مقاومة التخلّف اللغوي بوّابة لانفتاح الحداثة على الإسلام

ليست مقاومة التخلّف اللغوي هي التعريب. بل من المؤمّل أن يكون التعريب نتيجية طبيعية لنجاح المقاومة اللغوية. وأعني بالتخلف اللغوي عدم اكتساب العقل العربي للقدرة على ضمان استقلالية اللغات المستعملة اليوم، الواحدة عن الأخرى، بما في ذلك لغة الضاد. كما أعني بالتخلف اللغوي عجز نفس العقل عن تغذية اللغة العربية الفصحى (أو الفصيحة) بقيم ومفاهيم العصر حتّى تصبح بكل فخر واعتزاز وعن طواعية اللغة الأم بالفعل وليس على الورق كما هي موصوفة الآن. كما أقصد بالتخلف اللغوي هيمنة اللهجات العامية على مجالات التعبير والإنتاج الرمزي الناجح من دون أن يقع التفكير في وضع استراتيجية لتحويل تلك الهيمنة وذلك النجاح من المستوى العامي إلى المستوى الفصيح.

وقد بينتُ في دراسة سابقة (1) كيف أنّ مستعملي اللغات من العرب لا يُتقنون لا اللغة العربية ولا اللغات الأجنبية، وتخلّصتُ إلى القول إنّ ذلك ناتج عن خلط رهيب بين الأنماط اللغوية وبالتالي إلى عدم احترام كيان كل لغة على حِدة.

وما لا حظتُه في مجال اللغة أُلاحظُه أيضا في مجال السياسة. فالمشهد الإيديولوجي السياسي الذي ساد  في المجتمع العربي منذ حقبة الاستقلال القُطري تقريبا يكاد يكون نسخة مطابقة للمشهد اللغوي. وهو ما حدا بي إلى التأكد من أنّ الشيء جاء من مأتاه فعلا، وبالتالي فهو لا يُستغرب.

لقد جرّبنا نحن العرب عدّة "لُغات" إيديولوجية ولَم نُعطِ أية واحدة قدرها من الصيانة والاستقلالية. بل اكتَفينا بنقلها نَقلا ولم نُوظفْها في التربة الثقافية الذاتية ابتغاء استخراج نموذج أو نماذج من عملية اللقاح والتفاعل بينها من جهة وبين المخزون الثقافي من جهة ثانية . جرّبنا القومية فأفلحنا، لكن إلى حدٍّ ما و إلى حين. وجرّبنا الاشتراكية لكنها لم تتلاءم مع ثقافتنا الذاتية. انخرطنا في الشعبويّة لكنّها لم تفِ بالحاجة إلى الوحدة العربية، وإنّما خدمت مصالح القوى العظمى في أن لا ينافسها أحد في العظمة. ثمّ استقرّ رأي نخبنا على العلمانية إلى درجة أنك ترى اليوم العديد من رموز اليسار السياسي العلماني تتبوّأ، ومنذ أواخر السبعينات من القرن الماضي، مكانة هامة في أجهزة الحكم المعاصرة لمعظم بلداننا. ولكن ها أنّ كثيرا من العرب والمسلمين اليوم، ومنذ أن صعد العلمانيون على سدة الحكم، يمتطون صهوة الإسلامية، غير مُعجبين ولا راضين بما آلت إليه اختيارات النخب القُطرية.

كما أنّ موضة الليبرالية، وهي نتاج حقبة البترودولار الزائلة، اقتضَت أن تكون النخب المستحدثة، التي تؤلّهُ هذه "اللغة"، فارضة نفسها على الساحة الاجتماعية لا محالة، لكن بنوع من النجاح الاقتصادي الذي لا يجلبُ الغالبية من الشعوب إليه. ويا حبذا لو حصل الإجماع المطلوب حول الليبرالية. فذلك يبقى مشروطا بأن لا يكون لهذه اللغة باع في الاقتصاد فحسب، وبأن يكون لها جذور في الفلسفة الذاتية وفي التربية الذاتية وفي الفكر العربي والإسلامي عموما.

وهل تفلح إيديولوجيا أو سياسة لمّا تكون خاوية بخلوّها من الوازع الفلسفي و التربوي والفكري؟ طبعا لا. ما البديل إذَن للغشاء الإيديولوجي السياسي، سواء كان قوميا أو اشتراكيا أوشعبويّا أو إسلاميا أو ليبراليا أو غيره ممّا هو متوفر إلى حدّ الآن؟

لغرض الجواب أفترض نّ ما يُنزعُ باللغة لا يُفتكّ إلاّ باللغة. وأفترض أنّ المشهد المزدوج ذا الوجه اللغوي (وهو بُعدٌ باطني يقع تحت طبقة السياسي) والوجه الإيديولوجي السياسي (وهو البعد الظاهري) مشكل قائم بذاته من حيثُ عُضوية العلاقة بين وجهيه، وليس نتاجا من محض الصدفة.

