إن التصور الإبستمولوجي الذي ارتضاه الدكتور أرسلان في تحليل الانتظامات اللغوية والمفهومية والحدية للغة النحوية، وفي طلب حقيقة نشأتها وسيرورتها، يقلِّل من أهمية تصورات أخرى ويحدُّ من فاعليتها. نقصد بذلك طائفة التصورات التي لا تنظر في انتظام من انتظامات آليات المعرفة النحوية، إلا وتجدها حريصة على أن ترغمه على الخضوع لهذه النظرية المعاصرة أو تلك، عن طريق البحث عن تماثلات نظرية أو تشابهات منهجية، بعضها مزعوم وبعضها الآخر سطحي خادع. حتى إذا ما استعصت سبل إحداث التماثل والتشابه بين ما هو عربي تراثي وما هو غربي معاصر، ادعى أهل هذه التصورات أنّ النص التراثي يفتقر لمنهج دقيق وواضح، إما على صعيد لغته، وإما على صعيد مضمونه. فلا يكون منهم إلا إجهاده بالتأويل تارة، وبالانتقاء أخرى، حتى يناسب مقومات ما يعتبرونه التصور المتين والنهج المكين. وهم، في هذا كله، معرضون عن الصواب، فاقدون لموجبات التواصل مع التراث. يخفون تحت مفاهيم "العلمية" و"الموضوعية" و"العقلانية" و"الدقة" وغيرها ادعاء باطلا، جوهره أنّ "العلمية" مفهوم واحد لا يطال مقاييسه ومبادءه التبدل أو التغير، وكأن الأسئلة المختلفة التي وَجَّهت قطاع المعرفة النحوية العربية نحو غايات مخصوصة، لا تنفصل في شيء عن تلك التي حدَّدت مسالك البحث في القطاع اللساني المعاصر، حتى صار تقويم أحدهما والحكم عليه بمقدمات الآخر وأسئلته أمرا مُستساغا!
وعموما، فإنّ هذا البحث دراسة وصفية تحليلية مُؤسَّسَة على الأبعاد الفكرية والتاريخية والعقدية، متخذة من مبادئ بناء لغة العلم في المجال التداولي الفكري الإسلامي العربي، مرجعا للحكم على أساليب التعبير وضوابط التبليغ في اللغة النحوية، وسبيلا للظفر بالحقيقتين الأنطولوجية والعلمية لهذه اللغة، بالنظر إلى الكيفيات المتأصلة في بنائها، والمرجعية المعرفية التي جعلتها على سمت مخصوص.