وهذه القسمة المتناقضة مع عنواني الكتاب في حاجة إلى تفسير. فالدراسة المقارنة التي احتلت مكاناً ثانوياً في العنوان حظيت بالقسط الأوفى في حجم الكتاب، على حين تقلص نصيب "المدخل إلى علم الأصوات" على نحو لا يتسق ألبتّة مع بروزه كعنوان رئيس للكتاب. وربما كان في مناقشاتنا التالية التي سنتتبع فيها تفصيلات ما ورد في الكتاب من مسائل وقضايا تضمنتها فصوله وأبوابه تفسير لهذه القسمة المتناقضة.
ثانيا : علم الأصوات الفيزيائي (الأكوستيكي)
يبدأ المؤلف كتابه بباب يخصصه لعلم الفوناتيك عرض في الفصل الأول منه الحقائق الأساسية في مجال علم الأصوات الفيزيائي مثل شدة الصوت، ودرجته، وطول الموجة، والنغمة، والرنين والترشيح، والحزم الصوتية، وقد جاء في كل ذلك بما يستحق التأمل والنظر والتعقيب.
(1) علو الصوت وقوته :
يقول المؤلف : "يطلق على إدراك الأذن للصوت المحصور في منطقة معينة مصطلح علو الصوت، ويقاس بوحدة خاصة هي السون (Sone). ص13
ثم يقول من بعد :" لهذا يقاس إدراك الأذن لعلوّ الصوت بوحدة مستقلة هي الديسبل (Decibel) ". ص13-14
نحن هنا أمام ظاهرة واحدة "علو الصوت" ومقياسان مختلفان هما السون الديسبل. وكنا نود ألا يستكثر المؤلف من ذكر هذه المصطلحات تاركاً إياها دون إيضاح أو تفسير.
والقارئ معذور إذا قرأ هذه السطور القليلة فثارت في نفسه أسئلة كثيرة :
ما مقياس السون ؟ وكيف يستخدم ؟ وما مجاله ؟ وهل مقياس السون و الديسبل شيء واحد ؟ وإذا كانا مختلفين ففي أي شيء يكون اختلافهما ؟ ولماذا وصف السون بأنه وحدة خاصة. ووصف الديسبل بأنه وحدة مستقلة ؟ وهل ثمة دلالة محددة لمعنى الخصوصية والاستقلال ؟
والحق أنه إذا صح أن السون من مقاييس الإدراك، أي أنه مقياس للانطباع الذي يعاير به انفعال الأذن بمستويات اختلاف الأصوات من حيث الشدة، فليس الديسبل – كما يقول المؤلف – مقياساً من مقاييس إدراك الأذن للشدة. بل هو مقياس موضوعي مثل مقياس الوات (Watt) المستخدم لقياس الطاقة أو القوة. وكل ما بينه وبين الوات من فرق هو أنه مقياس للتناسب بين قوتين أو اتساعين من إتساعات الضغط (amplitude)، على حين يقيس الوات الكمّ المطلق - لا النسبي – للطاقة أو القوة. ويبدأ مجال القوى المقيسة بالكمية 10 -16 وات/سم2، وتنتهي بالكمية 10 – وات/سم2. وفيما بين هاتين الكميتين التي تمثل أولاهما أقل قوة تدركها الأذن وتمثل الثانية الحد الأعلى من القوة ذات التأثير الضار على الأذن يأتي مقياس الديسبل ليقيس موضوعياً، وليس ذاتياً كما يقول المؤلف، التناسب بين أي كميتين من كميات القوة (أو أكثر) تقعان (أو تقع) فيما بين هاتين النقطتين، وهذا الأمر شبيه بالتدرج المئوي للترمومتر المستخدم في قياس درجات الحرارة، والذي تحده نقطتان : نقطة تجمد الماء (الصفر)، ونقطة غليانه (الدرجة100).
وإذن فليس صحيحا ما يقال من أن الديسبل مقياس ذاتي لإدراك الشدة أي لاستجابة الأذن حيال اختلاف مستويات القوة، بل هو مقياس موضوعي كما قدمنا.
(2) درجة الصوت
يعرض المؤلف لاختلاف الأصوات تبعاً لاختلاف ترددها. ويطبق ذلك على الصوت الإنساني فيقول : "إن قوة شد الحبل الصوتي عند الرجل أثقل منه عند المرأة ولهذا يوصف صوت الرجل بأنه سميك، وصوت المرأة بأنه دقيق". ص16
والملاحظة الأولى على هذا القول هو غموضه الظاهر. وهذا النوع من الصياغة لا يتناسب مع المحتوى العلمي الذي يتطلب في العبارة عنه الدقة والتحديد وليس من السهل على أي قارئ أن يفهم عبارة مثل "قوة شد الحبل أثقل" فهماً دقيقاً محدداً.
والملاحظة الثانية أن شد الحبل الصوتي أو توتره ليس صفة ملازمة لصوت الرجل دون صوت المرأة أو العكس، إذ إن الشدّ والإرخاء صفتان تتعاوران الأوتار الصوتية عند الرجل والمرأة جميعاً، وهي المسئولة عن اختلاف الأنماط التنغيمية عند كليهما.
والملاحظة الثالثة أن عكس ما جاء في عبارة المؤلف هو الصحيح فزيادة شد الحبل – أو زيادة توتره – تؤدّي إلى زيادة التردّد، وهذه تؤدّي بدورها إلى علوّ الدرجة الذي هو حدة الصوت خلافاً لما يدل عليه ظاهر قول المؤلف.
(3) طول الموجة
نقل المؤلف المعادلة التي يحسب بها طول الموجة نقلاً صحيحاً، ولكنه أخطأ في إيراد المثال حيث قال : "إذا افترضنا أن لدينا صوتاً تردده 400 ذ/ث فإن طول موجته سيكون 1130 /400 = 218 قدماً.
والصواب هو 2.8 قدماً، وكنت ظننت أنه خطأ مطبعي. غير أن قائمة التصويب التي وضعها المؤلف في نهاية كتابه لم تصوّب الرقم.
(4) النغمة
يعرف المؤلف النغمة بقوله : "هي الصوت الناتج عن صدور موجة صوتية" ص17
وهذا التعريف بعيد عن الصواب، لأن ضجيج آلات المصانع، وأزيز الطائرات، كلاهما "صوت ناتج عن صدور موجة صوتية". وإذن تكون بحكم هذا التعريف نغمات. وهي بطبيعة الحال ليست كذلك، ولكنها من قبيل الضجات noises التي لا تشتمل على ترددات دورية منتظمة. ويوجد لهذا النوع أمثلة من أصوات الكلام كالسين والشين والصاد والثاء والفاء. لكن المؤلف لم يشر إليه ألبتة.
ويلاحظ أن المؤلف قد سبق له عند الكلام عن الموجة الصوتية أن عرض للتعريف بالذبذبة وسعتها والتردد والدرجة، ثم عاد إلى الكلام عن النغمة فعرّفها هذا التعريف الذي أوردنا مآخذنا عليه، ذاكراً أن النغمة يحددها عاملين (كذا وردت وصحتها عاملان)، وهما :
1) الزمن المعين الذي تستغرقه دورة الذبذبة الواحدة وليكن 1/400 من الثانية. إذا كان تردد الشوكة التي لدينا هو 400 ذبذبة في الثانية.
2) اتساع الذبذبة :
وللنغمة الواحدة درجة معينة وارتفاع معين "انتهى النص ص 17" ونورد على هذا النص بعض الملاحظات :
أولها : أنه لم يكن ثمة داعٍ لهذا التكرار لأن الكميات التي تستخدم في قياس الموجة الصوتية (الذبذبة – الاتساع والعلو – التردد والدرجة) واحدة سواء أكان الصوت نغمة أم ضجة.
ثانيها : أن الصياغة المكرّرة أكثر غموضاً من السابقة ودليل ذلك ما كتبه تحت عنوان "اتساع الذبذبة"، وفيه خلط بين الدرجة والاتساع، كما استعملت فيه أيضاً كلمة جديدة هي الارتفاع ومدلولها غامض.
ثالثها : أن ما ذكره المؤلف تحت عنوان "اتساع الذبذبة" قد عزاه في الحاشية إلى كتاب "التصوير الطيفي" دون تحديد للصفحة. ولا أظن أن مؤلف الكتاب – إرنست بولجرام – قد ذكر مثل هذا الكلام تحت مثل هذا العنوان. وقد كان لنا شرف ترجمة الكتاب ونشره عام 1977م.
(5) الرنين
يشرح المؤلف ظاهرة الرنين فيقول : "وظاهرة جعل جسم ما يتحرك عن طريق ذبذبات جسم آخر تعرف باسم الرنين (resonance) والجسم الذي تسبب في تحرك الجسم الآخر (resonator) والجسم الذي يتحرك عن طريق الجسم الآخر (resonant) ص 12-22
وفي هذه السطور القليلة عدد من الأخطاء الظاهرة في تحديد مفاهيم المصطلحات. فالجسم الذي هو سبب الحركة يقابله المصطلح (sonator) وليس (resonator) كما يذكر المؤلف. وهذا المصطلح الأخير resonator يطلق على الجسم الذي يتحرك استجابة لحركة جسم آخر وهذا يعني عكس ما ذكره المؤلف تماماً. أما المصطلح (resonant) فلا يعني في استخدامه الدقيق نفس الجسم المستجيب بل يستخدم صفة له أو للصوت الصادر عنه فيقال: resonant cavity "تجويف رنان" أو resonant sound أي "صوت رنان". وقد يُجتزأ أحيانا بذكر الصفة عن الموصوف فيقال resonants أي "أصوات رنانة" كما يقال stops "أي وقفيات" بدلاً من stop sounds "أصوات وقفية".
وإذا تجاوزنا عن هذه الأخطاء في استخدام المصطلحات فسنجد المؤلف يخطئ عند تطبيق فكرة الرنين على الجهاز الصوتي عند الإنسان، فتحت عنوان "الفراغات الرنينية في جهاز الإنسان الصوتي" ص2، يذكر المؤلف من بين هذه الفراغات الحنجرة، وهو قول يناقض تعريفه السابق للرنين، ذلك أن الأوتار الصوتية في الحنجرة جسم يهتزّ اهتزازاً قسرياً بفعل دفعات الهواء المتتابعة التي تحملها على الحركة، وبمقتضى التعريف السابق تكون هي الجسم المتسبب في الحركة. أما التجاويف الرنانة التي تهتز بالاستجابة لحركة الأوتار الصوتية فهي التجاويف العليا أو تجاويف ما فوق الحنجرة، أي البلعوم والفم والأنف.
وإذن فقول المؤلف: إن الحنجرة "تستطيع أن تتحرك إلى فوق وتحت وأمام وخلف. والحركة إلى أعلى وأسفل تغيّر من شكل وحجم حجرة الرنين فتؤثر على نوع الرنين الحنجري" ص 21 – نقول: إن هذا القول هو من عند المؤلف لم يقل به أحد من أهل الاختصاص، كما أن بعضه يصطدم مع ما هو معلوم بالضرورة عن حركات الحنجرة.
ويمضي المؤلف ليعدد ما سماه "بالفراغات الرنينية في جهاز الإنسان الصوتي" فيجعل من الشفتين فراغاً رناناً مستقلاً عن تجويف الفم يقول :
(3 ) تجويف الفم : يمكن أن يتغير تجويف الفم بصورة كبيرة في الشكل والحجم عن طريق تحريك اللسان.
(4) الشفتان : تشكل الشفتان فراغ رنيني (كذا وردت وصحتها فراغاً رنينياً) عن طريق إبرازهما أو استدارتهما (انتهى النص ص 22).
ولا نزاع في أن اعتبار الشفتين فراغاً فيه نظر. والصواب حذف هذا الفراغ الرابع وإضافة كلمة واحدة إلى تعريفه بتجويف الفم فيقال : "يمكن أن يتغير تجويف الفم بصورة كبيرة في الشكل والحجم عن طريق تحريك اللسان والشفتين".
( 5 ) الحزم الصوتية :
قبل أن نناقش مفهوم المؤلف للحزم الصوتية، وتصوره الخاص لدورها في تحديد الخصائص الأكوستيكية لأصوات الكلام، يحسن أن نقوم أولاً بتلخيص ما يقرره علم الأصوات بهذا الشأن ليتسنى لنا في ضوئه تحديد مدى بُعد تصور المؤلف أو قربه من التصور العلمي الصحيح.
تظهر الحزم formants (أو نطاقات الرنين resonance bands) في الرسم الطيفي على هيئة قضبان رنينية سوداء اللون resonance bars نتيجة لما تمارسه تجاويف البلعوم والفم والأنف من ترشيح ورنين وتقوية لمجموعات النغمات التوافقية المكونة لنغمة الحنجرة (أي صوت الجهر). ويتمكن الراسم الطيفي من تسجيل آثار عمل التجاويف الرنّانة بفضل استخدام مرشح ذي مجال تمريري واسع يستطيع تجميع التوافقيات التي يتم ترشيحها وتقويتها في حزم صوتية، كما يستطيع إهمال ما لم يتم ترشيحه وتقويته منها. ومن الطبيعي أن تختلف أنماط هذه الحزم اختلافاً ظاهراً تمتاز به الأصوات الرنانة بعضها من بعض. وهكذا يمكن بقراءة الرسوم الطيفية استنباط الخواص المميزة للأصوات الرنانة.
وينشأ عما سبق مجموعة من الحقائق العلمية في مجال التحليل الطيفي للأصوات يمكن إيجازها فيما يلي :
أولاً : إن أكثر صور الحزم الصوتية ظهوراً وتميزاً تكون مع الحركات (أو الصوائت) كالفتحة والضمة والكسرة في حالي قصرها وطولها، ثم مع الصوامت الرنانة بأنواعها الأنفية كالميم والنون، والمنحرفة كاللام والمكررة كالراء. أما مع الصوامت الاحتكاكية المجهورة كالزاي والظاء فتظهر للحزم الصوتية صور باهتة غير قابلة للتمييز. وعلة ذلك أنه على الرغم من دخول نغمة الحنجرة كمكوّن من مكونات الصامت الاحتكاكي المجهور إلا أن الضجّة بما تشتمل عليه من ترددات غير منتظمة هي العنصر الغالب على تكوين هذا النوع من الأصوات.
ثانياً : إن الأصوات المهموسة التي تنعدم فيها نغمة الحنجرة (أي صوت الجهر) كالشين والتاء يستحيل أن تشتمل على حزم صوتية، ويستحيل بالتالي ظهور هذه الحزم في الرسم الطيفي لهذه الأصوات، وإذ بانعدام الجهر في هذه الأصوات المهموسة ينتفي إمكان وجود الرنين. ومن ثم لا ترشيح ولا تقوية ولا حزم.
ثالثاً : إن الأصوات الوقفية (أو الانفجارية) كالباء والدال تمثل انقطاعاً وتوقفاً لتيار الهواء المتحرك أثناء إصدار الكلام. ومن ثم تظهر هذه الأصوات في الرسم الطيفي على هيئة بياض أو فراغ يعكس انعدام الطاقة أو توقفها أثناء النطق بها. وتنعدم صور الوقفيات فلا يظهر لها أثر على الرسم الطيفي إذا كان الصوت وقفياً مهموساً كالباء المهموسة والتاء. أما إذا كان الصوت الوقفي مجهوراً كالدال فتظهر تحت البياض وفي أسفل الصورة عند خط الأساس ترددات تسجل نغمة الأساس الحنجرية فقط. وسواء أكان الصوت الوقفي مهموساً أو مجهوراً فلا مجال للقول معه بوجود حزم صوتية، لأن القفل التام لتيار الهواء في مخرج الصوت تصبح به قناة الصوت أنبوباً مغلقاً من كلا طرفيه، وهذا لا يمكن أن ينتج رنيناً. ومن ثم أيضاً لا ترشيح ولا تقوية ولا حزم، والقول بخلاف ذلك خطأ لا نزاع فيه.
رابعاّ : إن الأصوات الاحتكاكية كالشين والسين هي من أعلى الأصوات تردداً، ومن ثم تحتل دائماً قمة الرسم الطيفي وتنتشر تردداتها على مساحة كبيرة نسبياً في الجزء العلوي من ورقة الرسم. وهذه الخاصية تتمثل بأجلى صورها مع صوت الشين الذي تقدم صورته الطيفية ترجمة فيزيائية لمقولة سيبويه الشهيرة في وصفه بالتفشي.
خامساً : إن عدد الحزم في الحركات، ومواضعها على سلم الترددات إنما تميز الحركات بعضها من بعض تمييزاً كيفياً لا كمياً، أي أنها تميز الفتحة من الكسرة من الضمة بقطع النظر عن الطول والقصر.وإذن فمجرد إطالة النطق بالحركة أو تقصيره لا يؤثر على عدد الحزم بالزيادة أو النقص، كما أنه لا يؤثر بالتغيير على مواضعها في سلم الترددات ما دام الفرق محصوراً في الطول والقصر.
ولننظر في ضوء هذه الحقائق العلمية المفروغ من صحتها إلى ما ساقه المؤلف بشأن الحزم الصوتية من حيث مفهومها وأثرها في تحديد خصائص الأصوات، يتحدث المؤلف عما سماه "الاختلاف في عدد الذبذبات التي تتكون منها الحزمة الصوتية الأساسية formants فيقول :"تنقسم الأصوات من هذه الناحية إلى قسمين، القسم الأول يتكون من عدد قليل من الذبذبات الصوتية التي تكون الحزمة الصوتية. ويوصف هذا الصوت بأنه سميك Grave مثل الضمة والشين والهاء المهموسة. وتظهر هذه الذبذبات في الرسم الطيفي متقاربة جدا في الجزء الأسفل "ص 24
ونتوقف قليلاً هنا قبل أن نورد القسم الثاني من الأصوات لنشير إلى ما تشتمل عليه هذه السطور من أخطاء هذه هي :
أولها : أن الجمع بين الضمة والشين والباء المهموسة في صفة أكوستيكية واحدة، وادعاء ظهورها في الرسم الطيفي على هيئة متشابهة يصطدم مع مبادئ التحليل الصوتي الفيزيائي والطيفي، ومع ما سبق أن أوردناه من حقائق علمية في هذا الشأن. فالضمة صوت رنان والشين صوت ينتسب إلى فصيلة الضجات ذات التردد العالي. أما الباء المهموسة فصوت وقفي ينقطع في إنتاجه النفس.
ثانيها : أن القول باشتمال الضمة والشين والباء المهموسة على حزم قول غير صحيح، فمن بين هذه الأصوات الثلاثة لا تظهر الحزم إلا مع الضمة وحدها. أما الشين (وهي احتكاكية مهموسة) والباء المهموسة "وهي وقفية" فيستحيل اشتمالها على حزم للأسباب التي بيناها.
ثالثها : أن الشين يستحيل أن تعدّ من الأصوات التي تتكون من عدد قليل من الذبذبات فهي من أعلى الأصوات الاحتكاكية تردداً وأكثرها تفشياً وانتشاراً على ورقة الرسم الطيفي. ونظراً لتردداتها العالية التي تنتشر ما بين 4000 ذ/ث و 8000 ذ/ث فإنها تحتل دائماً قمة الرسم الطيفي، ولكن المؤلف يعدها – ولا ندري على أي أساس – من الأصوات التي تظهر ذبذباتها " متقاربة جداً في الجزء الأسفل ".
رابعها : أن الباء المهموسة لا تظهر لها في الرسم الطيفي ذبذبات على الإطلاق لأنها وقفية مهموسة. ومن ثم لا وجود معها لحزم صوتية ولا لأي ذبذبات من أي نوع، دعك من أن تكون متقاربة أو متباعدة، أو في الجزء الأعلى أو في الجزء الأسفل.
أما حين تكون الباء المهموسة نَفَسية – بفتح الفاء – aspirated فإن الذي يظهر منها على الرسم الطيفي هو النَفَس الذي يتبعها ويمكن الاستدلال بموضعه على سلم الترددات وبحظّه من القوة على وجود الباء المهموسة النفسية. أما هي في ذاتها فلا يظهر لها أي ذبذبات من أي نوع على الإطلاق.
انتهينا من ملاحظاتنا على القسم الأول من الأصوات، والذي يشمل حسب تصنيف المؤلف الأصوات التي تتكون حزمها الصوتية من عدد قليل من الذبذبات، وننتقل إلى القسم الثاني من الأصوات، ذلك الذي يصفه المؤلف بقوله إنه "يتكون من عدد كبير من الذبذبات الصوتية التي تكون الحزمة الصوتية الأساسية ويوصف هذا الصوت بأنه دقيق sharp، وتظهر هذه الذبذبات في الرسم الطيفي متباعدة جداًَ مثل الكسرة والسين والتاء والدال" ص 24
وما دمنا قد ألممنا بالمبادئ الأساسية في التحليل الطيفي، وما سبق تلخيصه من حقائق علمية فلن يكون من العسير استكشاف ما ينطوي عليه كلام المؤلف من أخطاء نوجزها فيما يلي :
أولاً : قوله باشتمال الكسرة والسين والتاء والدال على حزم. والحق أن الكسرة وحدها – لكونها حركة (أو صائتاً) يمثل الرنين فيها صفة ماهية ينعدم الصوت بانعدامها – هي الصوت الوحيد بين هذه الأصوات الذي يتشكل من عدد من الحزم. أما السين (التي هي احتكاكية مهموسة) والتاء والدال (اللتان هما من الوقفيات) فلا تشتمل أي منهما على أي رنين. ولذا لا تدخل الحزم في تكوينها بحال.
ثانياً : أن الدال والتاء (وهما وقفيتان) تظهران في الرسم الطيفي على هيئة بياض (أو فراغ) يعكس توقف الطاقة في حال النطق بهما. وتختص الدال بوجود نغمة مقاربة لخط الأساس في الرسم، هي تسجيل للذبذبة الحنجرية المصاحبة للقفل. أما التاء فلا وجود معها لأي ذبذبات أو حزم، ولذا يكون القول بوجود الذبذبات مع هذين الصوتين ووصفها بأنها متباعدة جداً أمراً يصطدم مع الأوليات والمبادئ في التحليل الطيفي.
ثالثاً : إن الصوت يمكن وصفه بالحدة أو الثقل (يستخدم المؤلف بدلاً من هذين المصطلحين كلمات غريبة على الدرس لاكستيكي مثل السمك والدقة) إلا إذا كان انطلاقياً. أما الوقفيات كالتاء والدال فلا يمكن أن توصف في ذاتها بالحدة (أو الدقة بمصطلح المؤلف) لعدم اشتمالها أصلاً على أي ترددات.
أما الذي يمكن أن يوصف بذلك فيهما فهو النفس التالي لهما إن وجد. ويعتبر وجوده دليلاً على وجود أي منهما ومميزاً له.
والآن، نأتي إلى تقسيم آخر للأصوات يورده المؤلف تبعاً للاختلاف في نطقها. وينص المؤلف في هذا الشأن على ذلك بقوله : "تختلف الأصوات من هذه الناحية إلى قسمين :
الأول : وفيه تركز الترددات وتبرز، ويسمى متضاماً compact ويمتاز بأن درجته عالية. وعند نطق هذا النوع تنحو أحد الأعضاء التي تشترك في تكوينه نحو اللهاة ومن أمثلته الكسرة والضمة والكاف.
الثاني : وفيه تنتشر الترددات، ويسمى منتشراً diffuse ويمتاز بأن درجته منخفضة. وعند نطقه ينحو أحد الأعضاء التي تشترك في تكوينه نحو مقدم الفم. ومن أمثلته الفتحة والفاء والباء. (انتهى نص كلامه ص25 ).
ويستطيع القارئ في ضوء ما قدمنا من مناقشات أن يستكشف بنفسه أخطاء هذا النص وهي كثيرة جداً. ويمكن تلخيصها فيما يلي :
أولاً : إن وصف درجة الصوت بالعلو أو الانخفاض يقتضي اشتمال الصوت على خاصية الانطلاق كما قدمنا. وإذا جاز هذا الوصف في حق الكسرة والضمة فإنه لا يجوز ألبتة في حق الكاف التي هي وقفية مهموسة.
ثانياً : إن الكاف لا تشتمل أصلاً على أي ترددات فضلاً عن أن توصف بالتركيز أو الانتشار.
ثالثاً : لا شأن للهاة بنطق الكاف. وإذا صح أن الكاف مخرجها اللهاة فما يكون إذن مخرج القاف ؟.