كما أفترض، تتمّة لافتراضي بأنّ ما يُنزع باللغة يُفتكّ باللغة، أنّ الفساد لا يُقاوَم إلاّ بالعلم، وأنّ الفساد الذي كان سببُه الفساد اللغوي لا يُفتكّ إلاّ بعلم اللغة: الألسنيات. ناهيك أنّ هذا العلم هو الأرضية الوحيدة تقريبا التي تكسب القابلية على الاتّساع لكي تكون لباسا لكل العلوم والمعارف بِما فيها علوم السياسة، التي أقترح مقاومة فساد إيديولوجياتها بواسطة مقاومة الفساد اللغوي.

فالألسنيات علمٌ ينطلق من اللغة، واللغة هي الفكر المُعَبر عن المعارف كافة، بما فيها المعرفة السياسية. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، علم الألسنيات هو نفسه، بالأساس، مظلة لمجموعة من العلوم: الفلسفة وعلوم النفس والاجتماع والدماغ والسلوك والتربية وما لف لفها، ما يُضفي عليه الأهلية للغوص في أغوار ما تُعبّر عنه اللغة من معارف، بما فيها المعارف السياسية، وما يرشح هذا العلم إلى أن يكون بامتياز أداة جبّارة لتفكيك الرموز الإيديولوجية منتهية الصلاحية.

ومن ثمّ فلا شك أنّ البديل السياسي الذي سينتجُ عن مقاومة الفساد الإيديولوجي السياسي بالأداة الألسنية سوف يتشكل من البديل الإيديولوجي الأعمّ و الأشمل الذي لن توفره السياسة  بقدر ما ستَضمَنه البدائل المعرفية التي في حوزة الفكر الكلّي اليوم، ومن باب أولى وأحرى علم الألسنيات. وهي التي كتبتُ عنها في دراسات سابقة ما مفاده أنّها أداة لإحياء الكفاءة لفهم الإسلام و الحياة (2)، وأنّها بالتالي مؤهلة لأن تساعد العرب والمسلمين على المرور من طور الجمود إلى طور الحركة، من بين أغراض أخرى.

ومن منظور إيديولوجي ألسني، إذا قبلنا أن تكون اللغة لباسا للعلوم والمعارف فلا يسعُنا إلاّ أن نقبلها، في مرحلة ما قبل العلم التي نحن فيها، كأرضية متّسعة لأوهامنا ومشكلاتنا وتناقضاتنا ، ومنه كأرضية متّسعة لمنهجيات وطرق إعادة تشكيل  شواغلنا وطموحاتنا وأهدافنا وغاياتنا ومشاريعنا الإصلاحية والنهضوية والحضارية.

وهل للعرب والمسلمين من شاغل أعمق و أخطر و أشمل من شاغل الدين؟ فإذا كانت اللغة في الحين ذاته وعاء وفكرا، نظرا لِقدراتها العجيبة على خزن المعارف والعلوم، وصياغتها، وإيصالها من متكلم إلى متكلم  ومن ثقافة إلى ثقافة، فهي بالأساس لباسٌ للدين، وللإسلام بالتحديد. ومنه فإنها لباس لإيديولوجيا الإسلام بمكوناتها الوجودية والميدانية المعاصرة، بما فيها السياسة والإيديولوجيا السياسية، التي افترضنا إمكانية تخليصها من شوائب الفساد، بواسطة تخليص اللغة من شوائب الفساد، بفضل نموذج المقاومة الذي أقترحُه من خلال رسم منظومة للمقاومة الألسنية واللغوية.

أن تكون اللغة لباسٌ للإسلام وإيديولوجيا الإسلام يعني بالنسبة لنا كعرب أنّ اللغة العربية بالتحديد لباسٌ لهما. سيما أنّ القرآن الكريم سبق علم الألسنيات والعلوم كافة في ربطها بالعقل والتعقّل: "إنّا أنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلّكُمْ تَعْقِلُون" (3). كما يعني ذلك بالتالي أنّه إذا سلِمت العربية من الشبهات والشوائب والنقائص بإزاء العصر الحديث، أي إذا سلمت من التخلّف اللغوي، فإنّ الإسلام يظلّ سليما معافىً من الانحطاط. وبكلام آخر يُمكن طرح المسألة الدينية بالقول إنّ الإسلام اليوم لا يشكو من نقص في قابليته للتطبيق أو في عجز معتنقيه عن مواكبة الحداثة بواسطته أو عن ضعف المسلمين في احتواء الحداثة وفي نحتها على مقاسه. بل بالعكس، الإسلام هو الأوسع والحداثة هي التي من الأجدر أن تنفتح عليه، كما سنبرزه لاحقا.

هكذا يتبيّن شيئا فشيئا أنّ المسألة الدينية لا تتسم بصفة المُباشراتية البريئة التي تصفها بها غالبية الأمة. فليس بالمناداة بالتديّن يحدث الازدهار في التديّن. وإنّما بحلّ عقدة اللسان العربي عند المتكلّم المتديّن يتمّ تثبيت الدّين. فلا ضير إذن أن نفترض، منطقيا، أنّه إذا تمّت العناية باللغة العربية وإذا تمّ تخليصها من التخلّف الذي يعاني منه متكلّموها في أغراض تعلّمها وصيانتها وتنميتها، فسوف يتحرّر إسلام المعرفة والعلم والفن والأدب، فيزدهر تباعا.

وهكذا يتبيّن أنّه إذا كان لدى العربي المسلم انغلاق في التفكير أو انكماش على الذات أو ضيق في الآفاق أو خيبة في المسعى الحضاري (وكل هذا سميتُه في أدبيات أخرى "الاحتباس التواصلي") فلا هو ناتج عن ابتعاد عن الإسلام ولا عن استبعاد النخب المثقفة الحداثوية و العلمانية للدين. بل ذلك من تبعات القصور الذهني والعاطفي عن توسيع البيئة الحيوية للّغة العربية حتّى تكون مستحقّة للقب "لباس" للإسلام وللاستعمالات الحيوية والوظيفية للإسلام لتطوير الوجود وتنمية مجالات الحياة كافة على الميدان.

وهل يخلو من مفهوم اسمه الحداثة استعمالٌ حيويٌّ واحدٌ للإسلام على الميدان في يومنا هذا؟ إنّ تحوّل اللغة العربية إذن إلى لباس للإسلام ولإيديولوجياته المختلفة، مشروط بتحوّلها إلى لباس للحداثة. ولمّا يتمّ تلبية الشرط تصير الحداثة لاحقة بالإسلام وليس العكس مثلما هو سائد الآن في الاعتقاد وفي الممارسة. عندئذ يجب رسم الاستراتيجيات التربوية باعتبار الحداثة مطالبة بالانفتاح على الإسلام. ويكون  الوضع الجديد هو الوضع الطبيعي لكلّ من اللغة والحداثة والإسلام.

وعلى صعيد آخر، لن تسلم اللغة العربية من التخلّف اللغوي إلاّ إذا قضت على مخلّفات الانحطاط الفكري. ومن شروط اكتساب الكفاءة للقضاء على هذا النوع من التخلّف ("التخلّف الآخر" بتعبير الباحث محمود الذوادي) النسجُ على منوال اللغات الحية من انكليزية وإسبانية وغيرها، في توخي طريقة مماثلة للتطوير الذاتي حتّى تصير، مثل تلك اللغات، وعاءً يتسع اتساع الحداثة ليشملها.

كما أنّه سيكون من الممكن أيضا أن يؤدي تحرير ملكات الإبداع الفني والإنتاج الأدبي والبحث العلمي وغيرها، لدى المؤمن، وبالموازاة مع الكدح اللغوي، إلى تثبيت الدين. ومن المؤكد أنّ العكس جائز أيضا، بما معناه أنّ تأكيد الإيمان يُفضي إلى تأكيد الصحوة اللغوية من ناحية، وإلى تأكيد الصحوة الفنية والأدبية والعلمية من ناحية أخرى. ولئن يجوز العكس فذلك مرتبط بمدى الالتزام بإنجاز العمل الإنساني؛ إنجاز الحداثة (4). وأعني بتثبيت الدّين الإسلامي بيان أنّ قابليته للتوسّع قد طالت الحداثة فِعلا، فأثبت الإسلام تفوّقه الجبلّي عليها في كلّ الأبعاد، متجاوزا فرضية مجرّد احتوائه لها.

عندئذ تصبح اللغة العربية في صورتها المستحدثة فكرا مناسبا لآمال وطموحات العرب، أي فكرا متأصّلا في ثقافة كلّية دائمة الانفتاح على الإسلام. وعندئذ يستعيد العرب دورهم الطبيعي، بفضل لغتهم التي هي لغة القرآن، والمتمثل في ترويض الفكر التحديثي وقيادة الرأي بمقتضى صفات السبق التي تكون قد استعادتها اللغة العربية أيضا إزاء الأنساق المختلفة والثرية والشاسعة والرحبة للإسلام. والله أعلم.

------------------

محمد الحمّار

صاحب فكرة "الاجتهاد الثالث" و "أتكلم إسلام"

----------------

الهوامش:

(1) "الاجتهاد الثالث والإصلاح اللغوي"، نُشر في جريدة "العرب الأسبوعي" بتاريخ 7-11-2009  ص 21، ونشر أيضا في عدة مواقع تحت عنوان "التعريب انفتاح على اللغات".

(2) "الألسنيات لإحياء الكفاءة في فهم الإسلام والحياة: كيف يَرتقي المسلمون من طَور الجُمود إلى طَور الحَركة"، مجلة "المستقبل العربي"، العدد 373، مارس/آذار 2010، ص 93

http://www.caus.org.lb/PDF/EmagazineArticles/mustaqbal_373_93-107%20mhamad%20hammar.pdf

(3) سورة يوسف- الآية 2.

(4) وهذا مبدأ ألسُني من صُلب نظرية النحو التوليدي والتحويلي يقضي بالتعلّم (ترسيخ اللغة، ومنه ترسيخ الإيمان، من بين أهداف أخرى) من خلال إنجاز عمل (حل مشكلة، تحرير رسالة، تركيب جهاز، وهكذا دواليك، لا بواسطة حفظ أو مجرّد نقل المادة المزمَع تعلُّمها).

Nike

التصنيف الفرعي: 
شارك: