتُ عنك!). وهذا فِعلٌ غريبٌ، إلاَّ أنَّ الأغربَ منه حقًّا؛ طالبُ علمٍ مشغولٌ بجمع الأسفار، والطواف في البُلدان لتحصيل المخطوطات، ومطاردة المعارضِ الدَّوليَّة والمحليَّة، ومواصلة الليل بالنهار في الاطِّلاع، ولا يُرى إلاَّ مسبوقًا في الصَّلاةِ، لا يكاد يتقدَّم عن الصفِّ الثالث!
فـ (إفناءُ المرءِ عُمرَه بكثرة الأسفار، ومباينةِ الأهل والأوطان في طلبِ العلم دونَ العمل به أو الحفظ له= ليسَ من شِيَمِ العُقلاء، ولا من زِيِّ الألبَّاء!) كما قاله ابنُ حبَّان في [روضة العقلاء (ص 63)].
فكيف يرجو التوفيقَ والبركةَ في العِلم مَن هذا حاله!
فأحسنِ -يا أُخَيَّ أصلحَ الله شأني وشأنك- التوجُّهَ إلى اللهِ في القصد، فإنه خيرُ معينٍ، واعلمْ أنَّ (طلبَ العلمِ مُتسَهِّلٌ على ذكيِّ القلبِ، صادقِ الرغبة، خليِّ البال من الأشغال، واجدِ الكُتبِ المفيدة، والشُّيوخ المبرّزين، والكفاية فيما يحتاج إليه). كما ذكره ابنُ الوزير في [الروض الباسم (1/ 78، 79)]
فَصْلٌ:
وثاني الأمورِ: تحصيلُ المَلَكةِ، وبناءُ العقليَّة الناقِدة، وتنمية الوعي. وهذهِ - رغم عظيمِ أهميَّتِها – إلاَّ أنَّ التقصيرَ فيها كبيرٌ جِدًا، ولو جعلها طالبُ العلمِ نُصبَ عينيه= لحصَّل علمًا غزيرًا، وفَهمًا عزيزًا من قراءة كُتُبٍ أقلَّ مما كانَ يتصوَّر، فالكُتُبُ لا تُعطيك عقلاً إلاَّ إذا هيَّأتَ نفسك لذلك، وأمرُها كما يُقرِّرُه أبو هلالٍ العسكريُّ في كلمةٍ فخمةٍ كما في [الحث على طلبِ العلم]: (إنَّ الكُتُبَ لا تُحيي المَوتى، ولا تُحَوِّلُ الأحمقَ عاقِلًا، ولا البليدَ ذَكِيًّا، ولكنَّ الطبيعةَ إذا كان فيها أدنى قَبول= فالكُتُبُ تَشحَذُ، وتَفْتِقُ، وتُرْهِفُ!)، ولذلك من إضاعةِ القارئ نفسَه أن تكونَ قراءتُه اقتناصًا للفوائد فقط دون إعمال النَّظر واكتسابِ قِطَعٍ من عقلِ المؤلِّف لا سيما إن كان كبيرَ العلمِ والعقل!
فـ (المبتَغى من الأشياءِ كُلِّها نفعُها لا نَفْسُها، والعِلمُ ونَفعُ العلمِ شيئانِ، فمن أغضى عن نفعهِ؛ لم ينتفعْ بنفسِهِ، وكان كالذي يأكلُ ولا يشبع!) كما في [روضة العقلاء (ص 58)] لابن حِبَّان.
والذي أجزمُ به، وأزدادُ كُلَّ يومٍ به يقينًا؛ أنَّ تحصيلَ الملكةِ، وتنمية الوعي، وبناءَ العقليَّة الناقدة البصيرة، وتكوينَ قاعدةٍ صُلبةٍ في العلوم= آلةٌ عظيمةٌ تُورثُ صاحبَها اكتفاءً بالنظر في مقدِّماتِ جديد المطبوعات وفهارسها لمعرفةِ مضامينها، وأخذ صُورةٍ مجملةٍ صحيحةٍ عن الفكرة والمحتوى، فيستطيعُ بذلك الاكتفاء بتصفحها في المكتبة، ولا يشتري إلاَّ ما ترجَّح نفعه، واحتاج إليه، لا سيما كُتب العناية والتخصُّص.
واسمعْ لابن باديس وهو يقول: (التفكيرَ التفكيرَ يا طلبةَ العلمِ، فإنَّ القراءةَ بلا تفكيرٍ لا توصِلُ إلى شيءٍ من العِلم!) [ابن باديس حياته وآثاره (2/ 205) للطالبي]
فَصْلٌ:
وثالثُ الأمورِ وآخرِها: العناية الكُبرى بِعُمَدِ الكُتُبِ والمسائل في العلوم. وهذا الأمرُ - تقريرًا - لا أظنُّه محلَّ خلافٍ، فالكُتُبُ درجاتٌ ومراتب، و(الكتاب الذي لا يستحقُّ أن يُقرأ مرَّتين، لا يستحِقُّ أيضًا أن يُقرأ مرَّةً واحِدةً!) كما يقول فيبر. ولكلِّ علمٍ عُقَدٌ وعُمَدٌ، ومُلَحٌ ولطائفُ، والأولى أثقلُ على النفس، والثانيةُ أخفُّ على الرُّوح، وبالتجربةِ فإنَّه بقدر الاستغراقِ في الملَحِ واللطائف تضيعُ أصولٌ كثيرةٌ من العلم، (فإنَّ لكلِّ علمٍ فُضُولاً مُذهِلةً، وشُذورًا مُشغِلةً، إن صرفَ إليها نفسَه= قطعَتْهُ عمَّا هو أهمُّ منها!). كما في [أدب الدنيا والدين (ص 76)] للماوردي.
وانظر حالَ كثيرٍ ممن يُشار إليه بسَعةِ القراءة والاطِّلاع= ربمَّا إن حاققتَه لم تجده إلاَّ ورَّاقًا لا مُتضَلِّعًا!
فينبغي العنايةُ كلَّ العنايةِ بالكُتُبِ العُمَدِ وإن حصلَ الضَّجرُ والمِلالُ بطولِ الصُّحبة، فما يلبتُ الطالبُ أن يحقِّقَ منها مآربَ عظيمة، ومغانمَ جسيمة.
يقول بهيج عثمان رحمه الله [ت: 1405 هـ]: (الكتابُ الذي لا يدعُ قارئه يُفكِّرُ فيه بعدَ فراقِهِ؛ ليس بكتابٍ قيِّمٍ، كما أنَّ الصديقَ الذي يُنسى بِسهولةٍ ليسَ صديقًا!).
فَصْلٌ:
والاستغراقُ في القراءةِ والعُكُوفُ عليها كما أنَّه مفيدٌ إلاَّ أنَّ فيه آفاتٍ، منها:
1- ما قد تُحدِثُه في أثرٍ على الذكاءِ والفَهْم، وجودةِ التفكير. وإن كان السائد أنَّ ذلك أثرٌ حسنٌ من آثار مواصلة القراءة، والعُكوفِ عليها، لكن ينبغي أن يُخَصِّصَ القارئ لنفسِه وقتًا للاسترخاء العلمي وإعمال الفِكْرِ والتحليلِ والتأمُّلِ بلا قراءة، كما يُخَصِّصَ لنفسِه وقتًا للقراءة.
يقول توماس هوبس: (إني لو قرأتُ كُتبًا عديدةً، كما يفعلُ أكثرُ النَّاسِ، فإني سأكون قليلَ الذكاءِ مثلهم!) [كيف تقرأ كتابًا، لمورتيمر (ص191)]
2- ما قد تُحدثه من أثرٍ على أخلاقِ القارئ من جفاءٍ، وضيقِ عَطَنٍ، وقسوةِ طبعٍ، وهذا لعلَّةِ الانقطاعِ التام للقراءةِ، فالقارئ يرى أغلبَ النَّاسِ بطَّالين فارغين، فتورثه العُزلةُ عنهم، والانشغال بالمعلومات غلظةً في الطَّبعِ ما لم يُروِّضْ نفسَه بالآداب!
ومن أعجب ما وقفتُ عليه في هذا الشَّأن ما ذكره الكاتب الكبير إبراهيم المازني [ت: 1368 هـ] عن نفسِه، كما في [قبض الريح (ص 125)] : (وبحسبي من ذلك أن صارت مجالسُ الناس وأحاديثُهم عندي غثَّةً لا تكادُ تُساغُ ولا تُستمرأ.... وليس ذلك لعزوفِ طبعي عن الناس، وكراهةٍ لمخالطتهم، ولكنَّها الكُتُبُ قبَّحها الله!!).
ومن الطَّريفِ أنَّ في الطبِّ النفسيِّ المعاصرِ مرضًا يُسمى (البيبليومانيا) أي الهوس بجمعِ الكُتُب، وأحد الغربيين بلغَ حبُّه الكتبَ أن أكل ديوانَ شعر! أعاذنا الله!
فَصْلٌ:
وهنا أختم بشذراتٍ عجلى قد تناسِبُ مع زيارتك المكتبات ومعارض الكُتُبِ، وإن كان قد كتبَ في هذه متخصِّصون فُضلاء:
1- لا تبخعْ نفسَك، وتُذهِبْها حسراتٍ على ما تراه يفوتك من كُتبٍ كثيرةٍ يُشاد بها في المجالسِ من محبي الكُتب، ورُوَّادِ القراءات العامَّة، فكثيرٌ منها كتبٌ عادِيَّة، لكنَّ بريقها في عدم معرفتك لها، فإذا كاشفتها بان لك سطحيَّتها، ولكن انظر إلى حاجتك أنت.
2- ليس كُلُّ مؤلِّفٍ تُقتنى جميعُ كُتبه، فبعضُ المؤلفين – لا سيما المعاصرين المكثرين – تقرأه كُلَّه من كتابٍ واحدٍ له!
3- لا يخلو كتابٌ من فائدة، لكنَّ مكتبتك قد تخلو من مكانٍ شاغرٍ للكُتُب، فقدِّمَ الأهمَّ فالمهمَّ.
4- احذر الخديعة بالعناوين البرَّاقة، فكم من كتابٍ لا نصيبَ له من عنوانه!
5- إن لم تكن مُتخصِّصًا وناقدًا مهتمًا لكتب الفكر الليبرالي والتنويري والعقلاني، فاكتفِ -إن كان ولابد- بالنظر السريع، فكثيرٌ منها يُفسِدُ الذَّوق!
6- لا تستغنِ عن كُتُبِ الرقائق والمواعظ السليمة ما رمشت عينُك، ففيها حياةٌ لقلبك.
7- بعضُ المعاصرين آتاه الله ملَكةً في تقريبِ العلم مع المحافظة على لغته الأصيلة، وذلك فضلُ الله يُؤتيه من يشاء، فاحرص عليها، واجعلها من مُشوِّقات ومداخل العلوم.
8- لا تنسَ استصحابَ الأصلِ، وهو أنَّ الكُتُبَ وسيلةٌ للتقرُّبِ إلى الله، فلا تُجاوِز بالوسيلةِ الغاية، واستصحب هذا في مبتدأ طريقك ووسطه ونهايته، ولا تُطع من كان أمره فُرُطًا، ولما قال الله: {اقْرَأْ} [العلق: 1] في أوَّلِ سورةٍ مُنزلَةٍ؛ قال في آخرها: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]، فإذا رأيتَ علمَك وكُتُبَك لا تزيدُك إقبالاً على الله، فتفحَّصْ النيَّة والقصدَ.
{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق: 6 - 8]
وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلهِ وصحبِه وسلِّم.
----------------
الدرر السنية: