وقفات على إبداعاتٍ للجاحظ اللغوية واوّليّاتٍ

 ملخّص البحث :

الجاحظ علامة بارزة في التراث العربي، وله إسهام في فروع المعرفة المختلفة، ومناشط الفكر الإنساني المتنوعة، لايسع أيّ مهتمٍّ بفرع من فروع المعرفة أن ينأى بنفسه عن وقفة مع تراثه وفكره، ومن هذه المناشط اللغة وتوظيفها في حياة الإنسان ، وسوف تتناول الورقة شيئًا من إبداعات الجاحظ واوّليّاته في الفكر اللغوي ، ودرس اللغة وتذوّقها، وإسهامه فيها ، وهي – في الغالب – إبداعات لم يتطرّق لها أهل اللغة القدامى، وأهملها لغويو عصره، والتفت لها أبو بحر، مثل :

1- تقريره بعض معايير جودة اللفظ أو التركيب أو الاستعمال اللغوي؛ فالأسير والأشهر والأكثر استعمالا ليس بالضرورة هو الأفضل.

2- التنبّه إلى مستويين من اللغة: تواصلي، وتداولي، وإسهام الإشارة وما في حكمها في تكوين لغة التواصل، ومزايا اللغتين أو المستويين .

3- علاقة اللفظ بالمعنى، بطريقة تختلف عمّا لدى اللغويين والنحاة.

4- أنواع الدلالات الخمس على المعاني، وهو شيء، لعلّه اقتبسه من الإمام الشافعي أو غيره، وأحسن توظيفه في الدرس اللغوي.

5- الإشارة والإسهام يشيء أو أمور تعدّ من علم اللغة النفسي، مما يمكن اعتباره شواهد تراثية لعناية العرب بمثل هذا العلم .

6- وكذا إشارات إلى مبادئ من علم اللغة الاجتماعي، ولعلّ الورقة تأتي على إيضاحٍ أكثر لهذا من خلال الأمثلة وتحليلها .

7- التنبيه إلى قوانين لغوية عامة لا تختص بها لغة دون لغة .

وقد انتهى العمل إلى مجموعة من النتائج ، والتوصيات دوّنتها في آخر العمل .

**********

عاش الجاحظ النصف الأخير من القرن الثاني الهجري والنصف الأوّل من القرن الثالث ، وكان هذا العصر عصر ازدهار، وتدوين العلوم خاصة علوم اللغة العربية وآدابها، بعد أن نضِجت بشقَّيها الرواية والدراية، المنقول والمعقول، النص والقياس، كما عاش في مهاد علوم العربية، من نحو، ولغة، وأدب، وشعر، مدينة البصرة، التي نشأت فيها تلك العلوم، وكانت أوّلياتها على يد أبنائها من عرب وموالي، وكانت ملتقًى ثقافيًّا يمتزج فيها الأدب باللغة ، والقراءة والفقه بالحديث، وعلم الكلام والفلسفة بالوعظ والقصِّ، وسائر الثقافات والمعارف، كما تمتزج فيها الأعراق من عرب وعجم، كما انتشرت فيها حوانيت الورّاقين التي تحوي كتب العصر ومقالاته، ومن هذه البيئة طلع لنا الجاحظ الذي ملأ الدنيا علمًا وأدبًا وخلّف لنا تراثًا فكريًّا متنوِّعًا، ولم يقف عند الرواية عن أشياخه ، بل جاوز ذلك فطالع كلَّ ما وقعت يده عليه، وقرأ ما بلغه ووصل إلى علمه من كتب ومقولات في دكاكين الورّاقين التي كان يستأجرها ويبيت فيها الليالي قارئًا باحثًا .

وقد شارك الجاحظ أهل اللغة ما تكلموا فيه من مسائلها وقضاياها، مثل : الأصوات، وائتلافها، والألفاظ، أو المفردات، ودلالاتها الأربع من تباين وترادف واشتراك وتضادٍّ، وتصنيف الألفاظ بين أصيلة ومولّدة ، وتصريف الكلم، واستعمالات الألفاظ، وما يعتري اللفظ من وضع، وتسمية، واستعمال مجازي، وما أحدثه الإسلام من ألفاظ، وما أوجب هجره، وما أسبغه على ألفاظٍ معروفة من معاني إسلامية لم تكن العرب تعرفها، كما تطرّق لغريب الألفاظ وشرحها، ومتى يكون استعمالها سائغًا مقبولا، ووضع المصطلحات وما يتصل بها، واللغة بين التوقيف أوالإلهام والتوفيق، وبعض القوانين اللغوية المشتركة التي تعدّ في الوقت من موضوعات "علم اللغة العام" مثل اشتراك اللغات على اختلافها بقوانين واحدة، وعدم أفضلية لغة على لغة من ناحية الإفهام والبيان، وإن فضّل العربية من أجهٍ أخرى، وهذه المباحث والموضوعات توارد عليها أهل اللغة، وبنظرة عجلى في كتاب"الصاحبي" لابن فارس نجد تبويبًا لهذه الموضوعات، وهذا النوع لن نقف عنده، وإن كان مصدره الأول، فلو أذنت لبعض نصوص ابن فارس أن ترجع إلى أصولها ومن حيث جاءت لرجع بعضها إلى الجاحظ، أو من تأثّروه كابن قتيبة.

وحين نقرأ في كتب الجاحظ نقف على إشارات إلى كثير ممّا تفخر به الدراسات الألسنية المعاصرة، ومبادئ لفروع من الدراسات اللغوية، وهي نوع من البدايات التي تسبق تكوّن العلوم، بل تسبق مرحلة المعارف. والجاحظ لا يقدّم لنا نظريات كاملة، وإنما يبث أشياء متفرِّقة من الأفكار والمعارف اللغوية، والخواطر، والقصص والحكايات والأخبار، وعلى المشتغلين بعلوم اللغة أن يتعاملوا معها على أساس أنها مادّة أوّليّة صالحة للدرس والتحليل والاستنباط، ولا يعاملوها على أنها حقائق علمية.

وميزة فكر الجاحظ أنّه من الفكر المسكوت عنه في علوم اللغة التي يتناقلها المتعلمون من نحو وصرف ولغة وبلاغة.

*********

باب البيان [حد البيان]:

قال بعض جهابذة الألفاظ ونقاد المعاني: المعاني القائمة في صدور الناس المتصورة في أذهانهم، والمتخلجة في نفوسهم، والمتصلة بخواطرهم، والحادثة عن فكرهم، مستورة خفية، وبعيدة وحشية، ومحجوبة مكنونة، وموجودة في معنى معدومة، لا يعرف الإنسان ضمير صاحبه، ولا حاجة أخيه وخليطه، ولا معنى شريكه والمعاون له على أموره، وعلى ما لا يبلغه من حاجات نفسه إلا بغيره. وإنما يحيي تلك المعاني ذكرهم لها، وإخبارهم عنها، واستعمالهم إياها. وهذه الخصال هي التي تقربها من الفهم، وتجليها للعقل، وتجعل الخفي منها ظاهرا، والغائب شاهدا، والبعيد قريبا. وهي التي تلخص الملتبس، وتحل المنعقد، وتجعل المهمل مقيدا، والمقيد مطلقا، والمجهول معروفا، والوحشي مألوفا، والغفل موسوما، والموسوم معلوما.

وعلى قدر وضوح الدلالة وصواب الإشارة، وحسن الاختصار، ودقة المدخل، يكون إظهار المعنى. وكلما كانت الدلالة أوضح وأفصح، وكانت الإشارة أبين. [البيان والتبيين 1/ 81] وأنور، كان أنفع وأنجع. والدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان الذي سمعت الله عز وجل يمدحه، ويدعو إليه ويحث عليه. بذلك نطق القرآن، وبذلك تفاخرت العرب، وتفاضلت أصناف العجم.

والبيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى، وهتك الحجاب دون الضمير، حتى يفضي السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصوله كائنا ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان الدليل، لأن مدار الأمر والغاية التي يجري القائل والسامع(إليه)، إنما هو الفهم والإفهام، فبأي شيء بلغت الإفهام، وأوضحت عن المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع.

ثم اعلم- حفظك الله- أن حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ، لأن المعاني مبسوطة إلى غير غاية، وممتدة إلى غير نهاية، وأسماء المعاني مقصورة معدودة، ومحصلة محدودة. [البيان والتبيين 1/ 82]

**********

اللغة من مشتركات الحياة؛ إذ الناس بل مستعملوها فيها على درجة سواء من ناحية الإتاحة، ولكلٍّ منهم أن يتعلّم منها حسب حاجته، وأن يكتسب منها حسب طاقته، ولأهل اللغة كما لطلابها تلمّس الحاجة والطاقة، وفي اللغة ثلاثة مستويات:

أولها: المستوى التواصلي ، ونقصد به ما يؤدِّي غرضًا آنيًّا محدودًا بالزمان والمكان وأطراف الخطاب، ولا يقبل التدوين لعدم الحاجة إلى تدوينه، أو عدم قابليّته للتدوين, وهو معظم كلام البشر.

ثانيها: المستوى المعتاد الذي يعبّر عن المعنى بتحقيق الحدِّ الأدنى من الصحة، وسلامة النظام، بما يوصل الفكرة إلى المتلقِّي، وهو صالح للتداول.ويمكن تداوله وتناقله في غير المقام الخاص الذي أنشئ من أجله.

ثالثها: المستوى الإبداعي: ويمثِّل اللغة العالية التي تجمع مزايا الكلام الجيِّد، في مضمونه، وصياغته،وهو مستوًى ذو قيمة فنية عالية،فيها مقوِّمات أعلى من مقوِّمات اللغة المعتادة، كالشعر،والنثر الفني، وبعض الأنماط الأخرى من الكلام.

ودرس العربية باختلاف أنواعه ومقاصده يعنى بالنمط الثالث، وإن كان يلمّ بالثاني من باب أنه لازم لدرس الثالث، ويهمل النمط التواصلي- على الرغم من حجمه في حياتنا، وسعة استخدامه, وقوّة الحاجة إلى ممارسته.

فالمستوى التواصلي ، وهو غير ملائم للكتابة ، وله مزايا، منها : التوسّع في الترخّصات، ومشاركة اللغة المنطوقة للدلالات الأخرى، كالإشارة، وأنها لغة خاصة بمقامها الذي أنشئت من أجله، مثل كلام الفرّاء مع الخليفة، والحوار، ولغة المعلّم، بل أكثرية الكلام ينشأ من أجل التواصل. واللغة التواصلية لغة عفوية ، لا تكلّف فيها، ولا مراجعة لها ولا تنقيح؛ فقد يوظِّف المتكلّم الإشارة باليد حين تقول: زيد، وأنت تشير إليه بيدِك، وفي النداء تشير بيدك، وتقول: تعالَ، أو العكس: تقول: محمّد، وتشير بيدك: أن تعالَ، أو تستغني بالإشارة عن اللفظين تعبيرًا عن المعنيين: النداء، والإشارة، تقول بيدك : أن يا محمّد أقبلْ أو تعالَ. كما يوظّف المكملات الصوتية الأخرى، من نبرٍ، وتنغيمٍ، وتزمين، وتلوين، للتعبير عمّا يريده من معنًى.

فالمستوى التواصلي الذي يقال في مقام خاص، ويؤدّي غرضًا آنيًّا محدودًا بالزمان والمكان وأطراف الخطاب، ولا يجري عليه التدوين في الغالب؛ لعدم الحاجة إلى تدوينه، ثم هو لا يصلح للتداول فيما بعد، وهو معظم كلام البشر وأكثره ، ولو قيل 99% من الكلام وما يدور من لغة وحديث وحوار هو من هذا المستوى، بل كلّ ما يجري على الألسنة من حديث المجالس والفكاهة والطرفة، بل لغة المدرِّس في فصله من هذا المستوى، ولا يرقى إلى المستوى التداولي، وهو بحكم آنيّته يتطلّب شيئًا من اليسر، والسهولة، والاقتصاد، ولا يلتزم بقواعد النحو القياسية بقدر ما يلتزمه من نجاح في الأداء والفائدة، ثم هو مستوًى يتميّز بالأخذ في الترخصات، وأن الكلام فيه تغلب عليه العفوية، ثمّ هو يمثِّل كلام الناس العفويَّ ، وكلامهم الفطريّ على سجيّتِهم، دون تكلُّف؛ فالمتكلّم يهمّه أن يتواصل مع الآخرين، وأن يفهم ما يريد، باقتصاد وجهدٍ قليلٍ، وبأخصر طريق، وأيسر سبيلٍ. وأن بعضه يؤدَّى بالصوت وبعضه يؤدّى بوسيلة دلالية أخرى غير لغويّة، مثل الإشارة وحركات العين، وأخيرًا هو مستوًى يراعي المقام، ولا يتكلّف كالمستوى التداوليّ، وقد أسلفنا الحديث عنه.

وكان التواصل ينحصر في اللغة الشفويّة ، والخطأ الشفهيّ والحوار ، وقد كان هذا النوع يمثِّل نسبة تجاوز 95% من اللغة المستعملة ، والتي تصدر عن مستخدمي اللغة، أيّ لغة كانت، بل هناك لغات لا تعرف غير هذا النمط ، ولا تعرف لغة مكتوبة فضلا عن لغة أدبية إبداعية عالية. ثمّ تغيّر التواصل في عصرنا ، وظهرت أنماط صارت تضارع أو تقارب لغة المشافهة، فصار لدينا البريد الإليكتروني، والماسنجر، ولغات المحادثة و الحوار والمخاطبة المكتوبة، كما يجري في غرف المحادثة من خلال الشبكة، من مثل ما يسمونه (الشات)، ولغتها في الغالب لا تختلف عن لغة الخطاب والحوار الشفهي إلا في كتابته في وسيلة أليكترونية، وهذا يفرض على أهل العربية أن يقتحموه؛ ليكون لهم رأيٌ واجتهاد في صناعة لغة تواصل جديدة تتوزّع بين المشافهة والكتابة بالوسائل الأليكترونية، التي هي أشبه بالمشافهة.

وكما يغفل أهل اللغة عن هذا النمط من لغة التواصل يغفلون عن لغة البرامج الحوارية في الإذاعات، والقنوات التلفزيونية، وهي تتطلّب قدراتٍ تواصليّة مناسبة أكثر ممّا تطلبه من إتقانٍ للنظام اللغويِّ، وصحّةٍ في التركيب النحوي.

لا شكّ أنّ الحديث في هذه المقامات التواصلية، بهذه الوسائل ليس كحديث في مستوًى تداولي، سواء كان نصًّا ثريًّا ، أي: أدبيًّا ، أو كان نصًّا محدودًا في لغته ، ومعانيه، وأساليبه، وتراكيبه، ومفرداته. ومن المعلوم أن المستوى التداولي يشمل النوعين؛ إذ التواصلي ما لا يناسب غير المقام الذي ورد فيه. والتداولي ما يصلح لمقامه الذي أنشئ من أجله، وهو صالح لاجتياز الجغرافيا والتاريخ، وتناقله عبر الحدود ، بحيث يصح ويسوغ استعماله في سياقات غير المقام أو الموقف الذي دعا إلى إنشائه.

إن أهمّ شيءٍ في لغة التواصل حنكة التعامل مع الغير، وما من شكٍّ في أهمّيّة التواصل مع الغير، ومن أهمّ الوسائل لإنجاح هذا التواصل أن يكون لدى الشخص قدرة على الإقناع والتأثير في الآخرين ، وممّا يحسن توظيفه لهذه المهمّة اللغة ومهاراتها ، والقدرة على توظيفها ، كما ينبغي.

وكل هذا مغيَّب عن درس العربية، وهو ما نجد له إشارات في فكر الجاحظ، من مثل: حديثه عن [أدوات البيان الخمس]

((وجميع أصناف الدلالات على المعاني من لفظ وغير لفظ، خمسة أشياء لا تنقص ولا تزيد: أولها اللفظ، ثم الإشارة، ثم العقد، ثم الخط، ثم الحال التي تسمى نصبة. والنصبة هي الحال الدالة، التي تقوم مقام تلك الأصناف، ولا تقصر عن تلك الدلالات، ولكل واحد من هذه الخمسة صورة بائنة من صورة صاحبتها، وحلية مخالفة لحلية أختها، وهي التي تكشف لك عن أعيان المعاني في الجملة، ثم عن حقائقها في التفسير، وعن أجناسها وأقدارها، وعن خاصها وعامها، وعن طبقاتها في السار والضار، وعما يكون منها لغوا بهرجا، وساقطا مطرحا. قال أبو عثمان: وكان في الحق أن يكون هذا الباب في أول هذا الكتاب، ولكنا أخرّناه لبعض التدبير.

وقالوا: البيان بصر والعي عمى، كما أن العلم بصر والجهل عمى. والبيان من نتاج العلم، والعي من نتاج الجهل)). [البيان والتبيين 1/ 82]

وقال سهل بن هارون: العقل رائد الروح، والعلم رائد العقل، والبيان ترجمان العلم.

وقال صاحب المنطق: حد الإنسان: الحي الناطق المبين.

وقالوا: حياة المروءة الصدق، وحياة الروح العفاف، وحياة الحلم العلم، وحياة العلم البيان.

وقال يونس بن حبيب: ليس لعيي مروءة، ولا لمنقوص البيان بهاء، ولو حك بيافوخه أعنان السماء.

وقالوا: شعر الرجل قطعة من كلامه، وظنه قطعة من علمه، واختياره قطعة من عقله.

وقال ابن التوأم: الروح عماد البدن، والعلم عماد الروح، والبيان عماد العلم.

قد قلنا في الدلالة باللفظ. فأما الإشارة فباليد، وبالرأس، وبالعين والحاجب والمنكب، إذا تباعد الشخصان، وبالثوب وبالسيف. وقد يتهدد رافع السيف والسوط، فيكون ذلك زاجرا، ومانعا رادعا، ويكون وعيدا وتحذيرا.

والإشارة واللفظ شريكان، ونعم العون هي له، ونعم الترجمان هي عنه. وما أكثر ما تنوب عن اللفظ، وما تغني عن الخط. وبعد فهل تعدو الإشارة أن تكون ذات صورة معروفة، وحلية موصوفة، على اختلافها في طبقاتها ودلالاتها. وفي الإشارة بالطرف والحاجب وغير ذلك من الجوارح، مرفق كبير ومعونة حاضرة، في أمور يسترها بعض الناس من بعض، ويخفونها من الجليس وغير الجليس. ولولا الإشارة لم يتفاهم الناس معنى خاص الخاص، ولجهلوا هذا الباب البتة. ولولا أن تفسير هذه الكلمة يدخل في باب صناعة الكلام لفسرتها لكم. وقد قال الشاعر في دلالات الإشارة:

أشارت بطرف العين خيفة أهلها        إشــــــارة مذعور ولم تتكلم

فأيقنت أن الطرف قد قال مرحبا         وأهلا وسهلا بالحبيب المتيم

[البيان والتبيين 1/ 83] وقال الآخر:

وللقلب على القلب ... دليل حـين يلقاه

وفي الناس من الناس ... مقاييس وأشباه

وفي العين غنى للمر ... ء أن تنطق أفواه

وقال الآخر في هذا المعنى:

ومعشر صيد ذوي تجلّه ... ترى عليهم للندى أدلّه

وقال الآخر:

ترى عينها عيني فتعرف وحيها ... وتعرف عيني ما به الوحي يرجع

وقال آخر:

وعين الفتى تبدي الذي في ضميره ... وتعرف بالنجوى الحديث المعمسا

وقال الآخر:

العين تبدي الذي في نفس صاحبها ... من المحبة     أو بغض إذا     كانا

والعين تنطق والأفواه صــــــامته ... حتى ترى من ضمير القلب تبيانا

هذا ومبلغ الإشارة أبعد من مبلغ الصوت. فهذا أيضا باب تتقدم فيه الإشارة الصوت.

والصوت هو آلة اللفظ، والجوهر الذي يقوم به التقطيع، وبه يوجد التأليف. ولن تكون حركات اللسان لفظا ولا كلاما موزونا ولا منثورا إلا بظهور الصوت، ولا تكون الحروف كلاما إلا بالتقطيع والتأليف. وحسن الإشارة باليد والرأس، من تمام حسن البيان باللسان، مع الذي يكون مع الإشارة من الدل والشكل «1» والتقتل والتثني «2» ، واستدعاء الشهوة، وغير ذلك من الأمور. [البيان والتبيين 1/ 84]

قد قلنا في الدلالة بالإشارة. فأما الخط، فمما ذكر الله عز وجل في كتابه من فضيلة الخط والإنعام بمنافع الكتاب، قوله لنبيه عليه السلام: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ. وأقسم به في كتابه المنزل، على نبيه المرسل، حيث قال: ن. وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ، ولذلك قالوا: القلم أحد اللسانين. كما قالوا: قلة العيال أحد اليسارين. وقالوا: القلم أبقى أثرا، واللسان أكثر هذرا.

وقال عبد الرحمن بن كيسان: استعمال القلم أجدر أن يحض الذهن على تصحيح الكتاب، من استعمال اللسان على تصحيح الكلام.

وقالوا: اللسان مقصور على القريب الحاضر، والقلم مطلق في الشاهد والغائب، وهو للغابر الحائن، مثله للقائم الراهن. والكتاب يقرأ بكل مكان، ويدرس في كل زمان، واللسان لا يعدو سامعه، ولا يتجاوزه إلى غيره.

وأما القول في العقد، وهو الحساب دون اللفظ والخط، فالدليل على فضيلته، وعظم قدر الانتفاع به قول الله عز وجل: فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وقال جل وتقدس: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ. الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ. وقال جل وعز: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ. وقال: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ.

والحساب يشتمل على معان كثيرة ومنافع جليلة، ولولا معرفة العباد بمعنى الحساب في الدنيا لما فهموا عن الله عز وجل معنى الحساب في الآخرة. وفي عدم اللفظ وفساد الخط والجهل بالعقد فساد جل النعم، وفقدان جمهور المنافع، واختلال كل ما جعله الله عز وجل لنا قواما، ومصلحة ونظاما. [البيان والتبيين 1/ 85]

وأما النصبة فهي الحال الناطقة بغير اللفظ، والمشيرة بغير اليد. وذلك ظاهر في خلق السموات والأرض، وفي كل صامت وناطق، وجامد ونام، ومقيم وظاعن، وزائد وناقص. فالدلالة التي في الموات الجامد، كالدلالة التي في الحيوان الناطق. فالصامت ناطق من جهة الدلالة، والعجماء معربة من جهة البرهان. ولذلك قال الأول:«سل الأرض فقل: من شق أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك؟ فإن لم تجبك حوارا، أجابتك اعتبارا» .

وقال بعض الخطباء: «أشهد أن السموات والأرض آيات وآلات وشواهد قائمات، كل يؤدي عنك الحجة ويشهد لك بالربوبية موسومة بآثار قدرتك، ومعالم تدبيرك، التي تجليت بها لخلقك، فأوصلت إلى القلوب من معرفتك ما أنسها من وحشة الفكر، ورجم الظنون. فهي على اعترافها لك، وافتقارها إليك شاهدة بأنك لا تحيط بك الصفات ولا تحدك الأوهام، وإن حظ الفكر فيك، الاعتراف لك» .

وقال خطيب من الخطباء، حين قام على سرير الاسكندر وهو ميت: «الاسكندر كان أمس أنطق منه اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس» .

ومتى دل الشيء على معنى فقد أخبر عنه وإن كان صامتا، وأشار إليه وإن كان ساكتا.

وهذا القول شائع في جميع اللغات، ومتفق عليه مع إفراط الاختلافات.

وقال عنترة بن شداد العبسي جعل نعيب الغراب خبرا للزاجر:

حرق الجناح كأن لحيي رأسه          جلمان بالأخبار هش مولع

الحرق: الأسود. شبه لحييه بالجلمين، لأن الغراب يخبر بالفرقة والغربة, ويقطع كما يقطع الجلمان.

وأنشدني أبو الرديني العكلي، في تنسم الذئب الريح واستنشائه واسترواحه:

يستخبر الريح إذا لم يسمع             بمثل مقراع الصفا الموقع

[البيان والتبيين 1/ 86] المقراع: الفأس التي يكسر بها الصخر. والموقع. المحدد. يقال وقعت الحديدة إذا حددتها. وقال آخر، وهو الراعي:

إن السماء وإن الريح شاهدة             والأرض تشهد والأيام والبلد

لقد جزيت بني بدر ببغيهم              يوم الهباءة   يوما    ما له قود

وقال نصيب في هذا المعنى، يمدح سليمان بن عبد الملك:

أقول لركب صادرين لقيتهم ... قفا ذات أوشال ومولاك قارب «1»

قفوا خبرونا عن سليمان إنني ... لمعروفه من أهل ودان طالب «2»

فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب

وهذا كثير جدا)).

*********

وفي كتابات الجاحظ ما يمكن أن يصنَّف في علم اللغة النفسي الذي يدرس عوامل اكتساب اللغة واستخدامها النفسية والعصبية، كما يدرس إنتاج اللغة، كما يعنى بعمليات استقبال الكلام, وإرساله, وحفظه, كما يفسِّر الآفات والعلل اللغوية, من نسيان, وسبق قلم, ولسان, وتأخُّرِ نطق, وما يتصل بهذه الموضوعات, ممّا نجد له صدًى وأثرًا فيما يكتبه الجاحظ, بل لا نبالغ إذا قلنا: إن الجاحظ أسهم بنصوصٍ تحمل أفكارًا ومبادئ لهذا العلم, ونصوصٍ يمكن بقراءتها, وتنويع القراءة, أن تكون ميدان درس واستنباط, ومنارة تهدي إلى تأصيل هذا العلم ضمن سياقٍ تراثيٍّ, وتؤاخي بينه وبين ما أبدع فيه العرب من علوم اللغة.

فالجاحظ يجعل الكلام رسالة لها مرسل ولها متلقٍّ، ويشير إلى شيءٍ مما يجعل الرسالة تفعل فعلها في المتلقِّي، وكيف تؤثِّر فيه، فيقول: [أحسن الكلام]

((وقال علي رحمه الله: «قيمة كل امرئ ما يحسن» . فلو لم نقف من هذا الكتاب إلا على هذه الكلمة لوجدناها شافية كافية، ومجزئة مغنية، بل لوجدناها فاضلة عن الكفاية، وغير مقصرة عن الغاية. وأحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه، وكان الله عز وجل قد ألبسه من الجلالة، وغشاه من نور الحكمة على حسب نية صاحبه، وتقوى قائله. فإذا كان المعنى شريفا واللفظ بليغا، وكان صحيح الطبع، بعيدا من الاستكراه، ومنزها عن الاختلال مصونا عن التكلف، صنع في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة. ومتى فصلت الكلمة على هذه الشريطة، ونفذت من قائلها على هذه الصفة، أصحبها الله من التوفيق ومنحها من التأييد، ما لا يمتنع معه من تعظيمها صدور الجبابرة، ولا يذهل عن فهمها معه عقول الجهلة)). [البيان والتبيين 1/ 87]

((وقد قال عامر بن عبد قيس: «الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان» . وقال الحسن رحمه الله، وسمع رجلا يعظ، فلم تقع موعظته بموضع من قلبه، ولم يرق عندها، فقال له: «يا هذا، إن بقلبك لشرًّا أو بقلبي» .

وقال علي بن الحسين بن علي رحمه الله: لو كان الناس يعرفون جملة الحال في فضل الاستبانة، وجملة الحال في صواب التبيين، لأعربوا عن كل ما تخلج في صدورهم، ولوجدوا من برد اليقين ما يغنيهم عن المنازعة إلى كل حال سوى حالهم. وعلى أن درك ذلك كان لا يعدمهم في الأيام القليلة العدة، والفكرة القصيرة المدة، ولكنهم من بين مغمور بالجهل، ومفتون بالعجب، ومعدول بالهوى عن باب التثبت، ومصروف بسوء العادة عن فضل التعلم)). [البيان والتبيين 1/88]

وكان عبد الرحمن بن إسحاق القاضي يروي عن جده إبراهيم بن سلمة، قال: سمعت أبا مسلم يقول: سمعت الإمام إبراهيم بن محمد يقول: يكفي من حظ البلاغة أن لا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق، ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع. قال أبو عثمان: أما أنا فأستحسن هذا القول جدا. [البيان والتبيين 1/ 90]

*********

ولم يهمل الجاحظ شرطًا أساسيًّا في فهم المتلقي رسالة المتكلِّم ، ألا وهو حذق اللغة وتذوّقها، فقال: (([ضرورة حذق اللغة] فللعرب أمثال واشتقاقات وأبنية، وموضع كلام يدلّ عندهم على معانيهم وإرادتهم، ولتلك الألفاظ مواضع أخر، ولها حينئذ دلالات أخر، فمن لم يعرفها جهل تأويل الكتاب والسّنّة، والشاهد والمثل، فإذا نظر في الكلام وفي ضروب من العلم، وليس هو من أهل هذا الشأن، هلك وأهلك)). [الحيوان 1/ 102]

ونحن لو قرأنا مثل هذه الإشارات ، واسترجعنا مجمل ما يقوله كتبة نحو النص أو لسانيات النص، الذي يرتكز على مقوِّمات، أهمّها: الكمّيّة والاقتصاد، والملاءمة للمعنى وللمقام، ووفاء الكلام بأغراض المتكلِّم وحاجة المتلقِّي، والترابط بين أجزاء وأطرافه وصحة ترتب آخره على أوله، والوضوح في الكلام والمراد، لوجدناها داخلة في سياق هذا النحو, وواقعة في نطاق هذا الدرس.

كما أننا لو تأمّلنا كثيرًا ممّا كتبه لوجدناه صالحًا ليوظَّف في دراسة نحو النص، أو لسانياته؛ إذ تحدّث عن أمورٍ تبثُّ في النصِّ روح التأثير في السامع أو المتلقِّي، من أمثال هيئة الخطيب، وتنويع الكلام وأدائه, في تراكيبه وأساليبه، ونسبة ارتفاع الصوت أو انخفاضه، وهو ما يسمّى بالتلوين، وما يكون في مكوِّنات المرسل أو الخطيب، من حسن الهيئة , وجهارة الصوت, وسلامة المخارج, وتحقيق الصفات, وحضور البديهة, وامتلاك زمام الملكة اللغوية, مع مناسبة المقام مكانًا, وزمانًا, وبيئة، وأشخاصًا, إضافة إلى طبيعة الموضوع, وإمساسه حياة المتلقِّي واهتماماته, وكل هذه وأمثالها نجد لها صدًى فيما كتبه, سواء أكان ذلك صريحًا, أو كان مستخرجًا مستنبطًا ممّا يورده من قصص، وحكايات, وأخبار، ومن ذلك :

الإجابة بحسب ما يعانيه المسئول [ينظر البيان والتبيين (هارون)1/114]

مراعاة أقدار المستمعين [ينظر البيان والتبيين (هارون)1/138-141]

وينظر في هيئات الخطيب [ينظر البيان والتبيين (هارون) 1/370 فما بعدها وص383فما بعدها].

كما أورد بعض القيم الصوتية للخطيب ينظر البيان والتبيين (هارون) 1/121و123و125و127

اختلاف القيم اللغوية ، مثل الإسهاب والإيجاز، بين الحاضرة والبادية ينظر البيان والتبيين (هارون) 1/102

إطالة خطب النكاح وتقصير الجواب ينظر البيان والتبيين (هارون)1/104و116

إطالة خطاب الصلح ينظر البيان والتبيين (هارون)1/116

اختلاف المقامات والقيم ينظر البيان والتبيين (هارون) 1/116

وفد نقل ابن المقفع كلاما طويلا عن الخطبة وما يليق بكل نوع من الكلام، والاستهلال، والإيجاز والإطناب، [ينظر البيان والتبيين (هارون) 1/115-117]

**********

وللجاحظ آراء تتعلّق بجودة الكلام ومعاييره تمايزه, ومن ذلك تقريره بعض معايير جودة اللفظ أو التركيب أو الاستعمال اللغوي؛ فالأسير والأشهر والأكثر استعمالا ليس بالضرورة هو الأفضل.

((وقد يستخف الناس ألفاظا ويستعملونها وغيرها أحق بذلك منها. ألا ترى أن الله تبارك وتعالى لم يذكر في القرآن الجوع إلا في موضع العقاب أو في موضع الفقر المدقع والعجز الظاهر. والناس لا يذكرون السغب ويذكرون الجوع في حال القدرة والسلامة. وكذلك ذكر المطر، لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلا في موضع الانتقام. والعامة وأكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر وبين ذكر الغيث.

ولفظ القرآن الذي عليه نزل أنه إذا ذكر الأبصار لم يقل الأسماع، وإذا ذكر سبع سموات لم يقل الأرضين. ألا تراه لا يجمع الأرض أرضين، ولا السمع أسماعا. والجاري على أفواه العامة غير ذلك، لا يتفقدون من الألفاظ ما هو أحق بالذكر وأولى بالاستعمال. وقد زعم بعض القراء أنه لم يجد ذكر لفظ النكاح في القرآن إلا في موضع التزويج.

والعامة ربما استخفت أقل اللغتين وأضعفهما، وتستعمل ما هو أقل في أصل اللغة استعمالا وتدع ما هو أظهر وأكثر، ولذلك صرنا نجد البيت من الشعر قد سار ولم يسر ما هو أجود منه، وكذلك المثل السائر.

وقد يبلغ الفارس والجواد الغاية في الشهرة ولا يرزق ذلك الذكر والتنويه بعض من هو أولى بذلك منه. ألا ترى العامة أن ابن القرية «1» عندها أشهر في الخطابة من سحبان وائل. وعبيد الله بن الحر «2» أذكر عندهم في الفروسية من زهير بن ذؤيب. وكذلك مذهبهم في عنترة بن شداد، وعتيبة بن الحارث)). [البيان والتبيين 1/ 41]

*********

وعلم اللغة الاجتماعي, وهو العلم الذي يضيف إلى درس اللغة البعد الاجتماعي، من سياق, ومكوِّناتٍ اجتماعية تسهم في صنع اللغة وبيانها لدى المتكلِّم, وأثر ذلك في اللغة وطرائق أدائها, وتمايز مستعمليها واختلافهم, وما يكون في الأداء العام من تعدّدية, وازدواج, واتِّجاهات لغوية, وخيارات, وتخطيط, ودراسة ظواهر في اللغات المزيج أو الهجين, ولغات البيئات الخاصة, وما يتعلّق بالاتصال ما بين المرسل والمتلقِّي, وما يسيغ قبول الكلام, من خلال تعرف المقام والسياقات الكلامية التي تصنعهاعوامل من أهمها العامل الاجتماعي, كل هذا نجد له أثرًا فيما سطره الجاحظ في مؤلفاته, وللجاحظ أحاديث في التزاوج اللغوي في التراكيب بين العربية والفارسية, وقد وجد يوهان فك ص121 من كتابه ((العربية)) ما رآه مادّة صالحة للإشادة والدرس.

ومن هذا الباب ومن صلة اللغة بعلم الاجتماع ما يمكن أن يجعل ما أورده الجاحظ من أثر البيئة الأمّ ، والأصل ، والخلطة في أصوات المتكلِّم، ولغته، وكلامه، ومن ذلك : ((أبو الحسن قال. أوفد زياد عبيد الله بن زياد إلى معاوية، فكتب إليه معاوية: «إن ابنك كما وصفت، ولكن قوّم من لسانه» . وكانت في عبيد الله لكنة، لأنه كان نشأ بالأساورة مع أمه «مرجانة» ، وكان زياد قد زوجها من شيرويه الأسواري. وكان قال مرة: «افتحوا سيوفكم» ، يريد سلّوا سيوفكم، فقال يزيد بن مفرّغ)) [البيان والتبيين 2/ 145]

(( ويوم فتحت سيفك من بعيد           أضــعت وكلّ أمرك للضياع

ولما كلّمه سويد بن منجوف في الهثهاث بن ثور، وقال له: يا ابن البضراء! قال له سويد: كذبت علي نساء بني سدوس. قال: إجلس على إست الأرض. قال سويد: ما كنت أحسب أن للأرض أستا!)). [البيان والتبيين 2/ 146] ((وكان محمد بن الجهم ولى المكي صاحب النظام، موضعا من مواضع كسكر، وكان المكي لا يحسن أن يسمى ذلك المكان ولا يتهجّاه، ولا يكتبه، وكان اسم ذلك الموضع شانمثنا.

وقيل لأبي حنيفة: ما تقول في رجل أخذ صخرة فضرب بها رأس رجل فقتله، أتقيده به؟ قال: لا ولو ضرب رأسه بأبا قبيس)). [البيان والتبيين 2/ 146]

((وقال مسلم بن سلام: حدثني أبان بن عثمان قال: كان زياد النبطي أخو حسان النبطي، شديد اللكنة، وكان نحويا. قال: وكان بخيلا، ودعا غلامه ثلاثا فلما أجابه قال: فمن لدن دأوتك إلى أن قلت لبي ما كنت تصنأ؟ يريد: من لدن دعوتك إلى أن أجبتني ما كنت تصنع.

قال: وكانت أم نوح وبلال ابن جرير أعجمية، فقالا لها: لا تكلمي إذا كان عندنا رجال. فقالت يوما: يا نوح، جردان دخل في عجان امك؟ وكان الجرذ أكل من عجينها)). [البيان والتبيين 2/ 147]

(( قال أبو الحسن: أهدي إلى فيل مولى زياد حمار وحش، فقال لزياد: أهدوا لنا همار وهش. قال: أي شيء تقول ويلك؟ قال: أهدوا إلينا أيرا- يريد عيرا- قال زياد: الثاني شر من الأول)). [البيان والتبيين 2/ 147]

((وقال الأصمعي: خاصم عيسى بن عمر النحوي الثقفي رجلا إلى بلال ابن ابي بردة، فجعل عيسى يتتبّع الأعراب، وجعل الرجل ينظر إليه، فقال له بلال: لأن يذهب بعض حق هذا أحب إليك من ترك الأعراب، فلا تتشاغل به واقصد لحجتك.

وقدم رجل من النحويين رجلا إلى السلطان في دين له عليه فقال: أصلح الله الأمير، لي عليه درهمان. فقال خصمه: لا والله أيها الأمير إن هي إلا ثلاثة دراهم، ولكن لظهور الأعراب ترك من حقه درهما)). [البيان والتبيين 2/ 150]

(([باب أن يقول كل إنسان على قدر خلقه وطبعه] .

قال قتيبة بن مسلم، لحضين بن المنذر: ما السرور؟ قال: امرأة حسناء، ودار قوراء «1» وفرس مرتبط بالفناء.

وقيل لضرار بن الحصين: ما السرور؟ قال: لواء منشور، وجلوس على السرير، والسلام عليك أيها الأمير.

وقيل لعبد الملك بن صالح: ما السرور؟ قال:

كل الكرامة نلتها               إلا التحية بالسلام

وقيل لعبد الله بن الأهتم: ما السرور؟ قال: رفع الأولياء، وحطّ الأعداء، وطول البقاء. مع القدرة والنماء.

وقيل للفضل بن سهل: ما السرور؟ قال: توقيع جائز، وأمر نافذ)). [البيان والتبيين 2/ 120]

  1. vوبقراءة ما تقدّم من نصوص، ونصوص أخرى أوردها, نجد لدى الجاحظ إشارات إلى علم اللغة الاجتماعي، ويمكن لنا أن نقسم ما أورده في هذا الشأن إلى قسمين :

قسم يحمل أفكارًا تؤسِّس لعلم اللغة الاجتماعي عند العرب.

وقسم هو أشبه بالإشارات، والنصوص التي يمكن أن تكون معينًا لاستنباط أصول لعلم اللغة الاجتماعي.

***********

ومما يمكن أن يوقف أمامه من نصوص تؤسس لعلم اللغة الاجتماعي العربي نصوص للجاحظ غير ما تقدّم، منها:

  1. vجعل الجاحظ اللغة طبقات كطبقات المجتمع ((وكما لا ينبغي أن يكون اللفظ عاميا، وساقطا سوقيا، فكذلك لا ينبغي أن يكون غريبا وحشيا، إلا أن يكون المتكلم بدويا أعرابيا، فإن الوحشيّ من الكلام يفهمه الوحشي من الناس، كما يفهم السوقيّ رطانة السوقي. وكلام الناس في طبقات كما أن الناس أنفسهم في طبقات. فمن الكلام الجزل والسخيف، والمليح والحسن، والقبيح والسمج، والخفيف والثقيل، وكله عربي، وبكلّ قد تكلموا، وبكلّ قد تمادحوا وتعايبوا. فإن زعم زاعم أنه لم يكن في كلامهم تفاضل، ولا بينهم في ذلك تفاوت، فلم ذكروا العييّ والبكيء، والحصر والمفحم، والخطل والمسهب، والمتشدّق، والمتفيهق، والمهمار، والثرثار، والمكثار والهمار، ولم ذكروا الهجر والهذر، والهذيان والتخليط وقالوا: رجل تلقّاعة «7» ، وفلان يتلهيع في خطبته «8» . وقالوا: فلان)) [البيان والتبيين 1/ 135] ((يخطىء في جوابه، ويحيل في كلامه، ويناقض في خبره. ولولا أن هذه الأمور قد كانت تكون في بعضهم دون بعض لما سمي ذلك البعض البعض الآخر بهذه الأسماء.

وأنا أقول: إنه ليس في الأرض كلام هو أمتع ولا آنق، ولا ألذ في الأسماع، ولا أشد اتصالا بالعقول السليمة، ولا أفتق للسان، ولا أجود تقويما للبيان، من طول استماع حديث الأعراب العقلاء الفصحاء، والعلماء البلغاء.

وقد أصاب القوم في عامة ما وصفوا، إلا أني أزعم أن سخيف الألفاظ مشاكل لسخيف المعاني. وقد يحتاج إلى السخيف في بعض المواضع، وربما أمتع بأكثر من إمتاع الجزل الفخم من الألفاظ، والشريف الكريم من المعاني. كما أن النادرة الباردة جدا قد تكون أطيب من النادرة الحارة جدا. وإنما الكرب الذي يختم على القلوب، ويأخذ بالأنفاس، النادرة الفاترة التي لا هي حارة ولا باردة، وكذلك الشعر الوسط، والغناء الوسط، وإنما الشأن في الحار جدا والبارد جدا.

وكان محمد بن عباد بن كاسب يقول: والله لفلان أثقل من مغن وسط, وأبغض من ظريف وسط.

ومتى سمعت- حفظك الله- بنادرة من كلام الأعراب، فإياك أن تحكيها إلا مع أعرابها ومخارج ألفاظها، فإنك إن غيّرتها بأن تلحن في إعرابها وأخرجتها مخارج كلام المولدين والبلديين، خرجت من تلك الحكاية وعليك فضل كبير. وكذلك إذا سمعت بنادرة من نوادر العوام، وملحة من ملح الحشوة والطغام، فإياك وأن تستعمل فيها الإعراب، أو تتخير لها لفظا حسنا، أو تجعل لها من فيك مخرجا سريا، فإن ذلك يفسد الإمتاع بها، ويخرجها من صورتها، ومن الذي أريدت له، ويذهب استطابتهم إياها واستملاحهم لها.

ثم اعلم أن أقبح اللحن لحن أصحاب التقعير والتقعيب، والتشديق والتمطيط والجهورة والتفخيم. وأقبح من ذلك لحن الأعاريب النازلين على طرق السابلة، وبقرب مجامع الأسواق)). [البيان والتبيين 1/136] ((ولأهل المدينة ألسن ذلقة، وألفاظ حسنة، وعبارة جيدة. واللحن في عوامهم فاش، وعلى من لم ينظر في النحو منهم غالب)). [البيان والتبيين 1/ 137]

  1. vوأهل الأمصار إنما يتكلمون على لغة النازلة فيهم من العرب، ولذلك تجد الاختلاف في ألفاظ من ألفاظ أهل الكوفة والبصرة والشام ومصر. [البيان والتبيين 1/ 39]
  2. vحدثني أبو سعيد عبد الكريم بن روح «1» قال: قال أهل مكة لمحمد بن المناذر الشاعر: ليست لكم معاشر أهل البصرة لغة فصيحة، إنما الفصاحة لنا أهل مكة. فقال ابن المناذر: أما ألفاظنا فأحكى الألفاظ للقرآن، وأكثرها له موافقة، فضعوا القرآن بعد هذا حيث شئتم. أنتم تسمون القدر برمة وتجمعون البرمة على برام، ونحن نقول قدر ونجمعها على قدور، وقال الله عز وجل: وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ. وأنتم تسمون البيت إذا كان فوق البيت علية، وتجمعون هذا الاسم على علالي، ونحن نسميه غرفة ونجمعها على غرفات وغرف. وقال الله تبارك وتعالى: غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ

وقال: وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ. وأنتم تسمون الطلع الكافور والا غريض ونحن نسميه الطلع. وقال الله تبارك وتعالى: وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ. فعد عشر كلمات لم أحفظ أنا منها إلا هذا. ألا ترى أن أهل المدينة لما نزل فيهم ناس من الفرس في قديم الدهر علقوا بألفاظ من ألفاظهم، ولذلك يسمون البطيخ الخربز، ويسمون السميط الرزدق «2» ، ويسمون المصوص المزور «3» ، ويسمون الشطرنج الاشترنج، في غير ذلك من الأسماء وكذلك أهل الكوفة، فإنهم يسمون المسحاة بال، وبال بالفارسية. ولو علق ذلك لغة أهل البصرة إذ نزلوا بأدنى بلاد فارس وأقصى بلاد العرب كان ذلك أشبه، إذ كان أهل الكوفة قد نزلوا بأدنى بلاد النبط وأقصى بلاد العرب. ويسمي أهل الكوفة الحوك الباذروج «4» ، والباذروج بالفارسية، والحوك كلمة عربية. وأهل البصرة إذ التقت أربع طرق يسمونها مربعة، ويسميها أهل الكوفة الجهار سوك، والجهار سوك بالفارسية. ويسمون السوق والسويقة [البيان والتبيين1/40] «وازار»، والوازار بالفارسية. ويسمون القثاء خيارا، والخيار بالفارسية. ويسمون المجدوم ويذي، بالفارسية. [البيان والتبيين 1/ 41]

علم اللغة الجغرافي ((قال: ولما اجتمعت الخطباء عند معاوية في شأن يزيد، وفيهم الأحنف، قام رجل من حمير، فقال: إنّا لا نطيق أفواه الكِمال- يريد الجِمال- عليهم المقال، وعلينا الفعال. وقول هذا الحميري: إنّا لا نطيق أفواه الكمال، يدل على تشادق خطباء نزار)). [البيان والتبيين 1/ 314]

الجغرافي ((قال رجل من بني منقر: تكلم خالد بن صفوان في صلح بكلام لم يسمع الناس قبله مثله، فإذا أعرابي في بتّ «1» ، ما في رجليه حذاء، فأجابه بكلام وددت والله أني كنت متّ وإن ذلك لم يكن، فلما رأى خالد ما نزل بي قال: يا أخا منقر، كيف نجاريهم، وإنما نحكيهم، وكيف نسابقهم وإنما نجري على ما سبق إلينا من أعرافهم، فليفرخ روعك فإنه من مقاعس، ومقاعس لك. فقلت: يا أبا صفوان، والله ما ألومك على الأولى، ولا أدع حمدك على الأخرى.

قال أبو اليقظان: قال عمر بن عبد العزيز: «ما كلمني رجل من بني أسد إلا تمنيت أن يمد له في حجته حتى يكثر كلامه فأسمعه» .

وقال يونس بن حبيب «2» : ليس في بني أسد إلا خطيب، أو شاعر، أو قائف، أو زاجر، أو كاهن، أو فارس. قال: وليس في هذيل إلا شاعر أو رام، أو شديد العدو. [البيان والتبيين 1/ 156]

جغرافي ((وقد فهمنا معنى قول أبي الجهير الخراساني النخاس، حين قال له الحجاج أتبيع الدواب المعيبة من جند السلطان؟ قال: «شريكاننا في هوازها، وشريكاننا في مداينها. وكما تجيء نكون» . قال الحجاج: ما تقول، ويلك! فقال بعض من قد كان اعتاد سماع الخطأ وكلام العلوج بالعربية حتى صار يفهم مثل ذلك: يقول: شركاؤنا بالأهواز وبالمدائن يبعثون إلينا بهذه الدواب، فنحن نبيعها على وجوهها.

وقلت لخادم لي: في أي صناعة أسلموا هذا الغلام؟ قال: «في أصحاب سند نعال» يريد: في أصحاب النعال السندية. وكذلك قول الكاتب المغلاق للكاتب الذي دونه: «اكتب لي قل خطين وريحني منه»)) . [البيان والتبيين 1/ 148]

((وأصحاب هذه اللغة لا يفقهون قول القائل منا: «مكره أخاك لا بطل» . و: «إذا عز أخاك فهن» . ومن لم يفهم هذا لم يفهم قولهم: ذهبت إلى أبو زيد، ورأيت أبي عمرو. ومتى وجد النحويون أعرابيا يفهم هذا وأشباهه بهرجوه ولم يسمعوا منه، لأن ذلك يدل على طول إقامته في الدار التي تفسد اللغة وتنقص البيان. لأن تلك اللغة إنما انقادت واستوت، واطردت وتكاملت، بالخصال التي اجتمعت لها في تلك الجزيرة، وفي تلك الجيرة. ولفقد الخطأ من جميع الأمم)). [البيان والتبيين 1/ 148]

((ولقد كان بين زيد بن كثوة يوم قدم علينا البصرة، وبينه يوم مات بون بعيد، على أنه قد كان وضع منزله في آخر موضع الفصاحة وأول موضع العجمة، وكان لا ينفك من رواة ومذاكرين.

وزعم أصحابنا البصريون عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: لم أر قرويين أفصح من الحسن والحجاج، وكان- زعموا- لا يبرّئهما من اللحن.

وزعم أبو العاصي أنه لم ير قرويا قط لا يلحن في حديثه، وفيما يجري بينه وبين الناس، إلا ما تفقده من أبي زيد النحوي، ومن أبي سعيد المعلم.

وقد روى أصحابنا أن رجلا من البلديين قال لأعرابي: «كيف أهلك» قالها بكسر اللام. قال الأعرابي: صلبا. لأنه أجابه على فهمه، ولم يعلم أنه أراد المسألة عن أهله وعياله.

وسمعت ابن بشير وقال له أبو الفضل العنبريّ: إني عثرت البارحة بكتاب، وقد التقطته، وهو عندي، وقد ذكروا أن فيه شعرا، فإن أردته وهبته لك. قال ابن بشير: أريده إن كان مقيّدا. قال: والله ما أدري أمقيّد هو أم مغلول. ولو عرف التقييد لم يلتفت إلى روايته.

وحكى الكسائي أنه قال لغلام بالبادية: من خلقك؟ وجزم القاف، فلم يدر ما قال، ولم يجبه، فرد عليه السؤال فقال الغلام: لعلك تريد من خلقك.

وكان بعض الأعراب إذا سمع رجلا يقول نعم في الجواب، قال: «نعم وشاء؟» ، لأن لغته نعم. وقيل لعمر بن لجأ: قل «إنا من المجرمين منتقمين» . قال: (إنّا من المجرمين منتقمون) .

وأنشد الكسائي كلاما دار بينه وبين بعض فتيان البادية فقال:

عـجب ما عـــجب أعجبني        من غــلام حـــكمي أصلا

   قلت هل أحسست ركبا نزلوا            حـــضنا ما دونه قال هلا «1»

     قلت بيّن ما هلا هل نزلوا            قال حوبا ثم ولى عجـــلا «1»

لسـت أدري عندها ما قال لي         أنعــــ م ما قال لي أم قال: لا

       تلك منه لغــــــة تعــجـبني           زادت القــــلب خـبالا خبلا «2»

[البيان والتبيين 1/149- 150]

((وإنما تهيأ وأمكن الحاكية لجميع مخارج الأمم، لما أعطى الله الإنسان من الاستطاعة والتمكين، وحين فضله على جمع الحيوان بالمنطق والعقل والاستطاعة. بطول استعمال التكلف ذلت جوارحه لذلك. ومتى ترك شمائله على حالها، ولسانه على سجيته، كان مقصورا بعادة المنشأ على الشكل الذي لم يزل فيه. وهذه القضية مقصورة على هذه الجملة من مخارج الألفاظ، وصور الحركات والسكون. فأما حروف الكلام فإن حكمها إذا تمكنت في الألسنة خلاف هذا الحكم. ألا ترى أن السندي إذا جلب كبيرا فإنه لا يستطيع إلا أن يجعل الجيم زايا ولو أقام في عليا تميم، وفي سفلى قيس، وبين عجز هوازن، خمسين عاما. وكذلك النبطي القح، خلاف المغلاق الذي نشأ في بلاد النبط، لأن النبطي القح يجعل الزاي سينا، فإذا أراد أن يقول زورق قال سورق، ويجعل العين همزة، فإذا أراد أن يقول مشمعل، قال مشمئل.[البيان والتبيين 1/78]

والنخاس يمتحن لسان الجارية إذا ظن أنها رومية وأهلها يزعمون أنها مولدة بأن تقول ناعمة، وتقول شمس، ثلاث مرات متواليات.

والذي يعتري اللسان مما يمنع من البيان أمور: منها اللثغة التي تعتري الصبيان إلى أن ينشئوا، وهو خلاف ما يعتري الشيخ الهرم الماج «1» ، المسترخي الحنك، المرتفع اللثة، وخلاف ما يعتري أصحاب اللكن من العجم، ومن ينشأ من العرب مع العجم، فمن اللكن ممن كان خطيبا، أو شاعرا، أو كاتبا داهيا زياد بن سلمى أبو أمامة، وهو زياد الأعجم. قال أبو عبيدة: كان ينشد قوله:

فتى زاده السلطان في الود رفعة            إذا غير السلطان كل خليل))

[البيان والتبيين 1/ 78] ((قال: فكان يجعل السين شيئا والطاء تاء، فيقول: «فتى زاده الشلتان» .

ومنهم سحيم عبد بني الحسحاس، قال له عمر بن الخطاب (رحمه الله) وأنشد قصيدته التي يقول أولها:

عميرة ودع إن تجهزت غاديا             كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا

فقال له عمر: لو قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك. فقال له: ما سعرت. يريد ما شعرت، جعل الشين المعجمة سينا غير معجمة.

ومنهم عبيد الله بن زياد والي العراق، قال لهانىء بن قبيصة: أهرري سائر اليوم! يريد أحروري.

ومنهم صهيب بن سنان النمري، صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله كان يقول: إنك لهائن، يريد إنك لخائن. وصهيب بن سنان يرتضخ لكنة رومية، وعبيد الله بن زياد يرتضخ لكنة فارسية، وقد اجتمعا على جعل الحاء هاء.

وازدانقاذار لكنته لكنة نبطية، وكان مثلهما في جعل الحاء هاء. وبعضهم يروي أنه أملى على كاتب له فقال: اكتب: «الهاصل ألف كر «1» » فكتبها الكاتب بالهاء كاللفظ بها فأعاد عليه الكلام، فأعاد الكاتب. فلما فطن لاجتماعهما على الجهل قال: أنت لا تهسن أن تكتب، وأنا لا أهسن أن أملي، فاكتب: «الجاصل ألف كر» : فكتبها بالجيم معجمة.

ومنهم أبو مسلم صاحب الدعوة، وكان حسن الألفاظ جيد المعاني، وكان إذا أراد أن يقول: قلت لك، قال: كلت لك. فشارك في تحويل القاف كافا عبيد الله بن زياد. كذلك خبرنا أبو عبيدة.

قال: وإنما أتي عبيد الله بن زياد في ذلك أنه نشأ في الأساورة عند شيرويه الاسواري، زوج أمه مرجانة)). [البيان والتبيين 1/ 79] ((وقد كان في آل زياد غير واحد يسمى شيرويه. قال: وفي دار شيرويه عاد علي بن أبي طالب زيادا من علة كانت به.

فهذا ما حضرنا من لكنة البلغاء والخطباء والشعراء والرؤساء. فأما لكنة العامة ومن لم يكن له حظ في المنطق فمثل فيل مولى زياد فإنه قال مرة لزياد «اهدوا لنا همار وهش» . يريد حمار وحش. فقال زياد: ما تقول ويلك! قال: «أهدوا إلينا أيرا» . يريد عيرا. فقال زياد: الأول أهون! وفهم ما أراد.

وقالت أم ولد لجرير بن الخطفي، لبعض ولدها: «وقع الجردان في عجان أمكم» «1» ، فأبدلت الذال من الجرذان دالا وضمت الجيم، وجعلت العجين عجانا. وقال بعض الشعراء في أم ولد له، يذكر لكنتها:

أول ما أسمع منها في السحر             تذكيرها الأنثى وتأنيث الذكر

والسوءة السوآء في ذكر القمر

لأنها كانت إذا أرادت أن تقول القمر، قالت: الكمر.

وقال ابن عباد: ركبت عجوز سندية جملا، فلما مضى تحتها متخلعا اعتراها كهيئة حركة الجماع، فقالت: هذا الذمل يذكرنا بالسر. تريد أنه يذكرها بالوطء، فقلبت السين شينا والجيم ذالا. وهذا كثير.

وباب آخر من اللكنة. قيل لنبطي: لم ابتعت هذه الأتان؟ قال:

«أركبها وتلد لي» فجاء بالمعنى بعينه ولم يبدل الحروف بغيرها، ولا زاد فيها ولا نقص، ولكنه فتح المكسور حين قال وتلد لي، ولم يقل تلد لي.

قال: والصقلبي يجعل الذال المعجمة دالا في الحروف)). [البيان والتبيين1/80 ]

الإغماس ((ثم اعلموا أن المعنى الحقير الفاسد، والدنيء الساقط، يعشش في القلب ثم يبيض ثم يفرخ، فإذا ضرب بجرانه ومكن لعروقه، استفحل الفساد وبزل، وتمكن الجهل وقرح «1» ، فعند ذلك يقوى داؤه، ويمتنع دواؤه، لأن اللفظ الهجين الرديء، والمستكره الغبي، أعلق باللسان، وآلف للسمع، وأشد التحاما بالقلب من اللفظ النبيه الشريف، والمعنى الرفيع الكريم. ولو جالست الجهال والنوكى، والسخفاء والحمقى، شهرا فقط، لم تنق من أوضار كلامهم، وخبال معانيهم، بمجالسة أهل البيان والعقل دهرا، لأن الفساد أسرع إلى الناس، وأشد التحاما بالطبائع. والإنسان بالتعلم والتكلف، وبطول الاختلاف إلى العلماء، ومدارسة كتب الحكماء، يجود لفظه ويحسن أدبه، وهو لا يحتاج في الجهل إلى أكثر من ترك التعلم، وفي فساد البيان إلى أكثر من ترك التخير)). [البيان والتبيين 1/ 89]

**********

خاتمة الورقة :

هذا ما تأذن مجريات العمل, ووقته, والواقع التنظيمي لمثل هذه اللقاءات, وإلا فإن فكر الجاحظ أطول مدًى, وأبعد غورا, وأوسع مجالا, وأرحب ميدانًا, وأكبر من أن تحيط به مقالة, أو أن تفيه حقه خطبة أو محاضرة, وإن طالت؛ إذ الجاحظ مدوَّنة عصر له معارفه المتنوِّعة, وعلومه المختلفة, ومشاريعه في تأسيس العلوم, وسبقه في الجمع بين مرحلتي النشأة والكمال لعلوم العربية, وقد أسهم الجاحظ بحفظ ما فرّط فيه غيره, وهذا لا ينفي أن يكون له أثره في التصنيف اللغوي؛ إذ لم يكن بمعزلٍ عمّا سطره أعلام العربية من أمثال ابن فارس في كتابه ((الصاحبي)), وأبي حيّان التوحيدي في عددٍ من أعماله, إذ أفادوا منه إمّا مباشرة, وإمّا بواسطة كابن قتيبة, ولذك أوصي بالتالي:

  1. 1) العناية بفكر الجاحظ اللغويّ باعتباره قيمة علمية, تؤسِّس لنشأة علوم العربية وآدابها, , وباعتباره مدوَّنة عصر يمثِّل امتزاج العربية بغيرها.
  2. 2) إعادة قراءة هذا التراث بما يضيف للعربية بعدًا غير مسطور في كتبها, وبما يعيد لعلوم العربية بهجتها وإشراقتها.
  3. 3) الإفادة من معطيات العصر في الدرس اللغوي, وهو نتاج بشري عام, وفكر إنساني مشترك, والعمل في سبيل إحياء مناخات المثاقفة بينها وبين العربية وعلومها, وما أبدعته في درسها.
  4. 4) الإفادة من فكر الجاحظ في حركة تجديد الدرس اللغويّ في عصرنا, في تنويع مستويات درس العربية, وفي مزج الشكل بالمضمون, واللفظ بالمعنى, وإحياء المفاهيم العربية الأصيلة للنحو العربي.
  5. 5) الإفادة ممّا يورده الجاحظ من نصوص تحمِل أفكارًا, أو مرويّاتٍ سواء كانت إخباريّة, أو غيرها, بإعادة قراءتها, وفتح آفاق الاستنباط والاستنتاج, وإعادة تكوين الفكر الأصيل, وقيم الإبداع اللغوي.

تمّ, والحمد لله ربّ العالمين, وصلّى الله وسلّم على نبيِّنا محمّد وآله وصحبه.

ســــليمان بن إبراهـــيم العايد

 

Nike Air Max 270

التصنيف الرئيسي: 
التصنيف الفرعي: 
شارك: