هذا البحث قُدّم إلى ( ندوة المعجم التاريخي للغة العربية - قضاياه النظرية والمنهجية والتطبيقية ) المعقودة في فاس 23-25 ربيع الثاني 1431هـ / 8 -10 أبريل 2010 م
ـ مدخل:
نقدم هذا العرض في سياق الجهود الرامية إلى بناء المعجم التاريخي للغة العربية. وهي الجهود التي انطلقت، كما هو معروف، مع تجربة فيشر ومجمع اللغة العربية بالقاهرة، وما تلاها من التجارب كتجربة الجمعية المعجمية بتونس وتجربة معهد الدراسات المصطلحية بفاس، وما يُتوقع إنجازه من اتحاد المجامع اللغوية العربية بالقاهرة. وهي كلها جهود مبسوطة في هذه الندوة، لا حاجة تدعو إلى تكرار القول فيها.
نركز في هذا العرض على تقديم تصورنا لكيفية بناء المعجم التاريخي للغة العربية بعد الاطلاع على كل التجارب السابقة وما آلت إليه، والاستفادة من المعطيات اللسانية الراهنة والصناعة المعجمية الحديثة، مستهدفين المساهمة بنصيب في كل تلك الجهود.
يتضمن هذا العرض الفقرات الآتية:
ـ معجم الفرد ومعجم الأمة
ـ تطور اللغة والحركة المعجمية
ـ تطور اللغة العربية والحركة المعجمية
ـ مفهوم المعجم التاريخي للغة العربية والقصد منه
ـ خطة إنجاز المعجم التاريخي للغة العربية
1 – معجم الفرد ومعجم الأمة:
يكتسب الفرد مفردات لغته بفضل ملكته اللغوية، وقدرته المعجمية خاصة. وينمو رصيده من مفردات لغته بنموه الإدراكي والاجتماعي والمعرفي. وقد بينت الأبحاث المعنية ببناء الذاكرة المعجمية وتطورها أن الطفل يتدرج في بناء معجمه اللغوي، وأن حجم رصيده المعجمي يزداد بحسب اتساع ثقافته ومعارفه وعلاقاته... وأنه لا يحتفظ بكل المفردات التي اكتسبها أو تعلمها، وإنما يحتفظ في ذاكرته قصيرة المدى بالمفردات التي يستمر في استعمالها، وأن المتكلمين بلغة معينة لا يتوفرون على الرصيد المعجمي ذاته، بل يتفاوتون في معرفة مفردات لغتهم واستعمالها[1].
وأما على صعيد الأمة، فإن كل أمة، تتدرج في بناء معجم لغتها. فلا يتصور نظرا ولم يتحقق واقعا أن أمة في تاريخ الأمم والشعوب تهيأ لها معجم لغتها دفعة واحدة، وإنما يكبر معجم لغتها وينمو ويتطور بحسب حاجتها ومدى نموها وتطورها وامتدادها في الزمان واتساعها في المكان.
والأجيال في كل أمة تُحدث تغييرات في معجم لغة الأمة باستحداث مفردات جديدة تقتضيها حاجتها في التعبير أو بإهمال استعمال قسط من المفردات القديمة التي لم تعد تدعو حاجة إلى استعمالها.
ويشهد تاريخ اللغات على الحركة الدائبة للمعجم بين إضافة مفردات لم تكن موجودة وطغيان استعمالها، وبين إهمال مفردات وإخراجها من الاستعمال إلى حد اندثارها.
وليس لفرد من أفراد الأمة، في عصر من عصورها أو في تاريخها، أن يدعي امتلاكه معجم لغتها؛ بل لا يستطيع أن يخزن في ذاكرته المعجمية ما يعادل معجما متوسط الحجم من المعجمات المؤلفة في عصره وأن يستعمل كل مخزونه المفرداتي ذاك.
وهكذا يتبين أن علاقة الفرد بمعجم لغته تماثل علاقة الأمة بمعجم لغتها بناءًَ وتطوراً وتملكاً. فمعجم اللغة ليس كتابا مغلقا بين دفتين، له بداية وله نهاية، وواضعه معلوم؛ وإنما هو رصيد مفرداتي مفتوح، يُتدرج في بنائه وتطويره، يغتني باستمرار، ويصبح مِلكاً جماعيا للأمة، مثله مثل الوطن: مِلك لجميع أبنائه دون أن يدعي أحد منهم مِلكيته بمفرده.
2 – تطور اللغة والحركة المعجمية:
يقوم علماء اللغة بتأليف معاجم لغوية يرصدون فيها اللغة المستعملة في كل عصر من العصور المختلفة التي مرت بها الأمة في حياتها. وفضلا عن اعتبار هذا العمل جمعا للغة وتوثيقا لها، فهو من المنظور السابق وصف للذاكرة المعجمية الجماعية في فترة زمنية محددة.
ومن الناحية النظرية المجردة، يمكن رسم صورة واضحة عن تطور الذاكرة المعجمية الجماعية لأمة من الأمم استنادا إلى المعاجم التي ألفت على امتداد تاريخها؛ إذ يُفترض أن مؤلفي المعاجم في العصور المختلفة يوثقون المفردات التي يستعملها المتكلمون في تلك العصور، وهم بذلك يثبتون ما جدّ من المفردات والمعاني، ويهملون ما أهمله المتكلمون في استعمالاتهم اللغوية. فتكون المعاجم المختلفة باختلاف العصور سجلا أمينا لتطور معجم اللغة في امتدادها التاريخي.
لنبين ذلك على نحو مجرد بالمثال الآتي :
لنفترض لغة ما (ل ن) امتد وجودها من عصرها الأول (ع 1) إلى العصر الحالي (ع م)، ولنفترض أن حركة معجمية نشيطة واكبت حياتها، فألِف معجم (مع 1) في عصرها الأول، ومعجم آخر( مع 2) في عصرها الثاني، ومعجم (مع م) في عصرها الراهن.
سيكون المعجم الثاني (مع 2) سجلا معجميا تاريخيا للعصرين الأول والثاني (مع تا 1) يذكر ما جدّ من المفردات ويحذف ما أُهمل في الاستعمال. وكذلك يكون المعجم الثالث والرابع والخامس والمعجم الراهن. فيكون المعجم التاريخي لهذه اللغة ( ل ن) هو حصيلة ما رصدته المعاجم المتتالية بتوالي العصور من تغيرات في المفردات وفي معانيها إضافة وحذفا وتعديلا.
إلا أن واقع الحركة المعجمية المواكبة للغات البشرية يخالف هذه الصورة المفترضة في عدد من العناصر الأساسية نورد أهمها في الآتي:
- ليس معلوما على وجه الدقة البدايات الفعلية لمعظم اللغات العالمية وللتحولات التي عرفتها معاجمها. وبذلك تضيع معرفة فترات مهمة من تاريخ اللغة ومفرداتها ومعانيها واستعمالاتها.
- لم تحظ معظم اللغات بمواكبة معجمية، خاصة في عصورها الأولى.
- تتفاوت الحركة المعجمية المواكبة للغات، نشاطا وفتورا، بحسب العصور؛ فقد تُؤلف في عصر واحد عشرات المعاجم للغة ما، بينما لا يعرف عصر آخر أو أكثر من عصورها أي معجم يرصد أوضاعها.
- تختلف المعاجم التي توضع للغة ما في عصر من عصورها أو في عصورها كلها، في الأهداف التي يتوخاها واضعوها، ويعني ذلك أن كثرة المعاجم لا يدل بالنتيجة على تتبع دقيق لما أنتج في هذه اللغة من مفردات، وما تم توليده فيها من المعاني الجديدة.
- يتعذر على المعاجم الموضوعة في العصور المختلفة للغات أن تستوعب كل مفرداتها المستعملة ومعانيها المستحدثة.
وبهذا يتبين بوضوح أن الصورة المفترضة المقدمة سابقا مختلفة عن واقع اللغات ومعاجمها، ولا يمكن أن تصلح أساسا للعمل والبناء، ولكنها مع ذلك، يمكن أن تساعد على تصور خطة للعمل والبناء.
3 – تطور اللغة العربية والحركة المعجمية:
يُعد "معجم العين" أول معجم وصل إلى أيدي العلماء من معاجم اللغة العربية، وهو معجم وضعه الخليل بن أحمد الفراهيدي في القرن الثاني الهجري[2]، في حين يمتد تاريخ اللغة العربية قرونا قبل تاريخ وضع ذلك المعجم[3].
وفي ضوء ما تقدم، تكون ثروة مهمة من مفردات اللغة العربية المستعملة طيلة تلك الفترة قد ضاعت، فلم يصل منها إلى أيدي العلماء معجم لها، ولا غيره مما يوثق استعمالها.
وعلى الرغم من المجهود المضني الذي يقوم به علماء قلائل لاستدراك ما ضاع، وبيان عمق تاريخ اللغة العربية ببيان صلتها بأخواتها من اللغات المندرجة في ما يُعرف ب"اللغة العروبية"[4]، فإن ذلك لا يسمح، في الوقت الراهن على الأقل، برسم "ذاكرة" تؤرخ لظهور مفردات اللغة العربية انطلاقا من تاريخ تلك "اللغة العروبية". ودون بلوغ ذلك الهدف كثير من الجهد المنظم الذي قد يستغرق عقودا من الزمان.
وأما اللغة العربية المستعملة منذ العصر الجاهلي إلى اليوم، فلم تستوعب منها المعاجم قديمها وحديثها إلا القليل، وظل كثير من مفردات اللغة العربية المستعملة خارج دائرة المعاجم لأسباب عديدة، نذكر منها ما يلي:
1 - لم تستوعب المعاجم العربية القديمة مفردات اللغة العربية المستعملة للسبب المنهجي الذي اختاره علماء العربية آنذاك المتمثل في شرط "الفصاحة"، فأٌقصيت بموجبه كثير من المفردات اللغوية المستعملة على ألسنة الشعراء وأقلام الكتاب والأدباء "المولدين". وعلى الرغم من كثرة المعاجم العربية القديمة وتنوعها وضخامتها، فإن ذلك كله ليس دليلا على مواكبتها ما أنتجه المتكلم العربي على امتداد ذلك التاريخ من المفردات وما استحدثه من المعاني، فقد غلب على معظمها العناية بتنويع طرق عرض المادة المعجمية وترتيبها، والعناية بالتشذيب والتلخيص أكثر من العناية باستقصاء جديد المفردات واستعمالاتها.
2 - لم تدرج تلك المعاجم كثيرا من المفردات ومعانيها المختلفة لسبب منهجي آخر تمثل في عدم إدراج المفردات المطردة في الاشتقاق.
3 - لم تواكب المعاجم المؤلفة في العصور المتتالية حركة اللغة العربية في واقعها التاريخي، حيث يكاد معظمها يكون نسخة "معدَلة ومنقحة ومزيدة" عن المعاجم القديمة لا ترقى إلى تمثيل قدرة المتكلم العربي المعجمية المتسمة بالتجديد وبالإبداع، بسبب عدم العناية الكافية بهذا الموضوع، وعدم إيلاء الأهمية اللازمة له. حتى إننا مازلنا نعدم إلى حد اليوم معجما عربيا معاصرا يحظى بقدر كاف من التمثيلية والواقعية.
وتؤكد المعطيات السابقة وما أعقبها من ملاحظات أن المجهود المعجمي العربي، قديمه وحديثه، لم يستطع أن يمثل قدرة المتكلم العربي المعجمية إلا جزئيا، ولم يتمكن من بناء "ذاكرة" للكلمة العربية تحفظ تاريخها في الاستعمال. فما زلنا لا نملك معلومات عن بداية استعمال مفردة عربية ما بدلالتها الأولى، أو معلومات عن تاريخ تغير دلالاتها، أو معلومات عن اتساع استعمالها أو انحسارها واندثارها. ويعني ذلك من بين ما يعنيه أن المفردة المستعملة اليوم بدلالة ما ليست بالضرورة هي الدلالة التي استُعملت بها في العصور السابقة، وأن المفردة المستعملة في العصر الجاهلي مثلا بدلالة ما، ليست بالضرورة هي الدلالة التي تُستعمل بها اليوم. وجهل هذه التغيرات في الدلالة والاستعمال يوقع في كثير من سوء الفهم وانحراف التأويل وفساد الاستنباط.
4– مفهوم المعجم التاريخي للغة العربية والقصد منه:
إن الحاجة إلى معجم تاريخي للغة العربية أظهرُ من أن يُستدل على بنائه، وعلى أهميته وضرورته. فالحاجة إليه هي ذاتها الحاجة إلى بيان تطور الفكر العربي في تمثلاته المختلفة، المعرفية والعلمية والثقافية والاجتماعية وغيرها. إذ إن اللغة كما هو معلوم، مرآة للفكر، ينعكس فيها بتجلياته التي تجلِّيه.
وما نقصده بالمعجم هنا هو شبكة الوحدات اللسانية التي تتشكل منها اللغة، إذ إن المعجم – في التوجه الذهني – ليس قائمة من المفردات المعزولة، لا يقوم بينها أي نوع من العلاقات، ولا يستدعي بعضها البعض الآخر. وما نقصده بالمعجم التاريخي هو المعجم الذي يرصد تطور الألفاظ اللغوية في علاقاتها ببعضها البعض صرفيا ودلاليا. فيكون المعجم التاريخي للغة العربية بهذا التحديد هو المعجم الذي يتضمن "ذاكرة" كل لفظ من ألفاظ اللغة العربية، تسجِّل – حسب المتاح من المعلومات – تاريخ ظهوره بدلالته الأولى، وتاريخ تحولاته الدلالية والصرفية ومكان ظهوره، ومستعمليه في تطوراته إن أمكن، مع توثيق تلك "الذاكرة" بالنصوص التي تشهد على صحة المعلومات الواردة فيها.
وبهذا التحديد، يخرج من دائرة المعجم التاريخي للغة العربية كل المعلومات التي لا تتعلق تعلقا مباشرا بموضوعه وبالهدف الذي وُضع من أجله. فليس المقصود إذاً وضع موسوعة أو بناء قاعدة من المعطيات عن اللغة العربية تخزًّن فيها اللغة بثروتها وأعلامها ومراجعها الكبرى من المصنفات، وبشتى أنواع المعلومات النحوية والصرفية والبلاغية والصوتية وغيرها، حتى إن رُوعي في سردها الترتيب التاريخي؛ إذ إن عملاً من هذا القبيل يتجاوز موضوع المعجم التاريخي ولا يحقق الهدف المتوخى منه أصلا.
5– خطة إنجاز المعجم التاريخي للغة العربية:
لا تشكل المعاجم اللغوية، إذاً، قديمها وحديثها، إلا رافدا واحدا من روافد معجم اللغة العربية التاريخي، بينما تشكل روافده الأخرى كل ما أُنتج باللغة العربية في مختلف فروع الآداب والفنون والمعارف والعلوم على مر العصور.
وإذا استحضرنا موضوع المعجم التاريخي للغة العربية والهدف المتوخى منه، فإن الثروة الهائلة من الآداب والفنون والمعارف والعلوم المنتَجة باللغة العربية على مر العصور، لا تستوجب بالضرورة مواجهة الصعاب المتعلقة بجمعها وتصنيفها وتخزينها على نحو من الأنحاء، بل يمكن تجاوز كل ذلك باتباع خطة تقوم على الاقتصاد في الجهد والكلفة، والتدرج في البناء، وسد الثغرات.
وأما ما يحقق الاقتصاد في الجهد والكلفة، فيتمثل في إثبات اللفظ ودلالته الأولى والتغيرات الصرفية والدلالية الطارئة عليه على مر العصور معززة بالنصوص الدالة عليها، موثقة بالمعلومات الضرورية. فإن ظهر لفظ عربي بدلالة واحدة استقر عليها إلى يومنا الراهن، يُكتفى بإيراده مرة واحدة، فإن طرأ عليه في حياته تغييران اثنان يذكر مرتين، فإن طرأ عليه في حياته ثلاث تغييرات يذكر ثلاث مرات، وهكذا ....إذ يُحرص كل الحرص على أن لا يكرر ذكر اللفظ إلا إذا تغير استعماله في المبنى أو المعنى، وبحسب عدد التغيرات الطارئة عليه فقط، ولا حاجة إطلاقا تدعو إلى حشر المواد والمعلومات والاستشهادات التي تتجاوز تحقيق الهدف المتجلي في رصد التطورات الحادثة على اللفظ.
وأما التدرج في البناء فنهج طبيعي يضمن استمرار العمل ويَحُول دون مخاطر العجلة؛ إذ يمكن تقسيم مشروع المعجم التاريخي للغة العربية إلى مراحل، إما بحسب حروف الهجاء فلا يُنتقل إلى الألفاظ المبتدئة بحرف حتى يُنتهى من رصد الألفاظ التي قبلها، وهكذا دواليك، وإما بحسب العصور، فلا يُشرع في ألفاظ عصر حتى يُنتهى من ألفاظ العصر الذي قبله، وهكذا دواليك، إما ابتداء من العصر الحالي حتى العصر الجاهلي وما قبله، وإما ابتداء من العصر الجاهلي حتى العصر الحالي. والمجال هنا مفتوح للاجتهاد في ابتكار صيغ التقسيمات والمراحل ...
وأما سدَّ الثغرات ، فيُراد به استدراك أمور ثلاثة:
أ - ما ظهر من جديد لم يُرصد في المنجز من المعجم.
ب- ما ظهر من جديد في مخطوط تم اكتشافه أو تحقيقه.
ج- ما ظهر من جديد باكتشاف ما يربط بين اللغة العربية الفصحى وأخواتها من "اللغات العروبية".
فبالنظر إلى الثروة الهائلة من مفردات اللغة العربية، واتساع نطاق استعمالها، وامتداد زمان وجودها، فإن احتمال ظهور استعمال جديد للفظ من ألفاظها لم يُرصد في المعجم التاريخي للغة العربية يظل قائما، فإن ثبت استعمال لفظ بمعنى غير مرصود من قبلُ، وجب إضافته في مكانه المناسب من المعجم، وينبغي أن يظل هذا الاحتمال قائما دائما لا يتوقف في مرحلة من مراحل الإنجاز، ولا بعده.
وكذلك شأن كل لفظ ظهر أن له معنى جديدا لم يُرصد في المعجم، تم استدراكه إما باكتشاف مخطوط عربي لم يكشف عنه من قبل، وإما بتحقيق مخطوط ظل مغمورا بعيدا عن أيدي الناس، كل ذلك يوضع في مكانه المناسب من المعجم بحسب تاريخه.
يُضاف إلى ذلك ما قد يظهر من ألفاظ عربية بمعانيها القديمة المستعملة قبل العصر الجاهلي، أو ما يظهر من استعمالات قديمة لألفاظ عربية موجودة ذات معان طرأ عليها تغير في العصر الجاهلي وما بعده من العصور، وذلك بحسب ما تتيحه الأبحاث المعنية ببيان أوجه العلاقة بين اللغة العربية وبين أخواتها المكونة ما يسمى "اللغة العروبية".
وسد الثغرات على النحو الذي بيناه غيرُ المواكبة المستمرة للتطورات الطارئة على اللغة العربية في ألفاظها، وهو مطلب ضروري يساير ما يطرأ على الفكر العربي من تغير، وهما معا يعملان متكاملين: فسدﱡ الثغرات يتصدى إلى استدراك كل الموجود من الألفاظ المستعملة بمعانيها المختلفة على مر العصور، والمواكبة المستمرة تتصدى إلى رصد كل تغير يطرأ على استعمال لفظ، فيُدرج في المعجم.
وبالمعنيين السابقين، يكون المعجم التاريخي للغة العربية معجما مفتوحاً غير مغلق. فإذا افترضنا أنه تم رصد أربعة تطورات طرأت على لفظ ما، وأثبثت في المعجم بدءاً من العصر الجاهلي إلى عصرنا الراهن، ثم تبين بعد ذلك أن هناك تطورا آخر طرأ على هذا اللفظ في عصر من العصور قبل العصر الجاهلي أو بعده وجب إدراجه في مكانه المناسب، حتى يكتمل رصد كل التغيرات التي طرأت على اللفظ في حياته على الشكل المبين أدناه:
ولإنجاز مشروع المعجم التاريخي للغة العربية وفق الخطة المحددة أعلاه، لا يمكن إغفال الدور المهم للتقنيات المعلوماتية الحديثة؛ إذ في استثمار إمكاناتها إلى أقصى حد فائدة كبيرة أقلها اقتصاد الجهد وتسريع وتيرة الإنجاز.
لذا، نقترح إنشاء مرصد للمعجم التاريخي للغة العربية في الشابكة (الإنترنت)، يُصمَمُ بطريقة يكون فيها مفتوحا في وجه الراغبين في المشاركة من أنحاء العالم، على أن يشرف عليه عدد محدود من خبراء اللغة والمعجم، يَقبلون ما يتوافق مع المعايير الموضوعة سلفا، ويرفضون ما لا يتوافق.
وعلاوة على المشاركة المفتوحة في وجه المتطوعين المهتمين، يكون العمل جارٍ وفق تنظيم محكم، على إدخال المعاجم الرقمية بالصورة التي تتوافق مع بناء المعجم التاريخي للغة العربية. ويقوم فريق ثالث بالاستفادة من الكتب والمصنفات الرقمية والورقية في تزويد المعجم بمادة جديدة بحسب البطاقة التقنية المعدة سلفا.
ولاشك أن عملا عظيما من هذا القبيل يحتاج إلى تضافر الجهود، وتبادل الخبرات، والتعاون المستمر مع طول نفَس وتدرج في العمل.
والله ولي التوفيق
-------------------
حواشي البحث :
[2] ـ انظر التفاصيل في كتاب الدكتور أمجد الطرابلسي (1986)، ص 22 وما بعدها.
[3] ـ يقول الدكتور رفعت هزيم: "والمعروف أن كثيراً من الباحثين يرون أن نقش النمارة – بالرغم من الاختلاف في قراءته وتفسيره – هو أقدم نص مصوغ بالفصحى وصل إلينا... ولما كان تاريخ هذا النقش هو سنة 328 م فإن نشأة الفصحى ينبغي أن ترجع إلى العقد الثالث من القرن الرابع للميلاد.
وقد أكد ظهور الفصحى في تلك الفترة الزمنية نقشان آخران، اكتشف أحدهما في الربع الأخير من القرن العشرين في موقع "الفاو" بوادي الدواسر في وسط الجزيرة العربية، وتاريخه قريب من تاريخ نقش النمارة أو سابق له، أما النقش الثاني فهو من منطقة "الحجر" (مدائن صالح حاليا)... غير أنَ ظهور الفصحى أسبق زمنا – فيما يبدو – مما ذكرنا، والدليل على ذلك نقش اكتشف عام 1979 منقوش بالخط النبطي على صخرة قرب عين ماء في مكان غير بعيد عن موقع نبطي معروف يدعى "عبادة" في صحراء النقب.
فإذا جعلنا نقش "النمارة" وهذه النقوش الثلاثة أساساً لتحديد زمن ظهور الفصحى فإما أن يكون - استنادًا إلى نقش "عبدة" - في النصف الأول من القرن الثاني للميلاد، وإما أن يكون استناداً إلى نقش "الحجر" في النصف الثاني من القرن الثالث للميلاد، وإما ألا يتجاوز – إذا استندنا إلى نقشي "الفاو" و "النمارة" ـ الثلث الأول من القرن الرابع للميلاد". (النقوش العروبية القديمة في المشرق والمغرب، الدكتور رفعت هزيم، مجمعيات ندوات 2، مجمع اللغة العربية، طرابلسـ ـ ليبيا، 2007، ص 77 و78 و79).
[4] ـ يقول الدكتور علي فهمي خشيم : "هذا المصطلح الذي نستعمله للتعبير عن ما دعي سابقا (مجموعة اللغات العامية). وبعد اتضاح العلاقة بين هذه المجموعة وما أسموه (اللغات الحامية) كالمصرية القديمة والليبية ووريثتيهما القبطية والبربرية/ الأمازيغية، أُدمجت المجموعتان بتسمية مركبة هي (الحامية ـ السامية)... نرى أن مصطلح (العروبية) يشمل المجموعتين السامية والحامية بلغاتها (لهجاتها)؛ الأمدية، الكنعانية، السبئية، الحبشية، المصرية، الليبية...وطبعا العربية العدنانية أو المُضرية. خشيم، علي فهمي (2005)، ص 24.
----------------
المراجع العربية:
ـ خشيم، علي فهمي (2005):
الأكدية العربية (معجم مقارن ومقدمة)
مركز الحضارة العربية، القاهرة، 2005.
ـ الطرابلسي، أمجد (1986):
نظرة تاريخية في حركة التأليف عند العرب في اللغة والأدب
دار قرطبة للطباعة والنشر، الدار البيضاء ـ المغرب، الطبعة الخامسة 1986.
ـ هزيم، رفعت (2007):
النقوش العروبية القديمة في المشرق والمغرب
مجمعيات ندوات 2، مجمع اللغة العربية، طرابلسـ ـ ليبيا، 2007.
المراجع باللغة الأجنبية:
- Elisabeth van der linden (2006)·:
Lexique Mental et apprentissage des mots .
In·: Revue française de linguistique appliquée 2006/1
- Pierre Marquer ( 2005)·:
L’organisation du lexique mental.
L’Harmattan , 2005.
- Denhière Guy (1975)·:
Mémoire sémantique , conceptuelle ou lexicale·?
In: langage, n 40/1975.
- Kintsch.W (1972)·:
Notes on the structure of semantic memory.
In: Tulcing (E), and Donaldon (W) (eds), organization and memory , 1972, New york.
---------------
أ.د عزالدين البوشيخي
جامعة مولاي إسماعيل ـ مكناس