عمان- الغد: اللغة والفكر مائزان لإنسانية المرء وبقائه، لأن وجوده متصل بأسبابوجود اللغة، التي بها "يعقل وجوده ووجود ما يحيط به، ويؤلف بين الموجودات فيربط بين المدرك حسا والمتصور عقلا".
بذلك استهلَّ الدكتور عيسى برهومة مقدمة غنية جامعة بعنوان "اللغة وثيمة الخلود"، لكتابه الصادر حديثا تحت عنوان "معجم المرأة"، بدعم من وزارة الثقافة بمناسبة الزرقاء مدينة للثقافة للعام 2010.
ويضيف برهومة أنَّ الفكر يحتاج إلى أرض خصبة، "يتشعب فيها وتتأصل جذوره، وتعوزه مؤونة اللغة، ليكشف عن وجوده الفعلي المحسوس ويباشره، ويحتاجها الإنسان ليخرج من كمونه ويعبر عن مكنونه وما يجول في نفسه".
ويذهب إلى أنَّ اللغة هي سمة الإنسانية السامية، وهوية المجتمعات الحاضرة، مؤكدا أنها "وثيقة خالدة تعرف من خلالها الجماعات البشرية وتطورها في شتى المجالات"، ما يكونُ دافعا للتأثر والتأثير بين أفرادها وفق العرف المتعلق بالدلالة. ويضيف أستاذ اللسانيات المشارك في الجامعة الهاشمية أنَّ اللغة وسيلة من وسائل الاتصال بين الناس، وعامل أساسي لنشأة المعرفة الإنسانية، مبيِّنا أنَّ الكلمات ليست "أشياء غامضة خفية، بل هي أحداث الناس". يرى برهومة أنَّ اللغة إنما هي حاملة الفكر والثقافة "بالمعنى الأنثروبولوجي" ويراها جزءا لا يتجزأ من عملية التفكير، وناقلة لمعارف الأمة وعاداتها وقيمها، وما "يلوب في الحراك الاجتماعي".
ويؤكد أنه إزاء ذلك ارتأى كون المرأة شطر المجتمع وصنو الحياة، أنْ يُخصِّصَ لها "معجما" بغية مقاربة تحققها في ذاكرة اللغة ومستودع تفكيرها، مبينا أنَّ ذلك كان عبر إيماضه إلى الألفاظ التي ترتبط بها في شتى مجالات الحياة.
ويوضح أنه أومض بتلك الألفاظ المرتبطة بها من "هجعة التكوين إلى الوجود الاجتماعي، والأطوار التي تمر بها"، وما يقترن بها من صفات محمودة وأخرى مذمومة، و"الشمائل المعنوية المحمودة والمذمومة".
وأبان برهومة بأنه أومأ إلى الألفاظ المتعلقة بالزواج و"أشكاله وطقوسه والعائلة وتسمياتها، ورعاية الطفل وتغذيته وملاعبته، وزينة المرأة، وما يستحب وما يستكره"، وذلك حسب السياق الذي جمع فيه الألفاظ.
ويلفت إلى أنَّ المشهد الهائل الماثل في "معجم المرأة" مؤشر إلى أنَّ المرأة العربية في القرون السالفة رغم تأثر اللغة بالظروف المحيطة سلبا وايجابا، فإنَّ المتعلقات قد تبين ما هو راشح في شخصيتها، مبيِّنا أنّ ما قد يكون محمدة قديما قد يستكره في عصرنا والعكس يكون صحيحا، إلا أنه يسلم بأنَّ ثمّ جوامع وقرت في "الذاكرة الجمعية وامتدت أوصالها في نهرنا الحاضر" ما أكست إمارة على الشخصية العربية في شؤون الحياة وصروفها.
ويرد المؤلف قوَّةَ العزم لديه للتصدي لموضوع الكتاب إلى أنَّ "المعاجم المتخصصة امتداد لمعاجم المعاني التي عرفتها العرب وأسهمت فيها بنصيب وافر" وهو ما يراه السبب في تشكل التراث المعجمي الذي بات أهلا للإشادة به من اللغويين "عربا وغربا".
ويكشف برهومة عن زمالة الدرس المعجمي لبدايات البحث اللغوي عند العرب، موضِّحا أنهم عكفوا على جمع اللغة محاولين تبويبها وفق "طرائق توفر للغة سيرورتها وتحافظ على نقائها، وتزود أبناءَها بذخيرة تعينهم على قراءة الكتاب المقدس" وتمنحهم فرصة التواصل بلغة سليمة خالية من اللحن.
ويؤكد المؤلف الذي فرغ من "معجم المرأة" في الثاني والعشرين من أيار (مايو) 2010، أنه يخال أنَّ استقراء المعاجم العربية وتتبع ألفاظ المرأة فيها يوفر للباحثين والنقاد "خميرة جيدة لمدارسة شؤون المرأة العربية"، في الوقت الذي نشهد فيه الصعود الدائب لدراسات المرأة. ويستحسن برهومة بالباحثين أنْ يتكئوا على بينات وخزائن "مستوحاة من الخزين الجمعي للأفراد، الماثل في اللغة"، رائيا أنَّ ذلك يجعل من مقارباتهم أكثر علمية وموضوعية، لما تمثله اللغة من انعكاس لوعي الجماعة التي "ابتدعتها"، والتي لا تتطور بمعزل عن الناطقين بها، والوعي الإنساني لا يتطور بمعزل عنها.
ويقول إنَّ المعاجم فوق أنها من شروط خلود اللغة، فإنها "شرط المعرفة في تجليها"، رادا ذلك إلى أنَّ المعاجم "تعيد تركيب اللغة بغية إبداعها"، إضافة إلى أنها " تفككها لتعيدها خلقا معرفيا جديدا"، فتظل خلقا دائما " تؤسس للمعرفة واستمرارها".
ويردف المؤلف بأنه من الوهم رؤية المعجم "جمهرة من الألفاظ وشرح دلالتها على نهج معين فحسب"، مؤكدا أنَّ المعجم أيضا "معين لجملة من المعارف اللغوية والثقافية، تنتظمها سياقات متأثرة بالبيئة التي صدرت عنها".
وينتهي إلى أنَّ الآثارَ الإنسانية حين تصبح لغة فإنها تمتلك خاصية مكانية "تحفظ لها بقاءها لئلا يضيع منها شيء"، إضافة إلى خاصيَّة زمانية "تنتقل بها فلا ينقص منها شيء، إذ إنَّ اللغة آنذاك تشق لنفسها في ثنائية المكان والزمان بعدا ثالثا يتداخل فيه الزمان والمكان لمصلحة مقاربة الوجود للأفراد والجماعات.