رابعاً : الكسرة – كما هو معروف – حركة أمامية تنطق من وسط اللسان مع الحنك الصلب. ولا شأن لمؤخر اللسان ولا للهاة في النطق بها من قريب أو بعيد. وإذن فأيّ عضو ذاك الذي ينحو عند النطق بالكسرة نحو اللهاة ؟.
خامساً : لا يجوز وصف الباء بأنها ذات درجة منخفضة أو عالية لأنها كما ذكرنا صوت وقفي لا يشتمل أصلاً على أي ترددات يمكن وصفها بالانخفاض أو العلو.
سادساً : ليس من الدقة في شيء أن يقال إن الفاء والباء صوتان ينحو أحد الأعضاء المشاركة في النطق بهما نحو مقدم الفم. لأنه إذا كان العضوان المشتركان في نطق الفاء هما الأسنان العليا والشفة السفلى فكيف ينحو أيّ من هذين نحو مقدم الفم ؟. وكذلك الأمر مع الباء – بل هو أظهر – إذ لا يمكن القول بأن الشفتين، وهما العضوان المشاركان في النطق بالباء. ينحوان، أحدهما أو كلاهما. نحو مقدم الفم.
بقيت مسألة أخرى فيما يتعلق بمفهوم الحزم عند المؤلف لم يذكرها المؤلف في الفصل الخاص بعلم الأصوات الأكوستيكي بل أخّر ذكرها إلى الموضع الذي تحدث فيه عن الحركات. يقول المؤلف في وصف حركة الكسرة إنها "تنقسم إلى قصيرة وطويلة، والفرق بينهما في عدد الحزم الصوتية الأساسية فالحزم الصوتية التي تكوّن الحركة الطويلة ضعف الحزم التي تكوّن الحركة القصيرة، وبالتالي فالزمن اللازم لتكوين الحركة الطويلة يكون ضعف الزمن اللازم لتكون الحركة القصيرة" ص41
وليس لنا هنا إلا أن نعيد إلى الأذهان تلك الحقيقة العلمية التي قدمنا بها لحديثنا عن الحزم، حيث قلنا "إن عدد الحزم ومواضعها على سلم الترددات إنما تميز الحركات بعضها من بعض تمييزاً كيفياً لا كمياً.. وأن مجرد إطالة النطق بالحركة أو تقصيره لا يؤثر على عدد الحزم بالزيادة أو النقص، كما أنه لا يؤثر بالتغيير على مواضعها على سلم الترددات ما دام الفرق محصوراً في الطول والقصر".
ويستبين من مقابلة هذه الحقيقة بما ذكره المؤلف أن ما قرره في هذا الشأن هو خطأ صرف لا جدال فيه.
تلكم هي أبرز الملاحظات التي عنّت لنا من خلال قراءتنا للفصل الأول من هذا الكتاب. ونأتي الآن إلى إلقاء نظرة على الفصل الثاني الخاص بعلم الأصوات النطقي وربما تجاوزناه في بعض المسائل إلى ما يليه من فصول لجمع الأشباه والنظائر بعضها إلى بعض مما يقع جميعه في مجال هذا العلم.
ثالثاً : علم الأصوات النطقي
(1) رسم جهاز النطق
نبدأ مناقشتنا لمسائل هذا العلم بعرض الرسم الذي أورده المؤلف لجهاز النطق، وما سجله تحته من بيانات توضيحية ( انظر الشكل1 ). ولنا على الرسم والبيانات الملاحظات الآتية :
أولاً : وضع المؤلف للثة رقم 3 وحدد منطقة اللثة بما يكاد يحاذي وسط اللسان، على حين أن هذه المنطقة تنطبق في وضع الراحة على مقدم اللسان.
ثانياً : أعطى لطرف اللسان رقمين هما 7 و 13
ثالثاً : أعطى مقدم اللسان الرقم 8، وجعل مساحته تمتد لتشمل منطقة كبيرة نسبياً تصل أبعد نقطة فيها إلى ما يحاذي الحنك اللين.
رابعاً : أغفل المؤلف تجويف الأنف إغفالاً تاماً.
خامساً : يصف المؤلف الفم بأنه "فراغ يحصره من الأمام الشفتين (كذا وردت وصحتها الشفتان)، ومن الجانب باطن اللحية ص 29
ومعلوم أن اللحية لا شأن لها بتحديد فراغ الفم. وإنما هو باطن الخدين.
(2) إنتاج الصوت الإنساني وتصنيفه :
يورد المؤلف تحت هذا العنوان ما نصه "ينتج الصوت الإنساني عندما يمر الهواء خلال المنطقة من الحنجرة والبلعوم إلى اللهاة" ص 22-23
ويلاحظ أن هذه العبارة تجعل من اللهاة نقطة النهاية بالنسبة لإنتاج الأصوات مع العلم بأن معظم الأصوات إنما تنتج بسبب نشاط تجويفي الفم والأنف، وأن ما ينتج من هذه الأصوات في المنطقة الواقعة ما بين الحنجرة واللهاة هو أقل نسبياً من عدد الأصوات التي تنتج فيما وراء اللهاة.
(3) نشاط الحنجرة :
يتحدث المؤلف عن نشاط الحنجرة فيقول إنه "يساعدنا على تقسيم الأصوات قسمين متساويين هما الأصوات المجهورة والأصوات المهموسة".
والتساوي المذكور في هذا النص غير وارد بطبيعة الحال في أي لغة من اللغات. ولعله أراد "قسمين متقابلين" فلم تسعفه العبارة.
ويلاحظ في هذا الصدد أن المؤلف قد وصف الأوتار الصوتية بعدد من أوصاف التي تتناقض فيما بينها كما تناقض في مجموعها ما يقرره علماء التشريح. فالوتران الصوتيان يوصفان مرة بأنهما "غشاءان مرنان"، وذلك في قوله :"ولما كان هذان الغشاءان مرنين" ص 28، وقوله :"إذا لم يلتق هذان الغشاءان" ص28، ثم يصفهما في موضع آخر بأنهما "زوج من الصفائح الرقيقة الممتدة أفقياً" ص 29، وغني عن البيان أن الأغشية والصفائح والعضلات مصطلحات ذات مدلول محدد في علم التشريح. ولا ينبغي الخلط بينها بحال. وفهم شكل العضو أساس لفهم وظيفته. ونعتقد أن اضطراب التوصيف التشريحي للحنجرة وأجزائها هو السبب فيما شاب تحديد المؤلف لوظائفها من أخطاء من مثل قوله إن الحنجرة "تستطيع أن تتحرك أثناء الكلام إلى فوق وتحت وأمام وخلف" ص 21، وقوله " بالرنين الحنجري " ص 28
لا ندع الحديث عن نشاط الحنجرة قبل أن نعالج وصف المؤلف لهمزة القطع (أو الوقفة الحنجرية) وتحديد هويتها من حيث الجهر والهمس. إن الهمزة عند المؤلف صوت "لا يمكن وصفه بالجهر أو الهمس" ص 28، وأيضاً ص 153، وهذا الوصف ظاهر الخطأ. وإن كان المؤلف فيه متبعاً وليس بمبتدع. وإقامة الدليل على خطأ الوصف أمر من اليسر بمكان، فالجهر اهتزاز منتظم للأوتار الصوتية ينتج النغمة الحنجرية، والهمس هو سلب الجهر أي انعدام الاهتزاز المنتظم وغياب النغمة الحنجرية. وإذن فالأوتار الصوتية إما أن تهتزّ فيكون الجهر، وإما ألا تهتزّ فيكون الهمس , ولا وسط بين الاهتزاز وعدم الاهتزاز، ولا عبرة في ذلك بتعدد الأوضاع النطقية فإنها مهما تعددت لا بدّ أن تؤول إلى أحد هذين الإمكانين : الاهتزاز المنتظم أو عدم الاهتزاز ولا ثالث لهذين الاحتمالين. والمؤلف في ذلك تبع لبعض اللغويين كالدكتور كمال بشر في كتابه "علم الأصوات" الذي تابع بدوره الدكتور إبراهيم أنيس في كتابه "الأصوات اللغوية". وقد أقام الدكتور أنيس رأيه هذا على أساس ترجمة غير دقيقة لعبارة دانيال جونز الشهيرة في وصف همزة القطع (It is neither voiced nor breathed) وقد صحح الدكتور عبد الرحمن أيوب في كتابه "أصوات اللغة" خطأ الترجمة، وناقش هذه المسألة مناقشة علمية دقيقة فليرجع إليها من أراد التفصيل.
غير أن اللافت للنظر هنا هو أن المؤلف لم يتمسك بهذا الرأي في همزة القطع من حيث كونها – في رأيه ورأي من تابعهم – صوتاً "لا يمكن وصفه بالجهر أو الهمس" فقد أورد في أماكن أخرى توصيفات لهذا الصوت يفهم منها أنه صوت مهموس. ومن ذلك قوله في صفة الهاء: إنها صوت احتكاكي مهموس، ونعته للهمزة بأنها النظير الانفجاري للهاء" ص 153. وهذا القول يعني أن الصوتين يتفقان في كل الخصائص ما عدا الانفجار، وعلى هذا تكون الهمزة صوتاً مهموساً. كذلك يقول المؤلف: إن الهمزة تتحول في بعض الظروف إلى "نظيرها المجهور وهو العين"، ومعنى هذا أيضاً أنها مهموسة. ومن الصعب تفسير هذا الاضطراب في وصف الهمزة على نحو مقنع.
(4) وصف الهاء
ثمة إجماع بين علماء الأصوات العرب في القديم على أن الهاء والهمزة من أصوات أقصى الحلق. وهو وصف ملازم عندهم لما نسميه بأصوات الحنجرة لذلك لا خلاف بين القدماء والمحدثين على أن مخرج الهاء هو فراغ المزمار الواقع ما بين الوترين الصوتيين.
وقد خرج المؤلف على هذا الإجماع حين جعل مخرج الهاء من البلعوم (أي الحلق)، فقال : "إن هناك صوتاً بلعومياً لا يمكن وصفه بأنه احتكاكي، بل وصف بأنه هوائي، هذا الصوت هو الهاء" ص 29. ويعود المؤلف إلى تأكيد هذا القول بأجلى عبارة وأوضحها فيقول : "الانسداد غير التام أو التضييق في البلعوم يؤدي إلى إنتاج صوت العين والحاء، وعدم الانسداد أو التضييق في البلعوم يؤدي إلى إنتاج صوت الهاء" ص 29. والمؤلف بهذا القول يجعل الهاء والعين والحاء من مخرج واحد هو البلعوم. وهذا أيضاً خطأ ظاهر لا يمكن الدفاع عنه.
لكن الغريب أن المؤلف في مواضع أخرى من كتابه قد عامل الهاء معاملة مناقضة تماماً لما سبق أن قرره، وأعاد تأكيده بنصوص قاطعة الدلالة في أن الهاء صوت بلعومي يشارك العين والحاء في مخرج واحد. ذلك أنه حين حاول وضع جدول يحدد مخارج الأصوات العربية والعبرية وصفاتها فزع إلى جدول Gleason فنقله وأجرى فيه بعض التعديل. وفي هذا الجدول (انظر الشكل 2) وقعت الهاء وهمزة القطع تحت المخرج المزماري، ولم يشمل مخرج البلعوم في الجدول إلا صوتين فقط هما العين والحاء.
أي أن الهاء تبعاً لهذا الجدول لا تشارك العين والحاء البلعوميتين مخرجهما بل إنها وهمزة القطع تخرجان من المزمار أي الحنجرة.
ولقد تصورت للحظة أن وضع الهاء في الجدول تحت المخرج المزماري وإبعادها عن المخرج البلعومي ربما كان سهواً غير مقصود. ولكن المؤلف في مواضع أخرى يؤكد أيضاً وبأجلى عبارة وأوضحها أن الهاء صوت حنجري، فيقول :"كان يوجد في اللغة السامية الأمّ صوتان حنجريان : الأول احتكاكي مهموس وهو الهاء، والثاني النظير الانفجاري له وهو الألف أو الهمزة" ص 153
ويزيد المؤلف هذا القول تأكيداً من خلال وصفه للعملية النطقية المنتجة للهاء بقوله :"يمرّ الهواء خلال الانفراج الواسع الناتج عن تباعد الوترين الصوتيين بالحنجرة محدثاً صوتاً احتكاكياً" ص 153
ليست مسألة تحديد مخرج الهاء هي مناط التناقض الوحيد في النص السابق. فالنص يحدد صفة الهاء بأنها صوت احتكاكي بعد ما سبق أن قرره ص 29 في هذا الشأن من قول مخالف، حيث أكد أن هذا الصوت "لا يمكن وصفه بأنه احتكاكي بل يوصف بأنه هوائي". وعلى الرغم من أن عدوله عن القول بهوائية الهاء إلى القول باحتكاكيتها هو عدول إلى الصواب، إلا أن وصفه للعملية النطقية المنتجة لها ليس موفقاً كل التوفيق، فمرور الهواء من انفراج واسع ينتج عن تباعد الوترين الصوتيين لا يمكن أن ينتج صوتاً مسموعاً فضلاً عن أن يكون هذا الصوت هو الهاء الاحتكاكية. والاحتكاك لا ينتج إلا من تقارب العضوين الناطقين وليس من تباعدهما.
وتلخيصاً لهذه المناقشة نقول : إن الهاء في ص 29 من الكتاب هي صوت بلعومي من مخرج الحاء والعين لا يوصف بالاحتكاك بل بالهوائية، وهي في ص 153 صوت حنجري من مخرج الهمزة يتصف بالاحتكاك. وهذا التناقض من الظهور بحيث لا يحتاج إلى مزيد إيضاح.
(5) تهميس الباء :
يحدد المؤلف الموقع الذي تنطق فيه الباء فيلحقها التهميس بقوله :"صوت الباء في العربية يكون مهموساً إذا وقع ساكناً بين صوتين مهموسين" ص54
والحق أن هذا الشرط مستحيل التحقيق، لأن وقوع الباء ساكنة بين صوتين مهموسين يقتضي تتابع ثلاثة صوامت دون فاصل من حركة ضرورة أن الأصوات المهموسة في العربية لا تكون إلا صوامت. ومن هنا كان لا مفرّ لأي صوت صامت على الأقل من أحد أمرين: إما أن يُسبق بحركة، وإما أن يُتبع بحركة، فهذه القاعدة إذن ظاهرة الخطأ وفي حاجة إلى إعادة النظر.
(6) الوقفيات المهموسة :
يضع المؤلف مصطلح "الوقفيات المهموسة" في مقابلة المصطلح الإنجليزي aspirated plasives ص34 ، وإذا تجاوزنا عن عدم الدقة في ترجمة plosive إلى وقفي، فإن من الأهمية بمكان أن ننبه إلى المصطلح aspirated لا يعني في استعماله الصحيح الهمس، وإنما يعني النَفَسية (بفتح الفاء). والجهة منفكة بين الهمس والنفسية : فقد يكون الصوت الوقفي النَفَسي مهموساً وقد يكون مجهوراً. وفي العالم عدد كبير من اللغات يستخدم التقابل بين المهموس والمجهور من الأصوات الوقفية النفسية كصفة من الصفات المميزة في نظامه الفونيمي. ونضرب مثلاً لذلك لغة الأوردو، إذ تعترف بالتقابل بين
g , gh : k, kh ; d, dh ; t, th
(7) النون في العربية :
عالج المؤلف النون العربية من جهتين : ما يتعلق بأحكامها وما يختص بالتوصيف النطقي لها.
فأما من جهة أحكام النون فقد حددها بقوله :"تنطق النون نطقاً خالصاً إذا كانت قبل ء ، ح، ع، خ، غ، وإذا تبعت (كذا وردت وصحتها أتبعت) بصوت آخر طرأ عليها ما يسمى بالإخفاء" ص 91
ويرد على هذا القول عدد من المآخذ :
أولاً : أن هذه الأحكام تختص بالتجويد، وهو مستوى خاص من الأداء للنص القرآني لم يعرف عن العرب – على اختلاف لهجاتهم – الالتزام به فيما سواه من مستويات.
ثانياً : إذا سلمنا باعتبار هذه الأحكام مختصة بالمستوى المثالي للأداء الواجب الاتباع فإننا نلاحظ أن المؤلف أورد حروف الإظهار ناقصة فلم ينص على الهاء. والنص عليها واجب.
ثالثاً : إن هذه الأحكام التي أطلقها المؤلف دون قيد هي مقيدة بالنون الساكنة فقط. أما النون المتحركة فحكمها الإظهار مطلقاً.
رابعاً : إنه أغفل أحكاماً أخرى من أحكام النون الساكنة مثل الإقلاب، أي قلبها ميماً إذا تلتها الباء كقوله تعالى :"والجار الجنب والصاحب بالجنب" 36/ النساء.
وأما من جهة التوصيف النطقي للنون في حال إخفائها فيسوق فيه هذا القول:" تسمى النون خفيفة أو مخفاة أو خفية، وتصبح مجرد غنة في الخيشوم لا علاقة للفم في النطق بها، والغنة نغمة خيشومية محددة، وترنم يقع بإغلاق الفم" ص91
ولا يحتاج المرء إلى كبير جهد ليستكشف ما في هذا القول من تناقض واضح، إذ يتردد المؤلف في أسطر قليلة بين النفي القاطع لعلاقة الفم بنطق الغنة وبين القول بأن إغلاق الفم شرط في حدوثها. والمؤلف يقتبس – في هذا المقام – عن كانتنيو قوله :"ويبدو أن النون في هذه الحالة كانت تُبدل تقريباً فيصير مخرجها مخرج الحروف بعدها" ص 91، وهذا القول المقتبس ظاهر الدلالة في أن الغنة لا يمكن أن تتشكل دون تدخّل من الفم.
(8) أنصاف الحركات في العربية : الواو والياء :
يصف المؤلف عملية النطق بالواو التي هي نصف حركة بقوله :"تبدأ أعضاء النطق في اتخاذ الوضع المناسب لنطق نوع من الضمة، ثم تترك هذا الوضع بسرعة إلى وضع حركة أخرى، وتختلف نقطة البدء اختلافاً يسيراً فيما بين المتكلمين وحسب الحركة التالية" ص 168
وشبيه بذلك ما وصف به عملية النطق بالياء التي هي نصف حركة حيث قال :"تتخذ أعضاء النطق الوضع المناسب لنطق حركة الكسرة، ثم تنتقل منه بسرعة إلى وضع حركة أخرى هي أشد بروزاً. وهذا الانتقال السريـع من الكسرة هو الذي يكوّن الصامت المعروف بالياء" ص 169-170.
ويلاحظ على هذا الوصف أنه ينطبق على الواو والياء حين تكون أي منهما بداية مقطع كما في وصل ويصل. ويظل الوصف قاصراً عن شمول الحالة الأخرى حيث تكون الواو والياء نهاية مقطع كما في ( نوم وبيت ) حيث يتم الانتقال من حركة الفتحة التي هي أشد بروزاً إلى العنصر الأضعف وهو موضع النطق بالضمة أو بالكسرة مكوناً الصوت الانزلاقي الذي نسميه بالواو أو الياء.
على أن الباحث في مكان آخر من كتابه يعطي لكل من الواو وصفاً مخالفاً فيقول :" أن اللسان يصل أثناء النطق إلى النقطة التي تتكون فيها حركة الكسرة، وإذا تعدى اللسان هذه النقطة سينتج احتكاك مسموع للهواء نتيجة لتكوين مجرى ضيق حصر بين اللسان والحنك الصلب، وهذا يؤدي إلى تكوين صوت الياء" ص 40 ، كما يورد بالنسبة للواو وصفاً مشابهاً فيقول: إن اللسان يتخذ الوضع الذي" يؤدي إلى تكوين حركة الضم، أما إذا ارتفع اللسان أكثر من هذا فإن المجرى الهوائي سيضيق، وهذا سيؤدي إلى إنتاج احتكاك مسموع هو الذي نطلق عليه صوت الواو" ص40
ويختلف هذا الوصف الأخير للصوتين عن الوصف السابق في أمور ثلاثة :
أولها : أنه بمقتضى الوصف الأخير يمكن أن تتشكل الواو أو الياء دون انتقال اللسان من موضع النطق بالضمة أو الكسرة إلى حركة أخرى. أي أن الواو والياء يمكن تشكل منهما من نقطة معينة من نقاط النطق دون ضرورة للانتقال من هذه النقطة إلى نقطة أخرى لتوفير الطابع الانزلاقي للصوتين.
أما الوصف السابق فلا يعتبر الواو والياء شيئاً آخر غير الانتقال من الضمة والكسرة إلى حركة أخرى.
ثانيها : أن الوصف الأخير يفترض لمخرجي الواو والياء نقطتين أخريين غير نقطتي الضمة والكسرة، وأن كلتا النقطتين أعلى وأقرب إلى سقف الفم إذا ما قيستا بالضمة والكسرة. أما الوصف السابق فيعتبر نقطتي الضمة والكسرة هما نفس نقطتي الواو والياء ولا يميز بينهما إلا بالانتقال إلى الحركة التالية.
ثالثها : أن كلاً من الواو والياء قد وُصف هنا بأنه صوت احتكاكي يُنتج عند النطق به احتكاكاً مسموعاً بخلاف الوصف السابق الذي اعتبرهما أشباه حركات.
وحاصل هذه المقارنة بين هذه الأوصاف أنها متناقضة كما هو واضح، وأنها – في صورتها الأخيرة- تنكر على الواو والياء طبيعتهما الانزلاقية، وتضعهما في عداد الأصوات الاحتكاكية، وهذا كله توصيف بعيد من الصواب كل البعد.
(9) الحركات
في حديث المؤلف المبثوث في تضاعيف كتابه عن الحركات أمور كثيرة تستوجب التأمل والتعقيب.
ونبدأ بملاحظة حول تسمية المؤلف للحركات "الرنينيات المتوسطة الشفوية" وهو يذكر أن هذه التسمية ليست خاصة به، ولكنها موضع إجماع من جميع اللغويين، وهذا هو نص كلامه إذ يقول :"جرى الاصطلاح بين كل علماء اللغة (كذا) على أن يُقصد بالرنينيات المتوسطة الشفوية الحركات" ص28
والحق أنه يندر أن يتفق كل علماء اللغة على أمر ما في مجال اختصاصهم، ولا أذكر – بالنسبة لهذا المصطلح – أنه قد وقع لي في كتاب عربي أو أجنبي أو مترجم. ويبدو بعيداً على عالم من علماء الصوتيات أن ينعت الحركات بالرنينيات المتوسطة، فالتوسط لا بد أن يكون بين طرفين، وبدون ذلك يفقد التوسط معناه، والحركات هي قمة الأصوات الرنانة وأوفرها حظاً من الرنين. فكيف يمكن أن تسمى بالرنينات المتوسطة ؟ وعلى أي حال، لقد كان يحسن بالمؤلف- وقد نسب هذا القول إلى كل علماء اللغة – أن يدلّ قارئه ولو على كتاب واحد اعتمد صاحبه هذا المصطلح في وصف الحركات فقد يكون في هذه الإشارة فائدة جليلة لي ولغيري من المشتغلين بهذا العلم.
الأمر الثاني في حديثه عن الحركات هو قوله عن حركة الكسرة الممالة في العربية أنها "غير موجودة في نظامها الكتابي (يعني في نظام اللغة العربية الكتابي) وإن كانت موجودة في نظامهـا الصوتي نحو قوله تعــالى :"وقال اركبوا فيها باسم الله مجريها ومرساها" ص 41
ويلاحظ هنا أن الكسرة الممالة ليست – كما يقول المؤلف – وحدة من وحدات النظام الصوتي للغة العربية الفصحى كما أنها ليست وحدة من وحدات النظام الكتابي. وبعبارة أخرى نقول: إن الكسرة الممالة ليست من فونيمات الحركات في الفصحى بل هي تنوع (أو ألوفون) من تنوعات الفتحة الطويلة (أي ألف المد). والمثال الذي أورده من الآية الكريمة دليلٌ على عكس ما أراد لأن النطق بالمدّ الخالص والمدّ المُمال في كلمة "مجريها" يتعاوران الكلمة دون أن يؤدي تبادلهما إلى تغيير في دلالة الكلمة. أما في كثير من اللهجات العربية فقد دخلت الكسرة الطويلة الممالة إلى النظام الصوتي، وذلك على خلاف ما عليه النظام في عربية القرآن الكريم الذي استشهد به المؤلف. وعلى ذلك يكون التمييز بين معاملة الكسرة الطويلة الممالة في النظام الكتابي والنظام الصوتي للعربية الفصحى غير قائم على أساس.
والأمر الثالث في حديثه عن الحركات يتصل بعرضه لنظرية الحركات المعيارية عند دانيال جونز الذي جاء النحو التالي، قال :"ومن أهم الأنظمة التي وضعها المتخصصون في الأصوات لتصنيف الحركات هو ذلك النظام الذي وضعه دانيال جونز Daniel Jones ويتكون هذا النظام من ثمان حركات (كذا وردت وصحتها ثماني حركات) ص 29 ، ثم أخذ المؤلف بعد ذلك بالحركات الثماني.
وقد أثار عرضه للنظرية والشكل التوضيحي الذي أورده لها، وتعريفه بهذه الحركات عدداً من الملاحظات نسجلها على النحو التالي :
أولها : أن الحركات المعيارية الأساسية في نظرية جونز تسع . وقد أغفل المؤلف الحركة المركزية في كلامه وفي الشكل التوضيحي الذي أورده (انظر الشكل 3).
ثانيها : أن بعض الرموز الصوتية التي استخدمها تختلف عن رموز دانيال جونز اختلافاً كبيراً. إذ تشير الحركة الرابعة عنده إلى حركة أخرى مختلفة تماماً عند جونز.
ثالثها : أن جونز في نظريته لم يكتف بتحديد الحركات المعيارية الأساسية التسع كما يفهم من كلام المؤلف بل إنه ذهب إلى تحديد حركات معيارية أخرى إضافية آخذاً في اعتباره اختلاف درجات استدارة الشفتين في الحركات الأمامية والمركزية والخلفية.
رابعها : أن التمثيل للحركة الرابعة عند جونز بالفتح المرفقة التي تلاحظ في النطق بلفظ الجلالة مسبوقاً بكسر (بالله) وللحركة الخامسة عنده أيضاً بالفتحة المفخمة التي تلاحظ في النطق بلفظ الجلالة مفخماً تمثيل غير دقيق. لأن هاتين الحركتين تمثلان إمكانيتين منطقيتين أكثر من كونهما إمكانيتين واقعيتين. إذ هما نتيجة أقصى انفتاح ممكن لتجويف الفم. وهو أمر لا يتوافر في ظروف النطق العادية.
(10) المقطع والتقسيم المقطعي :
أمران يلفتان النظر في هذا المقام هما تعريف المؤلف للمقطع، وعرضه لنظرية جسبرسن في تفسير ظاهرتي المقطع والتقسيم المقطعي. يعرف المؤلف المقطع بقوله :"المقطع هو الصوت الذي يمثل قمة الإسماع" ص 46
وهذا التعريف للمقطع غير صحيح. وإنما هو تعريف لنواة المقطع أو ذروته. ومن المعروف أن المقطع يختلف كمياً بحسب اللغات. فقد يتكون من صوت واحد، وقد يصل في بعض اللغات إلى ستة أصوات، وهو في جميع حالاته لا يشتمل إلا على قمة إسماع (أي نواة) واحدة. وإذن فالتسوية في التعريف بين المقطع وقمة الإسماع باطلة.
وأما عن نظرية جسبرسن في المقطع فقد ساق المؤلف في شأنها عرضاً لفهمه الخاص للأساس الذي بنى عليه جسبرسن نظريته، وفيه يقول المؤلف :" ونعتقد أنه لا ينبغي الاجتهاد في مثل هذه الأمور برأي شخصي وحمله على من لم يقل به، لاسيما إذا كان من المحتمل أن يناقض حقائق العلم المعلومة منه بالضرورة".
(11) فيرث وعلم الفوناتيك :
ينسب المؤلف إلى فيرث أنه أكد " أن كلاً من الفوناتيك والفونولوجيا يضمان فروعاً متخصصة. يضم الفوناتيك الفروع الآتية :
أ/ الفوناتيك التجريبي : ويهتم بدراسة الأصوات دراسة فيزيائية، فهو يركز على معرفة خواص الأصوات ومكوناتها الطبيعية.
ب/ الفوناتيك بالمعنى الضيق : ويهتم بتحليل الأصوات تحليلاً فسيولوجياً وفيزيائياً.
ج/ الفوناتيك بالمعنى الواسع : ويهتم بعملية تصنيف الأصوات على أسس نطقية وفيزيائية (انتهى كلام المؤلف ص 59).
ولم يذكر المؤلف – إذ نسب ما نسبه إلى فيرث – مرجعاً نقل عنه ما نقل. ومن المشكوك فيه أن يصدر مثل هذا الكلام عن فيرث، فقد أجهدت نفسي لأستكشف الفروق بين الفروع الثلاثة من خلال عبارة المؤلف فلم أجد . ولعل غيري يحالفه التوفيق فيما أخفقت فيه، ولاسيما أن مجال الفوناتيك التجريبي – بداهة – أوسع من أن يقتصر على الدراسة الفيزيائية وحدها.
رابعاً : الفونولوجيا والدراسة التاريخية
الباب الثالث الذي يحمل عنوان "الدراسة التاريخية للأصوات" هو أكبر أبواب الكتاب. إذ تبلغ عدد صفحاته مئة وأربعاً وأربعين صفحة على حين اختص الباب الثاني ذو الفصل الوحيد "علم الفونولوجيا" باثنتي عشرة صفحة فقط. وربما أشعر هذا بأن الباب الثالث هو المقصود أصالة . وأما البابان الأولان فقد جاءا مقدمة له وتبعاً. ونقرر ابتداء أن جميع ما شمله الباب الثالث لا يكاد يدخل تحت الدراسات اللغوية التاريخية historical linguistics ، وإنما هي دراسة مقارنة Comparative linguistics. والصلة بين المنهج المقارن والمنهج التاريخي في دراسة اللغة – وإن كانت وثيقة – لا تسمح بالخلط بينهما كما يبدو من عنوان الباب. وفي ظننا أن الكتاب كان يمكن أن يقتصر على الباب الثالث فقط. إذ الصلة بين الباب الأول والثالث منبتة تماماً. أما الباب الثاني فقد كتبه المؤلف ليستخلص عنه فكرة الفونيم والألوفون. ثم حاول أن يوظف هذين المفهومين في مبحثه المقارن ليعرض معطيات المقارنة الصوتية الموجودة بحذافيرها في الكتب الشهيرة التي عالجت فقه اللغات السامية في ثوب جديد.
وليس من العسير على دارس اللغة أن يقع على القدر المشترك بين علماء اللسان في فهم مصطلح الفونيم، لكن المؤلف حاول أن يتتبع الاختلاف بين المدارس والاتجاهات اللسانية المختلفة حول مفهوم الفونيم. وفي خلال ذلك نلاحظ أن هذا المفهوم في ذاته وفي علاقته بمفهوم الألوفون قد أصابه الاضطراب. وأول مظاهر هذا الاضطراب يبدو في عرضه لوجهة نظر علماء المدرسة الأمريكية في المسألة إذ يقول عنهم إنهم "استخدموا مصطلح الفونيم لدراسة الأنماط الصوتية المكونة للنظام الصوتي للغة المعينة بوصفها وحدات مميزة للمعنى ثم استبدلوا مصطلح الفونيم بمصطلح آخر هو الفونيمكس" ص 60
وغني عن البيان أن مصطلح الفونيمكس ليس بديلاً لمصطلح الفونيم، كما أنهما ليسا مترادفين.
وثاني مظاهر الاضطراب بدت في ابتكار المؤلف لمصطلح لا عهد للباحثين به بين مصطلحات علم الأصوات ألبتة، ونعني به مصطلح "الوفونيم"، وقد ركبه المؤلف تركيباً مزجياً عجيباً من الفونيم والألوفون، وجعله عنواناً على الفصل الأول (وهو في الوقت نفسه الفصل الوحيد) الذي يتكون منه الباب الثاني.
ويشرح المؤلف هذا المصطلح المركب تركيباً مزجياً بقوله :"يسمى الاختلاف الذي يؤدي إلى اختلاف في المعنى (فونيم)، أما الاختلاف الذي لا يؤدي إلى اختلاف في المعنى فيسمى (ألوفونيم)" ص 54
ومصطلح "الفونيم" هذا يجمع في تركيبه السابقة allo بالإضافة إلى المصطلح phoneme وهذه السابقة كما ينص معجم هارثمان وستوك تستخدم لتدل على التنوعات الفرعية بالنسبة لوحدة أساسية مميزة. فلكل فونيم الوفونات، ولكل مورفيم الومورفات، ولكل جرافيم الوجرافات... وهكذا، ومن الخطأ البين استعمال السابقة allo مع المصطلح الخاص بالوحدة اللغوية على النحو الذي فعله المؤلف.
ومن هنا وجدنا المؤلف يستخدم المصطلح الأصيل الوفون مع المصطلح الذي اخترعه الوفونيم بوصفهما مترادفين. ومن ذلك قوله :" الجيم له الوفونيم آخر هو غ" ص139، وقوله "ولهذا الصوت ( ق ) الوفونيمات في اللغات السامية" ص 144، وتكرر ذلك في عشرات المواضع ( منها ص136، 144، 145).
فلندع هذه المشكلة – على خطورتها – جانباً ونرى كيف طبق المؤلف مفهومي الفونيم والألوفون ( وليس الألوفونيم) على الدراسة المقارنة لأصوات اللغات السامية. ولنذكر جيداً – قبل الدخول في قلب المناقشة- أن المؤلف قد حدد العلاقة بين الفونيم والألوفون بقوله :"يقال لألوفونات الفونيم الواحد إنها في توزيع تكاملي بمعنى أن نطق الكاف خاء في العبرية مرتبط بموقع معين، ولا يمكن أن تنطق خاء إذا لم تقع في هذا الموقع المعين، وكذلك نطقها كافاً. أما الكاف والخاء في العربية فهما صوتان يؤدّيان إلى اختلاف في المعنى، مثل كال وخال، لهذا فكل منهما فونيم مستقبل" ص 54
ويبدو هذا الكلام – في نظرنا – مستقيماً وهو يعني أن القول بأن صوتاً ما هو ألوفون بالنسبة لصوت آخر يستلزم توافر شرط التوزيع التكاملي، وأن الصوتين اللذين قد يعدان ألوفونين لفونيم واحد في لغة ما – كالكاف والخاء في العبرية – قد يكونان فونيمين مستقلين في لغة أخرى كالعربية. وينشأ عن هذا بالضرورة – بداهة – أن تصنيف الأصوات إلى فونيمات وألوفونات ينبغي أن يتم في إطار اللغة الواحدة ضماناً لتجانس المادة، بل إن هذا الشرط مطلوب إعماله لا في إطار اللغة الواحدة فقط بل في إطار كل لهجة من لهجات اللغة الواحدة، حيث إن العلاقة بين الفونيمات والألوفونات في لهجة القاهرة لا يمكن أن تنطبق على أي لهجة عربية أخرى، ولا على اللغة الفصحى المعاصرة من باب أولى.
هذا الكلام مستقيم، لكن المؤلف حين استخدم مفهوم الفونيم والألوفون في المقارنة لم يستقم له الأمر، واضطرب بين يديه اضطرابا شديد. وهذه هي الأدلة :
يضرب المؤلف مثالاً للفونيمات والألوفونات فيقول :" مثال لذلك صوت الباء في اللغة العربية، فالألوفونات المختلفة له هي :
(أ) الميم نحو ( بانَ البدر ومانَ البدر ) في لغة مازن وربيعة.
(ب) النون نحو sibbolet في العبرية وسنبلة في العربية.
(ج) الفاء نحو ( بور وفور ) عند الفرس الذين يتكلمون العربية.
وهكذا يقوم عالم اللغة التاريخي بإحصاء الألوفونات المختلفة للفونيم الواحد.
ويوضح الرسم الآتي ذلك :
وملاحظاتنا هنا جوهرية، لأن اشتراط التوزيع التكاملي بين الألوفونات واشتراط تحقق هذا التوزيع التكاملي بالتالي في إطار اللغة الواحدة، بل في إطار اللهجة الواحدة لا يجيز بحال الجمع بين صورة لهجية من صور النطق في العربية، مع صورة عبرية، مع صورة تشيع على ألسن الفرس المتكلمين بالعربية لتكون منها فونيماً هو الباء وألوفونات لهذا الفونيم هي الميم والنون والفاء. ذلكم في رأينا خطأ جسيم لا يقبل التأويل، ولا يمكن الدفاع عنه.
ويزيد من جسامة الخطأ أنه يمثل النموذج الأساسي الذي اتبعه المؤلف في هذا الباب كله، والأمثلة أكثر من أن تحصى وذلك من مثل قوله :"الألوفونات المختلفة لصـوت الميم يوضحها الجدول الآتي" (لاحظ أن ما يلي ليس بجدول) :
وتتكرر أمثلة لهذه الأشكال على سبيل المثال في الصفحات : 92، 111، 113، 118، 120، 132، 127، 129.... الخ.
ومن المؤسف أن هذا الخطأ الذي انطلقت منه الدراسة المقارنة وشملت الباب الثالث كله (144 صفحة) كفيل بأن يكون سبباً في انهيار هذه الدراسة من أساسها انهياراً لا يرجى معه – في نظرنا – إصلاح أو ترميم أو طلاء.
خامساً : ملاحظ عامة وتقويم
ثمة ملاحظ عامة كثيرة يطول بنا المقام إذا تتبعناها وقد لا تخلو صفحة من صفحات الكتاب من بعضها، ونكتفي بالإشارة المجملة إلى نماذج منها :
1) أخطاء في ترجمة بعض النصوص عن الإنجليزية. ومما أمكن مراجعته على أصله النص التالي الذي أخذه من بالمر (Palmer)
"Thus a large cavity with a small operture makes for a low rate of vibration and a low tone. The pitch of the tone produced raises as the cavity is made smaller or the orifice larger."
وقد ترجم المؤلف هذا النص بقوله :"وإذا زاد التجويف وضاقت الفتحة قلت نسبة الزيادة في عدد الذبذبات. وهذا يؤدي بالتالي إلى تغيير ضئيل في النغمة. ويزداد عدد الذبذبات تدريجياً كلما قل الفراغ وضاقت الفتحة" 31
وأيسر مقارنة بين النصين تهدي إلى بعد ما في النص الأصلي عما في النص المترجم، فهو يترجم عبارة بالمر and a low tone بقوله :"وهذا يؤدي بالتالي إلى تغيير ضئيل في النعمة" بدلاً من "نغمة منخفضة الدرجة"، كما يترجم قول بالمر :
"as the cavity made smaller or the orifice larger"
إلى :" كلما قل الفراغ وضاقت الفتحة" (بدلا من) :" كلما ضاق الفراغ أو اتسعت الفتحة". ولسوء الترجمة وفسادها أمثلة أخرى نمسك عن ذكرها خشية الإطالة.
2) لا تشتمل قائمة المراجع في آخر الكتاب على أي معلومات ببليوجرافية كسنة الطبع، أو رقم الطبعة أو مكان النشر. فمن بين تسعة وثلاثين مرجعاً عربياً وأجنبياً لم تذكر المعلومات الببليوجرافية إلا في ستة مراجع فقط. كما أصاب أسماء المراجع قدر كبير من التحريف في بعض الأحيان.
3) شيوع الأخطاء النحوية في الكتاب، وقد أشرنا إلى بعضها من خلال ما استشهدنا به من نصوص للمؤلف. وبقي قدر كبير منها لم نشر إليه. وكان يحسن بالمؤلف – ولا تثريب عليه – أن يعهد بالكتاب إلى من يوثق بعربيته ليراجعـه مراجعة دقيقة تنقيه من هذه الأخطاء.
ويمكن أن نوجز تقويمنا لهذا الكتاب بعد هذه الجولة التي طالت بين فصوله وأبوابه فنقول : إن هذا الكتاب هو معالجة تلفيقية غير متخصصة لمسائل وقضايا لا يجدي في معالجتها إلا التخصص الدقيق والمتابعة العلمية المثابرة، إذ هي بطبيعتها تستعصي على الهواة، وتتأبى على التخمين والحدس.
--------------------------------
المصدر : دراسات نقدية في اللسانيات العربية المعاصرة – سعد مصلوح، الناشر عالم الكتب - القاهرة، ص 238-271